فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

وهي إنّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق ، والظاهر منها ـ بقرينة التفصيل بين العادل حين الإخبار والفاسق ، وبقرينة تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالا مساويا ؛ لأنّ الفاسق لا رادع له عن الكذب ـ هو : عدم الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، لا وجوب البناء على إصابته وعدم خطائه في حدسه ؛ لأنّ الفسق والعدالة حين الإخبار لا يصلحان مناطين (١) لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه ، وكذا احتمال الوقوع في الندم من جهة الخطأ في الحدس أمر مشترك بين العادل والفاسق ، فلا يصلح لتعليل الفرق به.

فعلمنا من ذلك : أنّ المقصود من الآية إرادة نفي احتمال تعمّد الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق ؛ لأنّ هذا هو الذي يصلح لإناطته بالفسق والعدالة حين الإخبار.

ومنه تبيّن : عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسيّة إذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل.

فإن قلت : إنّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبول (٢) الخبر ؛ لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمّد الكذب ، فيجب التبيّن في خبر العادل أيضا ؛ لاحتمال خطائه وسهوه ، وهو خلاف الآية المفصّلة بين العادل والفاسق ، غاية الأمر وجوبه في خبر الفاسق من وجهين وفي العادل من جهة واحدة.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «لا تصلح مناطا».

(٢) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (ل) : «قبوليّة» ، وفي (م) : «مقبوليّة».

١٨١

قلت : إذا ثبت بالآية عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، ينفى احتمال خطائه وغفلته واشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحسّ ؛ وهذا أصل عليه إطباق العقلاء والعلماء في جميع الموارد.

نعم ، لو كان المخبر ممّن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يعبأ بخبره ؛ لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه ؛ ولذا يعتبرون في الراوي والشاهد (١) الضبط ، وإن كان ربما يتوهّم الجاهل ثبوت ذلك من الإجماع ، إلاّ أنّ المنصف يشهد : أنّ (٢) اعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجيّ مخصّص لعموم آية النبأ ونحوها ممّا دلّ على وجوب قبول قول العادل ، بل لما ذكرنا : من أنّ المراد بوجوب قبول قول العادل رفع التهمة عنه من جهة احتمال تعمّده الكذب ، لا تصويبه وعدم تخطئته أو غفلته (٣).

ويؤيّد ما ذكرنا : أنّه لم يستدلّ أحد من العلماء على حجّية فتوى الفقيه على العامّي بآية النبأ ، مع استدلالهم عليها بآيتي النفر والسؤال (٤).

والظاهر : أنّ ما ذكرنا ـ من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلّة قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد ـ هو الوجه فيما

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «الشاهد والراوي».

(٢) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «بأنّ».

(٣) لم ترد «أو غفلته» في (م).

(٤) منهم المحقّق في المعارج : ١٩٨ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٤١١ ، والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ٣٢٥ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٩٤.

١٨٢

ذهب إليه المعظم (١) ، بل أطبقوا عليه كما في الرياض (٢) : من عدم (٣) اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحسّ ، وإن علّله في الرياض بما لا يخلو عن نظر : من أنّ الشهادة من الشهود وهو الحضور ، فالحسّ مأخوذ في مفهومها.

عدم عموميّة آية «النبأ» لكلّ خبر

والحاصل : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الإخبار عن حدس واجتهاد ونظر ليس حجّة إلاّ على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام الشرعيّة ، وأنّ الآية ليست عامّة لكلّ خبر ودعوى (٤) خرج ما خرج.

فإن قلت : فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمّده للكذب فيه ، تقبل شهادته فيه ؛ لأنّ احتمال تعمّده للكذب منتف بالفرض ، واحتمال غفلته وخطائه منفيّ بالأصل المجمع عليه ، مع أنّ شهادته مردودة إجماعا.

قلت : ليس المراد ممّا ذكرنا عدم قابليّة العدالة والفسق لإناطة (٥) الحكم بهما وجودا وعدما تعبّدا ، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما ، بل

__________________

(١) كالمحقّق في الشرائع ٤ : ١٣٢ ، والشهيد في الدروس ٢ : ١٣٤ ، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٣١٠.

(٢) الرياض (الطبعة الحجرية) ٢ : ٤٤٦.

(٣) في (م) بدل عبارة «والظاهر أنّ ـ إلى ـ من عدم اعتبار» العبارة التالية : «ولعلّ لما ذكرنا ـ من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلّة قبول قول العادل ، على وجوب تصويبه في الاعتقاد ـ ذهب المعظم ، بل أطبقوا كما في الرياض على عدم اعتبار ...».

(٤) في (ر) : «بدعوى».

