فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

٢١

٢٢

٢٣
٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ

اعلم (١) : أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ ، فإمّا أن يحصل له (٢) الشكّ فيه ، أو القطع ، أو الظنّ.

فإن حصل له (٣) الشكّ ، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى ب «الاصول العمليّة» ، وهي منحصرة في أربعة ؛ لأنّ الشكّ :

الاصول العمليّة الأربعة ومجاريها

إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.

وعلى الثاني : فإمّا أن يمكن الاحتياط أم لا.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به.

فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني (٤) مجرى التخيير ، والثالث

__________________

(١) كذا في (ت) ، (ص) و (ل) ، وفي غيرها : «فاعلم».

(٢) العبارة في (ه) هكذا : «فيحصل له إمّا الشكّ ...».

(٣) لم ترد «له» في (ل) و (م).

(٤) في نسخة بدل (ص) : «والثاني مجرى أصالة البراءة ، والثالث مجرى قاعدة الاحتياط ، والرابع مجرى قاعدة التخيير».

٢٥

مجرى أصالة البراءة ، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.

تقرير آخر لمجاري الاصول العمليّة

وبعبارة اخرى : الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا (١) ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني : إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا ، فالأوّل مجرى أصالة البراءة ، والثاني : إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا ، فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط ، والثاني مجرى قاعدة التخيير (٢).

وما ذكرنا هو المختار في مجاري الاصول الأربعة ، وقد وقع الخلاف فيها ، وتمام الكلام في كلّ واحد موكول إلى محلّه.

مقاصد الكتاب

فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة :

الأوّل : في القطع.

والثاني : في الظنّ.

والثالث : في الشكّ (٣).

__________________

(١) لم ترد عبارة «وعلى الثاني ـ إلى ـ السابقة أو لا» في (ه).

(٢) عبارة «وبعبارة اخرى ـ إلى ـ قاعدة التخيير» من (ر) ونسخة بدل (ص).

ووردت في (ه) أيضا مع اختلاف يسير ، ولم ترد فيها : «وبعبارة اخرى».

(٣) كذا في (ل) و (م) ، وفي (ت) ، (ر) ، (ص) ، و (ه) : «والثالث في الاصول العملية المذكورة التي هي المرجع عند الشكّ».

٢٦

المقصد الأوّل

في القطع

٢٧
٢٨

المقصد الأوّل في القطع (١)

وجوب متابعة القطع

فنقول : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا ؛ لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا (٢).

إطلاق الحجّة على القطع والمراد منه

ومن هنا يعلم : أنّ إطلاق «الحجّة» عليه ليس كإطلاق «الحجّة» على الأمارات المعتبرة شرعا ؛ لأنّ الحجّة عبارة عن : الوسط الذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، ويصير واسطة للقطع بثبوته له ، كالتغيّر لإثبات حدوث العالم ، فقولنا : الظنّ حجّة ، أو البيّنة حجّة ، أو فتوى المفتي حجّة ، يراد به كون هذه الامور أوساطا لإثبات أحكام متعلّقاتها ، فيقال : هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة يجب الاجتناب عنه. وكذلك قولنا : هذا الفعل ممّا أفتى المفتي بتحريمه ، أو قامت البيّنة على كونه محرّما ، وكلّ ما كان كذلك فهو حرام.

وهذا بخلاف القطع ؛ لأنّه إذا قطع بوجوب شيء ، فيقال : هذا

__________________

(١) كذا في (ل) و (م) ، وفي غيرهما : «أمّا الكلام في المقصد الأوّل».

(٢) في (ص) : «ونفيا».

٢٩

واجب ، وكلّ واجب يحرم ضدّه أو يجب مقدّمته.

وكذلك العلم بالموضوعات ، فإذا قطع بخمرية شيء ، فيقال : هذا خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، ولا يقال : إنّ هذا معلوم الخمريّة ، وكلّ معلوم الخمريّة حكمه كذا ؛ لأنّ أحكام الخمر إنّما تثبت للخمر ، لا لما علم أنّه خمر.

