فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

الوجه الثاني على حجية خبر الواحد : ما ذكره الفاضل التوني

الثاني :

ما ذكره في الوافية ـ مستدلا على حجّيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ، بوجوه ـ قال :

الأوّل : أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة سيّما بالاصول الضروريّة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعيّ ، بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر فإنّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان (١) ، انتهى.

المناقشة فيما أفاده الفاضل التوني

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ العلم الإجماليّ حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرّد وجود العلم الإجماليّ في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها عن أطراف العلم الإجماليّ ، كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل (٢) ؛ وإلاّ (٣) أمكن إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم الإجماليّ في الباقي ، كأخبار العدول مثلا ؛ فاللازم حينئذ : إمّا الاحتياط

__________________

(١) الوافية : ١٥٩.

(٢) راجع الصفحة ٣٥٧.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «لما».

٣٦١

والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ، وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة.

إلاّ أن يقال : إنّ المظنون الصدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشروط.

وثانيا : أنّ مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالأخبار الدالّة على الشرائط والأجزاء دون الأخبار الدالّة على عدمهما ، خصوصا إذا اقتضى الأصل الشرطيّة والجزئيّة.

٣٦٢

الوجه الثالث : ما ذكره صاحب هداية المسترشدين

الثالث

ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين (١) ـ في حاشيته على المعالم ـ لإثبات حجّيّة الظنّ الحاصل من الخبر لا مطلقا ، وقد لخّصناه لطوله ، وملخّصه :

أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع ، بل الضرورة والأخبار المتواترة ، وبقاء هذا التكليف أيضا بالنسبة إلينا ثابت بالأدلّة المذكورة ، وحينئذ : فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو ، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ منهما (٢).

هذا حاصله ، وقد أطال قدس‌سره في النقض والإبرام بذكر الإيرادات والأجوبة على هذا المطلب.

المناقشة فيما أفاده صاحب الهداية

ويرد عليه : أنّ هذا الدليل بظاهره عبارة اخرى عن دليل الانسداد الذي ذكروه لحجّيّة الظنّ في الجملة أو مطلقا ؛ وذلك لأنّ المراد بالسنّة هو (٣) : قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، فإذا وجب علينا الرجوع إلى مدلول (٤) الكتاب والسنّة ولم نتمكّن من الرجوع إلى ما علم أنّه مدلول الكتاب أو السنّة ، تعيّن الرجوع ـ باعتراف المستدلّ ـ إلى ما

__________________

(١) وهو الشيخ محمد تقي الأصفهاني ، صاحب هداية المسترشدين.

(٢) هداية المسترشدين : ٣٩٧ ، الوجه السادس.

(٣) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «هي».

(٤) لم ترد «مدلول» في (ت) و (ظ).

٣٦٣

يظنّ (١) كونه مدلولا لأحدهما ، فإذا ظننّا أنّ مؤدّى الشهرة أو معقد الإجماع المنقول مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره ، وجب الأخذ به ، ولا اختصاص للحجّيّة بما يظنّ كونه مدلولا لأحد هذه الثلاثة من جهة حكاية أحدها التي تسمّى خبرا وحديثا في الاصطلاح.

نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدليل : الظنّ الحاصل بحكم الله من أمارة لا يظنّ كونه (٢) مدلولا لأحد الثلاثة ، كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الاستقراء أنّ الحكم كذا عند الله ولم يظنّ بصدوره عن الحجّة ، أو قطعنا بعدم صدوره عنه عليه‌السلام ؛ إذ ربّ حكم واقعيّ لم يصدر عنهم وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح.

لكن هذا نادر جدّا ؛ للعلم العاديّ بأنّ هذه المسائل العامّة البلوى قد صدر حكمها في الكتاب أو ببيان الحجّة قولا أو فعلا أو تقريرا ، فكلّ ما ظنّ من أمارة بحكم الله تعالى فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم عنهم (٣).

والحاصل : أنّ مطلق الظنّ بحكم الله ظنّ بالكتاب أو السنّة ، ويدلّ على اعتباره ما دلّ على اعتبار الكتاب والسنّة الظنّيّة.