(٥) في (ظ) و (ل) بدل «لإناطة» : «لاشتراط».

١٨٣

المراد أنّ الآية المذكورة لا تدلّ إلاّ على مانعيّة الفسق من حيث قيام احتمال تعمّد الكذب معه ، فيكون مفهومها عدم المانع في العادل من هذه الجهة ، فلا يدلّ على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفي خطائه بأصالة عدم الخطأ المختصّة بالأخبار الحسيّة ، فالآية (١) لا تدلّ أيضا على اشتراط العدالة ومانعيّة الفسق في صورة العلم بعدم تعمّد (٢) الكذب ، بل لا بدّ له من دليل آخر ، فتأمّل (٣).

الإجماع في مصطلح الخاصّة والعامّة

الأمر الثاني : الإجماع في مصطلح الخاصّة والعامّة أنّ الإجماع في مصطلح الخاصّة ، بل العامّة ـ الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم ـ هو (٤) : اتّفاق جميع العلماء في عصر ؛ كما ينادي بذلك تعريفات كثير من (٥) الفريقين (٦).

قال في التهذيب : الإجماع هو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧).

وقال صاحب غاية البادئ (٨) ـ شارح المبادئ ، الذي هو أحد علمائنا

__________________

(١) في (ظ) و (ل) بدل «فالآية» : «و».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ص) : «تعمّده».

(٣) لم ترد في (ظ) ، (ل) و (م) : «فتأمّل».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «عبارة عن».

(٥) في (م) : «كثير من تعريفات».

(٦) انظر المستصفى للغزالي ١ : ١٧٣ ، والإحكام للآمدي ١ : ٢٥٤ ، وشرح مختصر الاصول ١ : ١٢٢ ، وستأتي الإشارة إلى كلمات الخاصّة.

(٧) تهذيب الوصول للعلاّمة الحلّي : ٦٥.

(٨) هو الشيخ محمّد بن علي بن محمّد الجرجاني الغروي ، تلميذ العلاّمة الحلّي.

انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٦ : ١٠.

١٨٤

المعاصرين للعلاّمة قدس‌سره ـ : الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام هو : اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه يشتمل على قول المعصوم (١) ، انتهى.

وقال في المعالم : الإجماع في الاصطلاح : اتّفاق خاصّ ، وهو اتّفاق من يعتبر قوله من الامّة (٢) ، انتهى.

وكذا غيرها من العبارات المصرّحة بذلك (٣) في تعريف الإجماع وغيره من المقامات ، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بانقراض عصره (٤).

وجه حجّية الإجماع عند الإماميّة

ثمّ إنّه لمّا كان وجه حجّية الإجماع عند الإماميّة اشتماله على قول الإمام عليه‌السلام ، كانت الحجّية دائرة مدار وجوده عليه‌السلام في كلّ جماعة هو أحدهم ؛ ولذا قال السيّد المرتضى :

إذا كان علّة كون الإجماع حجّة كون الإمام فيهم ، فكلّ جماعة ـ كثرت أو قلّت ـ كان قول الإمام في أقوالها ، فإجماعها حجّة ، وأنّ خلاف الواحد والاثنين إذا كان الإمام أحدهما ـ قطعا أو تجويزا ـ يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا ، وأنّ الإجماع بعد الخلاف

__________________

(١) غاية البادئ في شرح المبادئ (مخطوط) : الورقة ٧٣ ، وفيه : «اتّفاق جمع من أمّة محمّد».

(٢) المعالم : ١٧٢.

(٣) انظر المعارج : ١٢٥ ، والوافية : ١٥١.

(٤) انظر إيضاح الفوائد ٣ : ٣١٨ ، وحاشية الشرائع للمحقّق الثاني (مخطوط) : ٩٩ ، والجواهر ٢ : ١٠.

١٨٥

كالمبتدإ في الحجّية (١) ، انتهى.

وقال المحقّق في المعتبر ـ بعد إناطة حجّية الإجماع بدخول قول الإمام عليه‌السلام ـ : إنّه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجّة ، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة (٢) ، انتهى.

وقال العلاّمة رحمه‌الله ـ بعد قوله : إنّ الإجماع عندنا حجّة لاشتماله على قول المعصوم ـ : وكلّ جماعة قلّت أو كثرت كان قول الإمام عليه‌السلام في جملة أقوالها فإجماعها حجّة لأجله ، لا لأجل الإجماع (٣) ، انتهى.

هذا ، ولكن لا يلزم من كونه حجّة تسميته إجماعا في الاصطلاح ، كما أنّه ليس كلّ خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح.

