البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

١
٢

٣
٤

سورة ال عمران

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)

التوراة : اسم عبراني ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ، وأنها لا توزن ، يعنون اشتقاقا عربيا. فأمّا

٥

اشتقاق : التوراة ، ففيه قولان : أحدهما : إنها من : ورى الزند يري ، إذا قدح وظهر منه النار ، فكأن التوراة ضياء من الضلال ، وهذا الاشتقاق قول الجمهور. وذهب أبو فيد مؤرج السدوسي إلى أنها مشتقة من : ورّى ، كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد سفرا ورى بغيره ، لأن أكثر التوراة تلويح. وأما وزنها فذهب الخليل ، وسيبويه ، وسائر البصريين إلى أن وزنها : فوعلة ، والتاء بدل من الواو ، كما أبدلت في : تولج ، فالأصل فيها ووزنه : وولج ، لأنهما من ورى ، ومن ولج. فهي : كحوقلة ، وذهب الفراء إلى أن وزنها : تفعلة ، كتوصية. ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا. كما قالوا في : ناصية ، وجارية : ناصاه وجاراه.

وقال الزجاج : كأنه يجيز في توصية توصاه ، وهذا غير مسموع. وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها : تفعلة ، بفتح العين من : وريت بك زنادي ، وتجوز إمالة التوراة.

وقد قرىء بذلك على ما سيأتي ان شاء الله تعالى.

الإنجيل : اسم عبراني أيضا ، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق ، وأنه لا يوزن ، وقد قالوا : وزنه فعيل. كإجفيل ، وهو مشتق من النجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض. قال الخليل : استنجلت الأرض نجالا ، وبها نجال ، إذا خرج منها الماء. والنجل أيضا : الولد والنسل ، قاله الخليل ، وغيره. ونجله أبوه أي : ولده. وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الولد يقال له : نجل ، وأن اللفظة من الأضداد ، والنجل أيضا : الرمي بالشيء.

وقال الزجاج : الإنجيل مأخوذ من النجل ، وهو الأصل ، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاجي.

قال أبو الفتح : فهو من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض ، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة. وقيل : هو مشتق من التناجل ، وهو التنازع ، سمي بذلك لتنازع الناس فيه.

وقال الزمخشري : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ، ووزنهما متفعلة وإفعيل : إنما يصح بعد كونهما عربيين. انتهى. وكلامه صحيح ، إلّا أن في كلامه استدراكا في قوله : متفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها : فوعلة ، ولم ينبه في : تفعلة ، على أنها مكسورة العين ، أو مفتوحتها.

وقيل : هو مشتق من نجل العين ، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة.

٦

الانتقام : افتعال من النقمة ، وهو السطوة والانتصار. وقيل : هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك ، ويقال : نقم ونقم إذا أنكر ، وانتقم عاقب.

صور : جعل له صورة. قيل : وهو بناء للمبالغة من صار يصور ، إذا أمال ، وثنى إلى حال ، ولما كان التصوير إمالة إلى حال ، وإثباتا فيها ، جاء بناؤه على المبالغة. والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف. وقال المروزي : التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله.

الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس و (زاغَتِ الْأَبْصارُ) (١). وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال ومال يتقارب ، لكن زاع لا يقال إلّا فيما كان من حق إلى باطل.

التأويل : مصدر أوّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب. وقال غيره : التأويل المرد والمرجع. قال :

أؤول الحكم على وجهه

ليس قضاي بالهوى الجائر

الرسوخ : الثبوت. قال :

لقد رسخت في القلب منيّ مودة

لليلى أبت أيامها أن تغيّرا

الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعل ، بكسر العين. ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلّا أن هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع. ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني الله فداك ، أي : جعلني الله فداك. وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلّا الفعل الماضي خاصة.

لدن : ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون ، فمن بناها قيل : فأشبهها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدي. فإنهما

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٠.

٧

لا يلزمان استعمالا واحدا ، فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (١) (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) (٢).

وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها ، بخلاف : عند ، فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلا على القرب. ومثله : ثم ، و : هنا. لأنهما بنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة.

ومن أعربها ، وهم قيس ، فتشبيها : بعند ، لكون موضعها صالحا لعند ، وفيها تسع لغات غير الأولى : لدن ، ولدن ، ولدن ، ولدن ، ولدن ، ولد ولد ، ولد ولت. بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظا كثيرا ، وإلى الجملة قليلا.

فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر :

صريع عوان راقهن ورقنه

لدن شب حتى شاب سود الذوائب

وقال الآخر :

لزمنا لدن سألتمونا وفاقكم

فلا يك منكم للخلاف جنوح

ومن إضافتها إلى الجملة الاسمية قول الشاعر :

تذكر نعماه لدن أنت يافع

إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر

وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال :

وليت فلم يقطع لدن أن وليتنا

قرابة ذي قربى ولا حق مسلم

وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو.

الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع.

الدأب : العادة. دأب على كذا : واظب عليه وأدمن. قال زهير :

لأرتحلن بالفجر ثم لأدأبنّ

إلى الليل إلّا أن يعرجني طفل

الذنب : التلو ، لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٥٩.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٦٢.

٨

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هذه السورة ، سورة آل عمران ، وتسمى : الزهراء ، والأمان ، والكنز ، والمعينة ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار وطيبة. وهي : مدنية الآيات ستين ، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور : أنه وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نصارى نجران ، وكانوا ستين راكبا ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم ، أميرهم : العاقب عبد المسيح ، وصاحب رحلهم : السيد الأيهم ، وعالمهم : أبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائل. وذكر من جلالتهم ، وحسن شارتهم وهيئتهم. وأقاموا بالمدينة أياما يناظرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عيسى ، ويزعمون تارة أنه الله ، وتارة ولد الإله ، وتارة : ثالث ثلاثة. رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى ، وانتفاءها عن عيسى ، وهم يوافقونه على ذلك ، ثم أبوا إلّا جحودا ، ثم قالوا : يا محمد! ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : «بلى». قالوا : فحسبنا. فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها ، إلى أن دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الابتهال.

وقال مقاتل : نزلت في اليهود المبغضين لعيسى ، القاذفين لأمّه ، المنكرين لما أنزل الله عليه من الإنجيل.

ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة لأنه ، لما ذكر آخر البقرة (أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١) ناسب أن يذكر نصره تعالى على الكافرين ، حيث ناظرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردّ عليهم بالبراهين الساطعة ، والحجج القاطعة ، فقص تعالى أحوالهم ، وردّ عليهم في اعتقادهم ، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون ، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردّ عليهم ، ولما كان مفتتح آية آخر البقرة (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (٢) فكأن في ذلك الإيمان بالله وبالكتب ، ناسب ذكر أوصاف الله تعالى ، وذكر ما أنزل على رسوله ، وذكر المنزل على غيره صلى الله عليهم.

قرأ السبعة : ألم الله ، بفتح الميم ، وألف الوصل ساقطة. وروى أبو بكر في بعض طرقه ، عن عاصم : سكون الميم ، وقطع الألف. وذكرها الفراء عن عاصم ، ورويت هذه القراءة عن الحسن. وعمرو بن عبيد ، والرؤاسي ، والأعمش ، والبرجمي ، وابن القعقاع : وقفوا على الميم ، كما وقفوا على الألف واللام ، وحقها ذلك ، وأن يبدأ بما بعدها كما تقول : واحد اثنان.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦ ، الآية الأخيرة.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٥.

٩

وقرأ أبو حيوة بكسر الميم ، ونسبها ابن عطية إلى الرؤاسي ، ونسبها الزمخشري إلى عمرو بن عبيد ، وقال : توهم التحريك لالتقاء الساكنين ، وما هي بمقبولة ، يعني : هذه القراءة. انتهى.

وقال غيره : ذلك رديء ، لأن الياء تمنع من ذلك ، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس. انتهى.

