البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

١
٢

٣
٤

سورة يونس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ

٥

وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ

٦

فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)

القدم : قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة. قال ذو الرمة :

وأنت امرؤ من أهل بيت دؤابة

لهم قدم معروفة ومفاخر

وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق في خير أو شر فهو قدم. وقال الأخفش : سابقة إخلاص كما في قول حسان :

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لا ولنا في طاعة الله تابع

وقال أحمد بن يحيى : كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري : العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.

المرور : مجاوزة الشيء والعبور عليه ، تقول : مررت بزيد جاوزته. والمرة : القوة ، ومنه ذو مرة. ومرر الحبل قواه ، ومنه :

«لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي»

العاصف الشديدة يقال : عصفت الريح. قال الشاعر :

حتى إذا عصفت ريح مزعزعة

فيها قطار ورعد صوته زجل

وأعصف الريح. قال الشاعر :

ولهت عليه كل معصفة

هوجاء ليس للبهارير

وقال أبو تمام :

إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت

عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

الموج : ما ارتفع من الماء عند هبوب الهواء ، سمى موجا لاضطرابه.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ

٧

النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) : هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات ، فإنها نزلت بالمدينة ، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن ، قاله ابن عباس. وقال الكلبي : إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة. وقال قوم : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة ، ونزل باقيها بالمدينة. وقال الحسن وعطاء وجابر : هي مكية وسبب نزولها : أنّ أهل مكة قالوا : لم يجد الله رسولا إلا يتيم أبي طالب فنزلت. وقال ابن جريج : عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت. وقيل : لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا.

ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) (١) وذكر تكذيب المنافقين ثم قال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) (٢) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها ، ولما كان ذكر القرآن مقدّما على ذكر الرسول في آخر السورة ، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول ، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم ، وذكروا هنا أقوالا عن المفسرين منها : أنا الله أرى ، ومنها أنا الله الرحمن ، ومنها أنه يتركب منها ومن حم ومن نون الرحمن. فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة ، ومنها أنا الرب وغير ذلك. والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها لبعد المشار إليه. فقال مجاهد وقتادة : أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل والزبور ، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب. وقال الزجاج : إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها. وقيل : إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند الله ، ومنه نسخ كل كتاب كما قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٣) وقال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) (٤) وقيل : إشارة إلى الراء وأخواتها من حروف المعجم ، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال. وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري. وقيل : استعمل تلك بمعنى هذه ، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة. فقيل : آيات القرآن. وقيل : آيات السور التي تقدّم ذكرها في

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٤.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.

(٣) سورة البروج : ٨٥ / ٢٢.

(٤) سورة الزخرف : ٤٣ / ٤.

٨

قوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) (١) وقيل : المشار إليه هو الراء ، فإنها كنوز القرآن ، وبها العلوم التي استأثر الله بها. وقيل : إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة.

والحكيم : الحاكم ، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها وتعلقه بها ، أو المحكم ، أو المحكوم به ، أو المحكم أقوال. والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير ، أي : لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة ، أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم. واسم كان أن أوحينا ، وعجبا الخبر ، وللناس فقيل : هو في موضع الحال من عجبا لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدّم كان حالا. وقيل : يتعلق بقوله : عجبا وليس مصدرا ، بل هو بمعنى معجب. والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول. وقيل : هو تبيين أي أعنى للناس. وقيل : يتعلق بكان وإن كانت ناقصة ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إن تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها. وقرأ عبد الله : عجب ، فقيل : عجب اسم كان ، وأن أوحينا هو الخبر ، فيكون نظير : يكون مزاجها عسل وماء ، وهذا محمول على الشذوذ ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية. وقيل : كان تامة ، وعجب فاعل بها ، والمعنى : أحدث للناس عجب لأن أوحينا ، وهذا التوجيه حسن. ومعنى للناس عجبا : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وقرأ رؤبة : إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلا نحو سبع وعضد في سبع وعضد. ولما كان الإنذار عاما كان متعلقه وهو الناس عامّا ، والبشارة خاصة ، فكان متعلقها خاصا وهو الذين آمنوا. وأن أنذر : أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس ، قالهما الزمخشري : ويجوز أن تكون أن المصدرية الثنائية الوضع ، لا المخففة من الثقيلة لأنّها توصل بالماضي والمضارع والأمر ، فوصلت هنا بالأمر ، وينسبك منها معه مصدر تقديره : بإنذار الناس. وهذا الوجه أولى من التفسيرية ، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية. ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها ، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ، ولأنّ التأصيل خير من دعوى الحذف بالتخفيف. وبشر الذين آمنوا أن لهم أي : بأن لهم ، وحذفت الباء. وقدم صدق قال ابن عباس ، مجاهد ، والضحاك ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٤.