وأمّا ما اشتهر بينهم : من أنّه لا يقدح خروج معلوم النسب واحدا أو أكثر ، فالمراد أنّه لا يقدح في حجّية اتّفاق الباقي ، لا في تسميته إجماعا ، كما علم من فرض المحقّق قدس‌سره الإمام عليه‌السلام في اثنين.

نعم ، ظاهر كلمات جماعة (٤) يوهم تسميته إجماعا (٥) ؛ حيث تراهم يدّعون الإجماع في مسألة ثمّ يعتذرون عن وجود المخالف بأنّه معلوم النسب.

__________________

(١) الذريعة ٢ : ٦٣٠ ، ٦٣٢ و ٦٣٥.

(٢) المعتبر ١ : ٣١.

(٣) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٤١.

(٤) مثل : الشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣٨٩ ، وصاحب الرياض في الرياض ٢ : ٣٤٦.

(٥) في (ر) زيادة : «اصطلاحا» ، وفي (ص) زيادة : «في الاصطلاح».

١٨٦

لكنّ التأمّل الصادق يشهد بأنّ الغرض الاعتذار عن قدح المخالف في الحجّية ، لا في التسمية.

المسامحة في إطلاق الإجماع

نعم ، يمكن أن يقال : إنّهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع على اتّفاق الجماعة التي علم دخول الإمام عليه‌السلام فيها ؛ لوجود مناط الحجّية فيه ، وكون وجود المخالف غير مؤثّر شيئا. وقد شاع هذا التسامح بحيث كاد أن (١) ينقلب اصطلاح الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة إلى ما يعمّ اتّفاق طائفة من الإماميّة ، كما يعرف من أدنى تتبّع لموارد الاستدلال.

بل إطلاق لفظ «الإجماع» بقول مطلق على إجماع الإماميّة فقط ـ مع أنّهم بعض الامّة لا كلّهم ـ ليس إلاّ لأجل المسامحة ؛ من جهة أنّ وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجّية.

وعلى أيّ تقدير : فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام عليه‌السلام في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمّن ، فيكون الإخبار عن الإجماع إخبارا عن قول الإمام عليه‌السلام ، وهذا هو الذي يدلّ عليه كلام المفيد (٢) والمرتضى (٣) وابن زهرة (٤) والمحقّق (٥) والعلاّمة (٦)

__________________

(١) لم ترد «أن» في (ه) ، وشطب عليها في (ت).

(٢) أوائل المقالات (مصنّفات الشيخ المفيد) ٤ : ١٢١.

(٣) الذريعة ٢ : ٦٠٥.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٧.

(٥) المعتبر ١ : ٣١ ، والمعارج : ١٣٢.

(٦) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٤١ ، وتهذيب الوصول : ٦٥ و ٧٠.

١٨٧

والشهيدين (١) ومن تأخّر عنهم (٢).

وأمّا اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام بقاعدة اللطف كما عن الشيخ رحمه‌الله (٣) ، أو التقرير كما عن بعض المتأخّرين (٤) ، أو بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الإمام عليه‌السلام ، فهذا ليس إجماعا اصطلاحيّا ، إلاّ أن ينضمّ قول الإمام عليه‌السلام ـ المكشوف عنه باتّفاق هؤلاء ـ إلى أقوالهم (٥) فيسمّى المجموع إجماعا ؛ بناء على ما تقدّم (٦) :

من المسامحة في تسمية اتّفاق جماعة مشتمل على قول الإمام عليه‌السلام إجماعا وإن خرج عنه الكثير أو الأكثر. فالدليل في الحقيقة هو اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام ، والمدلول الحكم الصادر عنه عليه‌السلام ، نظير كلام الإمام عليه‌السلام ومعناه.

فالنكتة في التعبير عن الدليل بالإجماع ـ مع توقّفه على ملاحظة انضمام مذهب الإمام عليه‌السلام الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه ، وتسمية المجموع دليلا ـ : هو التحفّظ على ما جرت عليه (٧) سيرة أهل الفنّ ، من

__________________

(١) الذكرى ١ : ٤٩ ، والقواعد والفوائد ١ : ٢١٧ ، وتمهيد القواعد : ٢٥١.

(٢) منهم : صاحب المعالم في المعالم : ١٧٣ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٥١.

(٣) العدّة ٢ : ٦٣١ و ٦٣٧.

(٤) هو المحقّق التستري في كشف القناع : ١٦٤.

(٥) في (م) : «قولهم».

(٦) راجع الصفحة السابقة.

(٧) لم ترد «عليه» في غير (ت) و (ه).

١٨٨

إرجاع كلّ دليل إلى أحد الأدلّة المعروفة بين الفريقين ، أعني الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ففي إطلاق الإجماع على هذا مسامحة في مسامحة.