وقال الأخفش : يجوز : ألم الله ، بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله.

واختلفوا في فتحة الميم : فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين ، كما حركوا : من الله ، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو : من الرجل ، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء ، كما قالوا : أين؟ وكيف؟ ولزيادة الكسرة قبل الياء ، فزال الثقل. وذهب الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل ، لأن حروف الهجاء ينوى بها الوقف ، فينوى بما بعدها الاستئناف. فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو :

لتسمعن وشيكا في دياركم

الله أكبر : يا ثارات عثمانا

وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل. وما يسقط يتلقى حركته ، قاله أبو علي. وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري ، وأورد أسئلة وأجاب عنها.

فقال : فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟

قلت : ليس هذا بدرج ، لأن ميم في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت. وإنما حذفت تخفيفا ، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ، ونظيره قولهم : واحد اثنان ، بإلقاء حركة الهمزة على الدال. انتهى هذا السؤال وجوابه. وليس جوابه بشيء ، لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها. وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك البتة ، سواء كانت حركته إعرابية ، أو بنائية ، أو نقلية ، أو لإلتقاء الساكنين ، أو للحكاية ، أو

١٠

للإتباع. فلا يجوز في : قد أفلح ، إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال : قد ، أن تقف على دال : قد ، بالفتحة ، بل تسكنها قولا واحدا.

وأما قوله : ونظير ذلك قولهم : واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال ، فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ، ولم يحك الكسر لغة. فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه ، كما زعم الزمخشري ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : اثنان ، فالتقى ساكنان ، دال ، واحد ، و : ثاء ، إثنين ، فكسرت الدال لإلتقائهما ، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل. وأما ما استدل به للفراء من قولهم : ثلاثة أربعة ، بإلقائهم الهمزة على الهاء ، فلا دلالة فيه ، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها ، وليس كذلك همزة الوصل نحو : من الله ، وأيضا ، فقولهم : ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة ، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتبارا بما آلت إليه في حال ما ، لا أنها موقوف عليها.

ثم أورد الزمخشري سؤالا ثانيا. فقال :

فإن قلت : هلا زعمت أنها حركت لالتقاء الساكنين؟.

قلت : لأن التقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف ، وذلك كقولك : هذا ابراهيم ، وداود ، وإسحاق. ولو كان لالتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر. انتهى هذا السؤال وجوابه. وهو سؤال صحيح ، وجواب صحيح ، لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف ، وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما : ميم ميم الأخيرة. و : لام التعريف ، كالتقاء نون : من ، ولام : الرجل ، إذا قلت : من الرجل.

ثم أورد الزمخشري سؤالا ثالثا ، فقال :

فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف ، وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلّا التحريك فحركوا؟

قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن ، أنهم كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم

١١

ومديق ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين. انتهى هذا السؤال وجوابه. وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين؟ ويعني بالساكنين : الياء والميم في ميم ، وحينئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، يعني الياء والميم ، ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ، يعني لام التعريف ، لم يمكن إلّا التحريك ، يعني في الميم ، فحركوا يعني : الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن. هذا شرح السؤال.

وأما جواب الزمخشري عن سؤاله ، فلا يطابق ، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد اثنان ، بأن يسكنوا الدال ، والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة. فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ، وهذه مكابرة في المحسوس ، لا يمكن ذلك أصلا ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء ، وطرح الهمزة.

وأما قوله : فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع كما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أصيم ومديق ، فهذا ممكن كما هو في : راد وضال ، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو ، فأمكن النطق به ، وليس مثل : واحد اثنان. لأن الساكن الأول ليس حرف علة ، ولا الثاء في مدغم ، فلا يمكن الجمع بينهما.

وأما قوله : فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن ، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فيما لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ ، ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين ، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك ، فإن صح كسر الدال ، كما نقل هذا الرجل ، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا للنقل ، وقد ردّ قول الفراء ، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل : لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها ، لما في ذلك من الفساد والتدافع ، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها ، وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض. انتهى. وهو ردّ صحيح.

