فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

والشجاعة والكرم وغيرها من الملكات ، وإنّما لا يرجع إلى الأخبار في العقليّات المحضة ، فإنّه لا يعوّل عليها وإن جاء بها ألف من الثقات حتّى يدرك مثل ما أدركوا.

ثمّ اورد على ذلك : بأنّه يلزم من ذلك الرجوع إلى المجتهد ؛ لأنّه وإن لم يرجع إلى الحسّ في نفس الأحكام إلاّ أنّه رجع في لوازمها وآثارها إليه ، وهي أدلّتها السمعيّة ، فيكون رواية ، فلم لا يقبل إذا جاء به الثقة.

وأجاب : بأنّه إنّما يكفي الرجوع إلى الحسّ في الآثار إذا كانت الآثار مستلزمة له عادة ، وبالجملة إذا أفادت اليقين ، كما في آثار الملكات وآثار مقالة الرئيس وهي مقالة رعيّته ، وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهد من الدليل على الحكم.

ثمّ قال : على أنّ التحقيق في الجواب عن السؤال الأوّل هو الوجه الأوّل ، وعليه فلا أثر لهذا السؤال (١) ، انتهى.

قلت : إنّ الظاهر من الإجماع اتّفاق أهل عصر واحد ، لا جميع الأعصار كما يظهر من تعاريفهم وسائر كلماتهم ، ومن المعلوم أنّ إجماع أهل عصر واحد ـ مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدّمة ومخالفتهم ـ لا يوجب عن طريق الحدس العلم الضروريّ بصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام ؛ ولذا قد يتخلّف ؛ لاحتمال مخالفة من تقدّم عليهم أو أكثرهم. نعم يفيد العلم من باب وجوب اللطف الذي لا نقول بجريانه في المقام ، كما قرّر في محلّه (٢).

__________________

(١) الوافي في شرح الوافية (مخطوط) : الورقة ١٥٠.

(٢) انظر القوانين ١ : ٣٥٣ ، والفصول : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

٢٠١

مع أنّ علماء العصر إذا كثروا ـ كما في الأعصار السابقة ـ يتعذّر أو يتعسّر الاطّلاع عليهم حسّا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر ، إلاّ إذا كان العلماء في عصر قليلين يمكن الإحاطة برأيهم في المسألة فيدّعى الإجماع ، إلاّ أنّ مثل هذا الأمر المحسوس لا يستلزم عادة لموافقة المعصوم عليه‌السلام.

فالمحسوس المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام مستحيل التحقّق للناقل ، والممكن المتحقّق له غير مستلزم عادة.

محامل دعوى إجماع الكلّ

وكيف كان : فإذا ادّعى الناقل الإجماع خصوصا إذا كان ظاهره اتّفاق جميع علماء الأعصار أو أكثرهم إلاّ من شذّ ـ كما هو الغالب في إجماعات مثل الفاضلين والشهيدين ـ انحصر محمله في وجوه :

١- أن يراد اتّفاق المعروفين

أحدها : أن يراد به اتّفاق المعروفين بالفتوى ، دون كل قابل للفتوى من أهل عصره أو مطلقا.

٢- أن يستفاد إجماع الكلّ من اتّفاق المعروفين

الثاني : أن يريد إجماع الكلّ ، ويستفيد ذلك من اتّفاق المعروفين من أهل عصره.

وهذه الاستفادة ليست ضروريّة وإن كانت قد تحصل ؛ لأنّ اتّفاق أهل عصره ـ فضلا عن المعروفين منهم ـ لا يستلزم عادة اتّفاق غيرهم ومن قبلهم ، خصوصا بعد ملاحظة التخلّف في كثير من الموارد لا يسع هذه الرسالة لذكر معشارها. ولو فرض حصوله للمخبر كان من باب الحدس الحاصل عمّا لا يوجب العلم عادة. نعم هي (١) أمارة ظنّية على ذلك ؛ لأنّ الغالب في الاتّفاقيّات عند أهل عصر كونه من الاتّفاقيّات

__________________

(١) في (ه) : «هو».

٢٠٢

عند من تقدّمهم. وقد يحصل العلم بضميمة أمارات أخر ، لكنّ الكلام في كون الاتّفاق مستندا إلى الحسّ أو إلى حدس لازم عادة للحسّ.

والحق بذلك : ما إذا علم اتّفاق الكلّ من اتّفاق جماعة لحسن ظنّه بهم ، كما ذكره (١) في أوائل المعتبر ، حيث قال : «ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الإجماع ؛ لوجوده في كتب الثلاثة قدّست أسرارهم ، وهو جهل إن لم يكن تجاهلا» (٢).