مسامحة اخرى في إطلاق الإجماع

وحاصل المسامحتين : إطلاق الإجماع على اتّفاق طائفة يستحيل بحكم العادة خطأهم وعدم وصولهم إلى حكم الإمام عليه‌السلام.

والاطّلاع على تعريفات الفريقين واستدلالات الخاصّة وأكثر العامّة على حجّية الإجماع ، يوجب القطع بخروج هذا الإطلاق عن المصطلح وبنائه على المسامحة ؛ لتنزيل وجود من خرج عن هذا الاتّفاق منزلة عدمه ، كما قد عرفت من السيّد والفاضلين قدّست أسرارهم (١) : من أنّ كلّ جماعة ـ قلّت أو كثرت ـ علم دخول قول الإمام عليه‌السلام فيهم ، فإجماعها حجّة.

ويكفيك في هذا : ما سيجيء (٢) من المحقّق الثاني في تعليق الشرائع : من دعوى الإجماع على أنّ خروج الواحد من علماء العصر قادح في انعقاد الإجماع. مضافا إلى ما عرفت (٣) : من إطباق الفريقين على تعريف الإجماع باتّفاق الكلّ.

لا ضير في المسامحتين

ثمّ إنّ المسامحة من الجهة الاولى أو الثانية في إطلاق لفظ «الإجماع» على هذا من دون قرينة لا ضير فيها ؛ لأنّ العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدليل للمستدلّ (٤).

__________________

(١) راجع الصفحة ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) انظر الصفحة ١٩٦.

(٣) راجع الصفحة ١٨٤.

(٤) لم ترد «للمستدلّ» في (ه).

١٨٩

نعم ، لو كان نقل الإجماع المصطلح حجّة عند الكلّ (١) كان إخفاء القرينة في الكلام الذي هو المرجع للغير تدليسا ، أمّا لو لم يكن نقل الإجماع حجّة ، أو كان نقل مطلق الدليل القطعيّ حجّة ، لم يلزم تدليس أصلا.

كلام صاحب المعالم رحمه‌الله والمناقشة فيه

ويظهر من ذلك : ما في كلام صاحب المعالم رحمه‌الله ، حيث إنّه بعد ما (٢) ذكر أنّ حجّية الإجماع إنّما هي لاشتماله على قول المعصوم ، واستنهض بكلام المحقّق الذي تقدّم (٣) ، واستجوده ، قال :

والعجب من غفلة جمع من الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهيّة ، حتّى جعلوه عبارة عن اتّفاق جماعة من الأصحاب ، فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح من دون نصب قرينة جليّة ، ولا دليل لهم على الحجّية يعتدّ به (٤) ، انتهى.

وقد عرفت (٥) : أنّ مساهلتهم وتسامحهم في محلّه ؛ بعد ما كان مناط حجّية الإجماع الاصطلاحيّ موجودا في اتّفاق جماعة من الأصحاب. وعدم تعبيرهم عن هذا الاتّفاق بغير لفظ «الإجماع» ؛ لما عرفت (٦) من التحفّظ على عناوين الأدلّة المعروفة بين الفريقين.

__________________

(١) في (ص) و (ه) زيادة : «أو الأكثر».

(٢) لم ترد «ما» في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها في (ظ) : «أن».

(٣) أي كلام المحقّق في المعتبر المتقدّم في الصفحة ١٨٦.

(٤) المعالم : ١٧٤.

(٥) راجع الصفحة السابقة.

(٦) راجع الصفحة ١٨٨.

١٩٠

إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول :

أنحاء حكاية الإجماع

إنّ الحاكي للاتّفاق قد ينقل الإجماع بقول مطلق ، أو مضافا إلى المسلمين ، أو الشيعة ، أو أهل الحقّ ، أو غير ذلك ممّا يمكن أن يراد به دخول الإمام عليه‌السلام في المجمعين.

وقد ينقله مضافا إلى من عدا الإمام عليه‌السلام ، كقوله : أجمع علماؤنا أو أصحابنا أو فقهاؤنا أو فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام ؛ فإنّ ظاهر ذلك من عدا الإمام عليه‌السلام ، وإن كان إرادة العموم محتملة بمقتضى المعنى اللغويّ ، لكنّه مرجوح.

فإن أضاف الإجماع إلى من عدا الإمام عليه‌السلام فلا إشكال في عدم حجّية نقله ؛ لأنّه لم ينقل حجّة ، وإن فرض حصول العلم للناقل بصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام من جهة هذا الاتّفاق ، إلاّ أنّه إنّما نقل سبب العلم ، ولم ينقل المعلوم وهو قول الإمام عليه‌السلام حتّى يدخل في نقل الحجّة وحكاية السنّة بخبر الواحد.

