فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

فلا تغترّ حينئذ بمن قصر استعداده أو همّته عن تحصيل مقدّمات استنباط المطالب الاعتقاديّة الاصوليّة والعمليّة عن الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فيتركها بغضا لها ؛ لأنّ الناس أعداء ما جهلوا ، ويشتغل بمعرفة صفات الربّ جلّ ذكره وأوصاف حججه صلوات الله عليهم ، ينظر (١) في الأخبار لا يعرف (٢) من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلا عن معرفة الخاصّ من العامّ ، وينظر (٣) في المطالب العقليّة لا يعرف به البديهيّات منها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العمليّة والاستهزاء بهم بقصور الفهم وسوء النيّة ، فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون.

عدم اعتبار معرفة التفاصيل في الإسلام والإيمان للأخبار الكثيرة

هذا كلّه حال وجوب المعرفة مستقلا ، وأمّا اعتبار ذلك في الإسلام أو الإيمان فلا دليل عليه ، بل يدلّ على خلافه الأخبار الكثيرة المفسّرة لمعنى الإسلام والإيمان.

ففي رواية محمّد بن سالم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، المرويّة في الكافي : «إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكّة عشر سنين ، فلم يمت بمكّة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أدخله الله الجنّة بإقراره ، وهو إيمان التصديق (٤)» ؛ فإنّ الظاهر أنّ حقيقة الإيمان التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الكفر

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ل) و (م) : «بنظر».

(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (ه) زيادة «به».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ل) : «بنظر».

(٤) الكافي ٢ : ٢٩ ، ضمن الحديث الأوّل.

٥٦١

الموجب للخلود في النار ، لم تتغيّر بعد انتشار الشريعة.

نعم ، ظهر في الشريعة امور صارت ضروريّة الثبوت من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيعتبر في الإسلام عدم إنكارها ، لكنّ هذا لا يوجب التغيير (١) ؛ فإنّ المقصود أنّه لم يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد والتصديق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكونه رسولا صادقا فيما يبلّغ ، وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك ؛ وإلاّ لم يكن من آمن بمكّة من أهل الجنّة أو كان حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة غيرها في صدر الإسلام.

وفي رواية سليم بن قيس ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه الله تبارك وتعالى إيّاه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة ، فقلت : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلاّ ما وصفت؟ قال : نعم» (٢) ، وهي صريحة في المدّعى.

وفي رواية أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «جعلت فداك ، أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد ، ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ، ما هو؟ فقال : أعد عليّ ، فأعاد عليه ، فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ، وصوم شهر رمضان ـ ثمّ سكت قليلا ، ثمّ قال ـ : والولاية ، مرّتين

__________________

(١) في (ر) و (ظ) : «التغيّر».

(٢) كتاب سليم بن قيس : ٥٩ ، والبحار ٦٩ : ١٦ ، الحديث ٣.

٥٦٢

ـ ثمّ قال ـ : هذا الذي فرض الله عزّ وجلّ على العباد ، لا يسأل الربّ العباد يوم القيامة ، فيقول : ألا زدتني على ما افترضت عليك ، ولكن من زاد زاده الله ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّ سنّة حسنة ينبغي للناس الأخذ بها» (١).

ونحوها رواية عيسى بن السريّ : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : حدّثني عمّا بنيت عليه دعائم الإسلام ، التي إذا أخذت بها زكى عملي ولم يضرّني جهل ما جهلت بعده؟ فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاقرار بما جاء من عند الله ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية التي أمر الله بها ولاية آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة ، وقال الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ،) فكان عليّ ، ثمّ صار من بعده الحسن ، ثمّ من بعده الحسين ، ثمّ من بعده عليّ ابن الحسين ، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ ، ثمّ هكذا يكون الأمر ؛ إنّ الأرض لا تصلح إلاّ بإمام ... الحديث» (٢).

وفي صحيحة أبي اليسع : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني بدعائم (٣) الإسلام التي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شيء منها ، التي من قصّر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه ولم يقبل منه عمله ، ومن عرفها وعمل بها صلح دينه وقبل عمله ولم يضق به ممّا هو فيه

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٢ ، الحديث ١١.