٩

والربيع بن أنس ، وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات. وقال الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عباس وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. وقال مقاتل : سابقة خير عند الله قدموها. وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله :

مالك وضاح دائم الغزل

ألست تخشى تقارب الأجل

صل لذي العرش واتخذ قدما

ينجيك يوم العثار والزلل

وقال قتادة أيضا : سلف صدق. وقال عطاء : مقام صدق. وقال يمان : إيمان صدق. وقال الحسن أيضا : ولد صالح قدموه. وقيل : تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة ، كما قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقيل : تقدم شرف ، ومنه قول العجاج :

ذل بني العوام من آل الحكم

وتركوا الملك لملك ذي قدم

وقال الزجاج : درجة عالية وعنه منزلة رفيعة. ومنه قول ذي الرمة :

لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العادي طمت على البحر

وقال الزمخشري : قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما ، كما سميت النعمة يدا ، لأنها تعطى باليد وباعا لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان : قدم في الخير ، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة. وقال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق. وعن الأوزاعي : قدم بكسر القاف تسمية بالمصدر قال : الكافرون. ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفا يدل الظاهر عليه تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا. قال ابن عطية : قال الكافرون : يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله : أكان للناس وحينا إلى بشر عجبا قال الكافرون عنه كذا وكذا.

وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : لسحر إشارة إلى الوحي ، وباقي السبعة ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، ومسروق ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر. وقرأ الأعمش أيضا : ما هذا إلا ساحر. قال ابن عطية :

١٠

وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر ، وظنوه من ذلك الباب. وقال الزمخشري : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا. ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد ، لم يحتج قولهم إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم ، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة ، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تضمنها يقضي بفساد مقالتهم ، وقولهم ذلك هو ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال : فرعون وقومه في موسى عليه‌السلام : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١) (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) (٢) وقوم عيسى عليه‌السلام : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٣) ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف (٤) وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد. ففي الأعراف : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) (٥) وقوله : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) (٦) وهنا تلك آيات الكتاب. وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد. ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادرا على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر في مصالحكم ، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته ، إذ ليس خلقهم عبثا بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته ، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) : قال مجاهد : أي يقضيه وحده. والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها ، والأمر قيل : الخلق كله علويه وسفليه. وقيل : يبعث بالأمر ملائكة ، فجبريل للوحي ، وميكائيل للقطر ، وعزرائيل للقبض ، وإسرافيل للصور. وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه. ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور ، وأنه المنفرد به إيجادا وتدبيرا لا يشركه أحد في ذلك ، وأنه لا يجترىء أحد على

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٩.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٤٨.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ١١٠.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١١٦.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ٥٢.

(٦) سورة الأعراف : ٧ / ٥٣.