فإنّ في توصيف المدّعي بكونه مقلّدا مع أنّا نعلم أنّه لا يدّعي الإجماع إلاّ عن علم ، إشارة إلى استناده في دعواه إلى حسن الظنّ بهم وأنّ جزمه في غير محلّه (٣) ، فافهم.

٣ -أن يستفاد إجماع الكلُ من اتّفاقهم على أمرٍ من الاُمور

الثالث : أن يستفيد اتّفاق الكلّ على الفتوى من اتّفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل ، أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص ، أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض ، أو اتّفاقهم على مسألة اصوليّة ـ نقليّة أو عقليّة ـ يستلزم القول بها الحكم (٤) في المسألة المفروضة ، وغير ذلك من الامور المتّفق عليها التي يلزم باعتقاد المدّعي من القول بها ـ مع فرض عدم المعارض ـ القول بالحكم المعيّن في المسألة.

ومن المعلوم : أنّ نسبة هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك

__________________

(١) في (ه) : كما ذكر.

(٢) المعتبر ١ : ٦٢.

(٣) لم ترد عبارة «وأنّ جزمه في غير محلّه» في (م).

(٤) في (ظ) و (م) : «لحكم».

٢٠٣

لم تنشأ (١) إلاّ من مقدّمتين أثبتهما المدّعي باجتهاده :

إحداهما : كون ذلك الأمر المتّفق عليه مقتضيا ودليلا للحكم لو لا المانع.

والثانية : انتفاء المانع والمعارض. ومن المعلوم أنّ الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك غير جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصر (٢) ، ورجوع المدّعي عن الفتوى التي ادّعى الإجماع فيها ، ودعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعي ، وفي مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدّعي بل في زمانه بل في ما قبله ، كلّ ذلك مبنيّ على الاستناد في نسبة القول إلى العلماء على هذا الوجه.

ذكر موارد تدلّ على الوجه الأخير

ولا بأس بذكر بعض موارد (٣) صرّح المدّعي بنفسه أو غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك.

فمن ذلك : ما وجّه المحقّق به دعوى المرتضى (٤) والمفيد (٥) ـ أنّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات ـ قال :

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «لا تنشأ».

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «العصرين».

(٣) في (ت) ، (ر) و (ه) : «الموارد».

(٤) الخلاف أو مسائل الخلاف من مصنّفات السيّد المرتضى ، وهي مفقودة.

(٥) مسائل الخلاف من مصنّفات الشيخ المفيد ، وهي مفقودة أيضا.

٢٠٤

كلام المحقّق في المسائل المصرية

وأمّا قول السائل : كيف أضاف المفيد والسيّد ذلك إلى مذهبنا ولا نصّ فيه؟ فالجواب : أمّا علم الهدى ، فإنّه ذكر في الخلاف : أنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا ؛ لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات ، ثمّ قال :

وأمّا المفيد ، فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف : أنّ ذلك مرويّ عن الأئمّة عليهم‌السلام (١) ، انتهى.

فظهر من ذلك : أنّ نسبة السيّد قدس‌سره الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الأصل.

ومن ذلك : ما عن الشيخ في الخلاف ، حيث إنّه ذكر فيما إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل ، بعد القتل : بأنّه (٢) يسقط القود وتكون الدية من بيت المال. قال :

كلام الشيخ الطوسي في الخلاف

دليلنا إجماع الفرقة ؛ فإنّهم رووا : أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين (٣) ، انتهى.

فعلّل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب.

وقال بعد ذلك ، فيما إذا تعدّدت الشهود في من أعتقه المريض وعيّن كلّ غير ما عيّنه الآخر ولم يف الثّلث بالجميع : إنّه يخرج السابق (٤) بالقرعة ، قال :

__________________

(١) المسائل المصرية (الرسائل التسع) : ٢١٥ و ٢١٦ ، وأمّا مسائل الخلاف فهي من مصنّفات الشيخ المفيد المفقودة.

(٢) الأنسب : «أنّه» ، كما في نسخة (د).

(٣) الخلاف ٦ : ٢٩٠ ، المسألة ٣٦.

(٤) لم ترد «السابق» في (ه) ، وكتب عليه في (ص) : «زائد».

٢٠٥

دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ؛ فإنّهم أجمعوا على أنّ كلّ أمر مجهول فيه القرعة (١) ، انتهى.

كلام المفيد في الفصول المختارة

ومن الثاني (٢) : ما عن المفيد في فصوله ، حيث إنّه سئل عن الدليل على أنّ المطلّقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال :

الدلالة على ذلك من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجماع المسلمين ، ثمّ استدلّ من الكتاب بظاهر قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)(٣) ، ثمّ بيّن وجه الدلالة ، ومن السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ ما لم يكن على أمرنا هذا فهو ردّ» (٤) ، وقال : «ما وافق الكتاب فخذوه ، وما لم يوافقه فاطرحوه» (٥) ، وقد بيّنا أنّ المرّة لا تكون مرّتين أبدا وأنّ الواحدة لا تكون ثلاثا ، فأوجب السنّة إبطال طلاق الثلاث.