(٢) الكافي ٢ : ٢١ ، الحديث ٩ ، والآية من سورة النساء : ٥٩.

(٣) كذا في المصدر ، وفي (ت) ، (ر) و (ص) : «عن دعائم».

٥٦٣

لجهل شيء من الامور جهله؟ فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والإيمان بأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية التي أمر الله عزّ وجلّ بها ولاية آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وفي رواية إسماعيل : «قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله ، فقال : الدين واسع ، وإنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم ، فقلت : جعلت فداك أما أحدّثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال : بلى ، قلت : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وأتولاّكم ، وأبرأ من عدوّكم ومن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم ، فقال : ما جهلت شيئا (٢) ، هو والله الذي نحن عليه ، قلت : فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال : لا ، إلاّ المستضعفين ، قلت : من هم؟ قال : نساؤكم وأولادكم ، قال : أرأيت أمّ أيمن ، فإنّي أشهد أنّها من أهل الجنّة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه» (٣).

فإنّ في قوله عليه‌السلام «ما جهلت شيئا» دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد في أصل الدين.

والمستفاد من هذه الأخبار المصرّحة بعدم اعتبار معرفة أزيد ممّا ذكر فيها في الدين ـ وهو الظاهر أيضا من جماعة من علمائنا الأخيار ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٩ ، الحديث ٦.

(٢) كذا في المصدر ، وفي النسخ زيادة : «فقال».

(٣) الكافي ٢ : ٤٠٥ ، الحديث ٦.

٥٦٤

ما يكفي في معرفة الله تعالي

كالشهيدين في الألفيّة (١) وشرحها (٢) ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة (٣) ، وشارحها (٤) ، وغيرهم (٥) ـ هو : أنّه يكفي في معرفة الربّ التصديق بكونه موجودا (٦) واجب الوجود لذاته ، والتصديق بصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنّه لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا.

المراد من «المعرفة»

والمراد بمعرفة هذه الامور : ركوزها (٧) في اعتقاد المكلّف ، بحيث إذا سألته عن شيء ممّا ذكر ، أجاب بما هو الحقّ فيه وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواصّ.

ما يكفي في معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ويكفي في معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ، والتصديق بنبوّته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته ، أعني كونه معصوما بالملكة من أوّل عمره إلى آخره.

قال في المقاصد العليّة : ويمكن اعتبار ذلك ؛ لأنّ الغرض المقصود من الرسالة لا يتمّ إلاّ به ، فينتفي الفائدة التي باعتبارها وجب إرسال الرسل. وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدّرة بأنّ من جهل ما ذكروه

__________________

(١) الألفيّة والنفليّة : ٣٨.

(٢) المقاصد العليّة : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) ١ : ٨٠.

(٤) الفوائد العليّة في شرح الجعفريّة للفاضل الجواد (مخطوط) : ١٣ ـ ١٥.

(٥) كأبي المجد الحلبي في إشارة السبق : ١٤.

(٦) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «و».

(٧) في (ت) و (ه) : «ركزها».

٥٦٥

فيها فليس مؤمنا مع ذكرهم ذلك. والأوّل غير بعيد من الصواب (١) ، انتهى.

أقول : والظاهر أنّ مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلاّمة قدس‌سره حيث ذكر تلك العبارة ، بل ظاهره دعوى إجماع العلماء عليه (٢).

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ معرفة ما عدا النبوّة واجبة بالاستقلال على من هو متمكّن منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع ؛ لما ذكرنا : من عمومات وجوب التفقّه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة ، وأنّ الجهل بمراتب سفراء الله جلّ ذكره مع تيسّر العلم بها تقصير في حقّهم ، وتفريط في حبّهم ، ونقص يجب بحكم العقل رفعه (٣) ، بل من أعظم النقائص.

وقد أومأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك حيث قال ـ مشيرا إلى بعض العلوم الخارجة عن العلوم الشرعيّة ـ : «إنّ ذلك علم لا يضرّ جهله. ـ ثمّ قال : ـ إنّما العلوم ثلاثة : آية محكمة وفريضة عادلة وسنّة قائمة ، وما سواهنّ فهو فضل (٤)» (٥).