نعم ، لو فرض أنّ السبب المنقول ممّا يستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه‌السلام أو وجود دليل ظنّيّ معتبر حتّى بالنسبة إلينا ، أمكن إثبات ذلك السبب المحسوس بخبر العادل ، والانتقال منه إلى لازمه ، لكن سيجيء بيان الإشكال في تحقّق ذلك (١).

وفي حكم الإجماع المضاف إلى من عدا الإمام عليه‌السلام : الإجماع المطلق المذكور في مقابل الخلاف ، كما يقال : خرء الحيوان الغير المأكول غير الطير نجس إجماعا ، وإنّما اختلفوا في خرء الطير ، أو يقال : إنّ محلّ

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٠٢ و ٢١٧.

١٩١

الخلاف هو كذا ، وأمّا كذا فحكمه كذا إجماعا ؛ فإنّ معناه في مثل هذا كونه قولا واحدا.

وأضعف ممّا ذكر : نقل عدم الخلاف ، وأنّه ظاهر الأصحاب ، أو قضيّة المذهب ، وشبه ذلك.

مستند العلم بقول الإمام عليه‌السلام أحد امور

وإن أطلق الإجماع أو أضافه على وجه يظهر منه إرادة المعنى المصطلح المتقدّم (١) ـ ولو مسامحة ؛ لتنزيل وجود المخالف منزلة العدم ؛ لعدم قدحه في الحجّية ـ فظاهر الحكاية كونها حكاية للسنّة ، أعني حكم الإمام عليه‌السلام ؛ لما عرفت (٢) : من أنّ الإجماع الاصطلاحيّ متضمّن لقول الإمام عليه‌السلام فيدخل في الخبر والحديث ، إلاّ أنّ مستند علم الحاكي بقول الإمام عليه‌السلام أحد امور :

١ ـ الحسّ

أحدها : الحسّ ، كما إذا سمع الحكم من الإمام عليه‌السلام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم فيحصل له العلم بقول الإمام عليه‌السلام.

وهذا في غاية القلّة ، بل نعلم جزما أنّه لم يتّفق لأحد من هؤلاء الحاكين للإجماع ، كالشيخين والسيّدين وغيرهما ؛ ولذا صرّح الشيخ في العدّة ـ في مقام الردّ على السيّد حيث أنكر الإجماع من باب وجوب اللطف ـ : بأنّه لو لا قاعدة اللطف لم يمكن التوصّل إلى معرفة موافقة الإمام للمجمعين (٣).

٢ ـ قاعدة اللطف

الثاني : قاعدة اللطف ، على ما ذكره الشيخ في العدّة (٤) وحكي

__________________

(١) في الصفحة ١٨٤.

(٢) راجع الصفحة ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٣) العدّة ٢ : ٦٣١.

(٤) العدّة ٢ : ٦٣١ و ٦٣٧.

١٩٢

القول به عن غيره من المتقدّمين (١).

عدم صحّة الاستناد إلى اللطف

ولا يخفى أنّ الاستناد إليه غير صحيح على ما ذكر في محلّه (٢) ، فإذا علم استناد الحاكي إليه فلا وجه للاعتماد على حكايته ، والمفروض أنّ إجماعات الشيخ كلّها مستندة إلى هذه القاعدة ؛ لما عرفت من كلامه المتقدّم من العدّة ، وستعرف منها ومن غيرها من كتبه (٣).

عدم صحّة دعوى مشاركة الشيخ للسيّد في طريقة استكشاف قول الإمام عليه السلام

فدعوى مشاركته للسيّد قدس‌سره في استكشاف قول الإمام عليه‌السلام من تتبّع أقوال الامّة واختصاصه بطريق آخر مبنيّ على قاعدة «وجوب (٤) اللطف» ، غير ثابتة وإن ادّعاها بعض (٥) ؛ فإنّه قدس‌سره قال في العدّة ـ في حكم ما إذا اختلفت الإماميّة على قولين يكون أحد القولين قول الإمام عليه‌السلام على وجه لا يعرف بنفسه ، والباقون كلّهم على خلافه ـ :

كلام الشيخ في العدّة ردّا على طريقة السيّد المرتضي

إنّه متى اتّفق ذلك ، فإن كان على القول الذي انفرد به الإمام عليه‌السلام دليل من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة على ذلك ؛ لأنّ الموجود من الدليل كاف في إزاحة التكليف ، ومتى لم يكن عليه دليل وجب عليه الظهور ، أو إظهار من يبيّن الحقّ في تلك المسألة ـ إلى أن قال ـ :

__________________

(١) حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول عن جماعة ، منهم الحلبي في ظاهر الكافي ، انظر مفاتيح الاصول : ٤٩٦ ، والكافي : ٥٠٧ ـ ٥١٠.