وأمّا إجماع الامّة ، فهم مطبقون على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل ، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق بالكتاب والسنّة ، فحصل الإجماع على إبطاله (٦) ، انتهى.

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢٩٠ ، المسألة ٣٧.

(٢) في (ص) : «ومن الأوّل» ، وفي غيرها ونسخة بدل (ص) ما أثبتناه.

(٣) البقرة : ٢٢٩.

(٤) لم نقف عليه بلفظه ، وورد ما يقرب منه في كنز العمّال ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، الحديث ١١٠١ و ١١٠٩.

(٥) الوسائل ١٤ : ٣٥٦ ، الباب ٢٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ٤ ، مع تفاوت يسير.

(٦) الفصول المختارة (مصنّفات الشيخ المفيد) ٢ : ١٧٥ ـ ١٧٧.

٢٠٦

وحكي عن الحلّي في السرائر الاستدلال بمثل هذا (١).

ومن ذلك : الإجماع الذي ادّعاه الحلّي على المضايقة في قضاء الفوائت ـ في رسالته المسمّاة بخلاصة الاستدلال ـ حيث قال :

كلام الحلّى في خلاصة الاستدلال

أطبقت عليه الإماميّة خلفا عن سلف وعصرا بعد عصر وأجمعت على العمل به ، ولا يعتدّ بخلاف نفر يسير من الخراسانيين ؛ فإنّ ابني بابويه ، والأشعريين كسعد بن عبد الله ـ صاحب كتاب الرحمة ـ وسعد ابن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب ـ صاحب كتاب نوادر الحكمة (٢) ـ ، والقميّين أجمع كعليّ بن إبراهيم بن هاشم ومحمّد بن الحسن بن الوليد ، عاملون بأخبار المضايقة ؛ لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته ، وحفظتهم (٣) الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وخرّيت هذه الصناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مودع أخبار المضايقة في كتبه ، مفت بها ، والمخالف إذا علم باسمه ونسبه لم يضرّ خلافه (٤) ، انتهى.

__________________

(١) السرائر ٢ : ٦٨٢ ـ ٦٨٤.

(٢) كذا في النسخ ، ويبدو أنّ الصحيح «نوادر المصنّف» كما في غاية المراد ١ : ١٠٢ ، والسرائر ٣ : ٦٠١ ، أو «نوادر المصنّفين» كما في الوسائل ٢٠ : ٤٧ ، وأمّا كتاب نوادر الحكمة فإنّه من تأليفات محمّد بن أحمد بن يحيى ، كما ستأتي الإشارة إليه في الصفحة ٣٢٤ ، وانظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢٤ : ٣٤٦ و ٣٤٩.

(٣) رجل حفظة كهمزة ، أي كثير الحفظ ، تاج العروس ٥ : ٢٥١.

(٤) رسالة خلاصة الاستدلال من مؤلّفات الحلّي قدس‌سره ، وهي مفقودة ، وحكاه عنه الشهيد قدس‌سره في غاية المراد ١ : ١٠٢.

٢٠٧

المناقشة في كلام الحلي قدس‌سره

ولا يخفى : أنّ إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبنيّ على الحدس والاجتهاد من وجوه :

أحدها : دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به. وهذا وإن كان غالبيّا إلاّ أنّه لا يوجب القطع ؛ لمشاهدة التخلّف كثيرا.

الثاني : تماميّة دلالة تلك الأخبار عند اولئك على الوجوب ؛ إذ لعلّهم فهموا منها بالقرائن الخارجيّة تأكّد الاستحباب.

الثالث : كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عند اولئك ؛ لأنّ وثوق الحلّي بالرواة لا يدلّ على وثوق اولئك.

مع أنّ الحلّي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقات ، والمفتي إذا استند فتواه إلى خبر واحد ، لا يوجب اجتماع أمثاله القطع بالواقع ، خصوصا لمن يخطّئ العمل بأخبار الآحاد.

وبالجملة : فكيف يمكن أن يقال : إنّ مثل هذا الإجماع إخبار عن قول الإمام عليه‌السلام ، فيدخل في الخبر الواحد؟ مع أنّه في الحقيقة اعتماد على اجتهادات الحلّي مع وضوح فساد بعضها ؛ فإنّ كثيرا ممّن ذكر أخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا (١) ، وأنّ المفتي إذا علم استناده إلى مدرك لا يصلح للركون (٢) إليه ـ من جهة الدلالة أو المعارضة ـ لا يؤثّر فتواه في الكشف عن قول الإمام عليه‌السلام.