وقد أشار إلى ذلك رئيس المحدّثين في ديباجة الكافي ، حيث قسّم

__________________

(١) المقاصد العليّة : ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) انظر الباب الحادي عشر : ٣ و ٥.

(٣) في (ت) و (ل) : «دفعه».

(٤) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «فضول».

(٥) الوسائل ١٢ : ٢٤٥ ، الباب ١٠٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٦.

٥٦٦

الناس إلى أهل الصحّة والسلامة وأهل المرض والزمانة ، وذكر وضع التكليف عن الفرقة الأخيرة (١).

ما يكفي في معرفة الأئمّة عليهم‌السلام

ويكفي في معرفة الأئمّة صلوات الله عليهم : معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بأنّهم أئمّة يهدون بالحقّ ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم.

وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان.

وقد ورد في بعض الأخبار : تفسير معرفة حقّ الإمام عليه‌السلام بمعرفة كونه إماما مفترض الطاعة (٢).

ما يكفي في التصديق بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ويكفي في التصديق بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : التصديق بما علم مجيئه به (٣) متواترا ، من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسمانيّ والحساب والصراط والميزان والجنّة والنار إجمالا ، مع تأمّل في اعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسمانيّ من هذه الامور في الإيمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار ؛ للأخبار المتقدّمة (٤) المستفيضة (٥) ، والسيرة المستمرّة ؛ فإنّا نعلم بالوجدان جهل كثير من الناس بها من أوّل البعثة إلى يومنا هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ المعتبر هو عدم إنكار هذه الامور وغيرها

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ٥.

(٢) انظر الوسائل ١٠ : ٤٣٥ ، الباب ٨٢ من أبواب المزار ، الحديث ١٠.

(٣) لم ترد «به» في (ر).

(٤) في الصفحة ٥٦٢ ـ ٥٦٣ ، ولم ترد «المتقدّمة» في (م).

(٥) لم ترد «المستفيضة» في (ر) ، (ظ) و (ل).

٥٦٧

من الضروريّات ، لا وجوب الاعتقاد بها ، على ما يظهر من بعض الأخبار ، من أنّ الشاكّ إذا لم يكن جاحدا فليس بكافر ؛ ففي رواية زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا» (١) ، ونحوها غيرها (٢).

ويؤيّدها : ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس‌سره بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ جماعة يقال لهم الحقّيّة ، وهم الذين يقسمون بحقّ عليّ ولا يعرفون حقّه وفضله ، وهم يدخلون الجنّة» (٣).

ما يعتبر في الإيمان

وبالجملة : فالقول بأنّه يكفي في الإيمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزّه عن النقائص وبنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبإمامة الأئمّة عليهم‌السلام ، والبراءة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسمانيّ الذي لا ينفكّ غالبا عن الاعتقادات السابقة ، غير بعيد ؛ بالنظر إلى الأخبار والسيرة المستمرّة.

وأمّا التديّن بسائر الضروريّات ، ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم اشتراطه أيضا ، فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدين (٤) ، وجوه أقواها الأخير ، ثمّ الأوسط.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٢) الوسائل ١ : ٢٦ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٩.

(٣) الغيبة للشيخ الطوسي : ١٤٩ ، مع اختلاف.

(٤) العبارة في (ظ) ، (ل) و (م) هكذا : «وأمّا التديّن بسائر الضروريّات ففي اشتراطه أو كفاية عدم إنكارها مع العلم بكونها من الدين أو لا يشترط ذلك» مع زيادة في (ل) ، وهي : «فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدين».

٥٦٨

وما استقربناه في ما يعتبر في الإيمان وجدته بعد ذلك في كلام محكيّ عن المحقّق الورع الأردبيليّ في شرح الإرشاد (١).

ثمّ إنّ الكلام إلى هنا في تمييز القسم الثاني ـ وهو ما لا يجب الاعتقاد به إلاّ بعد حصول العلم به ـ عن القسم الأوّل ، وهو ما يجب الاعتقاد به مطلقا فيجب تحصيل مقدّماته (٢) ، أعني الأسباب المحصّلة للاعتقاد ، وقد عرفت (٣) : أنّ الأقوى عدم جواز العمل بغير العلم في القسم الثاني.

