فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

وأمّا تخيير قاضي الفريضة المنسيّة من (١) الخمس في ثلاثيّة ورباعيّة وثنائيّة ؛ فإنّما هو بعد ورود النصّ بالاكتفاء (٢) بالثلاث (٣) ، المستلزم لإلغاء الجهر والإخفات بالنسبة إليه ، فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا.

معاملة الغير معها

وأمّا معاملة الغير معها ، فقد يقال بجواز نظر كلّ من الرجل والمرأة إليها ؛ لكونها شبهة في الموضوع ، والأصل الإباحة (٤).

وفيه : أنّ عموم وجوب الغضّ على المؤمنات إلاّ عن نسائهنّ أو الرجال المذكورين في الآية (٥) ، يدلّ على وجوب الغضّ عن الخنثى ؛ ولذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين إليها ، كتحريم نظرها إليهما (٦) ، بل ادّعى سبطه الاتّفاق على ذلك (٧) ، فتأمّل جدّا (٨).

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا إنّما هو في غير النكاح. وأمّا التناكح ، فيحرم بينه وبين غيره قطعا ، فلا يجوز له تزويج امرأة ؛ لأصالة عدم ذكوريّته ـ بمعنى عدم ترتّب أثر الذكوريّة من جهة النكاح ووجوب

__________________

(١) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «عن».

(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «في الاكتفاء».

(٣) انظر الوسائل ٥ : ٣٦٤ ، الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات.

(٤) انظر الفصول : ٣٦٣.

(٥) النور : ٣١.

(٦) جامع المقاصد ١٢ : ٤٢.

(٧) هو المحقّق الداماد في رسالة ضوابط الرضاع (كلمات المحقّقين) : ٤٥.

(٨) لم ترد عبارة «ولذا ـ إلى ـ فتأمّل جدّا» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ولم ترد : «فتأمّل جدّا» في (ت).

١٠١

حفظ الفرج إلاّ عن الزوجة وملك اليمين (١) ـ ولا التزوّج (٢) برجل ؛ لأصالة عدم كونه امرأة ، كما صرّح به الشهيد (٣) ، لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا أو زوجة (٤) ، فافهم (٥).

هذا تمام الكلام في اعتبار العلم.

__________________

(١) لم ترد عبارة «بمعنى ـ إلى ـ اليمين» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ص) و (م) : «التزويج».

(٣) الدروس ٢ : ٣٨٠.

(٤) المبسوط ٤ : ١١٧.

(٥) لم ترد عبارة «كما صرّح ـ إلى ـ فافهم» في (ظ) ، (ل) و (م).

١٠٢

المقصد الثّاني

في الظّنّ

١٠٣
١٠٤

المقصد الثاني

في الظنّ

والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : في إمكان التعبّد به عقلا ، والثاني : في وقوعه عقلا أو شرعا.

أمّا الأوّل (١)

ففي إمكان التعبّد بالظنّ وعدمه

فاعلم : أنّ المعروف هو إمكانه ، ويظهر من الدليل المحكيّ (٢) عن ابن قبة (٣) ـ في استحالة العمل بخبر الواحد ـ : عموم المنع لمطلق الظنّ ؛ فإنّه استدلّ على مذهبه بوجهين :

أدلّة ابن قبة على الامتناع

الأوّل : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعا.

والثاني : أنّ العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ؛

__________________

(١) سيأتي الكلام في المقام الثاني في الصفحة ١٢٥.

(٢) حكاه المحقّق في المعارج : ١٤١.

(٣) هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي ، من متكلّمي الإماميّة ، وكان معتزليّا ، ثمّ تبصّر ، انظر رجال النجاشي : ٣٧٥.

١٠٥

إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيته حراما وبالعكس.

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ جار في مطلق الظنّ ، بل في مطلق الأمارة الغير العلميّة وإن لم يفد الظنّ.

