فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

لازم القول بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجّيّته ـ ضروريّ البطلان في المذهب.

٢ ـ منع إفادة القياس للظنّ

الثاني (١) : منع إفادة القياس للظنّ ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ الشارع جمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفة ، وفرّق بين ما يتخيّل متآلفة.

وكفاك في هذا : عموم ما ورد من (٢) : «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٣) ، و «أنّ السنّة إذا قيست محق الدين» (٤) ، و «أنّه لا شيء أبعد عن عقول الرجال من دين الله» (٥) ، وغيرها ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس (٦) ، وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في دية أصابع الرجل والمرأة الآتية (٧).

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّ منع حصول الظنّ من القياس في بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان. وأمّا كثرة تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات ، فلا يؤثّر في منع الظنّ ؛ لأنّ هذه الموارد بالنسبة إلى موارد

__________________

(١) هذا الجواب أيضا ذكره المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٨ ، و ٢ : ١١٢.

(٢) لم ترد «من» في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) كمال الدين : ٣٢٤ ، الحديث ٩ ، والبحار ٢ : ٣٠٣ ، الحديث ٤١ ، وفي المصدر : «بالعقول الناقصة».

(٤) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٥) لم نعثر عليه ، نعم في الوسائل ما يقرب منه ، انظر الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٦) الوسائل ١٨ : ٢٧ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨.

(٧) تقدّمت الرواية في الصفحة ٦٣ ، ولم نعثر عليها فيما يأتي.

٥٢١

الجمع بين المؤتلفات أقلّ قليل.

نعم ، الإنصاف : أنّ ما ذكر من الأخبار في منع العمل بالقياس (١) موهن قويّ يوجب غالبا ارتفاع الظنّ الحاصل منه في بادئ النظر ، أمّا منعه عن ذلك دائما فلا ؛ كيف؟ وقد يحصل من القياس القطع ، وهو المسمّى عندهم بتنقيح المناط القطعيّ. وأيضا : فالأولويّة الاعتباريّة من أقسام القياس ، ومن المعلوم إفادتها للظنّ ، ولا ريب أنّ منشأ الظنّ فيها هو استنباط المناط ظنّا ، وأمّا آكديّته في الفرع فلا مدخل له في حصول الظنّ.

٣ ـ أنّ باب العلم في القياس مفتوح

الثالث (٢) : أنّ باب العلم في مورد القياس ومثله مفتوح ؛ للعلم بأنّ الشارع أرجعنا في هذه الموارد إلى الاصول اللفظيّة أو العمليّة ، فلا يقضي دليل الانسداد باعتبار ظنّ القياس في موارده.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّ هذا العلم إنّما حصل من جهة النهي عن القياس ، ولا كلام في وجوب الامتناع عنه بعد منع الشارع ، إنّما الكلام في توجيه نهي الشارع (٣) عن العمل به مع أنّ موارده وموارد سائر الأمارات متساوية ، فإن أمكن منع الشارع عن العمل بالقياس أمكن ذلك في أمارة اخرى ، فلا يستقلّ العقل بوجوب العمل بالظنّ وقبح

__________________

(١) في (ص) ، (ظ) و (م) : «أنّ ما ذكر من تتبّع الأخبار في أحوال القياس» ، وفي (ه) ونسخة بدل (ص) : «أنّ ما ذكر من تتبّع الأخبار في منع العمل بالقياس» ، وفي (ل) : «أنّ ما ذكر من الأخبار في أحوال القياس».

(٢) هذا الجواب أيضا للمحقق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩ ، و ٢ : ١١٢.

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «توجيه صحّة منع الشارع».

٥٢٢

الاكتفاء بغيره من المكلّف (١). وقد تقدّم أنّه لو لا ثبوت القبح في التكليف بالخلاف لم يستقلّ العقل بتعيّن (٢) العمل بالظنّ ؛ إذ لا مانع عقلا عن وقوع الفعل الممكن ذاتا من الحكيم إلاّ قبحه.

والحاصل : أنّ الانفتاح المدّعى إن كان مع قطع النظر عن منع الشارع فهو خلاف المفروض ، وإن كان بملاحظة منع الشارع ، فالإشكال في صحّة المنع ومجامعته مع استقلال العقل بوجوب العمل بالظنّ ، فالكلام هنا في توجيه المنع ، لا في تحقّقه.