٢ ـ ما يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد

، فالكلام فيه يقع تارة بالنسبة إلى القادر على تحصيل العلم واخرى بالنسبة إلى العاجز ، فهنا مقامان :

المقام الأوّل : في القادر

على تحصيل العلم في الاعتقاديّات

والكلام في جواز عمله بالظنّ يقع في موضعين :

الأوّل : في حكمه التكليفيّ :

وجوب تحصيل العلم وعدم جواز الاقتصار على الظنّ في الاعتقاديّات.

والثاني : في حكمه الوضعيّ من حيث الإيمان وعدمه ، فنقول :

أمّا حكمه التكليفيّ ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظنّ ، فمن ظنّ بنبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بإمامة أحد من الأئمّة صلوات الله عليهم فلا يجوز له الاقتصار ، فيجب عليه ـ مع التفطّن

__________________

(١) انظر مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٢٢٠.

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «مقدّمته».

(٣) راجع الصفحة ٥٥٦.

٥٦٩

لهذه (١) المسألة ـ زيادة النظر ، ويجب على العلماء أمره بزيادة النظر ليحصل له العلم إن لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحقّ ؛ لأنّه حينئذ يدخل في قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحقّ ؛ فإنّ بقاءه على الظنّ بالحقّ أولى من رجوعه إلى الشكّ أو الظنّ بالباطل ، فضلا عن العلم به.

الاستدلال علي ذلك

والدليل على ما ذكرنا : جميع الآيات والأخبار الدالّة على وجوب الإيمان والعلم والتفقّه والمعرفة والتصديق والإقرار والشهادة والتديّن وعدم الرخصة في الجهل والشكّ ومتابعة الظنّ ، وهي أكثر من أن تحصى.

الحكم بعدم الإيمان لو اقتصر على الظنّ والدليل عليه

وأمّا الموضع الثاني : فالأقوى فيه ـ بل المتعيّن (٢) ـ الحكم بعدم الإيمان ؛ للأخبار المفسّرة للإيمان بالإقرار والشهادة والتديّن والمعرفة وغير ذلك من العبائر الظاهرة في العلم (٣).

هل يحكم بالكفر مع الظنّ بالحق؟

وهل هو كافر مع ظنّه بالحقّ؟ فيه وجهان :

من إطلاق ما دلّ على أنّ الشاكّ وغير المؤمن كافر (٤) ، وظاهر ما دلّ من الكتاب والسنّة على حصر المكلّف في المؤمن والكافر (٥).

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «بهذه».

(٢) في (ت) و (ل) ونسخة بدل (ه) : «المتيقّن».

(٣) راجع الكافي ٢ : ١٨ ، الحديث ١ ، ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ١٣ و ١٤ ، والصفحة ٢٧ ، الحديث الأوّل.

(٤) الوسائل ١٨ : ٥٦١ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٢٢ ، ٥٢ ، ٥٣ و ٥٦.

(٥) انظر سورة التغابن : ٢ ، والكافي ٢ : ٢ ، باب طينة المؤمن والكافر.

٥٧٠

ومن تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود (١) ، فلا يشمل ما نحن فيه ، ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان ، وقد اطلق عليه في الأخبار الضلال (٢).

لكنّ أكثر الأخبار الدالّة على الواسطة مختصّة بالإيمان بالمعنى الأخصّ ، فيدلّ على أنّ من المسلمين من ليس بمؤمن ولا كافر ، لا على ثبوت الواسطة بين الإسلام والكفر ، نعم بعضها (٣) قد يظهر منه ذلك.

وحينئذ : فالشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الإيمان بالمعنى الأخصّ ليس بمؤمن ولا كافر ، فلا يجري عليه أحكام الإيمان.

حكم الشاكّ غير الجاحد من حيث الإيمان والكفر

وأمّا الشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الإسلام بالمعنى الأعمّ كالنبوّة والمعاد ، فإن اكتفينا في الإسلام بظاهر الشهادتين وعدم الإنكار ظاهرا وإن لم يعتقد باطنا فهو مسلم. وإن اعتبرنا في الإسلام الشهادتين مع احتمال الاعتقاد على طبقهما ـ حتّى يكون الشهادتان أمارة على الاعتقاد الباطنيّ ـ فلا إشكال في عدم إسلام الشاكّ لو علم منه الشكّ ، فلا يجري عليه أحكام المسلمين : من جواز المناكحة والتوارث وغيرهما.