استدلال المشهور على الإمكان

واستدلّ المشهور على الإمكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال (١).

وفي هذا التقرير نظر ؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل (٢) بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه (٣) بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

الأولى في وجه الاستدلال

فالأولى أن يقرّر هكذا : إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

المناقشة في أدلّة ابن قبة

والجواب عن دليله الأوّل : أنّ الإجماع إنّما قام على عدم الوقوع ، لا على الامتناع.

مع أنّ عدم الجواز قياسا على الإخبار عن الله تعالى ـ بعد تسليمه (٤) ـ إنّما (٥) هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة اصولا و (٦) فروعا على

__________________

(١) انظر العدّة ١ : ١٠٣.

(٢) كذا في (ر) و (ص) ، وفي غيرهما : «العقول».

(٣) في (ت) و (ه) : «علمها».

(٤) في (ر) و (ص) : «بعد تسليم صحّة الملازمة».

(٥) وردت في (ظ) ، (ل) و (م) بدل عبارة : «مع أنّ ـ إلى ـ إنّما» : «مع أنّ الإجماع على عدم الجواز إنّما».

(٦) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «أو».

١٠٦

العمل بخبر الواحد (١) ، لا مثل (٢) ما نحن فيه ممّا ثبت أصل الدين وجميع فروعه بالأدلّة القطعيّة ، لكن عرض اختفاؤها (٣) من جهة العوارض و (٤) إخفاء الظالمين للحقّ.

وأمّا دليله الثاني ، فقد اجيب عنه (٥) :

تارة : بالنقض بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم ، كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع أيضا ؛ لأنّه قد يكون جهلا مركّبا.

واخرى : بالحلّ ، بأنّه إن اريد تحريم الحلال الظاهري أو عكسه فلا نسلّم لزومه ، وإن اريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلّم امتناعه.

الأولى في الجواب عن دليله الثاني

والأولى أن يقال : إنّه إن أراد امتناع التعبّد (٦) بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها باب العلم بالواقع ، فلا يعقل المنع عن العمل به ، فضلا عن امتناعه ؛ إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع إمّا أن يكون للمكلّف حكم في تلك الواقعة ، وإمّا أن لا يكون له فيها حكم ، كالبهائم والمجانين.

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «عن الله سبحانه» ، وفي (ه) زيادة : «عن الله».

(٢) في (ت) و (ه) بدل «مثل» : «في».

(٣) في (ص) و (ل) زيادة : «في الجملة».

(٤) لم ترد «العوارض و» في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم وردت في نسخة بدل (ت).

(٥) انظر الفصول : ٢٧١.

(٦) في (ظ) و (م) : «امتناع العمل».

١٠٧

فعلى الأوّل ، فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم من الاصول أو الأمارات الظنيّة التي منها خبر (١) الواحد.

وعلى الثاني ، يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي وترك الواجب الواقعي ، وقد فرّ المستدلّ منهما.

فإن التزم أنّ مع عدم التمكّن من العلم لا وجوب ولا تحريم ؛ لأنّ الواجب والحرام ما علم بطلب فعله أو تركه.

قلنا : فلا يلزم من التعبّد بالخبر تحليل حرام أو عكسه.

وكيف كان : فلا نظنّ بالمستدلّ إرادة الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهر أنّه يدّعي الانفتاح ؛ لأنّه أسبق من السيّد وأتباعه الذين ادّعوا انفتاح باب العلم.

وممّا ذكرنا ظهر : أنّه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى ؛ لأنّ المفروض انسداد باب العلم على المستفتي ، وليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي ، حتّى أنّه لو تمكّن من الظنّ الاجتهادي فالأكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير (٢).

وكذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركّبا ؛ فإنّ باب هذا الاحتمال منسدّ على القاطع.

وإن أراد الامتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر ، فنقول :

التعبّد بالخبر على وجهين : الطريقيّة والسببيّة

إنّ التعبّد بالخبر حينئذ يتصوّر على وجهين :

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «الخبر».