١١

الشفاعة عنده إلا بإذنه ، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب. وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) (١) الآية. ولما كان الخطاب عاما وكان الكفار يقولون عن أصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ردّ ذلك تعالى عليهم ، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين : الابتداء والانتهاء. وقال أبو مسلم الأصبهاني : الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر ، فمعنى الآية : أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه ، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له : كن. وقال أبو البقاء : يدبر الأمر ، يجوز أن يكون مستأنفا وخبرا ثانيا وحالا.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) : أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم ، فهو المستحق للعبادة ، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى ، فلا تشركوا به بعض خلقه.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) : ذكر ما يقتضي التذكير وهو كون مرجع الجميع إليه ، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ثم استأنف الإخبار وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم. وانتصب وعد الله وحقا على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير : وعد الله وعدا ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) (٢) و (صُنْعَ اللهِ) (٣) والتقدير : في حقا حق ذلك حقا. وقيل : انتصب حقا بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق. وقال علي بن سليمان التقدير : وقت حق وأنشد :

أحقا عباد الله أن لست خارجا

ولا والجا إلا عليّ رقيب

وقرأ عبد الله ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وسهل بن شعيب : أنه يبدأ بفتح الهمزة. قال الزمخشري : هو منصوب بالفعل ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى :

__________________

(١) سورة النبأ : ٧٨ / ٣٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣٨.

(٣) سورة النمل : ٢٧ / ٨٨.

١٢

إعادة الخلق بعد بدئه. وعد الله على لفظ الفعل ، ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب حقا أي : حق حقا بدء الخلق كقوله :

أحقا عباد الله أن لست جائيا

ولا ذاهبا إلا عليّ رقيب

انتهى. وقال ابن عطية : وموضعها النصب على تقدير أحق أنه. وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير لحق أنه. قال ابن عطية : ويجوز عندي أن يكون أنه بدلا من قوله : وعد الله. قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد ، وإن شئت قدرت وعد الله حقا أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله ، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله. وقرأ ابن أبي عبلة : حق بالرفع ، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى. وكون حق خبر مبتدأ ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول : صحيح إنك تخرج ، لأنّ اسم أنّ معرفة ، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة. والظاهر أنّ بدء الخلق هو النشأة الأولى ، وإعادته هو البعث من القبور ، وليجزي متعلق بيعيده أي : ليقع الجزاء على الأعمال. وقيل : البدء من التراب ، ثم يعيده إلى التراب ، ثم يعيده إلى البعث. وقيل : البدء نشأته من الماء ، ثم يعيده من حال إلى حال. وقيل : يبدؤه من العدم ، ثم يعيده إليه ، ثم يوجده. وقيل : يبدؤه في زمرة الأشقياء ، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء ، وبعكس ذلك. وقرأ طلحة : يبدىء من أبدأ رباعيا ، وبدأ وأبدأ بمعنى ، وبالقسط معناه بالعدل ، وهو متعلق بقوله : ليجزي أي : ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم ، فيوصل كلّا إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال ، فينصف بينهم ويعدل ، إذ ليسوا كلهم متساوين في مقادير الثواب ، وعلى هذا يكون بالقسط منه تعالى. قال الزمخشري : أو يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنّ الشرك ظلم ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) والعصاة ظلام لأنفسهم ، وهذا أوجه لمقابلة قوله : بما كانوا يكفرون انتهى. فجعل القسط من فعل الذين آمنوا وهو على طريقة الاعتزال ، والظاهر أنّ والذين كفروا مبتدأ ، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله : الذين آمنوا ، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين. ولما كان الحديث مع الكفار مفتتح السورة معهم ، ذكر شيئا من أنواع عذابهم فقال : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٢) وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام.

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٧٠.

١٣

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) : لما ذكر تعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياء أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة. وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ضياء مفعولا ثانيا. ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالا ، والقمر نورا أي : ذا نور ، أو منور ، أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران. وقيل : يجوز أن يكون ضياء جمع ضوء كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد. ولما كانت الشمس أعظم جرما خصت بالضياء ، لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور. قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعا وستين مرة ، والقمر ليس كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم. وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) (١) وقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور. فقال ابن عطية : لفظة النور أحكم أبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام. ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحدا ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة. فمعنى الآية : أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون. ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقتضت هذه الآية.

وقرأ قنبل : ضياء هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء. ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لامه عينا ، فكانت همزة. وتطرفت الواو التي كانت عينا بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمر أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) (٣) وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

(٣) سورة يس : ٣٦ / ٣٩.