والحاصل : أنّ كون القطع حجّة غير معقول ؛ لأنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب ، فلا يطلق على نفس القطع.

انقسام القطع إلى طريقي وموضوعي

هذا كلّه بالنسبة إلى حكم متعلّق القطع وهو الأمر المقطوع به ، وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر ، فيجوز أن يكون القطع مأخوذا في موضوعه ، فيقال : إنّ الشيء المعلوم بوصف كونه معلوما حكمه كذا ، وحينئذ فالعلم يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم (١) وإن لم يطلق عليه الحجّة ؛ إذ المراد ب «الحجّة» في باب الأدلّة : ما كان وسطا لثبوت أحكام (٢) متعلّقه شرعا ، لا لحكم آخر (٣) ، كما إذا رتّب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا ، لا على نفس الخمر ، وكترتّب وجوب الإطاعة عقلا (٤) على معلوم الوجوب ، لا الواجب الواقعي (٥).

وبالجملة : فالقطع قد يكون طريقا للحكم ، وقد يكون مأخوذا في

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «لمتعلّقه».

(٢) في نسخة بدل (ص) : «حكم».

(٣) لم ترد عبارة «وإن لم يطلق ـ إلى ـ لا لحكم آخر» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) لم ترد «عقلا» في (ر) و (ص).

(٥) لم ترد عبارة «وكترتّب ـ إلى ـ الواقعي» في (ظ) ، (ل) و (م).

٣٠

موضوع الحكم.

خواص القسمين

ثمّ ما كان منه طريقا لا يفرّق فيه بين خصوصيّاته ، من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه ؛ إذ المفروض كونه طريقا إلى متعلّقه ، فيترتّب عليه أحكام متعلّقه ، ولا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ؛ لأنّه مستلزم للتناقض.

١ ـ عدم جواز النهي عن العمل في الطريقي وجوازه في الموضوعي

فإذا قطع بكون (١) مائع بولا ـ من أيّ سبب كان ـ فلا يجوز للشارع أن يحكم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه ؛ لأنّ المفروض أنّه بمجرّد القطع يحصل له صغرى وكبرى ، أعني قوله : «هذا بول ، وكلّ بول يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه» فحكم الشارع بأنّه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له ، إلاّ إذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب من أحكام نفس البول ، بل من أحكام ما علم بوليّته على وجه خاصّ من حيث السبب أو الشخص أو غيرهما ، فيخرج العلم عن (٢) كونه طريقا (٣) ، ويكون مأخوذا (٤) في الموضوع ، وحكمه أنّه يتّبع في اعتباره ـ مطلقا أو على وجه خاصّ ـ دليل ذلك الحكم الثابت الذي اخذ العلم في موضوعه.

القطع الموضوعي تابع في اعتباره مطلقا او على وجه خاص لدليل الحكم

فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ، بمعنى انكشافه للمكلّف من غير خصوصيّة للانكشاف ، كما في حكم العقل بحسن إتيان

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «كون».

(٢) كذا في (ت) ، وفي (ل) و (م) : «فخرج عن».

(٣) لم ترد عبارة «فيخرج العلم عن كونه طريقا» في (ر) ، (ص) و (ه).

(٤) في (ص) و (ه) : «فيكون العلم مأخوذا» ، وفي (ر) : «فيكون مأخوذا».

٣١

أمثلة للقطع الموضوعي المعتبر مطلقاً

ما قطع العبد بكونه مطلوبا لمولاه ، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا ؛ فإنّ مدخليّة القطع بالمطلوبيّة أو المبغوضيّة في صيرورة الفعل حسنا أو قبيحا عند العقل لا يختصّ ببعض أفراده. وكما في حكم الشارع (١) بحرمة ما علم أنّه خمر أو نجاسته بقول مطلق (٢) ، بناء على أنّ الحرمة والنجاسة الواقعيّتين إنّما تعرضان مواردهما بشرط العلم ـ لا في نفس الأمر ـ كما هو قول بعض (٣).