(٢) لم ترد «حتّى أنّه ـ إلى ـ بفتوى الغير» في (ظ) ، (ل) و (م).

١٠٨

أحدهما (١) : أن يجب العمل به لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا ظنيّا عنه ، بحيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى الكشف عن الواقع ، كما قد يتّفق ذلك حين انسداد باب العلم وتعلّق الغرض بإصابة الواقع ؛ فإنّ الأمر بالعمل بالظنّ الخبري او غيره لا يحتاج إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنيّا عن الواقع.

الثاني : أن يجب العمل به لأجل أنّه يحدث فيه ـ بسبب قيام تلك الأمارة ـ مصلحة راجحة على المصلحة الواقعيّة التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع ، كأن يحدث في صلاة الجمعة ـ بسبب إخبار العادل بوجوبها ـ مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا.

عدم الامتناع بناء على الطريقيّة

أمّا إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأوّل ، فهو وإن كان في نفسه قبيحا مع فرض انفتاح باب العلم ـ لما ذكره المستدلّ من تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقة للواقع في نظر الشارع من الأدلّة القطعيّة التي يستعملها المكلّف للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيّين ، أو يكونا متساويين في نظره من حيث الإيصال إلى الواقع.

إلاّ أن يقال : إنّ هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلى الواقع ؛ إذ ليس المراد انسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلا مركّبا ، كما تقدّم سابقا (٢).

__________________

(١) في (ظ) ونسخة بدل (ص) : «الأوّل».

(٢) في الصفحة السابقة.

١٠٩

فالأولى : الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن من الواقع.

عدم الامتناع بناء على السببيّة

وأمّا وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني ، فلا قبح فيه أصلا ، كما لا يخفى.

قال في النهاية في هذا المقام ـ تبعا للشيخ قدس‌سره في العدّة ـ : إنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة (١) ، انتهى موضع الحاجة.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يوجب التصويب ؛ لأنّ المفروض على هذا أنّ في صلاة الجمعة التي اخبر بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة الواقعيّة ، فالمفسدة الواقعيّة سليمة عن المعارض الراجح بشرط عدم إخبار العادل بوجوبها ، وبعد الإخبار يضمحلّ المفسدة ؛ لعروض المصلحة الراجحة ، فلو ثبت مع هذا الوصف تحريم ثبت بغير مفسدة توجبه ؛ لأنّ الشرط في إيجاب المفسدة له خلوّها عن معارضة المصلحة الراجحة ، فيكون إطلاق الحرام الواقعيّ حينئذ بمعنى أنّه حرام لو لا الإخبار ، لا أنّه حرام بالفعل ومبغوض واقعا ، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة عند الشارع ليس إلاّ المحبوبيّة والوجوب ، فلا يصحّ إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليها.

ولو فرض صحّته فلا يوجب ثبوت حكم شرعيّ مغاير للحكم المسبّب عن المصلحة الراجحة.

__________________

(١) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٠ ، والعدّة ١ : ١٠٣.

١١٠

والتصويب وإن لم ينحصر في هذا المعنى ، إلاّ أنّ الظاهر بطلانه أيضا ؛ كما اعترف به العلاّمة في النهاية في مسألة التصويب (١) ، وأجاب به صاحب المعالم ـ في تعريف الفقه (٢) ـ عن قول العلاّمة : بأنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم.

قلت : لو سلّم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه وأغمضنا النظر (٣) عمّا سيجيء من عدم كون ذلك تصويبا (٤) ، كان الجواب به عن ابن قبة من جهة أنّه أمر ممكن غير مستحيل ، وإن لم يكن واقعا لإجماع أو غيره ، وهذا المقدار يكفي في ردّه.

إلاّ أن يقال : إنّ كلامه قدس‌سره بعد الفراغ عن بطلان التصويب ، كما هو ظاهر استدلاله : من تحليل الحرام الواقعي (٥).

