مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

انّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب » ؟ فقال : « سبحان الله ، ضع يدك على رأسي ، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلاّ قامت ، ثم قال : لا والله ، ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله » (١).

٣. ما روي عن الإمام الصادق : أنّه خرج وهو مغضب فلمّا أخذ مجلسه قال : يا عجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب ، ما يعلم الغيب إلاّ الله عزّ وجلّ ، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت منّي ، فما علمت في أي بيوت الدار » (٢) ، فهذه الرواية محمولة ومفسرة بما أوضحناه ، وما سيوافيك من الأحاديث فالمقصود نفي العلم الاصالي القائم بذاتهم غير المستند إلى غيرهم ، وأمّا أنّه عليه‌السلام همّ بضرب جاريته فهربت فما علم مكانها ، فيوجّه بوجوه :

أ. ما أسلفناه من كون علومهم على حسب مشيئتم وإنّهم إذا شاؤوا علموا.

ب. ما وافاك من أنّ هنا مراحل ثلاثة ، مرحلة الاطلاع ، مرحلة العمل ، مرحلة الإعلام ولكلّ منها ، مقتضيات وشرائط وموانع ، وأنّه لا يستلزم العلم بالشيء العمل به ، فلعلّه عليه‌السلام أراد أن يطلع على مكانها من الطرق العادية لا غيرها.

أضف إلى ذلك أنّ ذيل الرواية تفصح عمّا ذكرناه بوضوح ، ويعطي للإمام منزلة عظيمة ومكانة أرقى ممّن كان عنده علم من الكتاب ودونك لفظه : « قال سدير فلمّا أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له : جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ، ونحن نعلم أنّك تعلم علماً كثيراً ولا ننسبك إلى علم الغيب ؟ قال : فقال : يا سدير ألم تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، قال : فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عزّ وجلّ : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )؟ ( النمل ـ ٤٠ ).

__________________

(١) رجال الكشي ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣ ط الأعلمي ، ورواه شيخنا المفيد في أماليه في المجلس الثالث ص ١١٤ بأدنى تفاوت.

(٢) الكافي ج ١ ص ٢٥٧.

٤٦١

قال : قلت : جعلت فداك قد قرأته ، قال : فهل عرفت الرجل ؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب ؟ قال : قلت : اخبرني به ؟ قال : قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب ؟ قال : قلت : جعلت فداك ما أقل هذا ، فقال : يا سدير ما أكثر هذا ، أن ينسبه الله عزّ وجلّ إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عزّ وجلّ أيضاً : ( قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ ( الرعد ـ ٤٣ ).

قال : قلت : قد قرأته جعلت فداك ، قال : أفمن عنده علم الكتاب كلّه أفهم ، أم من عنده علم الكتاب بعضه ؟ قلت : لا ، بل من عنده علم الكتاب كلّه ، قال : فأوما بيده إلى صدره وقال : علم الكتاب والله كلّه عندنا ، علم الكتاب والله كلّه عندنا.

ج. أن يكون صدر الرواية وارداً على وجه التقية من النصاب والمخالفين لهم ولشيعتهم ، كما أنّهم ببغضهم وحسدهم على أمير المؤمنين ، إذا سمعوا ما لا يحتملونه ربّما اعترضوا بالسؤال عنه ، فيصدّهم بقوله : « إنّما هو تعلّم من ذي علم » كما نقلناه عن علي عليه‌السلام عند اخباره عن الفتن والملاحم في البصرة ، فإنّ طريق علمهم بالحوادث وغيرها ليس منحصراً بالوراثة ، كما هو ظاهر لمن راجع الأحاديث الواردة في باب علومهم ، وإنّما الوراثة أحد هذه الطرق ، غير أنّ إسناد علمهم عند الاخبار بما لا تحتمله عامّة الناس إليها كان يصدهم عن الاعتراض عليه.

ثمّ إنّ العلاّمة الشيخ محمد الحسين المظفر ، أجاب عن حادثة الجارية وإنكاره عليه‌السلام على من يقول بأنّهم يعلمون الغيب بوجهين : ثانيها ما قدمناه أخيراً قال : « إنّهم عليهم‌السلام أعلم الناس بالناس وأعرفهم بضعف عقولهم ، وعدم تحملهم فلو إنّهم كانوا يتظاهرون دوماً ، بما منحوا من ذلك العلم ، لأعتقد بهم أهل الضعف بأنّهم أرباب أو غير ذلك ممّا يؤوّل إلى الشرك ، ولقد اعتقد بهم ذلك ، كثير من الناس ، من البدء حتى اليوم ، على أنّهم كانوا ينفون عنهم تلك المقدرة وذلك العلم أحياناً ولم يكونوا بأهل السلطة ليقيموا أود الناس بالتأديب بعد الوعظ والزجر كما سبق لأمير المؤمنين

٤٦٢

عليه‌السلام مع بعض أصحابه ».