وهل يحكم بكفره ونجاسته حينئذ؟

__________________

(١) انظر الوسائل ١٨ : ٥٦٨ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٥٠.

و ١ : ٢١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٦٦ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٤٣ ، ٤٨ و ٤٩.

(٣) الكافي ٢ : ٤٠٣ ، باب الضلال من كتاب الإيمان والكفر ، الحديث ٢.

٥٧١

فيه إشكال : من تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود.

هذا كلّه في الظانّ بالحقّ ، أمّا الظانّ بالباطل فالظاهر كفره.

هل يكفي حصول الجزم من التقليد أو لا بدّ من النظر والاستدلال؟

بقي الكلام في أنّه إذا لم يكتف بالظنّ وحصل الجزم من تقليد ، فهل يكفي ذلك أو لا بدّ من النظر والاستدلال؟

ظاهر الأكثر : الثاني ، بل ادّعى عليه العلاّمة قدس‌سره ـ في الباب الحادي عشر ـ الإجماع ؛ حيث قال : «أجمع العلماء على وجوب معرفة الله وصفاته الثبوتيّة وما يصحّ عليه وما يمتنع عنه والنبوّة والإمامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد» (١). فإنّ صريحه أنّ المعرفة بالتقليد غير كافية. وأصرح منها (٢) عبارة المحقّق في المعارج ؛ حيث استدلّ على بطلان التقليد بأنّه جزم في غير محلّه (٣). ومثلهما عبارة الشهيد الأوّل (٤) والمحقّق الثاني (٥)(٦).

لكن مقتضى استدلال العضديّ (٧) على منع التقليد بالإجماع على

__________________

(١) الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٤.

(٢) في غير (ظ) و (م) : «منهما».

(٣) المعارج : ١٩٩.

(٤) القواعد والفوائد ١ : ٣١٩ ، القاعدة ١١٢.

(٥) الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) ١ : ٨٠.

(٦) وردت عبارة «ومثلهما ـ إلى ـ الثاني» في (ت) ، (ر) و (ه) قبل قوله : «وأصرح ...» ، وورد في غير (ظ) و (م) بدل «ومثلهما» : «ومثلها».

(٧) انظر شرح مختصر الاصول : ٤٨٠.

٥٧٢

وجوب معرفة الله وأنّها لا تحصل بالتقليد ، هو : أنّ الكلام في التقليد الغير المفيد للمعرفة. وهو الذي يقتضيه أيضا ما ذكره شيخنا في العدّة ـ كما سيجيء كلامه (١) ـ وكلام الشهيد في القواعد : من عدم جواز التقليد في العقليّات ، ولا في الاصول الضروريّة من السمعيّات ، ولا في غيرها ممّا لا يتعلّق به عمل ويكون المطلوب فيها العلم ، كالتفاضل بين الأنبياء السابقة (٢). ويقتضيه (٣) أيضا : ظاهر ما عن شيخنا البهائي قدس‌سره في حاشية الزبدة : من أنّ النزاع في جواز التقليد وعدمه يرجع إلى النزاع في كفاية الظنّ وعدمها (٤).

ويؤيّده أيضا (٥) : اقتران التقليد في الاصول في كلماتهم بالتقليد في الفروع ، حيث يذكرون في أركان الفتوى أنّ المستفتى فيه هي الفروع دون الاصول.

لكنّ الظاهر : عدم المقابلة التامّة بين التقليدين ؛ إذ لا يعتبر في التقليد في الفروع حصول الظنّ ، فيعمل المقلّد مع كونه شاكّا ، وهذا غير معقول في اصول الدين التي يطلب فيها الاعتقاد حتّى يجري فيه الخلاف.

وكذا ليس المراد من كفاية التقليد هنا كفايته عن الواقع ، مخالفا

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٨١.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٣١٩ ، القاعدة ١١٢.

(٣) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «ويعضده».

(٤) الزبدة : ١٢٠.

(٥) لم ترد «أيضا» في (ر).