__________________

(١) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٣٩.

(٢) المعالم : ٢٧.

(٣) لم ترد «النظر» في (ت) ، (ر) و (ل).

(٤) انظر الصفحة ١٢١.

(٥) لم ترد «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ الواقعي» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ولم ترد «من تحليل الحرام الواقعي» في (ر) و (ص).

١١١

[التعبّد بالأمارات غير العلميّة](١)

التعبّد بالأمارات غير العلميّة على وجهين :

وحيث انجرّ الكلام إلى التعبّد بالأمارات الغير العلميّة ، فنقول في توضيح هذا المرام وإن كان خارجا عن محلّ الكلام : إنّ ذلك يتصوّر على وجهين :

١ ـ مسلك الطريقيّة

الأوّل : أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع ، فلا يلاحظ في التعبّد بها إلاّ الإيصال إلى الواقع ، فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ، كما لو أمر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد بسؤال الأعراب عن الطريق ، غير ملاحظ في ذلك إلاّ كون قول الأعراب موصلا إلى الواقع دائما أو غالبا ، والأمر بالعمل (٢) في هذا القسم ليس إلاّ للإرشاد.

٢ ـ مسلك السببيّة

الثاني : أن يكون ذلك لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل (٣) وإن خالف الواقع ، فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق التي هي مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها.

وجوه الطريقيّة

أمّا القسم الأوّل ، فالوجه فيه لا يخلو من امور :

أحدها : كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارة (٤) للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلّف.

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) لم ترد «بالعمل» في (ظ) و (م).

(٣) في (ص) و (ه) زيادة : «بها».

(٤) كذا في (ظ) ، (م) و (ه) ، وفي غيرها : «الأمارات».

١١٢

الثاني : كونها في نظر الشارع غالب المطابقة.

الثالث : كونها في نظره أغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع ؛ لكون أكثرها في نظر الشارع جهلا مركّبا.

والوجه الأوّل والثالث يوجبان الأمر بسلوك الأمارة ولو مع تمكّن المكلّف من الأسباب المفيدة للقطع. والثاني لا يصحّ إلاّ مع تعذّر باب العلم ؛ لأنّ تفويت الواقع على المكلّف ـ ولو في النادر ـ من دون تداركه بشيء ، قبيح.

وجوه السببيّة

وأمّا القسم الثاني ، فهو على وجوه :

يكون الحكم مطلقا تابعا الأمارة

أحدها : أن يكون الحكم ـ مطلقا (١) ـ تابعا لتلك الأمارة ، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل ـ مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة وعدمها ـ حكم ، فتكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل ـ مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين ـ لا حكم له أو محكوم بما يعلم الله أنّ الأمارة تؤدّي إليه ، وهذا تصويب باطل عند أهل الصواب من التخطئة (٢) ، وقد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبار والآثار (٣).

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) بدل «مطلقا» : «من أصله» ، وشطب في (ص) على «من أصله».

(٢) في (ه) : «المخطئة».

(٣) انظر الفصول : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، وراجع الكافي ١ : ٤٠ ، باب سؤال العالم وتذاكره ، والصفحة ٥٨ ، الحديث ١٩ ، والصفحة ٥٩ ، الحديث ٢ ، والصفحة ١٩٩ ، الحديث الأوّل ، والبحار ١ : ١٧٨ ، الحديث ٥٨.

١١٣

يكون الحكم الفعلي تابعا الأمارة

الثاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة ، بمعنى : أنّ لله في كلّ واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الأمارة على خلافه ، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعليّة ذلك الحكم ؛ لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبة على مصلحة الواقع ، فالحكم الواقعيّ فعليّ في حقّ غير الظانّ بخلافه ، وشأنيّ في حقّه ، بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لو لا الظنّ على خلافه.

وهذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعيّ للظانّ بخلافه ؛ لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اخرى لا تصير منشأ للحكم (١) ، فلا يقال للكذب النافع : إنّه قبيح واقعا.

الفرق بين هذين الوجهين

والفرق بينه وبين الوجه الأوّل ـ بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي (٢) للظانّ بخلافه ـ : أنّ العامل بالأمارة المطابقة حكمه حكم العالم ، ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم ، نعم كان ظنّه مانعا عن المانع ، وهو الظنّ بالخلاف.

الثالث : المصلحة السلوكيّة

الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة ، إلاّ أنّ العمل (٣)

__________________

(١) في (ص) ، (ل) و (ه) : «الحكم» ، وفي (ظ) و (م) : «لحكم».

(٢) في (ظ) و (م) : «حكم واقعي».

(٣) في (ص) والنسخة الموجودة عند المحقّق الهمداني قدس‌سره ـ على ما هو ظاهر تعليقته على الرسائل ـ : «الأمر بالعمل» ، انظر حاشية الهمداني : ٣٣.

وللمحقّق النائيني قدس‌سره هنا تنبيه ينفعنا في المقام ، فقد جاء في فوائد الاصول : «تنبيه : نقل شيخنا الاستاذ (مدّ ظلّه) : أنّ العبارة التي صدرت من الشيخ

١١٤

على طبق تلك الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنّه هو الواقع وترتيب (١) الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه واقعا ، يشتمل على مصلحة ، فأوجبه الشارع.

ومعنى إيجاب العمل على الأمارة : وجوب تطبيق العمل عليها ، لا وجوب إيجاد عمل على طبقها ؛ إذ قد لا تتضمّن الأمارة إلزاما على المكلّف ، فإذا تضمّنت استحباب شيء أو وجوبه تخييرا أو إباحته (٢) ، وجب عليه إذا أراد الفعل أن يوقعه على وجه الاستحباب أو الإباحة ، بمعنى حرمة قصد غيرهما ، كما لو قطع بهما (٣).

وتلك المصلحة لا بدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لو كان الأمر بالعمل به مع التمكّن من العلم (٤) ؛ وإلاّ كان تفويتا لمصلحة الواقع ، وهو قبيح ، كما عرفت في كلام ابن قبة (٥).

فإن قلت : ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في

__________________

في الوجه الثالث كانت هكذا : ...» ثمّ قال ـ بعد نقل العبارة كما أوردناه في المتن ـ : «ولم يكن في أصل العبارة لفظ" الأمر" وإنّما أضافها بعض أصحابه ، وعلى ذلك جرت نسخ الكتاب» ، فوائد الاصول ٣ : ٩٨.

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «ترتّب».

(٢) العبارة في (ظ) هكذا : «استحباب شيء أو وجود تخيير أو إباحة».

(٣) لم ترد «ومعنى ـ إلى ـ كما لو قطع بهما» في (ه) ، وفي (ت) أنّها «غلط» ، وكتب في (ص) عليها : «زيادة».

(٤) لم ترد «لو كان ـ إلى ـ من العلم» في (ت) و (ه).

(٥) راجع الصفحة ١٠٩.

١١٥

العمل (١) بالأمارة (٢) وترتيب (٣) أحكام الواقع على مؤدّاها ، وبين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤدّاها (٤) على المكلّف؟

مثلا : إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر ، فإن كان في فعل الجمعة مصلحة يتدارك بها ما يفوت بترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حقّ هذا الشخص خالية عن المصلحة الملزمة ، فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعي ، فهنا وجوب واحد ـ واقعا وظاهرا ـ متعلّق (٥) بصلاة الجمعة. وإن لم تكن في فعل الجمعة صفة كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا ؛ لكونه مفوّتا للواجب مع التمكّن من إدراكه بالعلم.

فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعيّ بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني ، وهو كون الأمارة سببا لجعل مؤدّاها هو الحكم الواقعي لا غير وانحصار الحكم في المثال بوجوب (٦) صلاة الجمعة ، وهو التصويب الباطل.