وقال : « بل كانوا غرضاً لفراعنة أيامهم ، وهدفاً لنبالهم ولم يكونوا بذلك المظهر عندهم ، فلو تظاهروا بتلك الخلة ، كيف ترى يحمل الحسد اُولئك الطواغيت ، على الفتك بهم وهم المحسودون على ما آتاهم الله من فضله وأي حائل يحجز عمّا يريدونه بهم وبأوليائهم ، وأنّهم لم يطلعوا أعدائهم ولا سواد أوليائهم على جميع ما رزقوا من ذلك الفضل ، وقد لاقوا من المصائب والنوائب والحوادث والكوارث والوقائع والفجائع ، ما تشيخ منه شم الجبال وتشيب من هوله الرضّع ، ولو لم يكونوا رزقوا ذلك الجلد والصبر على قدر ما رزقوا من الفضل ، لما استطاع أن يحمل ـ ما تحمّلوه ـ بشر وهل مات أحد منهم حتف أنفه ، دون أن يتجرع غصص السم النقيع ، أو يصافح حدود الصوارم ويعتنق قدود الرماح ، هذا فوق ما يرونه من الهتك للحرمات وتسيير العقائل والسب والسلب والغصب للحقوق والتلاعب بالدين ، وتضييع أحكام الشريعة.

نعم لا يظهر بتلك المنح الالهية جميعها إلاّ الإمام المنتظر عجل الله فرجه ، لأنّه لا يخشى ذلك التسرّب إلى ضعاف البصائر ، لو صارح بما وهب من الفضل لقدرته على الردع والتأديب ، ولا يخاف حسد حاسد أو سطوة ظالم ، وهو صاحب السلطة والسيف » (١).

٤. ما رواه الكشي عن عنبسة بن مصعب قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : أي شيء سمعت من أبي خطاب ؟ قال : سمعته يقول : إنّك وضعت يدك على صدرك وقلت له عه ولا تنس. وأنّك تعلم الغيب و ... ، قال عليه‌السلام : والله ما مس شيء من جسدي إلاّ يده ، وأمّا قوله : إنّي قلت أعلم الغيب فوالله الذي لا إله إلاّ هو ما أعلم الغيب فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له (٢).

٥. ما أخبره صائب البصائر عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله : جعلت فداك أي شيء هو العلم عندكم ؟ قال : ما يحدث بالليل والنهار ، الأمر بعد الأمر ، والشيء بعد

__________________

(١) علم الإمام ص ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) رجال الكشي ص ١٨٨.

٤٦٣

الشيء إلى يوم القيامة (١) والحديث بصدد نفي العلم القديم عنهم عليهم‌السلام.

٦. ما نقله صاحب البصائر باسناده عن ضريس قال : كنت مع أبي بصير عند أبي جعفر عليه‌السلام فقال له أبو بصير : بما يعلم عالمكم ، جعلت فداك ؟ قال : يا أبا محمد إنّ عالمنا لا يعلم الغيب ولو وكّل الله عالمنا إلى نفسه كان كبعضكم ولكن يحدث إليه ساعة بعد ساعة (٢) وظهور الحديث فيما نرتئيه أغنانا عن البحث حوله.

٧. ما خرج عن صاحب الزمان عليه‌السلام ردّاً على الغلاة من التوقيع جواباً لكتاب إليه على يدي محمد بن علي بن هلال الكرخي : يا محمد بن علي ، تعالى الله عزّ وجلّ عمّا يصفونه سبحانه وبحمده لسنا نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته بل لا يعلم الغيب غيره ، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ ) إلى أن قال : ... أشهدك وأشهد كلّ من سمع كتابي هذا أنّي برئ إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول : إنّا نعلم أو نشارك الله في ملكه أو علينا محلاً سوى المحل الذي نصّبه الله وخلقنا له (٣).

وفي التوقيع قرائن كثيرة تدل على أنّ المقصود من نفي علم الغيب هو العلم الاصالي الموجب لكونهم شركاء لله في علمه وملكه وقد أكد في التوقيع بأنّهم وجميع الأنبياء والمرسلين كلّهم عبيد لله عزّ وجلّ فراجع إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يقف عليه المتتبع الخبير.

خاتمة المطاف :

قد سبق منّا في أوليات الفصل السابق (٤) أنّ كلّ ما غاب عن الحس والشهود فهو غيب لا يقف عليه أحد إلاّ بإذن خاص من الله عزّ وجلّ وهو لا يظهره على أحد

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٩٤ ونقله المجلسي في بحاره ج ٢٦ ص ٦٠.

(٢) بصائر الدرجات ص ٩٤ ، راجع البحار ج ٢٦ ص ٦١.

(٣) الاحتجاج ج ٢ ص ٢٨٨ ط النجف.

(٤) راجع ص ٣٤٧ ـ ٣٥٠ من هذا الجزء.

٤٦٤

إلاّ من إرتضاه قال سبحانه : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ) ( البقرة ـ ٢٥٥ ).

غير أنّ الغيب الذي يتوقف على اذنه ومشيئته الخاصة ، هو التعرّف عليه من دون أن يتوسل بعلل وأسباب عادية كما هو الحال في علم الرسول وخلفائه ، وأمّا الاطلاع على الغيب بطرقه العادية وأسبابه الطبيعية ، كاخبار المنجّم عن خسوف القمر في ليلة مقمرة ، وكسوف الشمس في يوم معيّن ، بالاعتماد على الجداول العلمية والمحاسبات الرياضية ، فهو وإن كان علماً بالغيب وتعرّفاً على ما هو غائب عن حس العامة غير أنّه ليس علماً بالغيب في مصطلح القرآن والاخبار.