(٢) انظر القوانين ١ : ٣٥٣ ، والفصول : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٣) انظر الصفحة الآتية.

(٤) كذا في (ص) ، (ظ) و (م) ، وفي غيرها : «وجوب قاعدة».

(٥) هو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٣٥٠.

١٩٣

وذكر المرتضى عليّ بن الحسين الموسويّ أخيرا : أنّه يجوز أن يكون الحقّ عند الإمام عليه‌السلام والأقوال الأخر كلّها باطلة ، ولا يجب عليه الظهور ؛ لأنّا إذا كنّا نحن السبب في استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبما (١) معه من الأحكام يكون (٢) قد فاتنا من قبل أنفسنا ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الذي كان عنده.

قال : وهذا عندي غير صحيح ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن لا يصحّ الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا ؛ لأنّا لا نعلم دخول الإمام عليه‌السلام فيها إلاّ بالاعتبار الذي بيّنّاه ، ومتى جوّزنا انفراده بالقول وأنّه لا يجب ظهوره ، منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع (٣) ، انتهى كلامه.

وذكر في موضع آخر من العدّة : أنّ هذه الطريقة ـ يعني طريقة السيّد المتقدّمة ـ غير مرضيّة عندي ؛ لأنّها تؤدّي إلى أن لا يستدلّ بإجماع الطائفة أصلا ؛ لجواز أن يكون قول الإمام عليه‌السلام مخالفا لها ومع ذلك لا يجب عليه إظهار ما عنده (٤) ، انتهى.

وأصرح من ذلك في انحصار طريق الإجماع عند الشيخ فيما ذكره من قاعدة اللطف : ما حكي عن بعض (٥) أنّه حكاه عن كتاب التمهيد للشيخ :

__________________

(١) في غير (ل) و (م) زيادة : «يكون».

(٢) لم ترد «يكون» في (ر) ، (ص) و (ه).

(٣) العدّة ٢ : ٦٣١.

(٤) العدّة ٢ : ٦٣٧.

(٥) حكاه المحقّق التستري عن الشيخ الحمصي في التعليق العراقي ، راجع كشف القناع : ١١٨.

١٩٤

أنّ سيّدنا المرتضى قدس‌سره كان يذكر كثيرا : أنّه لا يمتنع أن يكون هنا امور كثيرة غير واصلة إلينا علمها مودع عند الإمام عليه‌السلام وإن كتمها الناقلون ، ولا يلزم مع ذلك سقوط التكليف عن الخلق ... إلى أن قال :

وقد اعترضنا على هذا في كتاب العدّة في اصول الفقه ، وقلنا : هذا الجواب صحيح لو لا ما نستدلّ في أكثر الأحكام على صحّته بإجماع الفرقة ، فمتى جوّزنا أن يكون قول الإمام عليه‌السلام خلافا لقولهم ولا يجب ظهوره ، جاز لقائل أن يقول : ما أنكرتم أن يكون قول الإمام عليه‌السلام خارجا عن قول من تظاهر بالإمامة ومع هذا لا يجب عليه الظهور ؛ لأنّهم أتوا من قبل أنفسهم ، فلا يمكننا الاحتجاج بإجماعهم أصلا (١) ، انتهى.

فإنّ صريح هذا الكلام أنّ القادح في طريقة السيّد منحصر في استلزامها رفع التمسّك بالإجماع ، ولا قادح فيها سوى ذلك ؛ ولذا صرّح في كتاب الغيبة بأنّها قويّة تقتضيها الاصول (٢) ، فلو كان لمعرفة الإجماع وجواز الاستدلال به طريق آخر غير قاعدة وجوب إظهار الحقّ عليه ، لم يبق ما يقدح في طريقة السيّد ؛ لاعتراف الشيخ بصحّتها لو لا كونها مانعة عن الاستدلال بالإجماع.

__________________

(١) تمهيد الاصول (مخطوط) ، لا يوجد لدينا ، وهو شرح على «جمل العلم والعمل» للسيّد المرتضى ، يوجد منه نسخة في الخزانة الرضويّة ، كما في الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٤ : ٤٣٣ ، وانظر العدّة ٢ : ٦٣١.

(٢) كتاب الغيبة : ٩٧.

١٩٥

ظهور الاستناد إلى قاعدة اللطف من كلام جماعة

ثمّ إنّ الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كلّ من اشترط في تحقّق الإجماع عدم مخالفة أحد من علماء العصر ، كفخر الدين والشهيد والمحقّق الثاني.