أمثلة للقطع الموضوعي المعتبر على وجه خاص

وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ أو شخص خاصّ ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريين (٤) : من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم الغير (٥) الحاصل من الكتاب والسنّة ـ كما سيجيء ـ ، وما ذهب إليه بعض : من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق الله تعالى (٦).

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «الشرع».

(٢) لم ترد «بقول مطلق» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).

(٣) كالمحدّث البحراني في الحدائق ٥ : ٢٤٩.

(٤) كالأمين الأسترابادي والسيّد المحدّث الجزائري وغيرهما ، وسيجيء كلامهم في الصفحة : ٥٢ ـ ٥٥.

(٥) في (ر) : «غير».

(٦) ذهب إليه ابن حمزة في الوسيلة : ٢١٨ ، ونسبه في المسالك والرياض إلى الحلّي أيضا ، ولكن لم نعثر عليه في السرائر ، بل ذهب فيه إلى الجواز في جميع الأشياء ، انظر المسالك (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٢٨٩ ، والرياض (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٣٩٠ ، والسرائر ٢ : ١٧٩.

٣٢

أمثلة للقطع الموضوعي بالنسبة إلى حكم غير القاطع

وأمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم (١) غير القاطع كثيرة (٢) ، كحكم الشارع على المقلّد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعي إذا علم به من الطرق الاجتهاديّة المعهودة ، لا من مثل الرمل والجفر ؛ فإنّ القطع الحاصل من هذه وإن وجب على القاطع الأخذ به في عمل نفسه ، إلاّ أنّه لا يجوز للغير تقليده في ذلك ، وكذلك العلم الحاصل للمجتهد الفاسق أو غير الإماميّ من الطرق الاجتهاديّة المتعارفة ، فإنّه لا يجوز للغير العمل بها (٣) ، وكحكم الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له من الحسّ لا من الحدس ، إلى غير ذلك.

٢ ـ قيام الأمارات وبعض الأصول مقام القطع الموضوعي والطريقي

ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع : قيام الأمارات الشرعيّة وبعض (٤) الاصول العمليّة مقامه في العمل ، بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة ؛ فإنّه تابع لدليل الحكم (٥).

فإن ظهر منه أو من دليل خارج (٦) اعتباره على وجه الطريقية للموضوع ـ كالامثلة المتقدّمة (٧) ـ قامت الأمارات وبعض (٨) الاصول مقامه.

__________________

(١) لم ترد «حكم» في (ت).

(٢) لم ترد عبارة «مثل ما ذهب ـ إلى ـ كثيرة» في (ظ) و (م).

(٣) كذا في النسخ ، والأنسب : «به» ؛ لرجوع الضمير إلى «العلم» لا «الطرق».

(٤) لم ترد «بعض» في (ر) ، (ل) و (م).

(٥) في «ص» : «ذلك الحكم».

(٦) لم ترد «أو من دليل خارج» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٧) لم ترد «كالأمثلة المتقدّمة» في (ت) ، (ر) و (ه).

(٨) لم ترد «بعض» في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م).

٣٣

عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي

وإن ظهر من دليل الحكم (١) اعتبار القطع (٢) في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره ، كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والاوليين من الرباعيّة (٣) ؛ فإنّ غيره ـ كالظنّ بأحد الطرفين أو أصالة عدم الزائد ـ لا يقوم مقامه إلاّ بدليل خاصّ خارجيّ غير أدلّة حجّية مطلق الظنّ في الصلاة وأصالة عدم الأكثر.

ومن هذا الباب : عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البيّنة أو اليد ـ على قول ـ وإن جاز تعويل الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا ؛ لأنّ العلم بالمشهود به مأخوذ (٤) في مقام العمل على وجه الطريقيّة ، بخلاف مقام أداء الشهادة ، إلاّ أن يثبت من الخارج : أنّ كلّ ما يجوز العمل به من الطرق الشرعيّة يجوز الاستناد إليه في الشهادة ؛ كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد (٥).