وأوضح حالا في عدم جواز الاعتماد : ما ادّعاه الحلّي من الإجماع

__________________

(١) كالشيخ الصدوق في الفقيه ١ : ٣٥٨ ، و ٤٣٤ ، الحديث ١٠٣١ و ١٢٦٤ ، والشيخ الطوسي في التهذيب ٢ : ١٧١ و ٢٧٣ ، الحديث ٦٨٠ و ١٠٨٦.

(٢) في (ظ) و (ه) : «الركون».

٢٠٨

على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت ناشزة على الزوج (١) ، وردّه المحقّق بأنّ أحدا من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك (٢).

فإنّ الظاهر أنّ الحلّي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة بإطلاقها على وجوب فطرة (٣) الزوجة على الزوج (٤) ؛ متخيّلا أنّ الحكم معلّق على الزوجة من حيث هي زوجة ، ولم يتفطّن لكون الحكم من حيث العيلولة ، أو وجوب الانفاق.

فكيف يجوز الاعتماد في مثله على الإخبار بالاتّفاق الكاشف عن قول الإمام عليه‌السلام ، ويقال : إنّها سنّة محكيّة؟

وما أبعد ما بين ما استند إليه الحلّي في هذا المقام وبين ما ذكره المحقّق في بعض كلماته المحكيّة ، حيث قال :

كلام المحقّق في المسائل العزية

إنّ الاتّفاق على لفظ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلام ، لا يقتضي الإجماع على ذلك الفرد ؛ لأنّ المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوما من القصد ؛ لأنّ الإجماع مأخوذ من قولهم : «أجمع على كذا» إذا عزم عليه ، فلا يدخل في الإجماع على الحكم إلاّ من علم منه القصد إليه. كما أنّا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل مذهبهم لدلالة عموم القرآن وإن كانوا قائلين به (٥) ، انتهى كلامه.

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٦٦.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٠١ ـ ٦٠٢.

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «نفقة».

(٤) انظر الوسائل ٦ : ٢٢٨ ، الباب ٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٣ و ٤.

(٥) المسائل العزيّة (الرسائل التسع) : ١٤٤ ـ ١٤٥.

٢٠٩

كلام الشهيد في الذكري

وهو في غاية المتانة. لكنّك عرفت (١) ما وقع من جماعة من المسامحة في إطلاق لفظ «الإجماع» ، وقد حكى في المعالم عن الشهيد : أنّه أوّل كثيرا من الاجماعات ـ لأجل مشاهدة المخالف في مواردها ـ بإرادة الشهرة ، أو بعدم الظفر بالمخالف حين دعوى الإجماع ، أو بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الإجماع ، أو بإرادة الإجماع على الرواية وتدوينها في كتب الحديث (٢) ، انتهى.

كلام المحدّث المجلسي في البحار

وعن المحدّث المجلسيّ قدس‌سره في كتاب الصلاة من البحار بعد ذكر معنى الإجماع ووجه حجّيّته عند الأصحاب :

إنّهم لمّا رجعوا إلى الفقه كأنّهم نسوا ما ذكروه في الاصول ـ ثمّ أخذ في الطعن على إجماعاتهم إلى أن قال : ـ فيغلب على الظنّ أنّ مصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الاصول (٣) ، انتهى.

المناقشة في ما أفادة الشهيد والمجلسي

والتحقيق : أنّه لا حاجة إلى ارتكاب التأويل في لفظ «الإجماع» بما ذكره الشهيد ، ولا إلى ما ذكره المحدّث المذكور (٤) قدس‌سرهما ، من تغاير مصطلحهم في الفروع والاصول ، بل الحقّ : أنّ دعواهم للاجماع في الفروع مبنيّ على استكشاف الآراء ورأي الإمام عليه‌السلام إمّا من حسن الظنّ بجماعة من السلف ، أو من امور تستلزم ـ باجتهادهم ـ إفتاء العلماء بذلك وصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام أيضا.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) انظر المعالم : ١٧٤ ، والذكرى ١ : ٥١.

(٣) البحار ٨٩ : ٢٢٢.

(٤) لم ترد في (م) : «المذكور».

٢١٠

وليس في هذا مخالفة لظاهر لفظ «الإجماع» حتّى يحتاج إلى القرينة ، ولا تدليس ؛ لأنّ دعوى الإجماع ليست (١) لأجل اعتماد الغير عليه وجعله دليلا يستريح إليه في المسألة.

نعم ، قد يوجب التدليس من جهة نسبة الفتوى إلى العلماء ، الظاهرة في وجدانها في كلماتهم ، لكنّه يندفع بأدنى تتبّع في الفقه ، ليظهر أنّ مبنى ذلك على استنباط المذهب ، لا على وجدانه مأثورا.

