البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

١
٢

٣
٤

سورة الأعراف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ

٥

شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)

كم اسم بسيط لا مركّب من كاف التشبيه وما الاستفهامية حذف ألفها لدخول حرف الجرّ عليها وسكنت كما قالوا لم تركيبا لا ينفكّ كما ركبت في كأين مع أي وتأتي استفهاميّة وخبريّة وكثيرا ما جاءت الخبرية في القرآن ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مجرورا بمن وأحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو. القيلولة نوم نصف النهار وهي القائلة قاله الليث ، وقال الأزهري الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرّ ولم يكن نوم ، وقال الفرّاء : قال : يقيل قيلولة وقيلا وقائلة ومقيلا استراح وسط النهار. العيش الحياة عاش يعيش عيشا ومعاشا وعيشة ومعيشة ومعيشا ـ قال رؤبة :

إليك أشكو شدّة المعيش

وجهد أيام نتفن ريشي

٦

غوى يغوي غيّا وغواية فسد عليه أمره وفسد هو في نفسه ومنه غوى الفصيل أكثر من شرب لبن أمّه حتى فسد جوفه وأشرف على الهلاك ، وقيل أصله الهلاك ومنه (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). (١)

الشمائل جمع شمال وهو جمع تكسير وجمعه في القلة على أشمل قال الشاعر : يأتي لها من أيمن وأشمل وشمال يطلق على اليد اليسرى وعلى ناحيتها ، والشمائل أيضا جمع شمال وهي الريح والشمائل أيضا الأخلاق يقال هو حسن الشمائل. ذأمه عابه يذأمه ذأما بسكون الهمزة ويجوز إبدالها ألفا قال الشاعر :

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة

فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها

وفي المثل لن يعدم الحسناء ذأما. وقيل : أردت أن تديمه فمدحته ، وقال الليث ذأمته حقرته ، وقال ابن قتيبة وابن الأنباري : ذأمه وذمّه ، دحره أبعده وأقصاه دحورا قال الشاعر :

دحرت بني الحصيب إلى قديد

وقد كانوا ذوي أشر وفخر

وسوس تكلم كلاما خفيا يكرّره والوسواس صوت الحلي شبه الهمس به وهو فعل لا يتعدّى إلى منصوب نحو ولولت ووعوع. قال ابن الأعرابي : رجل موسوس ، بكسر الواو ، ولا يقال : موسوس بفتحها. وقال غيره : يقال موسوس له وموسوس إليه. وقال رؤبة يصف صيادا :

وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق

لمّا دنا الصيد دنا من الوهق

يقول لما أحس بالصيد وأراد رميه وسوس في نفسه أيخطىء أم يصيب. قال الأزهري : وسوس وورور معناهما واحد ، نصح بذل المجهود في تبيين الخير وهو ضد غش ويتعدى بنفسه وباللام نصحت زيدا ونصحت لزيد ويبعد أن يكون يتعدى لواحد بنفسه ولآخر بحرف الجرّ وأصله نصحت لزيد ، من قولهم نصحت لزيد الثوب بمعنى خطته خلافا لمن ذهب إلى ذلك. ذاق الشيء يذوقه ذوقا مسه بلسانه أو بفمه ويطلق على الأكل. طفق ، بكسر الفاء وفتحها ، ويقال : طبق بالباء وهي بمعنى أخذ من أفعال المقاربة. خصف العل وضع جلدا على جلد وجمع بينهما بسير والخصف الخرز. الريش معروف وهو للطائر ويستعمل في معان يأتي ذكرها في تفسير المركبات واشتقوا منه قالوا راشه يريشه ، وقيل

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٥٩.

٧

الريش مصدر راش. النزع الإزالة والجذب بقوة.

(المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) هذه السورة مكية كلها قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد والضحاك وغيرهم ، وقال مقاتل إلا قوله (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فإن ذلك مدني وروي هذا أيضا عن ابن عباس. وقيل إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا) واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) (١) واستطرد منه لما بعده وإلى قوله آخر السورة (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (٢) وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعيّة ذكر ما يكون به التكاليف وهو الكتاب الإلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) وتقدمّ الكلام على هذه الحروف المقطّعة أوائل السورة في أول البقرة وذكر ما حدسه الناس فيها ولم يقم دليل على شيء من تفسيرهم يعين ما قالوا وزادوا هنا لأجل الصاد أنّ معناه أنا الله أعلم وأفصّل رواه أبو الضحى عن ابن عباس أو المصور قاله السدي : أو الله الملك النصير قاله بعضهم أو أنا الله المصير إليّ ، حكاه الماوردي أو المصير كتاب فحذف الياء والراء ترخيما وعبّر عن المصير بالمص قاله التبريزي. وقيل عنه : أنا الله الصادق. وقيل معناه (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٣) قاله الكرماني قال : واكتفى ببعض الكلام وهذه الأقوال في الحروف المقطعة لو لا أن المفسرين شحنوا بها كتبهم خلفا عن سلف لضربنا عن ذكرها صفحا فإن ذكرها يدل على ما لا ينبغي ذكره من تأويلات الباطنية وأصحاب الألغاز والرموز.

ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه أيّ من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا اعتقد صحة رسالة وتكليف الناس أحكامها وهذه أمور صعبة ومعانيها يشق عليه ذلك وأسند النهي إلى الحرج ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج ، وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أنّ الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك فانته أنت عنه بعدم التعرّض له ولأن فيه تنزيه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينهاه فيأتي التركيب فلا تخرج منه لأنّ ما أنزله الله تعالى إليه يناسب أن يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإنزال كتابه عليه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهي الحرج وفسر الحرج هنا بالشك وهو تفسير قلق وسمّي الشكّ حرجا لأن الشاكّ ضيّق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وإن صحّ هذا عن

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٥.

(٣) سورة الشرح : ٩٤ / ١.

٨

ابن عباس فيكون مما توجه فيه الخطاب إليه لفظا وهو لأمته معنى أي فلا يشكّوا أنه من عند الله. وقال الحسن : الحرج هنا الضيق أي لا يضيق صدرك من تبليغ ما أرسلت به خوفا من أن لا تقوم بحقّه. وقال الفرّاء : معناه لا يضيق صدرك بأن يكذّبوك كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (١) وقيل : الحرج هنا الخوف أي لا تخف منهم وإن كذبوك وتمالؤوا عليك قالوا : ويحتمل أن يكون الخطاب له ولأمته ، والظاهر أنّ الضمير في (مِنْهُ) عائد على الكتاب ، وقيل على التبليغ الذي تضمنه المعنى. وقيل على التكذيب الذي دلّ عليه المعنى ، وقيل على الإنزال ، وقيل على الإنذار.

قال ابن عطية : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعمّ جميع الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرّض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك و (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديما وتأخيرا (وَلِتُنْذِرَ) متعلق بأنزل انتهى. وكذا قال الحوفي والزمخشري أنّ اللام متعلقة بقوله (أُنْزِلَ) وقاله قبلهم الفرّاء ولزم من قولهم أن يكون قوله : فلا يكن في صدرك حرج اعتراضا بين العامل والمعمول. وقال ابن الأنباري : التقدير فلا يكن (فِي صَدْرِكَ) حرج منه كي تنذر به فجعله متعلقا بما تعلّق به في صدرك وكذا علقه به صاحب النظم فعلى هذا لا تكون الجملة معترضة وجوّز الزمخشري وأبو البقاء الوجهين إلا أنّ الزمخشري قال : (فإن قلت) : بم يتعلق قوله : (لِتُنْذِرَ) (قلت) : بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ولذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجّعه اليقين على الإنذار لأنّ صاحب اليقين جسور متوكّل على عصمته انتهى. فقوله أو بالنهي ظاهره أنه يتعلق بالنّهي فيكون متعلقا بقوله فلا يكن وكان عندهم في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلاف ومبناه على أنه هل تدلّ كان الناقصة على الحدث أم لا فمن قال إنها تدلّ على الحدث جوّز فيها ذلك ، ومن قال إنها لا تدلّ عليه لم يجوّز ذلك ، وأعرب الفرّاء وغيره (المص) مبتدأ و (كِتابٌ) خبره وأعرب أيضا (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب و (ذِكْرى) هو مصدر ذكر بتخفيف الكاف وجوّزوا فيه أن يكون مرفوعا عطف على كتاب أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو ذكرى ، والنصب على المصدر على إضمار فعل معطوف على (لِتُنْذِرَ) أي وتذكر ذكرى أو على موضع (لِتُنْذِرَ) لأن موضعه نصب فيكون إذ ذاك معطوفا على المعنى كما عطفت الحال على موضع المجرور في قوله دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ويكون مفعولا من أجله وكما تقول جئتك للإحسان وشوقا

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٦.

٩

إليك ، والجرّ على موضع الناصبة (لِتُنْذِرَ) المنسبك منها ومن الفعل مصدر التقدير لإنذارك به وذكرى.