فإن قلت : المراد بالسنّة الأخبار والأحاديث ، والمراد أنّه يجب الرجوع إلى الأخبار المحكيّة عنهم ، فإن تمكّن من الرجوع إليها على

__________________

(١) في (ظ) ، (ر) و (م) : «ظنّ».

(٢) في غير (ر) و (ص) : «كونها».

(٣) لم ترد «عنهم» في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م).

٣٦٤

وجه يفيد العلم فهو ، وإلاّ وجب الرجوع إليها على وجه يظنّ منه بالحكم.

قلت : مع أنّ السنّة في الاصطلاح عبارة عن نفس قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، لا حكاية أحدها ، يرد عليه :

أنّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكيّة المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على الرجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع والضرورة الثابتة من الدين أو المذهب. وأمّا الرجوع إلى الأخبار المحكيّة التي لا تفيد القطع بصدورها (١) عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضرورة من الدين التي ادّعاها المستدلّ ؛ فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما ادّعاه الشيخ والعلاّمة (٢) في مقابل السيّد وأتباعه قدّست أسرارهم.

وأمّا دعوى الضرورة من الدين والأخبار المتواترة كما ادّعاها المستدلّ ، فليست في محلّها. ولعلّ هذه الدعوى قرينة على أنّ مراده من السنّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا حكايتها التي لا توصل إليها على وجه العلم.

نعم ، لو ادّعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات الغير العلميّة ؛ لأجل لزوم الخروج عن الدين لو طرحت بالكلّيّة ، يرد عليه :

أنّه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير

__________________

(١) في (ص) ، (ظ) و (ل) : «بالصدور».

(٢) راجع الصفحة ٣١١ و ٣٣٣.

٣٦٥

منها للتكاليف الواقعيّة التي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلا ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد الذي ذكروه لحجّية الظنّ ، ومفاده ليس إلاّ حجّية كلّ أمارة كاشفة عن التكليف الواقعيّ.

وإن أراد لزومه من جهة خصوص العلم الإجماليّ بصدور أكثر هذه الأخبار ـ حتّى لا يثبت به غير الخبر الظنّيّ من الظنون ـ ليصير دليلا عقليّا على حجّية خصوص (١) الخبر ، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأوّل الذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه ، فراجع (٢).

حاصل الكلام في أدلّة حجيّة الخبر الواحد

هذا تمام الكلام في الأدلّة التي أقاموها على حجّية الخبر ، وقد علمت دلالة بعضها وعدم دلالة البعض الآخر.

والإنصاف : أنّ الدالّ منها لم يدلّ إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء (٣) ، والمعيار فيه : أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا ، بحيث لا يعتني به العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتردّد الذي لا ينافي حصول مسمّى الرجحان ، كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة ، فافهم. وليكن على ذكر منك ؛ لينفعك فيما بعد.

__________________

(١) لم ترد «خصوص» في (ر).

(٢) راجع الصفحة ٣٥١ و ٣٥٧.

(٣) راجع الصفحة ٣٣٦.

٣٦٦

[أدلّة حجّية مطلق الظن](١)

الدليل العقلي على حجيّة مطلق الظنّ من وجوه أيضا :

فلنشرع في الأدلّة التي أقاموها على حجّيّة الظنّ من غير خصوصيّة للخبر يقتضيها نفس الدليل ، وإن اقتضاها أمر (٢) آخر ، وهو كون الخبر مطلقا أو خصوص قسم منه متيقّن الثبوت من ذلك الدليل إذا فرض أنّه لا يثبت إلاّ الظنّ في الجملة ولا يثبته كليّة ، وهي أربعة :

الوجه الأوّل : وجوب دفع الضرر المظنون

الأوّل

أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبيّ أو التحريميّ مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم (٣).

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ الظنّ بالوجوب ظنّ باستحقاق العقاب على الترك ، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنّ باستحقاق العقاب على الفعل. أو لأنّ

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل «أمر» : «دليل».

(٣) استدلّ به العلاّمة في النهاية كما سيأتي ، والمحقّق القمي في القوانين ١ : ٤٤٧ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٧٨ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٤٨٤ و ٤٨٥.