والحاصل : أنّ المتتبّع في الاجماعات المنقولة يحصل له القطع من تراكم أمارات كثيرة ، باستناد دعوى الناقلين للاجماع ـ خصوصا إذا أرادوا به اتّفاق علماء جميع الأعصار كما هو الغالب في إجماعات المتأخّرين ـ إلى الحدس الحاصل من حسن الظنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ، أو من الانتقال من الملزوم إلى لازمه (٢) ، مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل واعتقاده.

وعلى هذا ينزّل الإجماعات المتخالفة من العلماء مع اتّحاد العصر أو تقارب العصرين ، وعدم المبالاة كثيرا بإجماع الغير والخروج عنه للدليل ، وكذا دعوى الإجماع مع وجود المخالف ؛ فإنّ ما ذكرنا في مبنى الإجماع من أصحّ المحامل لهذه الامور المنافية لبناء دعوى الإجماع على تتبّع الفتاوى في خصوص المسألة.

وذكر المحقّق السبزواري في الذخيرة ، بعد بيان تعسّر العلم بالاجماع :

__________________

(١) في غير (ت) : «ليس».

(٢) في (ه) : «اللازم».

٢١١

كلام المحقّق السبزواري في الذخيرة

أنّ مرادهم بالإجماعات المنقولة في كثير من المسائل بل في أكثرها ، لا يكون محمولا على معناه الظاهر ، بل إمّا يرجع إلى اجتهاد من الناقل مؤدّ ـ بحسب القرائن والأمارات التي اعتبرها ـ إلى أنّ المعصوم عليه‌السلام موافق في هذا الحكم ، أو مرادهم الشهرة ، أو اتّفاق أصحاب الكتب المشهورة ، أو غير ذلك من المعاني المحتملة.

ثمّ قال بعد كلام له : والذي ظهر لي من تتبّع كلام المتأخّرين ، أنّهم كانوا ينظرون إلى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف ، فإذا رأوا اتّفاقهم على حكم قالوا : إنّه إجماعيّ ، ثمّ إذا اطّلعوا على تصنيف آخر خالف مؤلّفه الحكم المذكور ، رجعوا عن الدعوى المذكورة ، ويرشد إلى هذا كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها (١) ، انتهى.

حاصل الكلام في المسألة

وحاصل الكلام من أوّل ما ذكرنا إلى هنا : أنّ الناقل للإجماع إن احتمل في حقّه تتبّع فتاوى من ادّعى اتّفاقهم حتّى الإمام الذي هو داخل في المجمعين ، فلا إشكال في حجّيّته وفي إلحاقه بالخبر الواحد ؛ إذ لا يشترط في حجّيّته معرفة الإمام عليه‌السلام تفصيلا حين السماع منه.

لكن هذا الفرض ممّا يعلم بعدم وقوعه ، وأنّ المدّعي للإجماع لا يدّعيه على هذا الوجه.

وبعد هذا ، فإن احتمل في حقّه تتبّع فتاوى جميع المجمعين ، والمفروض أنّ الظاهر من كلامه هو (٢) اتّفاق الكلّ المستلزم عادة لموافقة

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) لم ترد : «هو» في (ظ) ، (ل) و (م).

٢١٢

قول الإمام عليه‌السلام ، فالظاهر حجّيّة خبره للمنقول إليه ، سواء جعلنا المناط في حجّيته تعلّق خبره بنفس الكاشف ، الذي هو من الامور المحسوسة المستلزمة ضرورة لأمر حدسي وهو قول الإمام عليه‌السلام ، أو جعلنا المناط تعلّق خبره بالمنكشف وهو قول الإمام عليه‌السلام ؛ لما عرفت (١) : من أنّ الخبر الحدسيّ المستند إلى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة ، كالخبر الحسّي في وجوب القبول. وقد تقدّم الوجهان في كلام السيّد الكاظمي في شرح الوافية (٢).

لكنّك قد عرفت سابقا (٣) : القطع بانتفاء هذا الاحتمال ، خصوصا إذا أراد الناقل اتّفاق علماء جميع الأعصار.

نعم ، لو فرضنا قلّة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم ، أمكن دعوى اتّفاقهم عن حسّ ، لكن هذا غير مستلزم عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام. نعم ، يكشف عن موافقته بناء على طريقة الشيخ المتقدّمة (٤) التي لم تثبت عندنا وعند الأكثر (٥).