١٤

السنين والحساب عند العرب. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريدهما معا بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب ، لكنه اجتزئ بذكر أحدهما كما قال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١) وكما قال الشاعر :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطوى رماني

والمنازل هي البروج ، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وهي ثمانية وعشرون منزلة : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانان ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلغ ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المؤخر ، والرشاء وهو الحوت. واللام متعلقة بقوله : وقدره منازل. قال الأصمعي : سئل أبو عمرو عن الحساب ، أفبنصبه أو بجره؟ فقال. ومن يدري ما عدد الحساب؟ انتهى. يريد أنّ الجر إنما يكون مقتضيا أنّ الحساب يكون يعلم عدده ، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ. وقيل : اكتفى بذكر عدد السنين عن عدد الشهور ، وكنى بالحساب عن المعاملات ، والإشارة بذلك إلى مخلوقه. وذلك يشار بها إلى الواحد ، وقد يشار بها إلى الجمع. ومعنى بالحق متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثا كما جاء (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٢) (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) (٣) وقال ابن جرير : الحق هنا هو الله تعالى ، والمعنى : ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه انتهى. وما قاله تركيب قلق ، إذ يصير ما ضرب زيد عمرا إلا بزيد. وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي للحق ، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته. وقرأ ابن مصرف : والحساب بفتح الحاء ، ورواه أبو توبة عن العرب. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : يفصل بالياء جريا على لفظة الله ، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة ، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات ، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح. والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٦٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١.

(٣) سورة الدخان : ٤٤ / ٣٨ ـ ٣٩.

١٥

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) والاختلاف تعاقب الليل والنهار ، وكون أحدهما يخلف الآخر. وما خلق الله في السموات من الأجرام النيرة التي فيها ، والملائكة المقيمين بها وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى. والأرض من الجوامد والمعادن والنبات والحيوان ، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) : الظاهر أن الرجاء هو التأميل والطمع أي : لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا. وقيل : معناه لا يخافون. قال ابن زيد : وهذه الآية في الكفار ، والمعنى أنّ المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ، ولا يحسن ظنا بأنه يلقى الله. وفي الكلام محذوف أي : ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة كقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) (١) والمعنى أنّ منتهى غرضهم وقصارى آمالهم إنما هو مقصور على ما يصلون إليه في الدنيا. واطمأنوا أي سكنوا إليها ، وقنعوا بها ، ورفضوا ما سواها. والظاهر أنّ قوله : والذين هم ، هو قسم من الكفار غير القسم الأول ، وذلك التكرير الموصول ، فيدل على المغايرة ، ويكون معطوفا على اسم إنّ ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات ، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء الله ، بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالبعث والجزاء ، والعادم التوسع الغافل عن آيات الله الدالة على الهداية. ويحتمل أن يكون من عطف الصفات ، فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون ، هم الذين لا يرجون لقاء الله. والظاهر أنّ واطمأنوا بها عطف على الصلة ، ويحتمل أن يكون واو الحال أي : وقد اطمأنوا بها. والآيات قيل : آيات القرآن. وقيل : العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة. وقال ابن زيد : ما أنزلناه من حلال وحرام وفرض من حدود وشرائع أحكام ، وبما كانوا يكسبون إشعار بأنّ الأعمال السابقة يكون عنها العذاب ، وفي ذلك ردّ على الجبرية ، ونص على تعلق العقاب بالكسب. ومجيئه بالمضارع دليل على أنهم لم يزالوا مستمرين على ذلك ماضي زمانهم ومستقبله.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٨.