٣٦٧

الظنّ بالوجوب ظنّ بوجود المفسدة في الترك ، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنّ بالمفسدة في الفعل ، بناء على قول «العدليّة» بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، وقد جعل في النهاية (١) كلاّ من الضررين (٢) دليلا مستقلا على المطلب.

واجيب عنه بوجوه :

جواب الحاجبيّ عن هذا الوجه ، والمناقشة فيه

أحدها : ما عن الحاجبي (٣) ، وتبعه غيره (٤) ، من منع الكبرى ، وأنّ دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليّين احتياط مستحسن ، لا واجب.

وهو فاسد ؛ لأنّ الحكم المذكور حكم إلزاميّ أطبق العقلاء على الالتزام به في جميع امورهم وذمّ من خالفه (٥) ؛ ولذا استدلّ به المتكلّمون (٦) في (٧) وجوب شكر المنعم (٨) الذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى ، ولولاه لم يثبت وجوب النظر في المعجزة ، ولم يكن لله على غير الناظر حجّة ؛ ولذا خصّوا النزاع في الحظر والإباحة في غير المستقلاّت العقليّة

__________________

(١) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٧.

(٢) في (ظ) : «التقريرين».

(٣) انظر شرح مختصر الاصول : ١٦٣ ، المتن للحاجبي والشرح للعضدي.

(٤) كالعضدي (شارح المختصر) ، المصدر نفسه.

(٥) في (ر) و (ص) ومحتمل (ت) : «يخالفه».

(٦) لم ترد «المتكلّمون» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٧) في (ظ) : «على».

(٨) انظر كتاب المنقذ من التقليد للشيخ سديد الدين الحمصي الرازي ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

٣٦٨

بما كان مشتملا على منفعة وخاليا عن أمارة المفسدة ؛ فإنّ هذا التقييد يكشف عن أنّ ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه ، بل الأقوى ـ كما صرّح به الشيخ في العدّة في مسألة الإباحة والحظر (١) ، والسيّد في الغنية (٢) ـ : وجوب دفع الضرر المحتمل ، وببالي أنّه تمسّك في العدّة بعد العقل بقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا ...) الخ (٣).

ثمّ إنّ ما ذكره : من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح العقليّين ، غير ظاهر ؛ لأنّ تحريم تعريض النفس للمهالك والمضارّ الدنيويّة والاخرويّة ممّا دلّ عليه الكتاب والسنّة ، مثل التعليل في آية النبأ (٤) ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٥) ، وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦) بناء على أنّ المراد العذاب والفتنة الدنيويّان ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)(٧) ، وقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)(٨) ، وقوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٤٢ و ٧٤٧.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

(٣) ليس في العدّة في البحث المذكور تمسّك بالآية المذكورة ، نعم استدلّ بها فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ٢ : ٢٥٦ ، والآية من سورة البقرة : ١٩٥.

(٤) الحجرات : ٦.

(٥) البقرة : ١٩٥.

(٦) النور : ٦٣.

(٧) الأنفال : ٢٥.

(٨) آل عمران : ٢٨.

٣٦٩

السَّيِّئاتِ)(١) ، إلى غير ذلك.

نعم ، التمسّك في سند الكبرى بالأدلّة الشرعيّة يخرج الدليل المذكور عن الأدلّة العقليّة. لكنّ الظاهر أنّ مراد الحاجبيّ منع أصل الكبرى ، لا مجرّد منع استقلال العقل بلزومه ، ولا يبعد عن الحاجبيّ أن يشتبه عليه حكم العقل الإلزاميّ بغيره ، بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل بالحسن والقبح ، والمكابرة في الأوّل ليس بأعظم منها في الثاني.

جواب آخر عن هذا الوجه

ثانيها : ما يظهر من العدّة (٢) والغنية (٣) وغيرهما (٤) : من أنّ الحكم المذكور مختصّ بالامور الدنيويّة ، فلا يجري في الاخرويّة مثل العقاب.

والمناقشة فيه أيضا

وهذا كسابقه في الضعف ؛ فإنّ المعيار هو التضرّر. مع أنّ المضارّ الاخرويّة أعظم.