ثمّ إذا علم عدم استناد دعوى اتّفاق العلماء المتشتّتين في الأقطار ـ الذي يكشف عادة عن موافقة الإمام عليه‌السلام ـ إلاّ إلى الحدس الناشئ عن أحد الامور المتقدّمة التي مرجعها إلى حسن الظنّ أو الملازمات

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) راجع الصفحة ٢٠٠.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٢.

(٤) في الصفحة ١٩٢.

(٥) في (ت) ، (ر) و (ص) : «الأكثرين».

٢١٣

الاجتهاديّة ، فلا عبرة بنقله ؛ لأنّ الإخبار بقول الإمام عليه‌السلام حدسيّ غير مستند إلى حسّ ملزوم له عادة ليكون نظير الإخبار بالعدالة المستندة إلى الآثار الحسيّة ، والإخبار بالاتّفاق أيضا حدسيّ.

فائدة نقل الإجماع

نعم ، يبقى هنا شيء ، وهو : أنّ هذا المقدار من النسبة المحتمل استناد الناقل فيها إلى الحسّ يكون خبره حجّة فيها ؛ لأنّ ظاهر الحكاية محمول على الوجدان إلاّ إذا قام هناك صارف ، والمعلوم من الصارف هو عدم استناد الناقل إلى الوجدان والحسّ في نسبة الفتوى إلى جميع من ادّعى إجماعهم ، وأمّا استناد نسبة الفتوى إلى جميع أرباب الكتب المصنّفة في الفتاوى إلى الوجدان في كتبهم بعد التتبّع ، فأمر محتمل لا يمنعه عادة ولا عقل.

وما تقدّم من المحقّق السبزواري (١) ـ من ابتناء دعوى الإجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حال التأليف ـ فليس عليه شاهد ، بل الشاهد على خلافه. وعلى تقديره ، فهو ظنّ لا يقدح في العمل بظاهر النسبة ؛ فإنّ نسبة الأمر الحسّيّ إلى شخص ظاهر في إحساس الغير إيّاه من ذلك الشخص.

وحينئذ : فنقل الإجماع غالبا ـ إلاّ ما شذّ ـ حجّة بالنسبة إلى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى.

ولا يقدح في ذلك : أنّا نجد الخلاف في كثير من موارد دعوى الإجماع ؛ إذ من المحتمل إرادة الناقل ما عدا المخالف ، فتتبّع كتب من عداه ونسب الفتوى إليهم ، بل لعلّه اطّلع على رجوع من نجده مخالفا ،

__________________

(١) راجع الصفحة ٢١٢.

٢١٤

فلا حاجة إلى حمل كلامه على من عدا المخالف.

وهذا المضمون المخبر به عن حسّ وإن لم يكن مستلزما بنفسه عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّه قد يستلزمه (١) بانضمام أمارات أخر يحصّلها المتتبّع ، أو بانضمام أقوال المتأخّرين دعوى الإجماع.

لو حصل من نقل الإجماع وما انضمّ إليه القطع بالحكم

مثلا : إذا ادّعى الشيخ قدس‌سره الإجماع على اعتبار طهارة مسجد الجبهة ، فلا أقلّ من احتمال أن يكون دعواه مستندة إلى وجدان الحكم في الكتب المعدّة للفتوى ـ وإن كان بإيراد الروايات التي يفتي المؤلّف بمضمونها ـ فيكون خبره المتضمّن لإفتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم حجّة في المسألة ، فيكون كما لو وجدنا الفتاوى في كتبهم ، بل سمعناها منهم ، وفتواهم وإن لم تكن بنفسها مستلزمة عادة لموافقة الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّا إذا ضممنا إليها فتوى من تأخّر عن الشيخ من أهل الفتوى ، وضمّ إلى ذلك أمارات أخر ، فربما حصل من المجموع القطع بالحكم ؛ لاستحالة تخلّف هذه جميعها عن قول الإمام عليه‌السلام.

وبعض هذا المجموع ـ وهو اتّفاق أهل الفتاوى المأثورة عنهم ـ وإن لم يثبت لنا بالوجدان ، إلاّ أنّ المخبر قد أخبر به عن حسّ ، فيكون حجّة كالمحسوس لنا.

وكما أنّ مجموع ما يستلزم عادة لصدور (٢) الحكم عن الإمام عليه‌السلام ـ إذا أخبر به العادل عن حسّ ـ قبل منه وعمل بمقتضاه ، فكذا إذا أخبر العادل ببعضه عن حسّ.

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «يستلزم».

(٢) في (ت) و (ه) : «صدور».

٢١٥

وتوضيحه بالمثال الخارجيّ أن نقول : إنّ خبر مائة عادل أو ألف مخبر بشيء مع شدّة احتياطهم في مقام الإخبار يستلزم عادة ثبوت المخبر به في الخارج ، فإذا أخبرنا عادل بأنّه قد أخبر ألف عادل بموت زيد وحضور دفنه ، فيكون خبره بإخبار الجماعة بموت زيد حجّة ، فيثبت به لازمه العاديّ وهو موت زيد ، وكذلك إذا أخبر العادل بإخبار بعض هؤلاء ، وحصّلنا إخبار الباقي بالسماع منهم.