وإن أبيت إلاّ دخوله في علم الغيب في مصطلح الذكر الحكيم فنقول : إنّ الاطلاع على الغيب بأسبابه العادية من المغيبات التي أذن الله لكل أحد أن يطلع عليها إذا طرقها من أبوابها ونظر إليها في ضوء العلم والتجربة.

فقد أذن لكل من تداول علم النجوم ومارس الطب والطبابة أن يعرف وقت التربيع والخسوف والكسوف وأوضاع الكواكب وأحوالها بفضل الجداول والقوانين الرياضية ، وأن يقف على مستقبل المريض وحالاته بل واوان موته ، كما أذن لكل من درس علم الفلاحة ومارسها ، أن يعرف الشجرة ونتاجها ، والوردة وآوان تفتحها والتربة ومدى صلاحها ، وقابليتها للزراعة إلى غير ذلك ممّا يدور في حقله ، فالتنبّؤ بهذه الاُمور الغائبة ونظائرها يتحقق في ظل دراسات ومسبقات علمية ، ولا يعد ذلك آية ومعجزة ودليلاً على صلة المخبر بالله والعوالم الغيبية بل إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على نبوغه وتوغّله في فنّه الذي تخصص فيه.

ثمّ إنّ الرسول إذ كان ممّن ارتضاه الله سبحانه للتعرف على الغيب والاطلاع عليه ، فللّه سبحانه أن يظهره على غيبه عن طريق كتابه وقرآنه ، وقد وقفت على نماذج من ذلك ، كما أنّ له أن يوقفه عليه بغير هذا الطريق بقذف في روعه وتحديث من ملائكته أو غير ذلك من الطرق الغيبية فلا نرى عند ذاك فرقاً بين أن يتنبّأ بفضل كتابه المنزّل عليه

٤٦٥

أو بطريق آخر ، فالتنبّؤ في كلا الموردين آية معجزة ودليل على صلته بالله سبحانه غير أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه ، وغيره وحي بمعناه دون لفظه وكلاهما حق لا ينطق بهما النبي إلاّ عن وحي يوحى.

وقد شغلت بال المحدّثين تلك التنبّؤات التي صدرت عن النبي عن طريق غير الوحي القرآني فعقدوا لبيانها باباً أو أبواباً ، بل ألّفوا حولها كتباً ورسالات (١).

ونحن نذكر هنا بالرغم على ما تثيره العناصر المعاندة لأهل البيت والعادية عليهم من انكار تعرّفهم على الغيب واطلاعهم عليه ، معشار ما وقفنا عليه في صحاح القوم ومسانيدهم وكتب الحديث والتاريخ حتى يلمس القارئ خلاله ما هو الحق في المقام.

تنبّؤات نبوية :

١. تنبّأ الرسول بغلبة المسلمين على كسرى وفتح كنوزه واستقرار السلام العام في مناطقهم وبيئاتهم. قال عدي بن حاتم : بينا أنا عند النبي إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثمّ أتاه آخر فشكا قطع السبيل ، فقال يا عدي : هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد اُنبئت عنها ، قال : فإن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلاّ الله ... ولئن طالت بك حياة لنفتحن كنوز كسرى ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم ، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملئ كفّه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله ... قال عدي : رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلاّ الله ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ، رواه البخاري (٢).

__________________

(١) أجمع كتاب اُلّف في هذا الموضوع لدى الشيعة ما ألّفه المحدث السيد هاشم البحراني وأسماه مدينة المعاجز ، وهو مجلد كبير طبع بإيران ويليه ما ألّفه المحدّث الحر العاملي وأسماه ب‍ « اثبات الهداة بالبيّنات والمعجزات » وقد طبع في مجلدات سبع وقد مرّ الايعاز إلى ما ورد فيه من الأخبار الغيبية.

(٢) راجع التاج ج ٣ ص ٢٥٦.

٤٦٦

٢. قد شكا خباب بن الارت إلى النبي وكان هو متوسّد بردة له في ظل الكعبة فقال له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا ؟ فقال النبي ـ مشيراً إلى ألوان التعذيب التي كانت تحل بالمؤمنين في الاُمم السالفة ـ : « والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير المراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله أو الذئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون » رواه البخاري وأبو داود في الجهاد وبهذا المضمون أحاديث كثيرة (١).

٣. تنبّأ النبي بالمستقبل المظلم الذي يواجهه الخويصرة رئيس الخوارج والمارقين وهو الذي قال لرسول الله : « اعدل » فقال رسول الله : ويلك من يعدل إن لم أعدل ؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله أتأذن لي فيه أضرب عنقه ؟ قال : دعه فإنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء (٢) وللحديث صور اُخرى نقلها في التاج (٣).

٤. وقد تنبّأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكذّاب ثقيف وقتال الروم وفتح القسطنطينية وغيره من علامات خروج المهدي وقد جمعها صاحب التاج في كتاب الفتن ، فراجع الجزء الخامس ص ٢٩٦ ـ ٣٢٦ تجد فيها من التنبّؤات ما لا يحصى.