اللهمّ إلاّ أن يريد المجيب ما سيجيء (٥) : من أنّ العقاب مأمون على ما لم ينصب الشارع دليلا على التكليف به ، بخلاف المضارّ الدنيويّة التابعة لنفس الفعل أو الترك ، علم حرمته أو لم يعلم. أو يريد أنّ المضارّ الغير الدنيويّة ـ وإن لم تكن خصوص العقاب ـ ممّا دلّ العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم ، وهو الباعث له على التكليف والبعثة (٦).

__________________

(١) النحل : ٤٥.

(٢) العدّة ١ : ١٠٧.

(٣) الغنية (الجوامع الفقهية) : ٤٧٦.

(٤) انظر الذريعة ٢ : ٥٤٩.

(٥) انظر الصفحة ٣٧٣.

(٦) في (ص) : «البعث».

٣٧٠

لكنّ هذا الجواب راجع إلى منع الصغرى ، لا الكبرى.

جواب ثالث عن هذا الوجه

ثالثها : النقض بالأمارات التي قام الدليل القطعيّ على عدم اعتبارها ، كخبر الفاسق والقياس على مذهب الإماميّة (١).

واجيب عنه (٢) تارة : بعدم التزام حرمة العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم.

ما اجيب به عن هذا الجواب

واخرى : بأنّ الشارع إذا ألغى ظنّا تبيّن أنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به.

عدم صحّة ما اجيب

ويضعّف الأوّل : بأنّ (٣) دعوى وجوب العمل بكلّ ظنّ في كلّ مسألة انسدّ فيها باب العلم وإن لم ينسدّ في غيرها ، الظاهر أنّه خلاف مذهب الشيعة ، لا أقلّ من كونه مخالفا لإجماعاتهم المستفيضة بل المتواترة ، كما يعلم ممّا ذكروه في القياس.

والثاني : بأنّ إتيان الفعل حذرا من ترتّب الضرر على تركه أو تركه حذرا من التضرّر بفعله ، لا يتصوّر فيه ضرر أصلا ؛ لأنّه من الاحتياط الذي استقلّ العقل بحسنه وإن كانت الأمارة ممّا ورد النهي عن اعتباره.

نعم ، متابعة الأمارة المفيدة للظنّ بذلك الضرر وجعل مؤدّاها حكم الشارع والالتزام به (٤) والتديّن به ، ربما كان ضرره أعظم من

__________________

(١) هذا النقض مذكور في الذريعة ٢ : ٥٥٠ ، والغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٦ ، والمعارج : ٤٣ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

(٢) الجواب من المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٨.

(٣) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «أنّ».

(٤) لم ترد «به» في (ت) ، (ر) و (ه).

٣٧١

الضرر المظنون ؛ فإنّ العقل مستقلّ بقبحه ووجود المفسدة فيه واستحقاق العقاب عليه ؛ لأنّه تشريع.

لكن هذا لا يختصّ بما علم إلغاؤه ، بل هو جار في كلّ ما لم يعلم اعتباره. توضيحه :

أنّا قدّمنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنّة (١) : أنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره دليل قطعيّ ـ سواء قام دليل على عدم اعتباره أم لا ـ فالعمل به بمعنى التديّن بمؤدّاه وجعله حكما شرعيّا ، تشريع محرّم دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة. وأمّا العمل به بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه مثلا (٢) أو ترك ما ظنّ حرمته من دون أن يتشرّع بذلك ، فلا قبح فيه إذا (٣) لم يدلّ دليل من الاصول والقواعد المعتبرة يقينا على خلاف مؤدّى هذا الظنّ ، بأن يدلّ على تحريم ما ظنّ وجوبه أو وجوب ما ظنّ تحريمه.

فإن أراد أنّ الأمارات التي يقطع بعدم حجّيّتها ـ كالقياس وشبهه ـ يكون في العمل بها بمعنى التديّن بمؤدّاها وجعله حكما شرعيّا ، ضرر أعظم من الضرر المظنون ، فلا اختصاص لهذا الضرر بتلك الظنون ؛ لأنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره قاطع يكون في العمل به بذلك المعنى هذا الضرر العظيم ، أعني التشريع.