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لو نذر أحد أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم ما دام متيقّنا بحياة ولده ، فإنّه لا يجب التصدّق عند الشكّ في الحياة لأجل استصحاب الحياة ، بخلاف ما لو علّق النذر بنفس الحياة ، فإنّه يكفي في الوجوب الاستصحاب.

__________________

(١) في (ر) : «وإن ظهر منه».

(٢) في (ر) و (ص) : «صفة القطع».

(٣) لم ترد «من الرباعيّة» في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) لم ترد «مأخوذ» في (ر) و (ه).

(٥) الوسائل ١٨ : ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٢.

٣٤

انقسام الظن كالقطع إلى طريقي وموضوعي

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا ـ من (١) كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقيّة واخرى على وجه الموضوعيّة ـ جار في الظنّ أيضا ؛ فإنّه (٢) وإن فارق العلم في كيفيّة الطريقيّة ـ حيث إنّ العلم طريق بنفسه ، والظنّ المعتبر طريق بجعل الشارع ، بمعنى كونه وسطا في ترتّب أحكام متعلّقه ، كما أشرنا إليه سابقا ـ إلاّ أنّه (٣) أيضا : قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه يقوم مقامه سائر الطرق الشرعيّة ، وقد يؤخذ موضوعا لحكم (٤).

فلا بدّ من ملاحظة دليل ذلك ، ثمّ الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه ، لكن الغالب فيه الأوّل.

__________________

(١) كذا في (ر) و (ص) ، وفي غيرهما : «في».

(٢) لم ترد «فإنّه» في (ت) ، (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) في (ص) ، (ظ) ، و (ه) بدل «إلاّ أنّه» : «لكن الظنّ».

(٤) وردت عبارة : «قد يؤخذ طريقا مجعولا ـ إلى ـ موضوعا لحكم» في (ت) ، (ر) ، (ه) ومصحّحة (ص) هكذا :

«قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه (*) ، سواء كان موضوعا على وجه الطريقية لحكم متعلّقه أو لحكم آخر يقوم مقامه سائر الطرق الشرعيّة ، فيقال : إنّه حجّة.

وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه أو لحكم آخر ، ولا يطلق عليه الحجّة» ، وفي بعضها زيادة يسيرة.

__________________

(*) في طبعة جماعة المدرّسين ـ هنا ـ زيادة : «وقد يؤخذ موضوعا للحكم» ، لكنّها لم ترد في ما بأيدينا من النسخ.

٣٥
٣٦

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل

الكلام في التجرّي وأنّه حرام أم لا؟

أنّه قد عرفت (١) : أنّ القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لأحكام مقطوعه ، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها ، فيقطع بالنتيجة ، فإذا قطع بكون شيء خمرا ، وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشيء.

هل القطع حجّة مطلقا أو في خصوص صورة مصادفته للواقع؟

لكنّ الكلام في أنّ قطعه هذا هل هو حجّة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله ، فيعاقب على مخالفته ، أو أنّه حجّة عليه إذا صادف الواقع؟ بمعنى أنّه لو شرب الخمر الواقعيّ عالما عوقب عليه في مقابل من شربها جاهلا ، لا أنّه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا وإن لم يكن خمرا في الواقع.

الاستدلال على حرمة التجرّي بالإجماع

ظاهر كلماتهم في بعض المقامات : الاتّفاق على الأوّل ؛ كما يظهر من دعوى جماعة (٢) الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت ؛ فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى

__________________

(١) في الصفحة ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) منهم : العلاّمة في المنتهى ٤ : ١٠٧ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٣ : ١٠٩ ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٦١.

٣٧

فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق.

نعم ، حكي عن النهاية (١) وشيخنا البهائي (٢) التوقّف في العصيان ، بل في التذكرة : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه (٣) فالوجه عدم العصيان (٤) ، انتهى (٥). واستقرب العدم سيّد مشايخنا في المفاتيح (٦).

وكذا لا خلاف بينهم ـ ظاهرا ـ في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه (٧).

تأييد الحرمة ببناء العقلاء

ويؤيّده : بناء العقلاء على الاستحقاق ، وحكم العقل بقبح التجرّي.