كلام فخر الدين في الإبضاح

قال في الإيضاح في مسألة ما يدخل في المبيع : إنّ من عادة المجتهد أنّه إذا تغيّر اجتهاده إلى التردّد أو الحكم بخلاف ما اختاره أوّلا ، لم يبطل ذكر الحكم الأوّل ، بل يذكر ما أدّاه إليه اجتهاده ثانيا في موضع آخر ؛ لبيان عدم انعقاد إجماع أهل عصر الاجتهاد الأوّل على خلافه ، وعدم انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على كلّ واحد منهما ، وأنّه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطل للأوّل ، بل معارض لدليله مساو له (١) ، انتهى.

وقد أكثر في الإيضاح من عدم الاعتبار بالخلاف ؛ لانقراض عصر المخالف (٢) ، وظاهره الانطباق على هذه الطريقة ، كما لا يخفى.

وقال في الذكرى : ظاهر العلماء المنع عن العمل بقول الميّت ؛ محتجّين بأنّه لا قول للميّت ؛ ولهذا ينعقد الإجماع على خلافه ميّتا (٣).

واستدلّ المحقّق الثاني في حاشية الشرائع على أنّه لا قول للميّت : بالإجماع على أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع ؛ اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد وصار قوله غير منظور إليه ، ولا يعتدّ به (٤) ، انتهى.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٥٠٢.

(٢) انظر ايضاح الفوائد ٣ : ٣١٨.

(٣) الذكرى ١ : ٤٤.

(٤) حاشية الشرائع (مخطوط) : ٩٩.

١٩٦

كلام المحقّق الداماد قدس سره

وحكي عن بعض : أنّه حكى عن المحقّق الداماد ، أنّه قدس‌سره قال في بعض كلام له في تفسير «النعمة الباطنة» (١) : إنّ من فوائد الإمام عجّل الله فرجه أن يكون مستندا لحجّية إجماع أهل الحلّ والعقد من العلماء على حكم من الأحكام ـ إجماعا بسيطا في أحكامهم الإجماعيّة ، وحجّية إجماعهم المركّب في أحكامهم الخلافيّة ـ فإنّه عجّل الله فرجه لا ينفرد بقول ، بل من الرحمة الواجبة في الحكمة الإلهيّة أن يكون في المجتهدين المختلفين في المسألة المختلف فيها من علماء العصر من يوافق رأيه رأي إمام عصره وصاحب أمره ، ويطابق قوله قوله وإن لم يكن ممّن نعلمه بعينه ونعرفه بخصوصه (٢) ، انتهى.

وكأنّه لأجل مراعاة هذه الطريقة التجأ الشهيد في الذكرى (٣) إلى توجيه الإجماعات التي ادّعاها جماعة في المسائل الخلافيّة مع وجود المخالف فيها : بإرادة غير المعنى الاصطلاحيّ من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم (٤) ، ولو جامع الإجماع وجود الخلاف ـ ولو من معلوم النسب ـ لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة ، مع بعدها أو أكثرها.

٣ ـ الحدس

الثالث من طرق انكشاف قول الإمام عليه‌السلام لمدّعي الإجماع : الحدس ، وهذا على وجهين :

أحدهما : أن يحصل له ذلك من طريق لو علمنا به ما خطّأناه في

__________________

(١) الواردة في قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) لقمان : ٢٠.

(٢) الحاكي عن البعض هو المحقّق التستري في كشف القناع : ١٤٥.

(٣) الذكرى ١ : ٥١.

(٤) المعالم : ١٧٤.

١٩٧

استكشافه ، وهذا على وجهين :

أحدهما : أن يحصل (١) الحدس الضروريّ من مبادئ محسوسة بحيث يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحسّ ، فيكون بحيث لو حصل لنا تلك الأخبار لحصل (٢) لنا العلم كما حصل له.

ثانيهما : أن يحصل الحدس له من إخبار جماعة اتّفق له العلم بعدم اجتماعهم على الخطأ ، لكن ليس إخبارهم ملزوما عادة للمطابقة لقول الإمام عليه‌السلام بحيث لو حصل لنا علمنا بالمطابقة أيضا.

الثاني : أن يحصل ذلك من مقدّمات نظريّة واجتهادات كثيرة الخطأ ، بل علمنا بخطإ بعضها في موارد كثيرة من نقلة الإجماع ؛ علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم في موارد ، واستظهرنا ذلك منهم في موارد أخر ، وسيجيء جملة منها (٣).