٥. تنبّأ رسول الله بقتل علي بسيف أشقى الأوّلين والآخرين وهو يبكي ، فقال علي : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال : يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ثمود فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك (٤) وهو أخبر في كلامه هذا عن عدة مغيبات من أنّ علياً لا يموت بحتف أنفه ، بل يقتل في شهر رمضان ، في حال الصلاة ، بالسيف ،

__________________

(١) راجع التاج الجزء الثالث ص ٢٥٧.

(٢) المصدر نفسه ج ٥ ص ٢٨٦ كتاب الفتن.

(٣) المصدر نفسه ج ٥ ص ٢٩٥.

(٤) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٩٧ ، تاريخ بغداد ج ١ ص ١٣٥ الكامل للمبردج ٢ص ١٣٢ ، نهج البلاغة ، عبده ، الخطبة ١٥١.

٤٦٧

ويصيب السيف بقرنه ، وتخضب منها لحيته ، وانّ قاتله شقيق عاقر ثمود في الشقاء.

٦. أخبر في غزوة تبوك عن موت أبي ذر وحده بفلات من الأرض وذلك عندما أبطأ على أبي بذر بعيره فتركه وأخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشياً ونزل رسول الله في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله أنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده ، فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كن أبا ذر ، فلمّا تأمله القوم قالوا : يا رسول الله هو والله أبو ذر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده.

ولما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة مات هناك ، ولم يكن معه إلاّ امرأته وغلامه ، فأوصاهما أن اغسلاني وكفّناني ثمّ ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله ، فأعينونا على دفنه ، وقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق وقام إليهم الغلام فأخبرهم بما أمر ، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول صدق رسول الله تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، ثمّ نزل هو وأصحابه فواروه ، ثمّ حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال رسول الله في مسيره إلى تبوك (١).

٧. وقد خاطب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة بقوله : يا حميراء كأنّي بك تنبحك كلاب الحوأب تقاتلين علياً وأنت ظالمة ، يا حميراء إيّاك أن تكوني أنت (٢).

٨. كان رسول الله يحث أصحابه على نصرة أمير المؤمنين في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين وقال أمير المؤمنين : أمرني رسول الله بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (٣).

٩. تنبّأ النبي بما يجري على الاُمّة من بني اُميّة وقال كما قال أبو ذر لعثمان : سمعت رسول الله يقول : إذا كملت بنو اُميّة ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد الله دولاً ، وعباد الله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٥٢٣.

(٢) العقد الفريد ج ٢ ص ٢٨٣ ، مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٩٤.

(٣) تاريخ الخطيب ج ٨ ص ٣٤٠ وغيره.

٤٦٨

خولاً ، ودين الله دغلاً ، فارتجّ الخليفة بسماعه فبعث إلى علي بن أبي طالب فأتاه فقال : يا أبا الحسن أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر وقص عليه الخبر ، فقال علي : نعم (١).

يحدثنا التاريخ عن سيرة الخليفة في الغنائم والأموال وعن اقتناء جماعة من أصحاب الفتن والثورات من آل العاص وبني اُميّة ضياعاً عامرة ودوراً فخمة وقصوراً شاهقة ، وثروة طائلة وأسس الخليفة حكومة اُموية قاهرة في الحواضر الإسلامية وسلّطهم على رقاب الناس وأدلى الأمر ، في المراكز الحساسة إلى أغلمة بني اُمية وشبابهم وأشياخهم وذلّل لهم السبل وكسح عن مسيرهم العراقيل إلى غير ذلك من أحداث موبقة جرت الويلات على الاُمّة الإسلامية في أمصارها إلى أن قتل من جرائها.

وإلى ذلك يشير النبي بقوله : سيكون اُمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون (٢).

١٠. ما أخبر به عمار إذ دخل عليه وقد أثقلوه باللبن فقال : يا رسول الله قتلوني يحملون علي ما لا يحملون بقوله : ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلوك إنّما تقتلك الفئة الباغية ، وأنّ آخر رزقك من الدنيا صاع من لبن أو مذقة من لبن ، وقد طلب عمار شربة فاُتي بشربة لبن ، فقال : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : آخر شربة تشربها في الدنيا شربة لبن وشربها ثمّ قاتل حتى قتل (٣).

١١. تنبّأ النبي بقتال الزبير مع أمير المؤمنين وقد برز علي ، قبل وقوع الحرب يوم الجمل وأراد أن يستفيئه إلى طاعته ، وقال ليبرز إليَّ الزبير فبرز إليه مدججاً ، فقيل لعائشة : قد برز الزبير إلى علي عليه‌السلام فصاحت : وازبيراه ، فقيل لها : لا بأس عليه منه ، أنّه حاسر والزبير دارع ، فقال له علي ـ بعد كلام دار بينه وبين الزبير ـ : ناشدتك الله أتذكر يوماً مررت بي ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متّكئ على يدك وهو جاء من بني عمرو بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦٢ ط النجف وغيره من المصادر الوافرة.

(٢) مسند أحمد ج ١ ص ٤٥٦.

(٣) سيرة ابن هشام ج ١ ص ٤٩٧ ، اُسد الغابة ج ٤ ص ٤٦.

٤٦٩

عوف فسلّم علي وضحك في وجهي فضحكت إليه لم ازده على ذلك فقلت : لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه ، فقال لك : مه أنّه ليس بذي زهو أما أنّك ستقاتله وأنت له ظالم. فاسترجع الزبير وقال : لقد كان ذلك ولكن الدهر أنسانيه ... (١).