الرابع : عدم حجيّة مطلق الظنّ النفس الأمري

الرابع (٣) : أنّ مقدّمات دليل الانسداد ـ أعني انسداد باب العلم مع العلم ببقاء التكليف ـ إنّما توجب جواز العمل بما يفيد الظنّ ، يعني (٤) في نفسه ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّا أقوى ، وبالجملة : هي تدلّ على حجّيّة الأدلّة الظنّية دون مطلق الظنّ النفس الأمريّ ، والأوّل أمر قابل للاستثناء ؛ إذ يصحّ (٥) أن يقال : إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه ويدلّ على مراد الشارع ظنّا إلاّ الدليل الفلانيّ ، وبعد إخراج ما خرج عن ذلك يكون باقي الأدلّة (٦) المفيدة للظنّ حجّة معتبرة ، فإذا تعارضت تلك الأدلّة لزم الأخذ بما هو الأقوى وترك ما هو الأضعف ،

__________________

(١) في (ظ) و (م) زيادة : «وقبح الأمر بغيره من المكلّف».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) ، (ظ) و (ه) : «بتعيين».

(٣) هذا الجواب أيضا للمحقّق القمّي.

(٤) لم ترد «يعني» في (ر) و (ص).

(٥) في (ر) ، (ص) و (ه) : «إذ لا يقبح».

(٦) في (م) : «يكون ما في الأدلّة».

٥٢٣

فالمعتبر حينئذ هو الظنّ بالواقع ، ويكون مفاد الأقوى حينئذ ظنّا والأضعف وهما ، فيؤخذ بالظنّ ويترك غيره (١) ، انتهى.

أقول : كأنّ غرضه ـ بعد فرض جعل الاصول من باب الظنّ وعدم وجوب العمل بالاحتياط ـ : أنّ انسداد باب العلم في الوقائع مع بقاء التكليف فيها يوجب عقلا الرجوع إلى طائفة من الأمارات الظنّية ، وهذه القضيّة يمكن أن تكون مهملة ويكون القياس خارجا عن حكمها ، لا أنّ (٢) العقل يحكم بعمومها ويخرج الشارع القياس ؛ لأنّ هذا عين ما فرّ منه من الإشكال. فإذا علم بخروج القياس عن هذا الحكم فلا بدّ من إعمال الباقي في مواردها ، فإذا وجد في مورد أصل وأمارة ـ والمفروض أنّ الأصل لا يفيد الظنّ في مقابل الأمارة ـ وجب الأخذ بها ، وإذا فرض خلوّ المورد عن الأمارة اخذ بالأصل ؛ لأنّه يوجب الظنّ بمقتضاه.

وبهذا (٣) التقرير : يجوز منع الشارع عن القياس ، بخلاف ما لو قرّرنا دليل الانسداد على وجه يقتضي الرجوع في كلّ مسألة إلى الظنّ الموجود فيها ؛ فإنّ هذه القضيّة لا تقبل الإهمال ولا التخصيص ؛ إذ ليس في كلّ مسألة إلاّ ظنّ واحد.

وهذا معنى قوله في مقام آخر : إنّ القياس مستثنى من الأدلّة الظنّية ، لا أنّ الظنّ القياسيّ مستثنى من مطلق الظنّ. والمراد بالاستثناء

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٤٨ ، و ٢ : ١١٢.

(٢) في (ر) ، (ل) و (م) زيادة : «يكون».

(٣) في (ظ) و (م) : «وهذا».

٥٢٤

هنا إخراج ما لولاه لكان قابلا للدخول ، لا داخلا بالفعل ؛ وإلاّ لم يصحّ بالنسبة إلى المهملة.

هذا غاية ما يخطر بالبال في كشف مراده.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّر بتقريرها على وجه دون وجه ؛ فإنّ مرجع ما ذكر ـ من الحكم بوجوب الرجوع إلى الأمارات الظنّية في الجملة ـ إلى العمل بالظنّ في الجملة (١) ؛ إذ ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحجّيّة في لحاظ العقل ، والمناط هو وصف الظنّ ، سواء اعتبر مطلقا أو على وجه الإهمال ، وقد تقدّم (٢) : أنّ النتيجة على تقرير الحكومة ليست مهملة ، بل هي معيّنة للظنّ الاطمئنانيّ مع الكفاية ، ومع عدمها فمطلق الظنّ ، وعلى كلا التقديرين لا وجه لإخراج القياس. وأمّا على تقرير الكشف فهي مهملة لا يشكل معها خروج القياس ؛ إذ الإشكال (٣) مبنيّ على عدم الإهمال وعموم النتيجة ، كما عرفت (٤).

الخامس : عدم حجيّة الظنّ الذي قام على حجيّته دليل

الخامس (٥) : أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّيّة الظنّ الذي لم يقم على عدم حجّيّته دليل ، فخروج القياس على وجه التخصّص دون

__________________

(١) في غير (ت) و (ه) : «بالجملة».

(٢) راجع الصفحة ٤٦٧.