وقال قوم : هو معطوف على الضمير من به وهو مذهب كوفيّ وتعاور النصب والجرّ هو على معنى وتذكير مصدر ذكر المشدّد. وقال أبو عبد الله الرازي : النفوس قسمان جاهلة غريقة في طلب اللّذات الجسمانية وشريفة مشرقة بالأنوار الإلهية ، مستشعرة بالحوادث الروحانيّة فبعثت الأنبياء والرّسل في حقّ القسم الأول للإنذار والتخويف لما غرقوا في بحر الغفلة ورقدة الجاهلية احتاجوا إلى موقظ ومنبه ، وفي حقّ القسم الثاني لتذكير وتنبيه لأنّ هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستشعرة بالانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمديّة إلا أنه ربما غشيها من غواشي عالم الحسّ فيعرض نوع ذهول فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتّصل بها أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والراحة والريحان. فثبت أنه تعالى إنما أنزل الكتاب على رسوله ليكون إنذارا في حق طائفة ، وذكرى في حق أخرى وهو كلام فلسفي خارج عن كلام المتشرّعين وهكذا كلام هذا الرجل أعاذنا الله منه.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) لما ذكر تعالى أن هذا الكتاب أنزل إلى الرسول أمر الأمة باتّباعه وما أنزل إليكم يشمل القرآن والسنة لقوله (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ونهاهم عن ابتغاء أولياء من دون الله كالأصنام والرّهبان والكهّان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك والظاهر أن الضمير في (مِنْ دُونِهِ) عائد على (رَبِّكُمْ). وقيل على ما وقيل على الكتاب والمعنى لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة. وقيل أراد بالأولياء الشياطين شياطين الجنّ والإنس وإنهم الذين يحملون على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلّون عن دين الله. وقرأ الجحدري : ابتغوا من الابتغاء. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار. ولا تبتغوا من الابتغاء أيضا والظاهر أنّ الخطاب هو لجميع الناس. وقال الطبري وحكاه : التقدير قل اتبعوا فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدّم الذكر عليه وانتصب (قَلِيلاً) على أنه نعت لمصدر محذوف و (ما) زائدة أي يتذكرون تذكرا قليلا أي حيث يتركون دين الله ويتّبعون غيره وأجاز الحوفي أن يكون نعتا لمصدر محذوف

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٤.

١٠

والناصب له ولا تتّبعوا أي اتّباعا قليلا. وحكى ابن عطيّة عن الفارسيّ : إن (ما) موصولة بالفعل وهي مصدرية انتهى. وتمّم غيره هذا الإعراب بأنّ نصب قليلا على أنه نعت لظرف محذوف أي زمانا قليلا نذكّركم أخبر أنهم لا يدّعون الذكر إنما يعرض لهم في زمان قليل وما يذكرون في موضع رفع على أنه مبتدأ والظرف قبله في موضع الخبر وأبعد من ذهب إلى أن (ما) نافية. وقرأ حفص والاخوان (تَذَكَّرُونَ) بتاء واحدة وتخفيف الذال ، وقرأ ابن عامر يتذكرون بالياء والتاء وتخفيف الذال ، وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وتشديد الذال وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتاءين ، وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ كَمْ) هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره أهلكناها تقديره وكم من قرية أهلكنا أهلكناها ولا بدّ في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله أو هم قائلون فمنهم من قدّره وكم من أهل قرية ومنهم من قدّره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدّر عند قوله (فَجاءَها) أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله (فَجاءَها). وقرأ ابن أبي عبلة وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم فيقدّر المضاف وكم من أهل قرية ولا بد من تقديره صفة للقرية محذوفة أي من قرية عاصية ويعقّب مجيء البأس وقوع الإهلاك لا يتصوّر فلا بدّ من تجوّز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها أو حكمنا بإهلاكها (فَجاءَها بَأْسُنا) وأما أن يختلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك وإما أن يكون التجوّز في الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.

وقال الفرّاء : إنّ الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيّهما قدّم في الرتبة ، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة والشتم شيء واحد. وقيل : الفاء ليست للتعقيب وإنما هي للتفسير ، كقوله : توضّأ فغسل كذا ثم كذا وانتصب بياتا على الحال وهو مصدر أي (فَجاءَها بَأْسُنا) بائتين أو قائلين وأو هنا للتنويع أي جاء مرة ليلا كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب وهذا فيه نشر لما لفّ في قوله (فَجاءَها) وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدّعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطع

١١

وأشقّ ولأنه يكون المجيء فيه على غفلة من المهلكين ، فهو كالمجيء بغتة وقوله (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) جملة في موضع الحال ونصّ أصحابنا أنه إذ دخل على جملة الحال واو العطف فإنه لا يجوز دخول واو الحال عليها فلا يجوّز جاء زيد ماشيا أو وهو راكب.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : لا يقال جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (قلت) : قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزّجاج. وقال : لو قلت جاءني زيد راجلا أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل فقولك جاء زيد راجلا أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدّه وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث انتهى.

فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفرّاء ، وأما قول الزّجاج في التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز أن يدخل في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول وفي الثاني لكثرة الدخول لا لامتناعه ، وأما قول الزمخشري والصحيح إلى آخرها فتعليله ليس بصحيح لأنّ واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالا حتى يعطف حالا على حال فمجيئها في ما لا يمكن أن يكون حالا دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول جاء زيد والشمس طالعة فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف إذا قلت والله ليخرجنّ وأما قوله : فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناه على أن الجملة الاسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإنّ حذف الواو منها شاذ وتبع في ذلك الفرّاء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين وقد ذكرنا كثرة مجيء ذلك في شرح التسهيل وقد رجع عن هذا المذهب الزمخشري إلى مذهب الجماعة.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) قال ابن عباس : دعواهم تضرّعهم إلا إقرارهم بالشرك. وقيل دعواهم دعاؤهم. قال الخليل : يقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه فما زالت تلك دعواهم. وقيل : ادعاؤهم أي ادعوا معاذير تحسّن حالهم وتقيّم حجتهم في زعمهم. قال ابن عطية : وتحتمل الآية أن يكون

١٢

المعنى فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلى اعتراف ومنه قول الشاعر :

وقد شهّدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلا عضّها بالأباهم

وقال الزمخشري : ويجوز فما كان استغاثتهم إلّا قولهم هذا لأنه لا مستغاث من الله بغيره من قولهم (دَعْواهُمْ) بالكعب قالوا ودعواهم اسم كان وإلا أن قالوا الخبر وأجازوا العكس والأول هو الذي يقتضي نصوص المتأخّرين أن لا يجوز إلا هو فيكون (دَعْواهُمْ) الاسم و (إِلَّا أَنْ قالُوا) الخبر لأنه إذا لم تكن قرينة لفظية ولا معنوية تبين الفاعل من المفعول وجب تقديم الفاعل وتأخير المفعول نحو : ضرب موسى عيسى وكان وأخواتها مشبّهة في عملها بالفعل الذي يتعدّى إلى واحد ، فكما وجب ذلك فيه وجب ذلك في المشبّه به وهو كان ودعواهم وإلا أن قالوا لا يظهر فيهما لفظ يبين الاسم من الخبر ولا معنى فوجب أن يكون السابق هو الاسم واللاحق الخبر.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعن ما بلّغه إليهم الرّسل لقوله و (يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (١) ، ويسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله ، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) (٢) وسؤال الأمم تقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذابا وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثوابا وكرامة. وقد جاء السؤال منفيّا ومثبتا بحسب المواطن أو بحسب الكيفيّات كسؤال التوبيخ والتأنيس وسؤال الاستعلام البحث منفيّ عن الله تعالى إذ أحاط بكل شيء علما. وقيل المرسل إليهم الأنبياء والمرسلون الملائكة وهذا بعيد.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) أي نسرد عليهم أعمالهم قصّة قصّة (بِعِلْمٍ) منّا لذلك واطّلاع عليه (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن شيء منه بل علمنا محيط بجميع أعمالهم ، ظاهرها وباطنها ، وهذا من أعظم التوبيخ والتقريع حيث يقرّون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقصّ الله عليهم أعمالهم. قال وهب : يقال للرجل منهم أتذكر يوم فعلت كذا أتذكر حين قلت كذا حتى يأتي على آخر ما فعله وقاله في دنياه وفي قوله (بِعِلْمٍ) دليل على إثبات هذه الصفة لله تعالى وإبطال لقول من قال لا علم لله.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) اختلفوا هل ثم وزن وميزان حقيقة

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٦٥.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١٠٩.

١٣

أم ذلك عبارة عن إظهار العدل التام والقضاء السويّ والحساب المحرّر فذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزان وتقدّمهم إلى هذا مجاهد والضحّاك والأعمش وغيرهم ، وعبّر بالثقل عن كثرة الحسنات وبالخفة عن قلّتها ، وقال جمهور الأمّة بالأول وأنّ الميزان له عمود وكفّتان ولسان وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنّة ينظر إليه الخلائق تأكيدا للحجة وإظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم وتشهد عليهم بها أيديهم وأرجلهم وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد ، وأما الثقل والخفة فمن صفات الأجسام وقد ورد أنّ الموزون هي الصّحائف التي أثبتت فيها الأعمال ، فيحدث الله تعالى فيها ثقلا وخفة وما ورد في هيئته وطوله وأحواله لم يصحّ إسناده وجمعت الموازين باعتبار الموزونات والميزان واحد ، هذا قول الجمهور. وقال الحسن : لكل أحد يوم القيامة ميزان على حدة وقد يعبّر عن الحسنات بالموازين فيكون ذلك على حذف مضاف أي من ثقلت كفّة موازينه أي موزوناته فيكون موازين جميع موزون لا جمع ميزان ، وكذلك ومن خفّت كفّة حسناته و (الْوَزْنُ).