١٢. تنبّأ النبي بقتال علي عليه‌السلام على تأويل القرآن ، روى أبو سعيد قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانقطعت نعله فتخلّف علي يخصفها فمشى قليلاً ثمّ قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله » فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر وقال أبو بكر : يعني علياً ، فأتيناه فبشرناه فلم يرجع به رأسه كأنّه قد سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

١٣. أخبر النبي بقتل كسرى وأنّ الله سلّط ابنه « شيرويه » عليه ، فقتله في شهر كذا وليلة كذا ، وذلك عندما كتب كسرى إلى « باذان » وهو باليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به ، فبعث باذان « بابويه » وكان كاتباً حاسباً ورجلاً آخر من الفرس فأعلما النبي بما قدما له ، فقال لهما رسول الله : أرجعا حتى تأتيان غداً ، فلمّا أتيا تنبّأ بقتل كسرى وأمر بهما أن يقولا لباذان : « ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى وينتهي منتهى الخف والحافر » (٣).

١٤. تنبّأ النبي بأنّه لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة وقد روى حصين عن أبيه جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبي على النبي سمعته يقول : أنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، قال ثمّ تكلم بكلام خفي علي ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلّهم من قريش (٤).

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ممّا يقف عليه المتتبع في مسانيد الحديث

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣٦٦.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٢٣.

(٣) الطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٦٠ ، تاريخ الكامل ج ٢ ص ١٤٦ ، السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٧٨.

(٤) صحيح مسلم ج ٢ ص ١٩١ ، ورواه غيره بصور متقاربة.

٤٧٠

وصحاحه وجوامع التاريخ أتينا بها ، ليكون القارئ على بصيرة من الأمر ولا يصغي لدعوة العناصر المعاندة من رماة القول على عواهنه.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا درست حقيقة النبوّة وما أكرم الله سبحانه به أنبيائه من نفسيات وملكات كالعصمة والقداسة الروحية والنزاهة النفسية ، والعلم الذي لا يضلّون معه في شيء ، إلى كثير من كرائم وفضائل ، حتى جعلهم أكمل البشر خلقاً وخُلقاً ، وأصدقهم قولاً وأحاطهم بالرعاية ، وشملهم بالعناية ، كما قال سبحانه مخاطباً نبيّه الأكرم : ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) ( الطور ـ ٤٨ ) ، لوقفت أنّ التنبّؤ بالغيب والاخبار عن غابر الحوادث وطارئها ليس أمراً عجيباً في جنب ما منح الله لهم من عظائم المواهب ، وكرائم الفضائل.

فعند ذاك فلا غرو فيما اخبروا عن غابر الاُمور وطارئها مما نقلناه وما لم ننقله فإنّ النبوّة منصب إلهي خطير لا يستحقه إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس وأفضلهم وأجمعهم للكمالات وأعلمهم بالحقائق والاُمور ، ممّن شملته العناية الالهية وتعلّم منه ما لم يكن يعلمه هو ولا قومه كما قال : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ( آل عمران ـ ٤٨ ).

وقال سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ) ( هود ـ ٤٩ ) ، وقال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ) ( يوسف ـ ٦٨ ) ، وقال : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( يوسف ـ ٩٦ ) ، فعند ذاك فلا عجب إذا أخبروا بغابر الاُمور وطارئها ، أو بكل ما كان وما يكون من الحوادث باذن من الله سبحانه ف‍ ( أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ).

تنبّؤات علوية :

هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صنو النبي ، وباب علمه ووارثه ، قد تنبّأ بملاحم أحداث وفتن في حياته وأيام امارته أخذها من منهلها العذب ونميرها الصافي ،

٤٧١

فصدق الخبر الخبر ، فتحقق بعضها بعد مئات السنين ، ولم يكن تنبّؤ الوصي عن تكهّن وتخرّص ولا عن فراسة ومحاسبات عادية ، وشتّان بين تخرّص متخرّص ، أو كهانة متكهّن ، أو تفرّس متفرّس ، وما تنبّأ به الوصي على صهوات المنابر في الحواضر الإسلامية وميادين الحروب الطاحنة وأندية الوعظ والتبليغ معلناً بأنّ ما ذكره وراثة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلم وصل إليه منه ، ودونك نماذج ممّا وقفنا عليه :

قام خطيباً في البصرة مخاطباً أهلها الناكثين عندما وضعت الحرب أوزارها وقال :

١. كأنيّ بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها (١).

وقد وقع المخبر به ، فإنّ البصرة غرقت مرتين في أيام القادر بالله ، ومرّة في أيام القائم بأمر الله ، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلاّ مسجدها الجامع ، بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر ، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين عليه‌السلام فقد جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ، وخربت دورها ، وغرق كل ما في ضمنها ، وهلك كثير من أهلها (٢).

٢. قوله : وكأنيّ وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، يثيرون الأرض بأقدامهم ، كأنّها أقدام النعام (٣).

٣. قوله : وكأنيّ أراها قوماً كأنّ وجوههم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، يعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك استحرار قتل ، حتى يعيش المجروح على المقتول ، ويكون المفلت ، أقل من المأسور (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢.