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «الاشكال» : «القياس».

(٤) راجع الصفحة ٤٦٨.

(٥) هذا الجواب ذكره الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٣٩٥ ، وأخوه صاحب الفصول في الفصول : ٢٨٥.

٥٢٥

التخصيص.

توضيح ذلك : أنّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال ؛ لأنّ البراءة الظنّية تقوم مقام العلميّة ، أمّا إذا حصل بواسطة منع الشارع القطع بعدم البراءة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى براءة ظنّية حتّى يحكم العقل بوجوبها.

واستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ وطرح الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة ، كما تقدّم (١) في تقرير أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فإذا فرض قيام الدليل من الشارع على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به ، فإنّ هذا لا يكون (٢) تخصيصا في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ؛ لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكّن إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلميّ مع التمكّن من العلميّ ، فإذا فرض الدليل على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به صار الامتثال ـ في العمل بمؤدّاه ـ علميّا ، فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلميّ ، فما نحن فيه على العكس من ذلك.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّك قد عرفت ـ عند التكلّم في مذهب ابن قبة (٣) ـ : أنّ التعبّد بالظنّ مع التمكّن من العلم على وجهين :

أحدهما : على وجه الطريقيّة بحيث لا يلاحظ الشارع في أمره عدا كون الظنّ انكشافا ظنّيّا للواقع بحيث لا يترتّب على العمل به عدا

__________________

(١) في غير (ظ) زيادة : «نظيره».

(٢) في (ت) و (ه) بدل عبارة «فإنّ هذا لا يكون» : «لم يوجب ذلك».

(٣) راجع الصفحة ١٠٨ ـ ١١٢.

٥٢٦

مصلحة الواقع على تقدير المطابقة.

والثاني : على وجه يكون في سلوكه مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة على تقدير مخالفة الظنّ للواقع.

وقد عرفت (١) : أنّ الأمر بالعمل بالظنّ مع التمكّن من العلم على الوجه الأوّل قبيح جدّا ؛ لأنّه مخالف لحكم العقل بعدم الاكتفاء في الوصول إلى الواقع بسلوك طريق ظنّيّ يحتمل الإفضاء إلى خلاف الواقع. نعم ، إنّما يصحّ التعبّد على الوجه الثاني.

فنقول : إنّ الأمر في ما نحن فيه كذلك ؛ فإنّه بعد ما حكم العقل بانحصار الامتثال عند فقد العلم في سلوك الطريق الظنّي ، فنهي الشارع عن العمل ببعض الظنون : إن كان على وجه الطريقيّة ـ بأن نهى عند فقد العلم عن سلوك هذا الطريق من حيث إنّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ـ فهو قبيح ؛ لأنّه معرّض لفوات الواقع فينتقض به الغرض ، كما كان يلزم ذلك من الأمر بسلوكه على وجه الطريقيّة عند التمكّن من العلم ؛ لأنّ حال الظنّ عند الانسداد من حيث الطريقيّة حال العلم مع الانفتاح لا يجوز النهي عنه من هذه الحيثيّة في الأوّل كما لا يجوز الأمر به في الثاني ، فالنهي عنه وإن كان مخرجا للعمل به عن ظنّ البراءة إلى القطع بعدمها ، إلاّ أنّ الكلام في جواز هذا النهي ؛ لما عرفت من أنّه قبيح.

وإن كان على وجه يكشف النهي عن وجود مفسدة في العمل بهذا الظنّ يغلب على مفسدة مخالفة الواقع اللازمة عند طرحه ، فهذا وإن

__________________

(١) راجع الصفحة ١٠٩ ـ ١١٠.

٥٢٧

كان جائزا حسنا نظير الأمر به على هذا الوجه مع الانفتاح ، إلاّ أنّه يرجع إلى ما سنذكره (١)(٢).

٦ ـ ما اخترناه سابقا

السادس : وهو الذي اخترناه سابقا (٣) ، وحاصله : أنّ النهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به ، فالنهي عن الظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح.

فإن قلت : إذا بني على ذلك ، فكلّ ظنّ من الظنون يحتمل أن يكون في العمل به مفسدة كذلك.

قلت : نعم ، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يظنّ معه بالبراءة عند الانسداد ، كما أنّ احتمال وجود المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدح في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح ، وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد (٤) : أنّ العقل مستقلّ بوجوب العمل بالظنّ مع انسداد باب العلم (٥) ، ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ؛ إذ لا يحصل من العمل

__________________

(١) في الوجه الآتي.

(٢) في غير (ت) و (ه) زيادة : «في».

(٣) لم ترد عبارة «وهو الذي اخترناه سابقا» في (ر) و (ل).