مبتدأ وخبره ظرف الزمان والتقدير والوزن كائن يوم أن نسألهم ونقصّ عليهم وهو يوم القيامة و (الْحَقُ) صفة للوزن ويجوز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) ظرفا للوزن معمولا له و (الْحَقُ) خبر ويتعلّق (بِآياتِنا) بقوله (يَظْلِمُونَ) لتضمّنه معنى يكذّبون أو لأنها بمعنى يجحدون وجحد تعدّى بالباء قال : (وَجَحَدُوا بِها) (١) والظاهر أنّ هذا التقسيم هو بالنسبة للمؤمنين من أطاع ومن عصى وللكفّار فتوزن أعمال الكفار. وقال قوم : لا ينصب لهم ميزان ولا يحاسبون لقوله (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢) وإنما توزن أعمال المؤمن طائعهم وعاصيهم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تقدّم معنى (مَكَّنَّاكُمْ) في قوله في أول الأنعام (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٣) والخطاب راجع للذين خوطبوا بقوله تعالى (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٤) وما بينهما أورد مورد الاعتبار والإيقاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة والمعائش جمع معيشة ويحتمل أن يكون وزنها مفعلة ومفعلة بكسر العين وضمّها قالهما سيبويه. وقال الفرّاء : معيشة بفتح عين الكلمة والمعيشة ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغير هما مما يتوصّل به إلى ذلك وهي في الأصل مصدر تنزّل منزلة الآلات. وقيل على حذف مضاف التقدير أسباب معايش

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٤.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٣.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٦.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ٣.

١٤

كالزرع والحصد والتجارة وما يجري مجرى ذلك وسمّاها معايش لأنها وصلة إلى ما يعاش به ، وقيل المعائش وجوه المنافع وهي إمّا يحدثه الله ابتداء كالثمار أو ما يحدثه بطريق اكتساب من العدو وكلاهما يوجب الشكر.

وقرأ الجمهور : (مَعايِشَ) بالياء وهو القياس لأنّ الياء في المفرد هي أصل لا زائدة فتهمز وإنما تهمز الزائدة نحو : صحائف في صحيفة ، وقرأ الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية : معائش بالهمزة وليس بالقياس لكنّهم رووه وهم ثقات فوجب قبوله وشذّ هذا الهمز ، كما شذ في منائر جمع منارة وأصلها منورة وفي مصائب جمع مصيبة وأصلها مصوبة وكان القياس مناور ومصاوب. وقد قالوا مصاوب على الأصل كما قالوا في جمع مقامة مقاوم ومعونة معاون ، وقال الزّجاج : جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ولا أعلم لها وجها إلا التشبيه بصحيفة وصحائف ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة. وقال المازنيّ : أصل أخذ هذه القراءة عن نافع ولم يكن يدري ما العربية وكلام العرب التصحيح في نحو هذا انتهى. ولسنا متعبّدين بأقوال نحاة البصرة. وقال الفرّاء : ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهّمون أنها فعلية فيشبّهون مفعلة بفعيلة انتهى. فهذا نقل من الفرّاء عن العرب أنهم ربما يهمزون هذا وشبهه وجاء به نقل القراءة الثقات ابن عامر وهو عربيّ صراح وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور اللحن والأعرج وهو من كبار قرّاء التابعين وزيد بن عليّ وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلّ أن يدانيه في ذلك أحد ، والأعمش وهو من الضبط والإتقان والحفظ والثقة بمكان ، ونافع وهو قد قرأ على سبعين من التابعين وهم من الفصاحة والضبط والثقة بالمحلّ الذي لا يجهل ، فوجب قبول ما نقلوه إلينا ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا ، وأما قول المازنيّ أصل أخذ هذه القراءة عن نافع فليس بصحيح لأنها نقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وأما قوله إنّ نافعا لم يكن يدري ما العربية فشهادة على النفي ولو فرضنا أنه لا يدري ما العربية وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك إذ هو فصيح متكلم بالعربية ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء وكثير من هولاء النحاة يسيئون الظنّ بالقرّاء ولا يجوز لهم وإعراب (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) كإعراب (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) لمّا تقدّم ما يدلّ على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاص فالطائع ممتثل ما أمر الله به مجتنب ما نهى عنه والعاصي بضدّه أخذ ينبّه على أنّ هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر الله للملائكة بالسجدة فامتثل من امتثل وامتنع من امتنع ، وأنه أمر تعالى آدم ونهى فحكى عنه ما