الفرق بين الوجهين الأخيرين

قلت : أمّا رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل ؛ لأنّ

__________________

(١) في (ص) و (ه) : «في الأمر بالعمل».

(٢) في (ت) و (ه) : «على الأمارة».

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «ترتّب».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «هو الحكم الواقعي».

(٥) في (ظ) و (م) : «يتعلّق» ، وفي (ر) و (ه) : «متعلّقا».

(٦) في نسخة بدل (ص) : «في وجوب».

١١٦

مرجع جعل مدلول الأمارة في حقّه ـ الذي هو مرجع الوجه الثاني ـ إلى أنّ صلاة الجمعة واجبة (١) عليه واقعا ، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ، فإذا صلاّها فقد فعل الواجب الواقعي ، فإذا انكشف مخالفة الأمارة للواقع فقد انقلب موضوع الحكم واقعا إلى موضوع آخر ، كما إذا صار المسافر بعد فعل (٢) صلاة القصر حاضرا إذا قلنا بكفاية السفر في أوّل الوقت لصحّة القصر واقعا.

معنى وجوب العمل على طبق الأمارة

ومعنى وجوب العمل (٣) على طبق الأمارة (٤) : وجوب ترتيب (٥) أحكام الواقع (٦) على (٧) مؤدّاها من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع ـ كما يوهمه ظاهر عبارتي العدّة والنهاية المتقدّمتين (٨) ـ فإذا أدّت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا ، وجب ترتيب أحكام الوجوب الواقعي وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي ، فإن كان في أوّل الوقت جاز الدخول فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرها ، فإذا فعلها جاز له فعل النافلة وإن حرمت في وقت الفريضة المفروض كونها في الواقع هي

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ه) : «هي واجبة» ، وفي (ص) : «هي الواجبة».

(٢) لم ترد «فعل» في (ر) ، (ظ) و (م).

(٣) في (ه) : «ومعنى الأمر بالعمل».

(٤) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «على أنّ مضمونها هو الحكم الواقعي».

(٥) في (ص) بدل «وجوب ترتيب» : «الرخصة في ترتيب».

(٦) في (ت) و (ه) : «أحكام الواجب الواقعي».

(٧) لم ترد «الواقع على» في (م).

(٨) لم ترد «من دون ـ إلى ـ المتقدّمتين» في (ظ) ، (ل) و (م).

١١٧

الظهر ؛ لعدم وجوب الظهر عليه فعلا ورخصته في تركها. وإن كان في آخر وقتها حرم تأخيرها والاشتغال بغيرها.

ثمّ إن استمرّ هذا الحكم الظاهريّ ـ أعني الترخيص في ترك الظهر إلى آخر وقتها ـ وجب كون الحكم الظاهريّ بكون ما فعله في أوّل الوقت هو الواقع ـ المستلزم لفوت (١) الواقع على المكلّف (٢) ـ مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر ؛ لئلاّ يلزم تفويت الواجب الواقعي على المكلّف مع التمكّن من إتيانه بتحصيل العلم به.

وإن لم يستمرّ ، بل علم بوجوب الظهر في المستقبل ، بطل وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ، ووجب العمل على طبق عدم وجوبه في نفس الأمر من أوّل الأمر ؛ لأنّ المفروض عدم حدوث الوجوب النفس الأمري ، وإنّما عمل على طبقه ما دامت أمارة الوجوب قائمة ، فإذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ، وجب حينئذ ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم ـ أعني وجوب الإتيان بالظهر ـ ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلاّ ما فات منها ؛ فقد تقدّم أنّ مفسدة فواته متداركة بالحكم الظاهريّ المتحقّق في زمان الفوت.

فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم أنّ حكم الشارع بالعمل بمؤدّى الأمارة ـ اللازم منه ترخيص ترك الظهر في الجزء

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ه) : «لفوات».