(٤) راجع الصفحة ٤٣٤.

(٥) وردت في (ظ) ، (ل) و (م) بدل عبارة «العمل ـ إلى ـ العلم» عبارة : «البراءة الظنّية مع عدم العلم».

٥٢٨

بذلك المحتمل سوى الشكّ في البراءة أو توهّمها ، ولا يجوز العدول عن البراءة الظنّية إليهما.

عدم تماميّة هذا الوجه أيضا

وهذا الوجه وإن كان حسنا وقد اخترناه سابقا ، إلاّ أنّ ظاهر أكثر الأخبار الناهية عن القياس : أنّه لا مفسدة فيه إلاّ الوقوع في خلاف الواقع ، وإن كان بعضها ساكتا عن ذلك وبعضها ظاهرا في ثبوت المفسدة الذاتيّة ، إلاّ أنّ دلالة الأكثر أظهر ، فهي الحاكمة (١) على غيرها ، كما يظهر لمن راجع الجميع ، فالنهي راجع إلى سلوكه من باب الطريقيّة ، وقد عرفت الاشكال في النهي على هذا الوجه (٢).

إلاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة عن العمل بالقياس من حيث الطريقيّة لا بدّ من حملها ـ في مقابل العقل المستقلّ ـ على صورة انفتاح باب العلم بالرجوع إلى الأئمّة عليهم‌السلام. والأدلّة القطعيّة منها ـ كالإجماع المنعقد على حرمة العمل به حتّى مع الانسداد ـ لا وجه له غير المفسدة الذاتيّة ، كما أنّه إذا قام دليل على حجّيّة ظنّ مع التمكّن من العلم نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ؛ لأنّ حمله على العمل من حيث الطريقيّة مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسّره.

٧ ـ مختار المصنّف في التوجيه

الوجه السابع : هو أنّ خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفتها للواقع ؛ كما يشهد به قوله عليه‌السلام : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدّين» (٣) ، وقوله : «كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (٤) ، وقوله :

__________________

(١) في (ه) ونسخة بدل (ت) : «المحكّمة».

(٢) راجع الصفحة ٥٢٧.

(٣) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٤) الوسائل ٥ : ٣٩٤ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١٤.

٥٢٩

«ليس شيء أبعد عن عقول الرّجال من دين الله» (١) ، وغير ذلك (٢).

وهذا المعنى لمّا (٣) خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنّية عند فقد العلم ، فهو إنّما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيّات المجهولة بها ، فإذا كشف الشارع عن حال القياس وتبيّن عند العقل حال القياس فيحكم ـ حكما إجماليّا ـ بعدم جواز الركون إليه.

نعم ، إذا حصل الظنّ منه في خصوص مورد ، لا يحكم بترجيح غيره عليه في مقام البراءة عن الواقع ، لكن يصحّ للشارع المنع عنه تعبّدا بحيث يظهر (٤) : أنّي ما اريد الواقعيّات التي تضمّنها (٥) ؛ فإنّ الظنّ ليس كالعلم في عدم جواز تكليف الشخص بتركه والأخذ بغيره.

وحينئذ : فالمحسّن لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة كونه في علم الشارع مؤدّيا في الغالب إلى مخالفة الواقع.

والحاصل : أنّ قبح النهي عن العمل بالقياس على وجه الطريقيّة ؛ إمّا أن يكون لغلبة الوقوع في خلاف الواقع مع طرحه فينافي الغرض ، وإمّا أن يكون لأجل قبح ذلك في نظر الظانّ ؛ حيث إنّ مقتضى القياس أقرب في نظره إلى الواقع ، فالنهي عنه نقض لغرضه في نظر الظانّ.

__________________

(١) لم نعثر عليه ، نعم ورد ما يقرب منه ، في الوسائل ١٨ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٢) تقدّم بعضها في الصفحة ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) لم ترد «لمّا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) في (ر) و (ص) زيادة : «منه» ، وفي (ت) و (ه) زيادة : «له».

(٥) في (ص) زيادة : «القياس».

٥٣٠

أمّا الوجه الأوّل ، فهو مفقود في المقام ؛ لأنّ المفروض غلبة مخالفته للواقع.

وأمّا الوجه الثاني ، فهو غير قبيح بعد إمكان حمل الظانّ النهي في ذلك المورد الشخصيّ على عدم إرادة الواقع منه في هذه المسألة ولو لأجل اطّراد الحكم.

ألا ترى : أنّه يصحّ أن يقول الشارع للوسواسيّ القاطع بنجاسة ثوبه : «ما اريد منك الصلاة بطهارة الثوب» وإن كان ثوبه في الواقع نجسا ؛ حسما لمادّة وسواسه.