وإن أراد ثبوت الضرر في العمل بها بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه

__________________

(١) راجع الصفحة ١٢٥.

(٢) لم ترد «مثلا» في (ت) و (ل).

(٣) في (ت) : «إذ».

٣٧٢

حذرا من الوقوع في مضرّة ترك الواجب ، وترك ما ظنّ حرمته لذلك ، كما يقتضيه قاعدة دفع الضرر ، فلا ريب في استقلال العقل وبداهة حكمه بعدم الضرر في ذلك أصلا وإن كان ذلك في الظنّ القياسيّ.

الأولى في المناقشة في الجواب الثالث

وحينئذ (١) : فالأولى لهذا المجيب أن يبدّل دعوى الضرر في العمل بتلك الأمارات المنهيّ عنها بالخصوص بدعوى : أنّ في نهي الشارع عن الاعتناء بها وترخيصه في مخالفتها ـ مع علمه بأنّ تركها ربما يفضي إلى ترك الواجب وفعل الحرام ـ مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته في الواقع ، فتأمّل.

وسيجيء تمام الكلام عند التكلّم في الظنون المنهيّ عنها بالخصوص ، وبيان كيفيّة عدم شمول أدلّة حجّيّة الظنّ لها إن شاء الله تعالى (٢).

الأولى في الجواب عن الوجه الأوّل

فالأولى أن يجاب عن هذا الدليل :

إن إريد من الضرر العقاب

بأنّه إن اريد من الضرر المظنون العقاب ، فالصغرى ممنوعة ؛ فإنّ استحقاق العقاب على الفعل أو الترك ـ كاستحقاق الثواب عليهما ـ ليس ملازما للوجوب والتحريم الواقعيّين ؛ كيف وقد يتحقّق التحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل ، كما في الحرام والواجب المجهولين جهلا بسيطا أو مركّبا ، بل استحقاق الثواب والعقاب إنّما هو على تحقّق الإطاعة والمعصية اللتين لا تتحقّقان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظنّ المعتبر بهما ، وأمّا الظنّ المشكوك الاعتبار فهو كالشكّ ، بل هو هو ؛ بعد ملاحظة أنّ من الظنون ما أمر الشارع بإلغائه ويحتمل أن يكون

__________________

(١) لم ترد «وحينئذ» في (ظ) و (م).

(٢) انظر الصفحة ٥١٦ وما بعدها.

٣٧٣

المفروض منها (١).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكم بعدم العقاب والثواب فيما فرض من صورتي الجهل البسيط و (٢) المركّب بالوجوب والحرمة ، إنّما هو لحكم العقل بقبح التكليف مع الشكّ أو القطع بالعدم ، أمّا (٣) مع الظنّ بالوجوب أو التحريم فلا يستقلّ العقل بقبح المؤاخذة ، ولا إجماع أيضا على أصالة البراءة في موضع النزاع.

ويردّه : أنّه لا يكفي المستدلّ منع استقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع ، بل لا بدّ له من إثبات أنّ مجرّد الوجوب والتحريم الواقعيّين مستلزمان للعقاب حتّى يكون الظنّ بهما ظنّا به ، فإذا لم يثبت ذلك بشرع ولا عقل لم يكن العقاب مظنونا ، فالصغرى غير ثابتة.

ومنه يعلم فساد ما ربما يتوهّم : أنّ قاعدة دفع الضرر يكفي للدليل على ثبوت الاستحقاق.

وجه الفساد : أنّ هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصغرى وهي الظنّ بالعقاب.

نعم ، لو ادّعي أنّ دفع الضرر المشكوك لازم توجّه فيما نحن فيه الحكم بلزوم الاحتراز في صورة الظنّ ، بناء على عدم ثبوت الدليل على نفي العقاب عند الظنّ ، فيصير وجوده محتملا ، فيجب دفعه.

لكنّه رجوع عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين.

__________________

(١) لم ترد «بل هو هو ـ إلى ـ المفروض منها» في (ت) و (ه).

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «أو».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) : «وأمّا».