(٢) الشرح الحديدي ج ١ ص ٢٥٣.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ١٢٤ ، قال الشريف الرضي : يومي بذلك إلى صاحب الزنج ، وقد ذكر أخباره الطبري في تاريخه ج ٣ ص ١٧٤٣ طبع أوربا ، والمسعودي في مروج الذهب ج ٤ ص ١٩٤ ، ونقله الشارح المعتزلي في شرح النهج ج ٨ ص ١٢٦ ـ ٢١٤.

(٤) نهج البلاغة الخطبة ١٢٤.

٤٧٢

يومي به إلى فتنة التتار وجيشه العرمرم الذي أعدّه رئيسها لغزو المسلمين وهدم بلادهم ونهب أموالهم وقتل صغيرهم وكبيرهم ، وقد ذكر ابن الاثير ، هذه الحادثة المؤلمة في تاريخه ( في حوادث سنة ٦١٧ وما بعدها ج ٩ ص ٣٢٩ ـ ٣٨٧ ).

وقال في أوّلها : ولقد بقيت عدّة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة ، استعظاماً لها ، كارهاً لذكرها ، فأنا أقدم إليه رجلاً واُخّر اُخرى ، فمن الذي يسهل عليه ، أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ؟ من ذا الذي يهون عليه ذكره ، فياليت اُمّي لم تلدني ، ويا ليتني مت قبل هذا ، وكنت نسياً منسياً ، إلاّ أنّه حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها ، وأنا متوقف ، ثمّ رأيت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً.

وقد نقل الشارح الحديدي ج ٨ ص ٢١٨ ـ ٢٤١ اجمال هذه الملحمة أيضاً ، فراجع.

٤. ومثل إخباره عمّا يجري بعد وفاته على الاُمّة وتعرفهم على شخصيته البارزة بعد ما كانت مجهولة كقوله : « غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي » (١).

٥. ومثل إخباره عن ملك بني اُمية وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض حيث قال : « أقسم ثمّ أقسم لتنخمنها (٢) اُمية من بعدي كما تلفظ النخامة ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبداً ماكر الجديدان » (٣).

٦. وقوله مخبراً عن تسلّط معاوية على العراق والزامه الناس بسب علي عليه‌السلام والبراءة منه كما يقول : « أمّا أنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ; ولن تقتلوه ألا وإنّه سيأمركم بسبّي

__________________

(١) نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة ١٤٥.

(٢) نخم ـ كفرح ـ أخرج النخامة من صدره فألقاها ، والنخامة ـ بالضم ـ ما يلف ـ ظه الصدر أو الدماغ من المواد المخاطية.

(٣) نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة ١٥٣.

٤٧٣

والبرائة منّي ، أمّا السب فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّي فإنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة » (١).

قال الشارح الحديدي : وكثيراً من الناس يذهب إلى أنّه عليه‌السلام عنى زياداً وكثير منهم يقول : أنّه عنى الحجاج وقال قوم : أنّه عنى المغيرة بن شعبة ، والأشبه عندي : معاوية لأنّه كان موصوفاً بالنهم وكثرة الأكل وكان بطيناً يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه ـ إلى أن قال ـ : وتظافرت الأخبار بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعى على معاوية لما بعث إليه يستدعيه فوجده يأكل ثم بعث فوجده يأكل فقال اللّهمّ لا تشبع بطنه وقال الشاعر :

وصاحب لي بطنه كالهاوية

كأن في أحشائه معاوية (٢)

٧. ما يومى إلى سلطة الحجاج : لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه ، إذاً لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم ، وتندمون على أنفسكم ـ إلى أن قال : ـ أما والله ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذيال الميال ، يأكل خضركم ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة (٣).

٨. تنبّأ بما ستلقى الاُمّة من مروان وولده بقوله ـ لما اُخذ مروان أسيراً يوم الجمل ـ : « أما أنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه (٤) ، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الاُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر » (٥) وفسّروا الأكبش الأربعة بولد عبد الملك بن مروان وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام الذين سوّدوا تاريخ الخلافة بل تاريخ الانسانية بجناياتهم الموبقة

__________________

(١) نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة ٥٦.

(٢) الشرح الحديدي ج ٤ ص ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ١١٢ : الوذح ما يتعلق بذنب الشاة من البعار فيجف ، والمراد هنا الخنفساء وقد لسعت يد الحجاج فورمت يده وأخذته حمى من اللسعة فأهلكته ، ولا يخفى أنّ في هذا الكلام القصير تنبّؤات.

(٤) تصوير عن قصر مدتها ، وكانت تسعة أشهر ، وهذا تنبّؤ آخر.

(٥) نهج البلاغة ط عبده ص ٧٠.

٤٧٤

وخزاياتهم المهلكة.