والذي تحرر في هذه الكلمات : أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلا

١٢

ووقفا ، فلو التقى آخر مسكن منها ، بساكن آخر ، حرك لالتقاء الساكنين. فهذه الحركة التي في ميم : ألم الله ، هي حركة التقاء الساكنين.

والكلام على تفسير : (الم) ، تقدم في أول البقرة ، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة.

والكلام على : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) تقدم في آية (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١) وفي أول آية الكرسي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون (الم) إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ، أو نحو هذا.

ويدل قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) على ما ترك ذكره ، مما هو خبر عن الحروف ، قال : وذلك في نظمه مثل قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٢) ترك الجواب لدلالة قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) (٣) عليه ، تقديره : كمن قسا قلبه. ومنه قول الشاعر :

فلا تدفنوني ، إن دفني محرم

عليكم ، ولكن خامري أم عامر

أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها : خامري أم عامر.

قال ابن عطية : يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله : الله ، حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني ، وفيه نظر ، لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون (الم) لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) كلاما مبتدأ جزما ، جملة رادّة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحاجوه في عيسى بن مريم ، وقالوا : إنه الله. انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٣.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٢.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٢.

١٣

قال ابن كيسان : موضع : ألم ، نصب ، والتقدير : قرأوا ألم ، و : عليكم ألم. ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى : هذا ألم ، و : ذلك ألم.

وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : هذه الحروف كتابك.

وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ، وعلقمة بن قيس : القيام. وقال خارجة في مصحف عبد الله : القيم ، وروي هذا أيضا عن علقمة.

(اللهُ) رفع على الابتداء ، وخبره : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) و (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون : نزل ، هو الخبر ، و : لا إله إلا هو ، جملة اعترض.

وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فأغنى عن إعادته هنا.

وقال الرازي : مطلع هذه السورة عجيب ، لأنهم لما نازعوا كأنه قيل : إما أن تنازعوا في معرفة الله ، أو في النبوة ، فإن كان الأول فهو باطل ، لأن الأدلة العقلية دلت على أنه : حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد ، وإن كان في الثاني فهو باطل ، لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل ، هو بعينه قائم هنا ، وذلك هو المعجزة.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الكتاب هنا : القرآن ، باتفاق المفسرين ، وتكرر كثيرا ، والمراد القرآن ، فصار علما. بالغلبة. وقرأ الجمهور : نزّل ، مشددا و : الكتاب ، بالنصب ، وقرأ النخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : نزل ، مخففا ، و : الكتاب ، بالرفع ، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن تكون منقطعة. والثاني : أن تكون متصلة بما قبلها ، أي : نزل الكتاب عليك من عنده ، وأتى هنا بذكر المنزل عليه ، وهو قوله : عليك ، ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة ، ولا المنزل عليه الإنجيل ، تخصيصا له وتشريفا بالذكر ، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة ، وأتى بلفظة : على ، لما فيها من الاستعلاء. كأن الكتاب تجلله وتغشاه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى : بالحق : بالعدل ، قاله ابن عباس ، وفيه وجهان : أحدهما : العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة. الثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة.

١٤

وقيل : بالصدق فيما اختلف فيه ، قاله محمد بن جرير. وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية. وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة ، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية.

وقيل : معنى بالحق : بالحجج والبراهين القاطعة.

والباء : تحتمل السببية أي : بسبب إثبات الحق ، وتحتمل الحال ، أي : محقا نحو : خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحا.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : من كتب الأنبياء ، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه ، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقا ، وهو يدل على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها ، قاله أبو مسلم. وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبيا قط ، إلّا بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، والقرآن ، وإن كان ناسخا لشرائع أكثر الكتب ، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن. فقد وافقت القرآن ، وكان مصدقا لها لأن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف.