٥٧٣

كان في الواقع أو موافقا كما في الفروع ، بل المراد كفاية التقليد في الحقّ وسقوط النظر به عنه ، إلاّ أن يكتفي فيها بمجرّد التديّن ظاهرا وإن لم يعتقد ، لكنّه بعيد.

ثمّ إنّ ظاهر كلام الحاجبيّ والعضديّ اختصاص الخلاف بالمسائل العقليّة ، وهو في محلّه ، بناء على ما استظهرنا منهم من عدم حصول الجزم من التقليد ؛ لأنّ الذي لا يفيد الجزم من التقليد إنّما هو في العقليّات المبتنية (١) على الاستدلالات العقليّة ، وأمّا النقليّات فالاعتماد فيها على قول المقلّد ـ بالفتح ـ كالاعتماد على قول المخبر الذي قد يفيد الجزم بصدقه بواسطة القرائن ، وفي الحقيقة يخرج هذا عن التقليد.

الأقوى : كفاية الجزم الحاصل من التقليد في الاعتقاديّات

وكيف كان : فالأقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد ؛ لعدم الدليل على اعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد ، وتقييدها بطريق خاصّ لا دليل عليه.

مع أنّ الإنصاف : أنّ النظر والاستدلال بالبراهين العقليّة للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الاصول لا يفيد بنفسه الجزم ؛ لكثرة الشّبه الحادثة في النفس والمدوّنة في الكتب ، حتّى أنّهم ذكروا شبها يصعب الجواب عنها للمحقّقين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام ، فكيف حال المشتغل به مقدارا من الزمان لأجل تصحيح عقائده ، ليشتغل بعد ذلك بامور معاشه ومعاده ، خصوصا والشيطان يغتنم الفرصة لإلقاء الشبهات والتشكيك في البديهيّات ، وقد شاهدنا جماعة (٢) صرفوا أعمارهم

__________________

(١) في (ر) و (ظ) : «المبنيّة».

(٢) في (ت) ، (ص) ، (ل) و (ه) زيادة : «قد».

٥٧٤

ولم يحصّلوا منها (١) شيئا (٢) إلاّ القليل.

المقام الثاني : في غير المتمكّن من العلم

العاجز عن تحصيل العلم في الاعتقاديّات

والكلام فيه : تارة في تحقّق موضوعه في الخارج.

واخرى في أنّه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظنّ أم لا؟

وثالثة في حكمه الوضعيّ قبل الظنّ وبعده.

هل يوجد العاجز في الاعتقاديّات؟

أمّا الأوّل ، فقد يقال فيه بعدم وجود العاجز ؛ نظرا إلى العمومات الدالّة على حصر الناس في المؤمن والكافر (٣) ، مع ما دلّ على خلود الكافرين بأجمعهم في النار (٤) ، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر ، فيكشف (٥) ذلك عن تقصير كلّ غير مؤمن ، وأنّ من نراه قاصرا عاجزا عن العلم قد يمكن عليه تحصيل (٦) العلم بالحقّ ولو في زمان ما وإن كان (٧) عاجزا قبل ذلك أو (٨) بعده ، والعقل لا يقبّح عقاب مثل هذا الشخص ؛ ولهذا ادّعى غير واحد ـ في مسألة التخطئة

__________________

(١) في (ت) و (ل) : «منه».

(٢) في (ظ) و (م) زيادة : «نعم».

(٣) التغابن : ٢.

(٤) البيّنة : ٦.

(٥) كذا في (ت) ونسخة بدل (ه) ، وفي غيرهما : «فينتج».

(٦) في (ت) : «قد تمكّن من تحصيل» ، وفي (ل) و (ه) : «تمكّن عليه».

(٧) في غير (ل) : «صار».

(٨) في (ت) : «و».

٥٧٥

والتصويب ـ الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد غير معذور (١).

شهادة الوجدان بقصور بعض المكلّفين

لكنّ الذي يقتضيه الإنصاف : شهادة الوجدان بقصور بعض المكلّفين ؛ وقد تقدّم عن الكليني ما يشير إلى ذلك (٢) ، وسيجيء عن الشيخ قدس‌سره في العدّة (٣) : من كون العاجز (٤) عن التحصيل بمنزلة البهائم.