٩. هذا « عرفة » الأزدي وهو من أصحاب النبي و « الصفة » وقد دعا له النبي أن يبارك له في صفقته يقول : دخلني شك في شأن علي عليه‌السلام فخرجت معه على شاطئ الفرات ، فعدل عن الطريق ووقف ووقفنا حوله ، فقال ـ مشيراً بيده ـ : « هذا موضع رواحلهم ، ومناخ ركابهم ، ومهراق دمائهم بأبي من لا ناصر له في الأرض ولا في السماء إلاّ الله » ، فلمّا قتل الحسين ، خرجت حتى أتيت المكان الذي قتلوا فيه ، فإذا هو الحال ما أخطأ شيئاً ، قال : فاستغفرت الله مما كان من الشك وعلمت أنّ علياً عليه‌السلام كان على حق لم يقدم إلاّ بما عهد إليه منه (١).

١٠. ما تنبأ به عليه‌السلام عندما عزم على حرب الخوارج ، قيل له : انّ القوم قد عبروا جسر النهروان ، قال : مصارعهم دون النطفة والله لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة.

قال الرضي : يعني بالنطفة ماء النهر وهي أفصح كناية عن الماء وقال الشارح الحديدي : هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لاشتهاره ونقل الناس كافة له وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب.

والاخبار على قسمين :

أحدهما : الأخبار المجملة ولا اعجاز فيها : نحو أن يقول الرجل لأصحابه : انّكم ستنتصرون على هذه الفئة التي تلقونها غداً ، فإن نصر ، جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسماها معجزة ، وإن لم ينصره قال : تغيّرت نيّاتكم وشككتم في قولي ، فمنعكم الله نصره ونحو ذلك من القول ، ولأنّه قد جرت العادة على أنّ الملوك والرؤساء يعدّون أصحابهم بالظفر والنصر ، ويمنّونهم الدول ، فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمّن اعجازاً.

والقسم الثاني : في الأخبار المفصلة عن الغيوب ، مثل هذا الخبر فإنّه لا يحتمل

__________________

(١) اُسد الغابة ج ٤ ص ١٦٩.

٤٧٥

التلبيس ، لتقييده بالعدد المعيّن في أصحابه وفي الخوارج ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه ، من غير زيادة ولا نقصان وذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة الله سبحانه ، والقوّة البشرية تقصر عن ادراك مثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره.

وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته ، وأحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا ، حتى نسب إلى أنّ الجوهر الإلهي حلّ في بدنه كما قالت النصارى في عيسى عليه‌السلام وقد أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال : « يهلك فيك رجلان محبّ غال ومبغض قال ».

وقال له تارة اُخرى : « والذي نفسي بيده لولا أنّي أشفق أن تقول طوائف من اُمّتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالاً لا تمرّ بملأ من الناس إلاّ اخذوا التراب من تحت قدميك للبركة » (١).

ثمّ قال : وإعلم انّا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ولكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه باقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه ، فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدّعي النبوّة ، لم يجز أن يكون ذلك إلاّ بإذن الله سبحانه وتمكينه ، وأن يريد به تعالى استدلال المكلّفين على صدق مدّعى النبوّة.

وأمّا إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدّعياً للنبوّة ، نظر في حاله ، فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنّه كرامة أظهرها الله تعالى على يده أبانة له وتمييزاً عن غيره ، كما في حقّ علي عليه‌السلام وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ساحراً أو كاهناً ، أو نحو ذلك.

وبالجملة فصاحب هذه الخاصية أفضل وأشرف ممّن لا يكون فيه من حيث اختصاصه بها فإن كان للانسان العاري منها مزية اُخرى يختص بها توازيها أو تزيد عليها ، فنرجع إلى التمثيل والترجيح بينهما ، وإلاّ فالمختص بهذه الخاصية أرجح وأعظم

__________________

(١) الشرح الحديدي ج ٥ ص ٤.

٤٧٦

من الخالي منها على جميع الأحوال (١).

١١. لما قتل الخوارج وقيل له : يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم فأجابهم :

كلاّ والله ، إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء (٢) كلّما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً (٣) سلاّبين.

قوله عليه‌السلام : « كلّما نجم منهم قرن قطع » استعارة حسنة ، يريد : كلّما ظهر منهم قوم استؤصلوا ، فعبّر عن ذلك بلفظة « قرن » كما يقطع قرن الشاة إذا نجم ، وقد صح إخباره عليه‌السلام عنهم انّهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان وأنّها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد ، وهكذا وقع وصحّ إخباره عليه‌السلام أيضاً أنّه سيكون آخرهم لصوصاً سلاّبين ، فإنّ دعوة الخوارج اضمحلّت ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض.

وممّن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني في أيام الرشيد بن المهدي فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله وحمل رأسه إلى الرشيد.

ثم خرج في أيام المتوكل ، ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق وأخاف السبيل ، وتسمّى بالخلافة ، فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي.

وقد خرجت بعد هذين جماعة من الخوارج ، وكلّهم بمعزل عن طرائق سلفهم وإنّما وكدهم وقصدهم إخافة السبيل والفساد في الأرض واكتساب الأموال من غير حلّها (٤).

١٢. وقد أماط الإمام الستر عن وجه الحقيقة وعن كمية علمه وكيفيته في بعض خطبه وأقسم فيه بالله الذي نفسه بيده ، أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين

__________________

(١) المصدر نفسه ص ١٢ ـ ١٣.

(٢) قرارات النساء كناية عن الأرحام.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ٥٩.

(٤) الشرح الحديدي ج ٥ ص ٧٣ ـ ٧٧.