١٦

لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي يزيد في هداهم بسبب إيمانهم السابق وتثبتهم ، فأما الذين آمنوا فزادتهم أو يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم كما قال : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١) قال مجاهد : يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به. وفي الحديث : «إذا قام من قبره يمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقوده إلى الجنة» وبعكس هذا في الكافر. وقال ابن الأنباري : إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة ، ومزايا في الألطاف تسر بها قلوبهم وتزول بها الشكوك والشبهات عنهم كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٢) وهذه الزوائد والفوائد يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها بعد الموت. قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم ، وتجري من تحتهم الأنهار ، إلا أنه حذف الواو. وقيل : معناه تقدّمهم إلى الثواب من قول العرب : القدم تهدي الساق. وقال الحسن : يرحمهم. وقال الكلبي : يدعوهم. والظاهر أنّ تجري مستأنفا فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين : أحدهما هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخر بجريان الأنهار ، وذلك في الآخرة. كما تضمنت الآية في الكفار شيئين : أحدهما : اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه ، والثاني : مقرهم ومأواهم وذلك النار ، فصار تقسيما للفريقين في المعنى. وتقدّم قول القفال : أن يكون تجري معطوفا حذف منه الحرف ، وأن يكون حالا ومعنى من تحتهم أي : من تحت منازلهم. وقيل : من بين أيديهم ، وليس التحت الذي هو بالمسافة ، بل يكون إلى ناحية من الإنسان. ومنه : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٣) وقال : وهذه الأنهار تجري من تحتي.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة هو الإيمان المقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور. (قلت) : الأمر كذلك ، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قال : بإيمانهم ، أي بإيمانهم المضموم إليه هذا العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وجوزوا

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ١٢.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ١٧.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٢٤.

١٧

في جنات النعيم أن يتعلق بتجري ، وأن يكون حالا من الأنهار ، وأن يكون خبرا بعد خبر ، لأنّ ومعنى دعواهم : دعاؤهم ونداؤهم ، لأنّ اللهم نداء الله ، والمعنى : اللهم إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت : اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد. وقيل : عبادتهم كقوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (١) ولا تكليف في الجنة ، فيكون ذلك على سبيل الابتهاج والالتذاذ ، وأطلق عليه العبادة مجازا. وقال أبو مسلم : فعلهم وإقرارهم. وقال القاضي : طريقهم في تقديس الله وتحميده. وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضا ، فيكون مصدرا مضافا للمجموع لا على سبيل العمل ، بل يكون كقوله : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٢) وقيل : يكون مضافا إلى المفعول ، والفاعل الله تعالى أو الملائكة أي : تحية الله إياهم ، أو تحية الملائكة إياهم. وآخر دعواهم أي : خاتمة دعائهم وذكرهم. قال الزجاج : أعلم تعالى أنهم يبتدئون بتنزيهه وتعظيمه ، ويختمون بشكره والثناء عليه. وقال ابن كيسان : يفتتحون بالتوحيد ، ويختمون بالتحميد. وعن الحسن البصري : يعزوه إلى الرسول أنّ أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح. وأن المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف ، والجملة بعدها خبر إن ، وأن وصلتها خبر قوله : وآخر. وقرأ عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وابن محيصن ، ويعقوب : إن الحمد بالتشديد ونصب الحمد. قال ابن جني : ودلت على أنّ قراءة الجمهور بالتخفيف ، ورفع الحمد هي على أنّ هي المخففة كقول الأعشى :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل

يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف. وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة ، وزعم صاحب النظم أنّ أن هنا زائدة ، والحمد لله خبر ، وآخر دعواهم. وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين ، وليس هذا من محال زيادتها.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : قال مجاهد : نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا. فأخبر تعالى لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله منهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر تقديرها : فلا يفعل ذلك ، ولكن نذر الذين لا يرجون فاقتضب القول ،

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٤٨.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٨.