١٥

يأتي خبره فنبّه أولا على موضع الاعتبار وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكّنة من بدائع الصانع والظاهر أنّ الخطاب عام لجميع بني آدم ويكون على قوله ثم قلنا إما أن تكون فيه ثم بمعنى الواو فلم ترتّب ويكون الترتيب بين الخلق والتصوير أو تكون (ثُمَ) في (ثُمَّ قُلْنا) للترتيب في الإخبار لا في الزمان وهذا أسهل محمل في الآية ومنهم من جعل (ثُمَ) للترتيب في الزمان واختلفوا في المخاطب ، فقيل المراد به آدم وهو من إطلاق الجمع على الواحد ، وقيل المراد به بنوه فعلى القول الأول يكون الخطاب في الجملتين لآدم لأنّ العرب تخاطب العظيم الواحد بخطاب الجمع ، وقيل الخطاب في الأولى لآدم وفي الثانية لذرّيته فتحصل المهلة بينهما و (ثُمَ) الثالثة لترتيب الأخبار ، وروى هذا العوفي عن ابن عباس. وقيل : خلقناكم لآدم ثم صوّرناكم لبنيه يعني في صلبه عند أخذ الميثاق ثم قلنا فيكون الترتيب واقعا على بابه وعلى القول الثاني وهو أنّ الخطاب لبني آدم ، فقيل : الخطاب على ظاهره وإن اختلف محل الخلق والتصوير فروى الحارث عن ابن عباس خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم في الأرحام ، وقال ابن جبير عنه خلقناكم في أصلاب الرجل ثم صوّرناكم في أرحام النساء ، وقاله عكرمة وقتادة والضحّاك والأعمش ، وقال ابن السائب خلقناكم نطفا في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صوّرناكم عند اجتماع النطف في الأرحام ، وقال معمّر بن راشد حاكيا عن بعض أهل العلم خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوّرناكم فيها بعد الخلق شقّ السّمع والبصر و (ثُمَ) على هذه الأقوال في قوله (ثُمَّ قُلْنا) للترتيب في الأخبار ، وقيل الخطاب لبني آدم إلا أنه على حذف مضاف التقدير ولقد خلقنا أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم حكاه القاضي أبو يعلى في المعتمد ويكون (ثُمَ) في (ثُمَّ قُلْنا) لترتيب الأخبار ، وقيل التقدير ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرنا أباكم ثم قلنا فثم على هذا للترتيب الزماني والمهلة على أصل وضعها ، وقيل هو من تلوين الخطاب يخاطب العين ويراد به الغير فيكون الخطاب لبني آدم والمراد آدم كقوله (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) (١) (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٢) (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) (٣) هو خطاب لمن كان بحضرة الرسول من بني إسرائيل والمراد أسلافهم. ومنه قول الشاعر :

إذا افتخرت يوما تميم بقوسها

وزادت على ما وطّدت من مناقب

فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم

عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٢.

١٦

وهذه الوقعة كانت لآبائهم وتقدّم تفسير (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (١) في سورة البقرة فأغنى عن إعادته وقوله (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) جملة لا موضع لها من الإعراب مؤكدة لمعنى ما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس كقوله (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) بعد قوله (إِلَّا إِبْلِيسَ) في البقرة.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) الظاهر أنّ لا زائدة تفيد التوكيد والتحقيق كهي في قوله لئلا يعلم أي لأن يعلم وكأنه قيل ليتحقّق علم أهل الكتاب وما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك ويدلّ على زيادتها قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) وسقوطها في هذا دليل على زيادتها في (أَلَّا تَسْجُدَ) والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعه من السجود وإن كان تعالى عالما بما منعه من السجود وما استفهامية تدلّ على التوبيخ كما قلنا وأنشدوا على زيادة لا قول الشاعر :

أفعنك لا برق كأنّ وميضه

غاب يقسمه ضرام مثقب

وقول الآخر :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وأقول لا حجّة في البيت الأول إذ يحتمل أن لا تكون فيه لا زائدة لاحتمال أن تكون عاطفة وحذف المعطوف والتقدير أفعنك لا عن غيرك وأما البيت الثاني فقال الزّجاج لا مفعولة والبخل بدل منها ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الرواية فيه لا البخل بخفض اللام جعلها مضافة إلى البخل لأنّ لا قد ينطق بها ولا تكون للبخل انتهى. وقد خرّجته أنا تخريجا آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعوله ، وقال قوم : لا في أن لا تسجد ليست زائدة واختلفوا ، فقيل يقدّر محذوف يصحّ معه المعنى وهو ما منعك فأحوجك أن لا تسجد ، وقيل يحمل قوله ما منعك معنى يصحّ معه النفي ، فقيل معنى ما منعك من أمرك ومن قال لك أن لا تسجد.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) هذا ليس بجواب مطابق للسؤال لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره وهذا يقتضي عنده أنّ النار خير من الطين وإذا كان كذلك فالناشىء من الأفضل لا يسجد للمفضول ، قالو : وذلك أنّ النار جسم مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٤.