(٢) لم ترد «بكون ـ إلى ـ المكلّف» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ووردت بدلها عبارة : «بجواز تركها إلى آخر وقتها ـ وكان الحكم الظاهريّ المستمرّ ـ» ، مع اختلاف يسير بينها.

١١٨

الأخير ـ لا بدّ أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر.

ثمّ إن قلنا : إنّ القضاء فرع صدق الفوت المتوقّف على فوات الواجب من حيث إنّ فيه مصلحة ، لم يجب فيما نحن فيه ؛ لأنّ الواجب وإن ترك إلاّ أنّ مصلحته متداركة ، فلا يصدق على هذا الترك الفوت.

وإن قلنا : إنّه متفرّع على مجرّد ترك الواجب ، وجب هنا ؛ لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا.

إلاّ أن يقال : إنّ غاية ما يلزم في المقام ، هي المصلحة في معذوريّة هذا الجاهل مع تمكّنه من العلم ولو كانت لتسهيل الأمر على المكلّفين ، ولا ينافي ذلك صدق الفوت ، فافهم (١).

ثمّ إنّ هذا كلّه على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ، واضح.

وأمّا على القول باقتضائه له ، فقد يشكل (٢) الفرق بينه وبين القول بالتصويب ، وظاهر شيخنا في تمهيد القواعد استلزام القول بالتخطئة لعدم الإجزاء ، قال قدس‌سره (٣) : من فروع مسألة التصويب والتخطئة ، لزوم الإعادة للصلاة بظنّ القبلة وعدمه (٤). وإن كان تمثيله لذلك بالموضوعات محلّ نظر.

__________________

(١) لم ترد «فافهم» في (ت) و (ه).

(٢) في (ت) و (ه) بدل «باقتضائه له فقد يشكل» : «بالاقتضاء فيشكل».

(٣) لم ترد عبارة «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ قدس‌سره» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ووردت بدلها : «ولأجل ما ذكرنا ذكر في تمهيد القواعد» ، نعم وردت عبارة «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ قدس‌سره» في هامش (ل) تصحيحا.

(٤) تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

١١٩

فعلم من ذلك : أنّ ما ذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملا على مصلحة تتدارك مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب ، ممنوع ؛ لأنّ فعل الجمعة قد لا يستلزم إلاّ ترك الظهر في بعض أجزاء وقته.

فالعمل على الأمارة معناه : الإذن في الدخول فيها على قصد الوجوب ، والدخول في التطوّع بعد فعلها.

نعم ، يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة تتدارك مفسدة فعل التطوّع في وقت الفريضة لو شمل دليله الفريضة الواقعيّة المأذون في تركها ظاهرا ؛ وإلاّ كان جواز التطوّع في تلك الحال حكما واقعيّا لا ظاهريّا.

وأمّا قولك : إنّه مع تدارك المفسدة بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب ، فممنوع أيضا ؛ إذ قد يترتّب على وجوبه واقعا حكم شرعيّ وإن تدارك مفسدة تركه مصلحة فعل آخر ، كوجوب (١) قضائه إذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا (٢).

وبالجملة : فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على حكم شرعيّ حال الأمر بالعمل بالأمارة (٣) القائمة على الموضوع الخارجي ، كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّ الأمر بالعمل (٤) في الموضوعات لا يوجب جعل

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «لوجوب».

(٢) وردت عبارة «فعلم من ذلك ـ إلى ـ بوجوبه واقعا» في (ر) ، (ظ) ، (ل) ، (م) ونسخة بدل (ص) مع اختلافات يسيرة ، ولم ترد في (ت) ، (ص) و (ه).

(٣) في (ر) ، (ظ) ، (ل) ، (م) ، (ه) ونسخة بدل (ت) و (ص) : «على الأمارة».

(٤) في (ص) زيادة : «بها» ، وفي (ر) زيادة : «بالأمارة».

١٢٠