ونظيره : أنّ الوالد إذا أقام ولده الصغير في دكّانه في مكانه ، وعلم منه أنّه يبيع أجناسه بحسب ظنونه القاصرة ، صحّ له منعه عن العمل بظنّه ، ويكون منعه في الواقع لأجل عدم الخسارة في البيع ، ويكون هذا النهي في نظر الصبيّ الظانّ بوجود النفع في المعاملة الشخصيّة إقداما منه ورضى بالخسارة وترك العمل بما يظنّه نفعا ؛ لئلا يقع في الخسارة في مقامات أخر ؛ فإنّ حصول الظنّ الشخصيّ بالنفع تفصيلا في بعض الموارد لا ينافي علمه بأنّ العمل بالظنّ القياسيّ منه ومن غيره في هذا المورد وفي غيره يوجب الوقوع غالبا في مخالفة الواقع ؛ ولذا علمنا ذلك من الأخبار المتواترة معنى مع حصول الظنّ الشخصيّ في الموارد منه ، إلاّ أنّه كلّ مورد حصل الظنّ نقول بحسب ظنّنا : إنّه ليس من موارد التخلّف ، فنحمل عموم نهي الشارع الشامل لهذا المورد على رفع الشارع يده عن الواقع وإغماضه عن الواقع في موارد مطابقة القياس ؛ لئلاّ يقع في مفسدة تخلّفه عن الواقع في أكثر الموارد.

٥٣١

هذه جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الإشكال ، وعليك بالتأمّل في هذا المجال ، والله العالم بحقيقة الحال.

٢ ـ لو قام ظنّ على حرمة العمل ببعض الظنون

المقام الثاني (١) :

فيما إذا قام ظنّ من أفراد مطلق الظنّ على حرمة العمل ببعضها بالخصوص ، لا على عدم الدليل على اعتباره ، فيخرج مثل الشهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ؛ لأنّ مرجعها إلى انعقاد الشهرة على عدم الدليل على حجّيّة الشهرة وبقائها تحت الأصل.

هل يجب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط؟

وفي وجوب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط وجوه ، بل أقوال.

ذهب بعض مشايخنا (٢) إلى الأوّل ؛ بناء منه على ما عرفت سابقا (٣) : من بناء غير واحد منهم على أنّ دليل الانسداد لا يثبت اعتبار الظنّ في المسائل الاصوليّة التي منها مسألة حجّيّة الممنوع.

ولازم بعض المعاصرين (٤) الثاني ؛ بناء على ما عرفت منه : من أنّ اللازم بعد الانسداد تحصيل الظنّ بالطريق ، فلا عبرة بالظنّ بالواقع ما لم يقم على اعتباره ظنّ.

وقد عرفت ضعف كلا البناءين (٥) ، وأنّ نتيجة مقدّمات الانسداد

__________________

(١) قد تقدّم الكلام في المقام الأوّل في الصفحة ٥١٧.

(٢) هو شريف العلماء ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٢٦٧.

(٣) راجع الصفحة ٤٣٨.

(٤) هو صاحب الفصول ، وقد تقدّم كلامه في الصفحة ٤٣٨ ـ ٤٣٩.

(٥) راجع الصفحة ٤٣٧.

٥٣٢

هو الظنّ بسقوط التكاليف الواقعيّة في نظر الشارع الحاصل بموافقة نفس الواقع ، وبموافقة طريق رضي الشارع به عن الواقع.

القول بوجوب طرح الظنّ الممنوع والاستدلال عليه

نعم ، بعض من وافقنا (١) ـ واقعا أو تنزّلا ـ في عدم الفرق في النتيجة بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، اختار في المقام وجوب طرح الظنّ الممنوع ؛ نظرا إلى أنّ مفاد دليل الانسداد ـ كما عرفت في الوجه الخامس (٢) من وجوه دفع (٣) إشكال خروج القياس ـ هو اعتبار كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر ، والظنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر وهو الظنّ المانع ؛ فإنّه معتبر ؛ حيث لم يقم دليل على المنع منه ؛ لأنّ الظنّ الممنوع لم يدلّ على حرمة الأخذ بالظنّ المانع ، غاية الأمر : أنّ الأخذ به مناف للأخذ بالمانع ، لا أنّه يدلّ على وجوب طرحه ، بخلاف الظنّ المانع فإنّه يدلّ على وجوب طرح الظنّ الممنوع.

فخروج الممنوع من باب التخصّص لا التخصيص ؛ فلا يقال : إنّ دخول أحد المتنافيين تحت العامّ لا يصلح دليلا لخروج الآخر مع تساويهما في قابليّة الدخول من حيث الفرديّة.