١٧

ملاصق لها ، والطين مظلم كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات ، والنار قويّة التأثير والفعل والطين ليس له إلا القبول والانفعال ، والفعل أشرف من الانفعال والنار مناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادة الحياة والطين ببرده ويبسه مناسب للموت وإذا تقرّر هذا فالمخلوق من الأفضل أفضل فلا يؤمر الأفضل بخدمه المفضول ألا ترى أنه لو أمر مثلا مالك وأبو حنيفة بخدمة من هو دونهما في العلم لكان ذلك قبيحا في العقل ثم قالوا أخطأ إبليس من حيث فضل النار على الطين وهما في درجة واحدة من حيث هما جماد مخلوق والطين أفضل من النار وجوه ، أحدها أنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر وذلك هو الداعي لآدم عليه‌السلام بعد السعادة التي سبقت له في التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت إلى الاستكبار والإصرار فأورثه الهلاك واللعنة والعذاب قاله القفال ، ثم ذكروا وجوها عشرة يظهر بها فضل التراب على النار ثم قالوا : لا يدل من كانت مادته أفضل على أنه تكون صورته أفضل إذا الفضيلة عطية من الله تعالى ، ألا تراه تعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر وأن الحبشيّ المؤمن خير من القرشيّ الكافر وإذا كانت المقدّمة غير مسلمة لم ينتج والمقدمتان أن تقول إبليس ناري المادة وكلّ ناريّ المادة أفضل من ترابي المادة فإبليس أفضل من ترابي المادة والمقدمة الثانية ممنوعة فلا تنتج.

وقال ابن عباس والحسن وابن سيرين أول من قاس إبليس ، قال ابن عباس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس ، وقالا : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقال بعض العلماء : أخطأ قياسه وذهب علمه أنّ الرّوح الذي نفخ في آدم ليس من طين واستدلّ نفاة القياس على إبطاله بقصّة إبليس ولا حجّة فيها لأنه قياس في مورد النص فهو فاسد فلا يدلّ على بطلان القياس حيث لا نصّ واستدلّ بقوله (إِذْ أَمَرْتُكَ) على أنّ مطلق الأمر يدلّ على الوجوب ويدلّ على الفور لذمّ إبليس على امتناعه من السجود في الحال ولو لم يدلّ على الوجوب ولا على الفور لم يستوجب الذمّ في الحال ولا مطلقا.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ). لما كان امتناعه من السجود لسبب ظهور شفوقه على آدم عند نفسه قابله الله بالهبوط المشعر بالنزول من علوّ إلى أسفل والضمير في (مِنْها) لم يتقدّم له مفسر يعود عليه ، فقيل : يعود على الجنة وكان إبليس من سكانها ، وقال ابن عباس : كانوا في جنة عدن لا في جنة الخلد وخلق آدم

١٨

من جنة عدن ، وقال ابن عطية : أهبط أولا وأخرج من الجنة وصار في السماء لأنّ الأخبار تظافرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء ، مع آدم وحواء والحية وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم انتهى ، وقيل : يعود على السماء ، قال الزمخشري : (فَاهْبِطْ مِنْها) من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين ، وقيل : يعود على الأرض فكأنه كان له ملكها أمره أن يهبط منها إلى جزائر البحار فسلطانه فيها فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها وهذا يحتاج إلى صحة نقل ، وقيل : يعود على صورته التي كان فيها لأنه افتخر أنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه قاله أبو روق ، وقيل : عائد على المدينة التي كان فيها ذكره الكرماني ويحتاج إلى تصحيح نقل ، وقيل يعود على المنزلة والرّتبة الشريفة التي كان فيها في محل الاصطفاء والتقريب إلى محل الطّرد والتعذيب ومعنى فما يكون لك لا يصح لك أو لا يتم أو لا ينبغي بل التكبّر منهيّ عنه في كل موضع ، وقيل : هو على حذف معطوف دلّ عليه المعنى التقدير فيها ولا في غيرها ، وقيل المعنى ما للمتكبر أن يكون فيها وكرّر معنى الهبوط بقوله (فَاخْرُجْ) لأنّ الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلّته وهو أنه جزاء على تكبّره قوبل بالضدّ مما اتّصف به وهو الصغار الذي هو ضد التكبر والتكبر تفعل منه لأنه خلق كبيرا عظيما ولكنه هو الذي تعاطى الكبر ومن كلام عمر ومن تكبّر وعدا طوره رهصه الله إلى الأرض.