وانتصاب : مصدقا ، على الحال من الكتاب ، وهي حال مؤكدة ، وهي لازمة ، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه ، فهو كما قال :

أنا ابن دارة معروفا به نسبي

وهل بدارة يا للناس من عار؟

وقيل : انتصاب : مصدقا ، على أنه بدل من موضع : بالحق ، وقيل : حال من الضمير المجرور. و : لما ، متعلق بمصدقا ، واللام لتقوية التعدية ، إذ : مصدقا ، يتعدى بنفسه ، لأن فعله يتعدى بنفسه. والمعنى هنا بقوله (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) المتقدم في الزمان. وأصل هذا أن يقال : لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه. كالشيء الذي يحتوي عليه ، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد.

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ) فخم راء التوراة ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأضجعها : أبو عمرو ، والكسائي. وقرأها بين اللفظين : حمزة ، ونافع. وروى المسيبي عن نافع فتحها.

١٥

وقرأ الحسن : والإنجيل ، بفتح الهمزة ، وهذا يدل على أنه أعجمي ، لأن أفعيلا ليس من أبنية كلام العرب ، بخلاف إفعيل ، فإنه موجود في أبنيتهم : كإخريط ، وإصليت.

وتعلق : من قبل ، بقوله : وأنزل ، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور ، أي : من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل : التقدير من قبلك ، فيكون المحذوف ضمير الرسول. وغاير بين نزل وأنزل ، وإن كانا بمعنى واحد ، إذ التضعيف للتعدية ، كما أن الهمزة للتعدية.

وقال الزمخشري :

فإن قلت لم قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل؟.

قلت : لأن القرآن نزل منجما ، ونزل الكتابان جملة. انتهى. وقد تقدم الرد على هذا القول. وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا التنجيم ، وقد جاء في القرآن : نزل وأنزل ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) (١) و (أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان : ممن ينزل ، مشددا بالتخفيف ، إلّا ما استثنى ، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم ، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة ، لتناقض الإخبار. وهو محال.

(هُدىً لِلنَّاسِ) قيل : هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل. والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر. وقيل : هو قيد في الإنجيل وحده ، وحذف من التوراة ، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل : تم الكلام عند قوله (مِنْ قَبْلُ) ثم استأنف فقال (هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) فيكون الهدى للفرقان فحسب ، ويكون على هذا الفرقان القرآن ، وهذا لا يجوز ، لأن هدى إذ ذاك يكون معمولا لقوله : وأنزل الفرقان هدى ، وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه ، لو قلت : ضربت زيدا ، مجردة و : ضربت هندا ، تريد ، وضربت هندا مجردة لم يجز ، وانتصابه على الحال. وقيل : هو مفعول من أجله ، والهدى : هو البيان ، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل ، فيكون الناس هنا مخصوصا ، إذ لم تقع الهداية لكل الناس ، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدى في ذاتهما ، وأنهما داعيان للهدى ، فيكون الناس عاما ، أي : هما منصوبان وداعيان لمن

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٤.

١٦

اهتدى بهما ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس. وقيل : الناس قوم موسى وعيسى وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا ، فالناس عام. قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر ، وليس هدى له ، ويدل على أن معنى (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (١) أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، لقول نوح ، (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٢) انتهى.

قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا ، وإن كان القرآن هدى ، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، بل وصف بأنه حق في نفسه ، قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى.

قال ابن عطية : قال هنا للناس ، وقال في القرآن هدى للمتقين ، لأن هذا خبر مجرّد ، و : هدى للمتقين ، خبر مقترن به الاستدعاء ، والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، أو الهدى الذي هو في نفسه معدّ أن يهتدي به الناس ، فسمي هدى بذلك.

قال ابن فورك : التقدير هنا : هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر. انتهى كلام ابن عطية. وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى ، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون ، وحيث كان بمعنى الدعاء ، أو بمعنى أنه هدى في ذاته ، ذكر العام.

وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٣) وبين قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ).