ونظير ما نحن فيه : ما تقرّر في الاستصحاب (٤) ، من أنّ مثل استصحاب طهارة الماء المغسول به الثوب النجس دليل حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ، وإن كان كلّ من طهارة الماء ونجاسة الثوب

__________________

(١) هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٣٩٥.

(٢) راجع الصفحة ٥٢٥.

(٣) في (ت) ، (ظ) و (م) : «رفع».

(٤) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٤.

٥٣٣

ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع بالاستصحاب ـ متيقّنة في السابق مشكوكة في اللاحق ، وحكم الشارع بإبقاء كلّ متيقّن في السابق مشكوك في اللاحق متساويا بالنسبة إليهما ؛ إلاّ أنّه لمّا كان دخول يقين الطهارة في عموم الحكم بعدم النقض والحكم عليه بالبقاء يكون دليلا على زوال نجاسة الثوب المتيقّنة سابقا ، فيخرج عن المشكوك لاحقا ، بخلاف دخول يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء ؛ فإنّه لا يصلح للدلالة على طروّ النجاسة للماء المغسول به قبل الغسل وإن كان منافيا لبقائه على الطهارة.

المناقشة في هذا الاستدلال

وفيه : أوّلا : أنّه لا يتمّ فيما إذا كان الظنّ المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة ، كأن يقوم الشهرة مثلا على عدم حجّيّة الشهرة ؛ فإنّ العمل ببعض أفراد الأمارة وهي الشهرة في المسألة الاصوليّة دون البعض الآخر وهي الشهرة في المسألة الفرعيّة ، كما ترى.

وثانيا : أنّ الظنّ المانع إنّما يكون ـ على فرض اعتباره ـ دليلا على عدم اعتبار الممنوع ؛ لأنّ الامتثال بالممنوع حينئذ مقطوع العدم ـ كما تقرّر في توضيح (١) الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس (٢) ـ وهذا المعنى موجود في الظنّ الممنوع. مثلا : إذا فرض صيرورة الأولويّة مقطوعة الاعتبار بمقتضى دخولها تحت دليل الانسداد ، لم يعقل بقاء الشهرة المانعة عنها على إفادة الظنّ بالمنع.

ودعوى : أنّ بقاء الظنّ من الشهرة بعدم اعتبار الأولويّة دليل على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّيّة الأولويّة ؛ وإلاّ لارتفع الظنّ بعدم حجّيّتها ، فيكشف ذلك عن دخول الظنّ المانع تحت دليل الانسداد.

__________________

(١) في (ل) : «في ترجيح».

(٢) راجع الصفحة ٥٢٥.

٥٣٤

معارضة : بأنّا لا نجد من أنفسنا القطع بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطريق الممنوع ، فلو كان الظنّ المانع داخلا لحصل القطع بذلك.

وحلّ ذلك : أنّ الظنّ بعدم اعتبار الممنوع إنّما هو مع قطع النظر عن ملاحظة دليل الانسداد ، ولا نسلّم بقاء الظنّ بعد ملاحظته.

ثمّ إنّ الدليل العقليّ أو الأمارة القطعيّة (١) يفيد القطع بثبوت الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد موضوعه ، فإذا تنافى دخول فردين : فإمّا أن يكشف عن فساد ذلك الدليل ، وإمّا أن يجب طرحهما ـ لعدم حصول القطع من ذلك الدليل العقليّ بشيء منهما ـ ، وإمّا أن يحصل القطع بدخول أحدهما فيقطع بخروج الآخر ، فلا معنى للتردّد بينهما وحكومة أحدهما على الآخر.

فما مثّلنا به المقام : من استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسة الثوب ، ممّا لا وجه له ؛ لأنّ مرجع تقديم الاستصحاب الأوّل إلى تقديم التخصّص على التخصيص ، ويكون أحدهما دليلا رافعا لليقين السابق بخلاف الآخر ، فالعمل بالأوّل تخصّص وبالثاني تخصيص ، ومرجعه ـ كما تقرّر في مسألة تعارض الاستصحابين (٢) ـ إلى وجوب العمل بالعامّ تعبّدا إلى أن يحصل الدليل على التخصيص.

إلاّ أن يقال : إنّ القطع بحجّيّة المانع عين القطع بعدم حجّيّة الممنوع ؛ لأنّ معنى حجّيّة كلّ شيء وجوب الأخذ بمؤدّاه ، لكنّ القطع بحجّيّة الممنوع ـ التي هي نقيض مؤدّى المانع ـ مستلزم للقطع بعدم حجّيّة

__________________

(١) في (ص) : «والأمارة القطعيّة» ، وفي (ظ) و (م) : «أو الأمارة العقليّة» ، وفي (ل) و (ه) : «أو الأمارات العقليّة».