٤٧٧

القيامة إلاّ أخبرهم به وأنّه ما صح من طائفة من الناس ، يهتدي بها مائة وتضل بها مائة إلاّ وهو مخبر لهم إن سألوه برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ومن يقتل منها قتلاً ، ومن يموت منها موتاً ، حيث قال بعد أنّ فرغ من قتال الخوارج :

« أيّها الناس فإنّي فقأت عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها ، واشتد كلبها.

فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده ، لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة ، إلاّ أنبأتكم (١) بناعقها وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحط رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً.

ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الاُمور ، وحوازب الخطوب ، لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسؤولين ، وذلك إذا قلصت حربكم ، وشمرت عن ساق ، وكانت الدنيا عليكم ضيقاً تستطيلون أيام البلاء عليكم ، حتى يفتح الله لبقية الأبرار منكم.

انّ الفتن إذا أقبلت شبهت ، وإذا أدبرت نبهت ، ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن حول الرياح ، يصبن بلداً ، ويخطئن بلداً.

ألا وأنّ أخوف الفتن عندي عليكم ، فتنة بني اُمية ، فإنّها فتنة عمياء مظلمة ! عمت خطتها ، وخصت بليتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، وأخطأ البلاء من عمى عنها.

وأيم الله لتجدن بني اُمية لكم أرباب سوء بعدي ، كالناب الضروس ، تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درها ، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم ، إلاّ نافعاً لهم ، أو غير ضائر بهم.

ولا يزال بلاؤهم عنكم ، حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد

__________________

(١) مخطوطة النهج : « نبّأتكم ».

٤٧٨

من ربّه ، والصاحب من مستصحبه ، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية ، وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منها منار هدى ولا علم يرى.

نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة ، ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم ، بمن يسومهم خسفاً ، ويسوقهم عنفاً ، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلاّ السيف ، ولا يحلسهم إلاّ الخوف ، فعند ذاك تود قريش بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاماً واحداً ، ولو قدر جزر جزور ، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه ، فلا يعطوننيه » (١).

قال ابن أبي الحديد : ولقد امتحنّا اخباره فوجدناها موافقة ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة ، كاخباره عن الضربة التي يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته ، واخباره عن قتل الحسين ابنه عليه‌السلام ، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها ، واخباره بملك معاوية الأمر من بعده واخباره عن الحجاج ، وعن يوسف بن عمر ، وما أخبره به من أمر الخوارج بالنهروان ، وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم ، وصلب من يصلب ، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليه‌السلام إلى البصرة لحرب أهلها ، وإخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه : « خب ضب يروم أمراً ولا يدركه ، ينصب حبالة الدين لإصطياد الدنيا وهو بعد مصلوب قريش ».

وكاخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة اُخرى بالزنج وهو الذي صحفه قوم فقالوا : بالريح ، وكاخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق ، ( بتقديم المهملة ) وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية ،

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٨٩ ، قال الشارح الحديدي : وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير ، وهي متداولة مستفيضة ، خطب بها علي عليه‌السلام بعد انقضاء أمر النهروان وفيها ألفاظ لم يوردها الرضي من ذلك قوله : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي ميّت عن قريب أو مقتول ، بل قتلاً ، ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه بدم » وضرب بيده إلى لحيته. لاحظ نهج البلاغة ج ٧ ص ٥٧.

٤٧٩

وكاخباره عن الأئمّة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما في قوله عليه‌السلام : « وإنّ لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره الله إذا شاء دعاؤه حق يقوم باذن الله فيدعوا إلى دين الله ».

وكاخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله : « إنّه يقتل عند احجار الزيت » وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة (١) : « يقتل بعد أن يظهر ويقهر بعد أن يقهر » وقوله أيضاً : يأتيه سهم غرب (٢) يكون فيه منيته فيا بؤساً للرامي شلّت يده ووهن عضده » واخباره عن قتلى « وج » وقوله فيهم : « هم خير أهل الأرض ».

وكاخباره عن المملكة العلوية بالغرب ، وتصريحه بذكر كتامة ، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم ، وكقوله وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدي : وهو أوّلهم ثمّ يظهر صاحب القيروان الغض البض ، ذو النسب المحض ، المنتجب من سلالة ذي البداء ، المسجى بالرداء ، وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة رخص البدن ، تار (٣) الأطراف ، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما‌السلام وهو المسجّى بالرداء لأنّ أباه أبا عبد الله جعفر أسجاه برداءه لما مات ، وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدوه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.

وكاخباره عن بني بويه وقوله فيهم : « ويخرج من ديلمان بنو الصياد » اشارة إليهم وكان أبوهم صياد السمك ، يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه ، فاخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة ، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم ، وكقوله عليه‌السلام فيهم : « ثمّ يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء » فقال له قائل : فكم مدته يا أمير المؤمنين ؟ فقال : « مائة أو تزيد قليلاً » وكقوله فيهم : والمترف ابن

__________________

(١) كذا في النسخة وكتب الينا المحقق الشيخ محمد تقي التستري أن الصحيح : « بباخمرى ».

(٢) سهم غرب ، أي لا يدرى راميه.

(٣) التار : الممتلئ جسمه وعظمه ريا.

٤٨٠