٣٧٤

وإن اريد من الضرر المفسدة

وإن اريد من الضرر المظنون المفسدة المظنونة ، ففيه أيضا : منع الصغرى ؛ فإنّا وإن لم نقل بتغيّر المصالح والمفاسد بمجرّد الجهل ، إلاّ أنّا لا نظنّ بترتّب المفسدة بمجرّد ارتكاب ما ظنّ حرمته ؛ لعدم كون فعل الحرام علّة تامّة لترتّب المفسدة حتّى مع القطع بثبوت الحرمة ؛ لاحتمال تداركها بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلّف أو يعلمه بإعلام الشارع ، نظير الكفّارة والتوبة وغيرهما من الحسنات التي يذهبن السيّئات.

ويرد عليه : أنّ الظنّ بثبوت مقتضي المفسدة مع الشكّ في وجود المانع كاف في وجوب الدفع ، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع الشكّ في وجود (١) المانع ؛ فإنّ احتمال وجود المانع للضرر أو وجود ما يتدارك الضرر لا يعتنى به عند العقلاء ، سواء جامع الظنّ بوجود مقتضي الضرر أم القطع به ، بل أكثر موارد التزام العقلاء التحرّز عن المضارّ المظنونة ـ كسلوك الطرق المخوفة وشرب الأدوية المخوفة ونحو ذلك ـ من موارد الظنّ بمقتضى الضرر دون العلّة التامّة له ، بل المدار في جميع غايات حركات الإنسان ـ من المنافع المقصود جلبها والمضارّ المقصود دفعها ـ على المقتضيات دون العلل التامّة ؛ لأنّ الموانع والمزاحمات ممّا لا تحصى ولا يحاط بها.

وأضعف من هذا الجواب ما يقال : إنّ في نهي الشارع عن العمل بالظنّ كليّة إلاّ ما خرج ، ترخيصا في ترك مراعاة الضرر المظنون ، ولذا لا يجب مراعاته إجماعا في القياس.

ووجه الضعف ما ثبت سابقا (٢) : من أنّ عمومات حرمة العمل

__________________

(١) لم ترد «وجود» في (ل) و (م).

(٢) راجع الصفحة ١٢٦.

٣٧٥

بالظنّ أو بما عدا العلم إنّما تدلّ على حرمته من حيث إنّه لا يغني عن الواقع ، ولا تدلّ على حرمة العمل به في مقام إحراز الواقع والاحتياط لأجله والحذر عن مخالفته.

الإولى في الجواب عن الم فسد المظنونة

فالأولى أن يقال : إنّ الضرر وإن كان مظنونا ، إلاّ أنّ حكم الشارع ـ قطعا أو ظنّا ـ بالرجوع في مورد الظنّ إلى البراءة والاستصحاب وترخيصه لترك مراعاة الظنّ أوجب القطع أو الظنّ بتدارك ذلك الضرر المظنون ؛ وإلاّ كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظنّ إلغاء للمفسدة (١).

توضيح ذلك : أنّه لا إشكال في أنّه متى ظنّ بوجوب شيء وأنّ الشارع الحكيم طلب فعله منّا طلبا حتميّا منجّزا لا يرضى بتركه إلاّ أنّه اختفى علينا ذلك الطلب ، أو حرّم علينا فعلا كذلك ، فالعقل مستقلّ بوجوب فعل الأوّل وترك الثاني ؛ لأنّه يظنّ في ترك الأوّل الوقوع في مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعيّ والمحبوب المنجّز النفس الأمري ، ويظنّ في فعل الثاني الوقوع في مفسدة الحرام الواقعيّ والمبغوض النفس الأمري ، إلاّ أنّه لو صرّح الشارع بالرخصة في ترك العمل في هذه الصورة كشف ذلك عن مصلحة يتدارك بها ذلك الضرر المظنون ؛ ولذا وقع الإجماع على عدم وجوب مراعاة الظنّ بالوجوب و (٢) الحرمة إذا حصل الظنّ من القياس ، وعلى جواز مخالفة الظنّ في الشبهات الموضوعيّة حتّى يستبين التحريم أو تقوم به البيّنة.

ثمّ إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع بترخيص الشارع ترك مراعاة

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «المفسدة».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «أو».