(٢) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٥٣٥

المانع ، فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع ، وإنّما هو عين خروجه ؛ فلا ترجّح ولا تخصّص (١) ، بخلاف دخول الممنوع ؛ فإنّه يستلزم خروج المانع ، فيصير ترجيحا من غير مرجّح ، فافهم.

مختار المصنّف في المسألة

والأولى (٢) أن يقال : إنّ الظنّ بعدم حجّية الأمارة الممنوعة لا يجوز ـ كما عرفت سابقا في الوجه السادس (٣) ـ أن يكون من باب الطريقيّة ، بل لا بدّ أن يكون من جهة اشتمال الظنّ الممنوع على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع ، وحينئذ : فإذا ظنّ بعدم اعتبار ظنّ فقد ظنّ بإدراك الواقع ، لكن مع الظنّ بترتّب مفسدة غالبة ، فيدور الأمر بين المصلحة المظنونة والمفسدة المظنونة ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأقوى.

فإذا ظنّ بالشهرة نهي الشارع عن العمل بالأولويّة ، فيلاحظ مرتبة هذا الظنّ ، فكلّ أولويّة في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك الظنّ الحاصل من الشهرة اخذ به ، وكلّ أولويّة كان أضعف منه وجب طرحه ، وإذا لم يتحقّق الترجيح بالقوّة حكم بالتساقط ؛ لعدم استقلال العقل بشيء منهما حينئذ.

هذا إذا لم يكن العمل بالظنّ المانع سليما عن محذور ترك العمل بالظنّ الممنوع ، كما إذا خالف الظنّ الممنوع الاحتياط اللازم في المسألة ، وإلاّ تعيّن العمل به ؛ لعدم التعارض (٤).

__________________

(١) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «فلا ترجيح ولا تخصيص».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ه) : «فالأولى».

(٣) راجع الصفحة ٥٢٨.

(٤) لم ترد عبارة «هذا إذا ـ إلى ـ التعارض» في (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم وردت في هامش (ل) مع اختلاف.

٥٣٦

الأمر الثالث (١) :

لو حصل الظنّ بالحكم من أمارة متعلّقة بألفاظ الدليل

أنّه لا فرق في نتيجة مقدّمات دليل الانسداد بين الظنّ الحاصل أوّلا من الأمارة بالحكم الفرعيّ الكلّيّ كالشهرة أو نقل الإجماع على حكم ، وبين الحاصل به من أمارة متعلّقة بألفاظ الدليل ، كأن يحصل الظنّ من قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً)(٢) ، بجواز التيمّم بالحجر مع وجود التراب الخالص ؛ بسبب قول جماعة من أهل اللغة : إنّ الصعيد هو مطلق وجه الأرض (٣).

الظنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين

ثمّ الظنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين ، ذكرناهما في بحث حجّية الظواهر (٤).

أحدهما : ما يتعلّق بتشخيص الظواهر ، مثل الظنّ من الشهرة بثبوت الحقائق الشرعيّة ، وبأنّ الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع ،

__________________

(١) قد تقدّم الكلام في الأمر الأوّل والثاني في الصفحة ٤٣٧ و ٤٦٣.

(٢) النساء : ٤٣.

(٣) القاموس المحيط ١ : ٣٠٧ ، والمصباح المنير : ٣٣٩.

(٤) راجع الصفحة ١٣٥ ـ ١٣٦.

٥٣٧

وأنّ الأمر عقيب الحظر ظاهر في الإباحة الخاصّة أو في مجرّد رفع الحظر ، وهكذا.

والثاني : ما يتعلّق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها ، كأن يحصل ظنّ بإرادة المعنى المجازي أو أحد معاني المشترك ؛ لأجل تفسير الراوي مثلا أو من جهة كون مذهبه مخالفا لظاهر الرواية.

وحاصل القسمين : الظنون غير الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظواهر أو المرادات.

الظاهر حجيّة هذه الظنون

والظاهر : حجّيّتها عند كلّ من قال بحجّيّة مطلق الظنّ لأجل الانسداد ، ولا يحتاج إثبات ذلك إلى إعمال دليل الانسداد في نفس الظنون المتعلّقة بالألفاظ ، بأن يقال : إنّ العلم فيها قليل ، فلو بني الأمر على إجراء الأصل لزم كذا وكذا.

بل لو انفتح باب العلم في جميع الألفاظ إلاّ في مورد واحد وجب العمل بالظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ من تلك الأمارة المتعلّقة بمعاني الألفاظ عند انسداد باب العلم في الأحكام.