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) هذا يدلّ على إقراره بالبعث وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمّرون الأرض ثم يموتون وإن منهم من ينظر فيكون طلبه الإنظار بأن يغويهم ويوسوس إليهم فالضمير في (يُبْعَثُونَ) عائد على ما دلّ عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه وحكمة استنظاره وإن كان ذلك سببا للغواية والفتنة إنّ في ذلك ابتلاء العباد بمخالفته وطواعيته وما يترتب على ذلك من إعظام الثّواب بالمخالفة وإدامة العقاب الطواعية وأجابه تعالى بأنه من المنظرين أي من المؤخرين ولم يأت هنا بغاية للانتظار وجاء مغيا في الحجر وفي ص بقوله (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١) ويأتي تفسيره في الحجر إن شاء الله ، ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخّرت أعمارها كثيرا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها فقد شمل تلك الطائفة انظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر ، وقيل من المنظرين جمع كثير مثل قوم يونس.

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٨١.

١٩

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الظاهر أن الباء للقسم وما مصدرية ولذلك تلقيت الالية بقوله : (لَأَقْعُدَنَ) ، قال الزمخشري وإنما أقسم بالإغواء لأنّه كان تكليفا من أحسن أفعال الله لكونه تعريضا لسعادة الأبد ، فكان جديرا أن يقسم به انتهى ، وقيل : الباء للسبب أي بسبب إغوائك إياي وعبر ابن عطية عنها بأن يراد بها معنى المجازاة قال : كما تقول فبإكرامك لي يا زيد لأكرمنك قال وهذا أليق بالقصة ، قال الزمخشري ، (فإن قلت) : بم تعلقت الباء فإن تعليقها بلأقعدن تصد عنه لام القسم لا تقول والله بزيد لأمرن (قلت) : تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أقسم بالله (لَأَقْعُدَنَ) أي بسبب إغوائك أقسم انتهى ، وما ذكره من أن اللام تصدّ عن تعلّق الباء بلأقعدن ليس حكما مجمعا عليه بل في ذلك خلاف ، وقيل : ما استفهامية كأنه استفهم عن السبب الذي أغواه وقال بأي شيء أغويتني ثم ابتدأه مقسما فقال : لأقعدنّ لهم وضعف بإثبات الألف في ما الاستفهامية ، وذلك شاذّ أو ضرورة نحو قولهم عما تسأل فهذا شاذّ والضرورة كقوله :

على ما قام يشتمني لئيم

ومعنى (أَغْوَيْتَنِي) أضللتني قاله ابن عباس والأكثرون أو لعنتني قاله الحسن أو أهلكتني قاله ابن الأنباري ، أو خيبتني قاله بعضهم ، وقيل : ألقيتني غاويا ، وقيل : سميتني غاويا لتكبّري عن السجود لمن أنا خير منه ، وقيل : جعلتني في الغيّ وهو العذاب ، وقيل : قضيت علي من الأفعال الذّميمة ، وقيل : أدخلت علي داء الكبر ، وقال الزمخشري : فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغيّ كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضل منه ومن آدم نفسا ومناصب وعن الأصم أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك والمعنى فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم انتهى ، وهو والأصمّ فسّرا على مذهب الاعتزال في نفي نسبة الإغواء حقيقة وهو الإضلال إلى الله وكذلك من فسر (أَغْوَيْتَنِي) معنى ألفيتني غاويا وهو فرار من ذلك وقوله في الملائكة إنهم أفضل من آدم نفسا ومناصب هو مذهب المعتزلة ، وقال محمد بن كعب القرظي : قاتل الله القدريّة لإبليس أعلم بالله منهم يريد في أنه على أن الله يهدي ويضلّ وجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر فجلس إلى طاوس في المسجد الحرام فقال له طاوس : تقوم أو تقام فقام الرّجل فقيل له : أتقول هذا الرجل فقيه ، فقال : إبليس أفقه منه قال : ربّ بما أغويتني ، وهذا يقول أنا أغوي نفسي وجعل الزمخشري هذه الحكاية من تكاذيب المجبرة وذكرها ثم قال كلاما قبيحا يوقف عليه في كتابه وعبر بالقعود عن الثبوت

٢٠