الاستدلال على الحرمة بالدليل العقلي

وقد يقرّر دلالة العقل على ذلك (٨) : بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين ، بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون

__________________

(١) و (٢) حكى السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول عن الزبدة : التوقّف ، وعن النهاية قولين في موضعين ، انظر مفاتيح الاصول : ٣٠٨ ، والزبدة : ٤١ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ١١ و ٩٤.

(٣) في (ظ) ، (ل) والمصدر : بطلانه.

(٤) التذكرة ٢ : ٣٩١.

(٥) لم ترد عبارة «بل في التذكرة ـ إلى : ـ انتهى» في (م) ، وكتب عليها في (ص) : أنّها زائدة ، إلاّ أنّه اضيف فيهما تصحيحا بعد قوله : «في المفاتيح» ما يلي : «تبعا للعلاّمة في التذكرة».

(٦) مفاتيح الاصول : ٣٠٨.

(٧) في (ر) زيادة : «فتأمّل».

(٨) المقرّر هو المحقّق السبزواري في الذخيرة.

٣٨

مائع (١) آخر خمرا ، فشرباهما ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر : فإمّا أن يستحقّا العقاب ، أو لا يستحقّه أحدهما ، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر ، أو العكس.

لا سبيل إلى الثاني والرابع ، والثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل (٢).

ويمكن الخدشة في الكلّ :

المناقشة في الإجماع

أمّا الإجماع ، فالمحصّل منه غير حاصل ، والمسألة عقليّة ، خصوصا مع مخالفة غير واحد ، كما عرفت من النهاية (٣) وستعرف من قواعد الشهيد قدس‌سره (٤) ، والمنقول منه ليس حجّة في المقام.

المناقشة في بناء العقلاء

وأمّا بناء العقلاء ، فلو سلّم فإنّما هو على مذمّة الشخص من حيث إنّ هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ، لا على نفس فعله ، كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ؛ فإنّ المذمّة على المنكشف ، لا الكاشف.

ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجرّي ؛ فإنّه لكشف ما تجرّى به عن خبث الفاعل (٥) ، لا عن كون الفعل مبغوضا للمولى.

والحاصل : أنّ الكلام في كون هذا الفعل ـ الغير المنهيّ عنه واقعا ـ مبغوضا للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضا ، لا في أنّ

__________________

(١) في (ت) ونسخة بدل (ه) زيادة : «معيّن».

(٢) انظر ذخيرة المعاد : ٢٠٩ و ٢١٠.

(٣) راجع الصفحة السابقة.

(٤) انظر الصفحة ٤٩ ـ ٥٠.

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «لكونه جريئا عازما على العصيان والتمرّد».

٣٩

هذا الفعل ـ المنهي عنه باعتقاده ظاهرا (١) ـ ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيّده وكونه في مقام الطغيان والمعصية (٢) ؛ فإنّ هذا غير منكر في المقام (٣) ، لكن لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعيّا ؛ لأنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل ، ومن المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل ، لا بالفاعل.

المناقشة في الدليل العقلي

وأمّا ما ذكر من الدليل العقلي ، فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ؛ لأنّه عصى اختيارا ، دون من لم يصادف.

و (٤) قولك : إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار ، ممنوع ؛ فإنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح ، إلاّ أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم ؛ كما يشهد به الأخبار الواردة في أنّ : من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها (٥).

فإذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة ، واتّفق كثرة

__________________

(١) لم ترد عبارة : «المنهيّ عنه باعتقاده ظاهرا» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ولم ترد كلمة «ظاهرا» في (ر) و (ص).

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «وعازما عليه».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «كما سيجيء».

(٤) «الواو» من (ه) و (ت).

(٥) انظر الوسائل ١١ : ١٦ ، الباب ٥ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ١ ، والبحار ١٠٠ : ٧ ، ضمن الحديث ١ ، وكنز العمّال ١٥ : ٧٨٠ ، الحديث ٤٣٠٧٨.

٤٠