وهل يعمل بذلك الظنّ في سائر الثمرات المترتّبة على تعيين معنى اللفظ في غير مقام تعيين الحكم الشرعيّ الكلّي ، كالوصايا والأقارير والنذور؟

فيه إشكال ، والأقوى العدم ؛ لأنّ مرجع العمل بالظنّ فيها إلى العمل بالظنّ في الموضوعات الخارجيّة المترتّبة عليها الأحكام الجزئيّة الغير المحتاجة إلى بيان الشارع حتّى يدخل في ما انسدّ فيه باب العلم ، وسيجيء عدم اعتبار الظنّ فيها (١).

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٥٠.

٥٣٨

نعم ، من جعل الظنون المتعلّقة بالألفاظ من الظنون الخاصّة مطلقا لزمه الاعتبار (١) في الأحكام والموضوعات ، وقد مرّ تضعيف هذا القول عند الكلام في الظنون الخاصّة (٢).

لو حصل الظنّ بالحكم من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجي

وكذا : لا فرق بين الظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ الكلّي من نفس الأمارة أو عن أمارة متعلّقة بالألفاظ ، وبين (٣) الحاصل بالحكم الفرعيّ الكلّي من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجيّ ، ككون الراوي عادلا أو مؤمنا حال الرواية ، وكون زرارة هو ابن أعين لا ابن لطيفة ، وكون عليّ بن الحكم هو الكوفيّ بقرينة رواية أحمد بن محمّد عنه ؛ فإنّ جميع ذلك وإن كان ظنّا بالموضوع الخارجيّ ، إلاّ أنّه لمّا كان منشأ للظنّ بالحكم الفرعيّ الكلّي الذي انسدّ فيه باب العلم عمل به من هذه الجهة ، وإن لم يعمل به من سائر الجهات المتعلّقة بعدالة ذلك الرجل أو بتشخيصه عند إطلاق اسمه المشترك.

حجيّة الظنون الرجاليّة

ومن هنا تبيّن : أنّ الظنون الرجاليّة معتبرة بقول مطلق عند من قال بمطلق الظنّ في الأحكام ، ولا يحتاج إلى تعيين أنّ اعتبار أقوال أهل الرجال من جهة دخولها في الشهادة أو في (٤) الرواية ، ولا يقتصر على أقوال أهل الخبرة ، بل يقتصر على تصحيح الغير للسند وإن كان من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظنّ بصدق الخبر المستلزم للظنّ بالحكم

__________________

(١) في (ص) : «لزمه القول بالاعتبار».

(٢) راجع الصفحة ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٣) في (ص) زيادة : «الظنّ».

(٤) لم ترد «في» في (ت) و (ل).

٥٣٩

الفرعيّ الكلّي.

ملخّص الكلام في هذا التنبيه

وملخّص هذا الأمر الثالث : أنّ كلّ ظنّ تولّد منه الظنّ بالحكم الفرعي الكلّي فهو حجّة من هذه الجهة ، سواء كان الحكم الفرعي واقعيّا أو كان ظاهريّا ـ كالظنّ بحجّيّة الاستصحاب تعبّدا وبحجّية (١) الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعلي بالحكم ـ ، وسواء تعلّق الظنّ أوّلا بالمطالب العلميّة (٢) أو غيرها أو بالامور الخارجيّة من غير استثناء في سبب هذا الظنّ.

ووجهه واضح ؛ فإنّ مقتضى النتيجة هو لزوم الامتثال الظنّي وترجيح الراجح على المرجوح في العمل. حتّى أنّه لو قلنا بخصوصيّة في بعض الأمارات ـ بناء على عدم التعميم في نتيجة دليل الانسداد ـ لم يكن فرق بين ما تعلّق تلك الأمارة بنفس الحكم أو بما يتولّد منه الظنّ بالحكم ، ولا إشكال في ذلك أصلا ، إلاّ أن يغفل غافل عن مقتضى دليل الانسداد فيدّعي الاختصاص بالبعض دون البعض من حيث لا يشعر.

ما تخيله السيد المجاهد والمناقشة فيه

وربما تخيّل بعض (٣) : أنّ العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن يعمل بمطلق الظنّ في الأحكام ، بل المقتصر على الظنون الخاصّة في الأحكام أيضا عامل بالظنّ المطلق في الرجال.

__________________

(١) في (ت) و (ر) : «أو بحجّية».

(٢) في (ظ) ، (م) و (ه) زيادة : «العمليّة» ، إلاّ أنّه كتب فوقها في (ه) : «خ ل» ، وفي (ر) بدل «العلميّة» : «العمليّة».

(٣) هو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٩٢.

٥٤٠