نعم ، لو كانت الفتاوى المنقولة إجمالا بلفظ «الإجماع» على تقدير ثبوتها لنا بالوجدان ، ممّا لا يكون بنفسها أو بضميمة أمارات أخر مستلزمة عادة للقطع بقول الإمام عليه‌السلام ـ وإن كانت قد تفيده ـ لم يكن معنى لحجيّة خبر الواحد في نقلها تعبّدا ؛ لأنّ معنى التعبّد بخبر الواحد في شيء ترتيب لوازمه الثابتة له ولو بضميمة امور أخر ، فلو أخبر العادل بإخبار عشرين بموت زيد ، وفرضنا أنّ إخبارهم قد يوجب العلم وقد لا يوجب ، لم يكن خبره حجّة بالنسبة إلى موت زيد ؛ إذ لا يلزم من إخبار عشرين بموت زيد موته.

وبالجملة : فمعنى حجّيّة خبر العادل وجوب ترتيب ما يدلّ عليه المخبر به ـ مطابقة ، أو تضمّنا ، أو التزاما عقليّا أو عاديّا أو شرعيّا ـ دون ما يقارنه أحيانا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا يختصّ بنقل الإجماع ، بل يجري في لفظ (١) «الاتّفاق» وشبهه ، و (٢) يجري في نقل الشهرة ، ونقل الفتاوى عن

__________________

(١) في (ص) بدل «لفظ» : «نقل».

(٢) في (ر) و (ه) بدل «و» : «بل».

٢١٦

أربابها تفصيلا.

لو حصل من نقل الإجماع القطع بوجود دليل ظنيّ معتبر

ثمّ إنّه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل وما حصّله المنقول إليه بالوجدان من الأمارات والأقوال القطع بصدور الحكم الواقعيّ عن الإمام عليه‌السلام ، لكن حصل منه القطع بوجود دليل ظنّيّ معتبر بحيث لو نقل إلينا لاعتقدناه تامّا من جهة الدلالة وفقد المعارض ، كان هذا المقدار ـ أيضا ـ كافيا في إثبات المسألة الفقهيّة ، بل قد يكون نفس الفتاوى ـ التي نقلها الناقل للإجماع إجمالا ـ مستلزما لوجود دليل معتبر ، فيستقلّ الإجماع المنقول بالحجّية بعد إثبات حجيّة خبر العادل في المحسوسات.

إلاّ إذا منعنا ـ كما تقدّم سابقا (١) ـ عن استلزام اتّفاق أرباب الفتاوى عادة لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تامّا ، وإن كان قد يحصل العلم بذلك من ذلك ، إلاّ أنّ ذلك شيء قد يتّفق ، ولا يوجب ثبوت الملازمة العاديّة التي هي المناط في الانتقال من المخبر به إليه.

ألا ترى : أنّ إخبار عشرة بشيء قد يوجب العلم به ، لكن لا ملازمة عاديّة بينهما ، بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الإخبار.

وبالجملة : يوجد في الخبر مرتبة تستلزم عادة لتحقّق (٢) المخبر به ، لكن ما يوجب العلم أحيانا قد لا يوجبه ، وفي الحقيقة ليس هو بنفسه الموجب في مقام حصول العلم ؛ وإلاّ لم يتخلّف.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩١.

(٢) في (ت) و (ه) : «تحقّق».

٢١٧

ثمّ إنّه قد نبّه على ما ذكرنا ـ من فائدة نقل الإجماع ـ بعض المحقّقين في كلام طويل له ، وما ذكرنا وإن كان محصّل كلامه على ما نظرنا فيه ، لكنّ الأولى نقل عبارته بعينها ، فلعلّ الناظر يحصّل منها غير ما حصّلنا ، فإنّا قد مررنا على العبارة مرورا ، ولا يبعد أن يكون قد اختفى علينا بعض ما له دخل في مطلبه.

كلام المحقّق التستري في فائدة نقل الإجماع

قال قدس‌سره في كشف القناع وفي رسالته التي صنّفها في المواسعة والمضايقة ، ما هذا لفظه : وليعلم أنّ المحقّق في ذلك ، هو : أنّ الإجماع الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح أو بسائر الألفاظ على كثرتها ، إذا لم يكن مبتنيا على دخول المعصوم بعينه أو ما في حكمه في المجمعين ، فهو إنّما يكون حجّة على غير الناقل باعتبار نقله السبب الكاشف عن قول المعصوم أو عن الدليل القاطع أو مطلق الدليل المعتدّ به وحصول الانكشاف للمنقول إليه والتمسّك به بعد البناء على قبوله ، لا باعتبار ما انكشف منه لناقله بحسب ادّعائه.