١٨

ووصل إلى هذا المعنى بقوله : فنذر الذين لا يرجون ، فتأمل هذا التقدير تجده صحيحا قاله ابن عطية. وقيل : نزلت في قولهم : ائتنا بما تعدنا ، وما جرى مجراه. وقال الزمخشري : والمراد أهل مكة. وقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) (١) يعني : ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير لأميتوا وأهلكوا. قال : (فإن قلت) : كيف اتصل به فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ، وما معناه؟ (قلت) : قوله : ولو يعجل الله متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قال : ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم ، فنذرهم في طغيانهم ، أو فنمهلهم ، ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاما للحجة عليهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنّه تعالى لما ذكر عجب الناس من إيحاء الله إلى رجل منهم ، وكان فيما أوحي إليه الإنذار والتبشير ، وكانوا يستهزؤون بذلك ولا يعتقدون حلول ما أنذروه بهم فقالوا : «فأمطر علينا حجارة» (٢) وقال إخبارا عنهم : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) (٣) وقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) (٤) ثم استطرد من ذلك إلى وحدانيته تعالى ، وذكر إيجاده العالم ، ثم إلى تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، وذكر منازل الفريقين ثم رجع إلى أن ذلك المنذر به الذي طلبوا وقوعه عجلا لو وقع لهلكوا ، فلم يكن في إهلاكهم رجاء إيمان بعضهم ، وإخراج مؤمن من صلبهم بل اقتضت حكمته أن لا يعجل لهم ما طلبوه ، لما ترتب على ذلك. وانتصب استعجالهم على أنه مصدر مشبه به. فقال الزمخشري : أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير ، فوضع استعجاله لهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. وقال الحوفي وابن عطية : التقدير مثل استعجالهم ، وكذا قدره أبو البقاء. ومدلول عجل غير مدلول استعجل ، لأنّ عجل يدل على الوقوع ، واستعجل يدل على طلب التعجيل ، وذاك واقع من الله ، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون التقدير تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، فشبه التعجيل بالاستعجال ، لأنّ طلبهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شيء. والثاني : أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره : ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير ، لأنّهم كانوا يستعجلون بالشر ووقوعه على سبيل التهكم ، كما كانوا يستعجلون بالخير. وقرأ ابن عامر : لقضي مبنيا للفاعل أجلهم بالنصب ، والأعمش لقضينا ، وباقي السبعة مبنيا للمفعول ،

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٤٧.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ٧٠.

١٩

وأجلهم بالرفع. وقضى أكمل ، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره : فنحن نذر قاله الحوفي. وقال أبو البقاء : فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره : ولكن نمهلهم فنذر.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم ، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعمه في طغيانه ، بيّن شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم ، وأنّ من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حاله مس الضر له ، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر. والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين كما قيل : إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي قاله : ابن عباس ومقاتل. وقيل : عقبة بن ربيعة. وقيل : الوليد بن المغيرة. وقيل : هما قاله عطاء. وقيل : النضر بن الحرث ، وأنه لا يراد به الكافر ، بل ، المراد الإنسان من حيث هو ، سواء كان كافرا أم عاصيا بغير الكفر. واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد ، واحتملت أن تكون لأشخاص ، إذ الإنسان جنس. والمعنى : أنّ الذي أصابه الضر لا يزال داعيا ملتجئا راغبا إلى الله في جميع حالاته كلها. وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض ، وهي أعظم في الدعاء وآكد ثم بما يليها ، وهي حالة القعود ، وهي حالة العجز عن القيام ، ثم بما يليها وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي ، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم. ولجنبه حال أي : مضطجعا ، ولذلك عطف عليه الحالان ، واللام على بابها عند البصريين والتقدير : ملقيا لجنبه ، لا بمعنى على خلافا لزاعمه. وذو الحال الضمير في دعانا ، والعامل فيه دعانا أي : دعانا ملتبسا بأحد هذه الأحوال. وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالا من الإنسان ، والعامل فيه مس. ويجوز أن يكون حالا من الفاعل في دعانا ، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان. والضر : لفظ عام لجميع الأمراض. والرزايا في النفس والمال والأحبة ، هذا قول اللغويين. وقيل : هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض انتهى. والقول الأول قول الزجاج. وضعف أبو البقاء أن يكون لجنبه فما بعده أحوالا من الإنسان والعامل فيها مس ، قال : لأمرين : أحدهما : أنّ الحال على هذا واقع بعد جواب إذا وليس بالوجه. والثاني : أنّ المعنى كثرة دعائه في كل أحواله ، لا على الضر يصيبه في كل أحواله ، وعليه آيات كثيرة في القرآن انتهى. وهذه

٢٠