هذا (٥) ، مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر (٦) ، وقضيّة مناظرة زرارة وغيره مع الإمام عليه‌السلام في ذلك مذكورة في الكافي (٧). ومورد الإجماع على أنّ المخطئ آثم هو المجتهد الباذل جهده بزعمه ، فلا ينافي كون الغافل والملتفت العاجز عن بذل الجهد معذورا غير آثم.

هل يجب تحصيل الظنّ على العاجز؟

وأمّا الثاني ، فالظاهر فيه عدم وجوب تحصيل الظنّ (٨) ؛ لأنّ المفروض عجزه عن الإيمان والتصديق المأمور به ، ولا دليل آخر على عدم جواز التوقّف ، وليس المقام من قبيل الفروع في وجوب العمل بالظنّ مع تعذّر العلم ؛ لأنّ المقصود فيها العمل ، ولا معنى للتوقّف فيه ،

__________________

(١) كالشيخ الطوسي في العدّة ٢ : ٧٢٣ ، وصاحب المعالم في المعالم : ٢٤١.

(٢) راجع الصفحة ٥٦٧.

(٣) انظر الصفحة ٥٨٢.

(٤) في (ت) و (ل) : «القاصر».

(٥) لم ترد «هذا» في (ظ) و (م).

(٦) الوسائل ١٨ : ٥٦٦ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٤٣ ، ٤٨ و ٤٩.

(٧) الكافي ٢ : ٤٠٣ ، الحديث ٢.

(٨) في (ت) و (ه) زيادة : «عليه».

٥٧٦

فلا بدّ عند انسداد باب العلم من العمل على طبق أصل أو ظنّ. والمقصود فيما نحن فيه الاعتقاد ، فإذا عجز عنه فلا دليل على وجوب تحصيل الظنّ الذي لا يغني عن الحقّ شيئا (١) ، فيندرج في عموم قولهم عليهم‌السلام : «إذا جاءكم ما لا تعلمون فها» (٢).

نعم ، لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ، ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظنّ بالحقّ ولم يخف عليه إفضاء نظره الظنّي إلى الباطل ، فلا يبعد وجوب إلزامه بالتحصيل ؛ لأنّ انكشاف الحقّ ـ ولو ظنّا ـ أولى من البقاء على الشكّ فيه.

حكم العاجز من حيث الإيمان والكفر

وأمّا الثالث ، فإن لم يقرّ في الظاهر بما هو مناط الإسلام فالظاهر كفره.

وإن أقرّ به مع العلم بأنّه شاكّ باطنا فالظاهر عدم إسلامه ، بناء على أنّ الإقرار الظاهريّ مشروط باحتمال اعتقاده لما يقرّ به.

وفي جريان حكم الكفر عليه حينئذ إشكال :

من إطلاق بعض الأخبار بكفر الشاكّ (٣).

ومن تقييده في غير واحد من الأخبار بالجحود ، مثل : رواية محمّد بن مسلم ، قال : «سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما تقول في من شكّ في الله؟ قال : كافر ، يا أبا محمّد. قال : فشكّ في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : كافر. ثمّ التفت إلى زرارة ، فقال : إنّما يكفر إذا جحد» (٤) ، وفي

__________________

(١) لم ترد «شيئا» في (ظ) و (م).

(٢) الوسائل ١٨ : ٢٣ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣.

(٣) راجع الصفحة ٥٧١ ، الهامش (١).

(٤) الوسائل ١٨ : ٥٦٩ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٥٦.

٥٧٧

رواية اخرى : «لو أنّ الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» (١).

ثمّ إنّ جحود الشاكّ ، يحتمل أن يراد به إظهار عدم الثبوت وإنكار التديّن به ؛ لأجل عدم الثبوت ، ويحتمل أن يراد به الإنكار الصوريّ على سبيل الجزم ، وعلى التقديرين فظاهرها : أنّ المقرّ ظاهرا الشاكّ باطنا الغير المظهر لشكّه ، غير كافر.

ويؤيّد هذا : رواية زرارة ـ الواردة في تفسير قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فتجب (٢) لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب (٣) لهم النار ، فهم على تلك الحالة إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم» (٤) ، وقريب منها غيرها (٥).