فهنا مقامان :

الأوّل : حجيّته بالاعتبار الأوّل ، وهي مبتنية من جهتي الثبوت والإثبات على مقدّمات :

الاولى : دلالة اللفظ على السبب ، وهذه لا بدّ من اعتبارها ، وهي متحقّقة ظاهرا في الألفاظ المتداولة بينهم ما لم يصرف عنها صارف.

وقد يشتبه الحال إذا كان النقل بلفظ «الإجماع» في مقام الاستدلال.

٢١٨

لكن من المعلوم أنّ مبناه ومبنى غيره ليس على الكشف الذي يدّعيه جهّال الصوفيّة ، ولا على الوجه الأخير الذي إن وجد في الأحكام ففي غاية الندرة ، مع أنّه على تقدير بناء الناقل عليه وثبوته واقعا كاف في الحجّيّة ، فإذا انتفى الأمران تعيّن سائر الأسباب المقرّرة ، وأظهرها غالبا عند الإطلاق حصول الاطّلاع ـ بطريق القطع أو الظنّ المعتدّ به ـ على اتّفاق الكلّ في نفس الحكم ؛ ولذا صرّح جماعة منهم باتّحاد معنى الإجماع عند الفريقين ، وجعلوه مقابلا للشهرة ، وربما بالغوا في أمرها بأنّها كادت تكون إجماعا ونحو ذلك ، وربما قالوا : إن كان هذا مذهب فلان فالمسألة إجماعيّة.

وإذا لوحظت القرائن الخارجيّة من جهة العبارة والمسألة والنّقلة ، واختلف الحال في ذلك ، فيؤخذ بما هو المتيقّن أو الظاهر.

وكيف كان : فحيث دلّ اللفظ ولو بمعونة القرائن على تحقّق الاتّفاق المعتبر كان معتبرا ، وإلاّ فلا.

الثانية : حجّيّة نقل السبب المذكور وجواز التعويل عليه ؛ وذلك لأنّه ليس إلاّ كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالّة عليها لمقلّديهم وغيرهم ، ورواية ما عدا قول المعصوم ونحوه من سائر ما تضمّنه الأخبار ، كالأسئلة التي تعرف (١) منها (٢) أجوبته ، والأقوال والأفعال التي يعرف منها تقريره ، ونحوها ممّا تعلّق بها ، وما نقل عن سائر الرواة المذكورين في الأسانيد وغيرها ، وكنقل الشهرة واتّفاق سائر

__________________

(١) في (ظ) والمصدر : «يعرف».

(٢) في (ظ) و (م) : «بها».

٢١٩

اولي الآراء والمذاهب وذوي الفتوى أو جماعة منهم ، وغير ذلك.

وقد جرت طريقة السلف والخلف من جميع الفرق على قبول أخبار الآحاد في كلّ ذلك ممّا كان النقل فيه على وجه الإجمال أو التفصيل ، وما تعلّق بالشرعيّات أو غيرها ، حتّى أنّهم كثيرا ما ينقلون شيئا ممّا ذكر معتمدين على نقل غيرهم من دون تصريح بالنقل عنه والاستناد إليه ؛ لحصول الوثوق به وإن لم يصل إلى مرتبة العلم ، فيلزم قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا ؛ لاشتراك الجميع في كونها نقل قول غير معلوم من غير معصوم وحصول الوثوق بالناقل ، كما هو المفروض.

وليس شيء من ذلك من الاصول حتّى يتوهّم عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد ، مع أنّ هذا الوهم فاسد من أصله ، كما قرّر في محلّه.

ولا من الامور المتجدّدة التي لم يعهد الاعتماد فيها على خبر الواحد في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام والصحابة. ولا ممّا يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ، مع أنّ هذا لا يمنع من التعويل على نقل العارف به ؛ لما ذكر.

ويدلّ عليه مع ذلك : ما دلّ على حجّيّة خبر الثقة العدل بقول مطلق. وما اقتضى كفاية الظنّ فيما لا غنى عن معرفته ولا طريق إليه غيره غالبا ؛ إذ من المعلوم شدّة الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين وآراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتّى لا محيص عنها ، كمعرفة المجمع عليه والمشهور والشاذّ من الأخبار والأقوال ، والموافق للعامّة أو أكثرهم والمخالف لهم ، والثقة والأوثق والأورع والأفقه ، وكمعرفة اللغات وشواهدها المنثورة والمنظومة ، وقواعد العربيّة التي عليها يبتني استنباط

٢٢٠