٣٧٦

الظنّ بالضرر ـ كما عرفت (١) من الظنّ القياسيّ بالوجوب والتحريم ومن حكم الشارع بجواز الارتكاب في الشبهة الموضوعيّة ـ ، وبين أن يحصل الظنّ بترخيص الشارع في ترك مراعاة ذلك الظنّ ، كما في الظنّ الذي ظنّ كونه منهيّا عنه عند الشارع ، فإنّه يجوز ترك مراعاته ؛ لأنّ المظنون تدارك ضرر مخالفته لأجل ترك مظنون الوجوب أو فعل مظنون الحرمة ، فافهم.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ أصل البراءة والاستصحاب إن قام عليهما الدليل القطعيّ بحيث يدلّ على وجوب الرجوع إليهما في صورة عدم العلم ولو مع وجود الظنّ الغير المعتبر ، فلا إشكال في عدم وجوب مراعاة ظنّ الضرر ، وفي أنّه لا يجب الترك أو الفعل بمجرّد ظنّ الوجوب أو الحرمة ؛ لما عرفت (٢) : من أنّ ترخيص الشارع الحكيم للإقدام على ما فيه ظنّ الضرر لا يكون إلاّ لمصلحة يتدارك بها ذلك (٣) الضرر المظنون على تقدير الثبوت واقعا.

وإن منعنا عن قيام الدليل القطعيّ على الاصول وقلنا : إنّ الدليل القطعيّ لم يثبت على اعتبار الاستصحاب ، خصوصا في الأحكام الشرعيّة وخصوصا مع الظنّ بالخلاف ، وكذلك الدليل لم يثبت على الرجوع إلى البراءة حتّى مع الظنّ بالتكليف ؛ لأنّ العمدة في دليل البراءة الإجماع والعقل المختصّان بصورة عدم الظنّ بالتكليف ، فنقول : لا أقلّ من ثبوت بعض الأخبار الظنّيّة على الاستصحاب والبراءة عند عدم العلم الشامل لصورة الظنّ ، فيحصل الظنّ بترخيص الشارع لنا في

__________________

(١) راجع الصفحة السابقة.

(٢) راجع الصفحة السابقة.

(٣) لم ترد «ذلك» في (ر) و (ت).

٣٧٧

ترك مراعاة ظنّ الضرر (١) ، وهذا القدر يكفي في عدم الظنّ بالتضرّر (٢).

وتوهّم : أنّ تلك الأخبار الظنّيّة (٣) لا تعارض العقل المستقلّ بدفع الضرر المظنون ، مدفوع : بأنّ الفرض أنّ الشارع لا يحكم بجواز الاقتحام في مظانّ الضرر إلاّ عن مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته ، فحكم الشارع ليس مخالفا للعقل ، فلا وجه لاطّراح الأخبار الظنّيّة الدالّة على هذا الحكم الغير المنافي لحكم العقل (٤).

__________________

(١) في (ر) : «الظنّ بالضرر».

(٢) في (ت) و (ه) : «بالضرر».

(٣) في (ر) و (ص) : «ظنّيّة».

(٤) في هامش (ت) ، (ر) و (ص) زيادة مع اختلاف يسير بينها ، وهي : «ومحصّل الكلام : أنّ الضرر الدنيويّ لمّا جاز حكم الشارع عليه بجواز الارتكاب بخلاف الضرر الاخروي ، فيجوز أن يحكم الشارع بجواز الارتكاب مع ظنّه ، فيكون ترك مظنون الضرر كمحتمله مرخّصا فيه بأدلّة الاصول.

نعم ، لو ثبت طريقيّة الظنّ وحجّيّته كان كمقطوع الضرر ، فإذا فرضنا أنّ الإضرار الواقعي بالنفس محرّم فإن قطع أو ظنّ بظنّ معتبر جاء التحريم ، وإلاّ دخل تحت الشبهة الموضوعيّة المرخّص فيها مع الشكّ والظنّ غير المعتبر ، فوجوب رفع الضرر المظنون موقوف على إثبات طريقيّة الظنّ ، فإثباتها به دور ظاهر.