ولنختم الكلام بذكر كلام السيّد الصدر الشارح للوافية ، في أقسام المقلّد في اصول الدين بناء على القول بجواز التقليد ، وأقسامه بناء على عدم جوازه ، قال :

كلام السيّد الصدر في أقسام المقلّد في اصول الدين وبعض المناقشات فيه

إنّ أقسام المقلّد ـ على القول بجواز التقليد ـ ستّة ؛ لأنّه : إمّا أن يكون مقلّدا في مسألة حقّة أو في باطلة ، وعلى التقديرين : إمّا أن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٢) و (٣) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «فيجب».

(٤) الكافي ٢ : ٤٠٧ ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة التوبة : ١٠٦.

(٥) الكافي ٢ : ٤٠٧ ، الحديث ٢.

٥٧٨

يكون جازما بها أو ظانّا ، وعلى تقديري التقليد في الباطل : إمّا أن يكون إصراره على التقليد مبتنيا على عناد وتعصّب ، بأن حصل له طريق علم إلى الحقّ فما سلكه ، وإمّا لا ، فهذه أقسام ستّة.

فالأوّل : وهو من قلّد في مسألة حقّة جازما بها ـ مثلا : قلّد في وجود الصانع وصفاته وعدله ـ فهذا مؤمن ؛ واستدلّ عليه بما تقدّم حاصله : من أنّ التصديق معتبر من أيّ طريق حصل ـ إلى أن قال : ـ

الثاني : من قلّد في مسألة حقّة ظانّا بها من دون جزم ، فالظاهر إجراء حكم المسلم عليه في الظاهر إذا أقرّ (١) ؛ إذ ليس حاله بأدون من حال المنافق ، سيّما إذا كان طالبا للجزم مشغولا بتحصيله فمات قبل ذلك.

أقول : هذا مبنيّ على أنّ الإسلام مجرّد الإقرار الصوريّ وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد. وفيه : ما عرفت من الإشكال وإن دلّ عليه غير واحد من الأخبار.

الثالث : من قلّد في باطل ـ مثل إنكار الصانع أو شيء ممّا يعتبر في الإيمان ـ وجزم به من غير ظهور حقّ ولا عناد.

الرابع : من قلّد في باطل وظنّ به كذلك.

والظاهر في هذين إلحاقهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة ، وأمّا في الدنيا فيحكم عليهما بالكفر إن اعتقدا ما يوجبه ، وبالإسلام إن لم يكونا كذلك. فالأوّل كمن أنكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا ، والثاني كمن أنكر إماما.

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «باللسان».

٥٧٩

الخامس : من قلّد في باطل جازما مع العناد.

السادس : من قلّد في باطل ظانّا كذلك.

وهذان يحكم بكفرهما مع ظهور الحقّ والإصرار.

ثمّ ذكر أقسام المقلّد على القول بعدم جواز التقليد ، قال :

إنّه إمّا أن يكون مقلّدا في حقّ أو في باطل ، وعلى التقديرين : مع الجزم أو الظنّ ، وعلى تقديري التقليد في الباطل : بلا عناد أو به ، وعلى التقادير كلّها : دلّ عقله على الوجوب أو بيّن له غيره ، وعلى تقدير الدلالة : أصرّ على التقليد أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعد أو لا.

فهذه أقسام أربعة عشر.

الأوّل : التقليد في الحقّ جازما مع العلم بوجوب النظر والإصرار ، فهذا مؤمن فاسق ؛ لإصراره على ترك الواجب.

الثاني : هذه الصورة مع ترك الإصرار والرجوع ، فهذا مؤمن غير فاسق.

الثالث : المقلّد في الحقّ الظانّ مع الإصرار ، والظاهر أنّه مؤمن مرجى في الآخرة ، وفاسق ؛ للإصرار.

الرابع : هذه الصورة مع عدم الإصرار ، فهذا مسلم ظاهرا غير فاسق.

الخامس والسادس : المقلّد في الحقّ جازما أو ظانّا مع عدم العلم بوجوب الرجوع ، فهذان كالسابق بلا فسق.

أقول : الحكم بإيمان هؤلاء لا يجامع فرض القول بعدم جواز التقليد ، إلاّ أن يريد بهذا القول قول الشيخ قدس‌سره : من وجوب النظر

٥٨٠