لا يصلح للاستناد إلاّ الحدس

إذا عرفت أنّ مستند خبر المخبر بالإجماع المتضمّن للإخبار من الإمام عليه‌السلام لا يخلو من الامور الثلاثة المتقدّمة ، وهي : السماع عن الإمام عليه‌السلام مع عدم معرفته بعينه ، واستكشاف قوله من قاعدة «اللطف» ، وحصول العلم من «الحدس» ، وظهر لك أنّ الأوّل هنا غير متحقّق عادة لأحد من علمائنا المدّعين للإجماع ، وأنّ الثاني ليس طريقا للعلم ، فلا يسمع دعوى من استند إليه ؛ فلم يبق ممّا يصلح أن يكون المستند

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «له».

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «يحصل».

(٣) انظر الصفحة ٢٠٤ ـ ٢٠٨.

١٩٨

في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها : إلاّ «الحدس» (١).

وعرفت أنّ الحدس قد يستند إلى مبادئ محسوسة ملزومة عادة لمطابقة قول الإمام عليه‌السلام ، نظير العلم الحاصل من الحواسّ الظاهرة ، ونظير الحدس الحاصل لمن أخبر بالعدالة والشجاعة لمشاهدته آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال إليهما بحكم العادة ، أو إلى مبادئ محسوسة موجبة لعلم المدّعي بمطابقة قول الإمام عليه‌السلام من دون ملازمة عاديّة ، وقد يستند إلى اجتهادات وأنظار.

وحيث لا دليل على قبول خبر العادل المستند إلى القسم الأخير من الحدس ، بل ولا المستند إلى الوجه الثاني ، ولم يكن هناك ما يعلم به كون الإخبار مستندا إلى القسم الأوّل من الحدس ؛ وجب التوقّف في العمل بنقل الإجماع ، كسائر الأخبار المعلوم استنادها إلى الحدس المردّد بين الوجوه المذكورة.

فإن قلت : ظاهر لفظ «الإجماع» اتّفاق الكلّ ، فإذا أخبر الشخص بالإجماع فقد أخبر باتّفاق الكلّ ، ومن المعلوم أنّ حصول العلم بالحكم من اتّفاق الكلّ كالضروريّ ؛ فحدس المخبر مستند إلى مباد محسوسة ملزومة لمطابقة قول الإمام عليه‌السلام عادة ؛ فإمّا أن يجعل الحجّة نفس ما استفاده من الاتّفاق نظير الإخبار بالعدالة ، وإمّا أن يجعل الحجّة إخباره بنفس الاتّفاق المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام ، ويكون نفس المخبر به حينئذ محسوسا ، نظير إخبار الشخص بامور تستلزم العدالة

__________________

(١) العبارة في (ظ) ، (ل) و (م) هكذا : «فلا يسمع دعوى من استند إليه ، تعيّن كون المستند في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها هو الحدس».

١٩٩

أو (١) الشجاعة عادة.

وقد أشار إلى الوجهين بعض السادة الأجلّة (٢) في شرحه على الوافية ؛ فإنّه قدس‌سره لمّا اعترض على نفسه : بأنّ المعتبر من الأخبار ما استند إلى إحدى الحواسّ ، والمخبر بالإجماع إنّما رجع إلى بذل الجهد ، ومجرّد الشكّ في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه ، أجاب عن ذلك :

بأنّ المخبر هنا ـ أيضا ـ يرجع إلى السمع فيما يخبر عن العلماء وإن جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر ، كوجوب اللطف وغيره.

ثمّ أورد : بأنّ المدار في حجّية الإجماع على مقالة المعصوم عليه‌السلام ، فالإخبار إنّما هو بها ، ولا يرجع إلى سمع.

فأجاب عن ذلك :

أوّلا : بأنّ مدار الحجّية وإن كان ذلك ، لكن استلزام اتّفاق كلمة العلماء لمقالة المعصوم عليه‌السلام معلوم لكلّ أحد لا يحتاج فيه إلى النقل ، وإنّما الغرض من النقل ثبوت الاتّفاق ، فبعد اعتبار خبر الناقل ـ لوثاقته ورجوعه في حكاية الاتّفاق إلى الحسّ ـ كان الاتّفاق معلوما ، ومتى ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم ؛ للملازمة المعلومة.

وثانيا : أنّ الرجوع في حكاية الإجماع إلى نقل مقالة المعصوم عليه‌السلام لرجوع الناقل في ذلك إلى الحسّ ؛ باعتبار أنّ الاتّفاق من آثارها ، ولا كلام في اعتبار مثل ذلك ، كما في الإخبار بالإيمان والفسق

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) بدل «أو» : «و».

(٢) هو السيّد المحقّق الكاظمي المعروف بالسيّد الأعرجي.

٢٠٠