فالتحقيق : أنّ الظنّ بالضرر إن استند إلى الأمارات الخارجيّة في الشبهات الموضوعيّة كان طريقا وحجّة بإجماع العلماء والعقلاء ؛ والسرّ فيه انسداد باب العلم بالضرر في الامور الخارجيّة ، فالعمل بالاصول في مقابل الظنّ يوجب الوقوع في المضارّ الكثيرة بحيث يختلّ نظام المعاش نظير العمل بظنّ السلامة. وإن كان مستندا إلى الأمارات في الشبهات الحكميّة فلا دليل على اعتباره ، بل

٣٧٨

مفاد هذا الدليل

ثمّ إنّ مفاد هذا الدليل هو وجوب العمل بالظنّ إذا طابق الاحتياط لا من حيث هو ، وحينئذ : فإذا كان الظنّ مخالفا للاحتياط الواجب ـ كما في صورة الشكّ في المكلّف به ـ فلا وجه للعمل بالظنّ حينئذ.

ودعوى الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، واضحة الفساد ؛ ضرورة أنّ العمل في الصورة الاولى لم يكن بالظنّ من حيث هو بل من حيث كونه احتياطا ، وهذه الحيثيّة نافية للعمل بالظنّ في الصورة الثانية ، فحاصل ذلك : العمل بالاحتياط كليّة وعدم العمل بالظنّ رأسا (١).

__________________

المرجع الاصول المرخّصة النافية للتكليف ، إلاّ إذا ثبت انسداد باب العلم فيها فيرجع إلى دليل الانسداد. وكذلك الكلام في ظنّ السلامة في مقابل الاصول المثبتة للتكليف ، فتأمّل.

والأولى والأسلم : الجواب بمنع ترتّب الضرر الدنيوي على مخالفة الواجب والحرام إمّا بالوجدان ، وإمّا لاحتمال كون المصالح والمفاسد مترتّبة على المخالفة عصيانا لا مطلقا ، ولا يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط في موارد الشكّ فافهم ، (منه قدس‌سره)» [*]

(١) في (ت) و (ر) وهامش (ص) زيادة مع اختلاف يسير ، وهي كما يلي : «ويمكن أن يردّ أيضا : بأنّها قاعدة عمليّة لا تنهض دليلا حتّى ينتفع به في مقابل العمومات الدالّة على الحكم الغير الضرري.

وقد يشكل : بأنّ المعارضة حينئذ تقع بين هذه القاعدة وبين الاصول اللفظيّة ، فإن نهضت للحكومة على هذه القاعدة جرى ذلك أيضا في البراءة والاستصحاب النافيين للتكليف المرخّصين للفعل والترك المؤمّنين من الضرر ، فافهم».

٣٧٩

الوجه الثاني في حجية مطلق الظن : قبح ترجيح المرجوح

الثاني : أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح (١).

وربما يجاب عنه (٢) : بمنع قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، فالأخذ به حسن عقلا.

ما اجيب عن هذا الوجه ومناقشته

وفيه : أنّ المرجوح المطابق للاحتياط ليس العمل به ترجيحا للمرجوح ، بل هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح ، مثلا : إذا ظنّ عدم وجوب شيء وكان وجوبه مرجوحا ، فحينئذ الإتيان به من باب الاحتياط ليس طرحا للراجح في العمل ؛ لأنّ الإتيان لا ينافي عدم الوجوب.

وإن اريد الإتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب ، ففيه : أنّ الإتيان على هذا الوجه مخالف للاحتياط ؛ فإنّ الاحتياط هو الإتيان لاحتمال الوجوب ، لا بقصده.

ما اجيب عن هذا الوجه أيضا ومناقشته

وقد يجاب أيضا : بأنّ ذلك فرع وجوب الترجيح ، بمعنى أنّ الأمر إذا دار بين ترجيح المرجوح وترجيح الراجح كان الأوّل قبيحا ، وأمّا إذا لم يثبت وجوب الترجيح فلا يرجّح المرجوح ولا الراجح (٣)

__________________

(١) هذا الاستدلال أشار إليه العلاّمة أيضا في ذيل الدليل السابق ، انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٧ ، وكذا المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٢٤٣ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٨٦.

(٢) هذا الجواب من الشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين : ٤١١.

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «فلا مرجّح للمرجوح ولا للراجح».

٣٨٠