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الفرقان : جنس الكتب السماوية ، لأنها كلها فرقان يفرق بها بين الحق والباطل ، من كتبه أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع ، وهو الزبور. كما قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٤) أو الفرقان : القرآن ، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله. واختار هذا القول الأخير ابن عطية. قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٤.

(٢) سورة نوح : ٧١ / ٦.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٦٣ والإسراء : ١٧ / ٥٥.

١٧

السلام الذي جادل فيه الوفد. وقال قتادة ، والربيع ، وغيرهما : فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ، ونحوه. وقيل : الفرقان : كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث ، فدخل في هذا التأويل : طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل. وقيل : الفرقان : النصر. وقال الرازي : المختار أن يكون المراد بالفرقان هنا المعجزات التي قرنها الله بإنزال هذه الكتب ، لأنهم إذا ادعو أنها نازلة من عند الله افتقروا إلى ، تصحيح دعواهم بالمعجزات ، وكانت هي الفرقان ، لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب ، فلما ذكر أنه أنزلها ، أنزل معها ما هو الفرقان. وقال ابن جرير : أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل. وقيل : الفرقان : هنا الأحكام التي بينها الله ليفرق بها بين الحق والباطل.

فهذه ثمانية أقوال في تفسير الفرقان. والفرقان مصدر في الأصل ، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل ، أي : الفارق ، ويجوز أن يراد به المفعول أي : المفروق. قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) (١).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لما قرر تعالى أمر الإلهية ، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة ، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة ، وغيرها ، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا ، كالقتل ، والأسر. والغلبة ، وعذاب الآخرة : كالنار.

و (الَّذِينَ كَفَرُوا) عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم ، وهم نصارى وفد نجران. وقال النقاش : إشارة إلى كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم.

(وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي : ممتنع أو غالب لا يغلب ، أو منتصر ذو عقوبة ، وقد تقدّم أن الوصف : بذو ، أبلغ من الوصف بصاحب ، ولذلك لم يجىء في صفات الله صاحب ، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات ، وأشار بذي انتقام ، إلى كونه فاعلا للعقاب ، وهي من صفات الفعل.

قال الزمخشري : (ذُو انْتِقامٍ) له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم. انتهى. ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام ، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٦.

١٨

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) شيء نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ، إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك ردّ على النصارى ، إذ شبهتهم في ادعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة. فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالما بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى قادرا على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادرا على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وأحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها ، وأمثالها ، على أيدي رسله.

وفي ذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله ، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم.

وقيل : في قوله (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) تحذير من مخالفته سرا وجهرا ، ووعيد بالمجازاة. وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه‌السلام. وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه. وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفى عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم؟ وكل هذه تخصيصات. واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله. وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء ، أبلغ من : يعلم في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحدا.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير ، والربيع ، في قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) ردّ على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف تشاء. قال الماتريدي : فيه إبطال قول من

١٩

يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور؟ انتهى.

والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى : إخبارا عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية : إخبارا بالقدرة التامة وبالإرادة والثالثة : بالانفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبرا عن : أن.

وقال الراغب ، هنا : يصوركم ، بلفظ الحال ، وفي موضع آخر : فصوركم ، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضا : فصوركم ، إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرغ منه. ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالا فحالا. انتهى.

وقرأ طاووس : تصوركم ، أي صوركم لنفسه ولتعبده. كقولك : أثلت مالا ، أي : جعلته أثلة. أي : أصلا. وتأثلته إذا أثلته لنفسك. وتأتي : تفعّل ، بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولي.

ومعنى (كَيْفَ يَشاءُ) أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات. وفي قوله : (كَيْفَ يَشاءُ) إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط.

و : كيف ، هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم. ومفعول : يشاء ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم. كقوله (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (١) أي : كيف يشاء أن ينفق ، و : كيف ، منصوب : بيشاء ، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم.

وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلّا بعد تمرّن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو.

وقال بعضهم (كَيْفَ يَشاءُ) في موضع الحال ، معمول : يصوركم ؛ ومعنى الحال

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

٢٠