مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

٧. صالح عليه‌السلام والتنبّؤ بالغيب :

قال سبحانه : ( وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ( هود : ٦٤ ـ ٦٥ ).

أخبر نبي الله صالح عليه‌السلام بمصير قومه السيء إذا مسوا الناقة بسوء ، تلك الناقة التي كانت تمثل معجزته حين دعاهم إلى الله وإلى التصديق بنبوته ، وهكذا يتحقق ما أخبر به هذا النبي عن مصير قومه بعد أن عقروا الناقة فيأتيهم البلاء بعد ثلاثة أيام فقط كما قال تعالى : ( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) ( الذاريات : ٤٣ ـ ٤٤ ) وأي غيب أعظم من هذا يا ترى ؟

٨. اطّلاع سليمان عليه‌السلام بالغيب :

قال سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ ) ( النمل ـ ١٦ ) وهل معرفة داود وسليمان منطق الطير إلاّ قسماً من الغيب ؟

وقال سبحانه : ( حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ) ( النمل : ١٨ ـ ١٩ ).

ألا يعد اطّلاع سليمان على لسان النمل من علم الغيب ؟ ثمّ ألا يكون هذا خرقاً للعادة البشرية ؟

وقال سبحانه : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * ... فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) ( النمل : ٢٠ ـ ٢٢ ).

٤٢١

وهل الاطّلاع على لسان الهدهد إلاّ اطّلاع على الغيب ؟

٩. المسيح عليه‌السلام والتنبّؤ بالغيب :

قال سبحانه : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) ( آل عمران ـ ٤٩ ).

طفق المسيح عليه‌السلام ينبئ قومه ـ بإذنه سبحانه ـ بأسرارهم وما كانوا يدّخرون في الصيف لشتائهم بمقداره ولونه وحقيقته. وكان ذلك إحدى معجزاته.

وكذا قوله :

( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف ـ ٦ ).

أليس في إخبار عيسى عليه‌السلام وتبشيره بقدوم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ستمائة عام إخباراً عن الغيب ؟

ونظيره ما ورد في العهدين حول نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذكر أسمائه وصفاته وما يحل به وبأولاده واُمته وغلبة دينه على جميع الشرائع ، فإنّ تلكم البشارات الواردة فيها مع تحقق مضمونها تعتبر دليلاً على أنّ المبشرين بها كانوا يعلمون الغيب وهم إمّا أنبياء الاُمم السالفة أو أوصياؤهم.

١٠. انباء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغيب :

قال سبحانه : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ ) ( التحريم ـ ٣ ).

قال الطبرسي : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسرّ إلى حفصة حديثاً ، أمرها باخفائه لكن حفصة أخبرت غيرها به ، فأفشت سره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأطلع الله نبيه على ما جرى من افشاء سره فعرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفصة ببعض ما ذكرت وأفشت ، وأعرض عن بعض ما ذكرت فلم يخبر

٤٢٢

بجميع ما أخبرت به ، فسألته عن أنّه كيف اطّلع على اخبارها وافشائها سره فقال : نبّأني العليم الخبير بسرائر الصدور (١) ، وهو يدل على أنّ الله أطلع نبيه على الغيب عن طريق القرآن.

هذه الآيات التي مرّت حتى الآن ذكرت لنا بعض المواضع التي أخبر فيها أنبياء الله عن الغيب ، مثل آدم ونوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف وصالح وداود وسليمان وعيسى وخاتم الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهناك آيات قرآنية اُخرى دلّت على أنّ أشخاصاً غير الأنبياء أيضاً أخبروا عن الغيب ، ويتضح من هذا أنّ موضوع الاطّلاع على الغيب لا ينحصر بطبقة الأنبياء بل هو فضل الله يخص به من يشاء من عباده الصالحين وإليك الآن بعض هذه الآيات :

١١. اطّلاع مريم عليها‌السلام على الغيب :

قال سبحانه : ( إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران : ٤٥ ـ ٤٦ ).

وهل يدخل ادراك مريم بانّها سترزق ولداً رغم عدم تزوجها ثم علمها باسمه وخصائص شخصيته إلاّ في قائمة الاُمور الغيبية ؟

١٢. الغيب وامرأة إبراهيم :

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ... * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود : ٦٩ ـ ٧٣ )

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣١٦.

٤٢٣

أمّا تعرّفت زوجة إبراهيم بأنّ الله سبحانه وتعالى سيرزقها ولداً عند كبر سنها عن طريق الغيب ؟ إنّ مثل هذه المواضيع التي ينحصر معرفتها عن طريق الملائكة يعرفها أناس ليسوا بأنبياء وهل نستطيع أن نفسر معرفتهم لها عن غير طريق الغيب ؟

١٣. الغيب واُم موسى :

قال سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص ـ ٧ ). ويظهر من هذه الآية أنّ اُم موسى عرفت عن طريق الغيب مستقبل ولدها وأنّ الله تعالى سيحفظه إلى أن يعيده إليها سالماً ، فنحن هنا لا نجد أي فرق بين اطلاعها على الغيب أو اطلاع أحد من الأنبياء والأوصياء عليه.

١٤. الغيب وصاحب موسى :

هذا صاحب موسى الذي آتاه الله رحمة وعلماً من عنده ، قد أحاط بما لم يحط به موسى عليه‌السلام فخرق السفينة ، علماً منه بأنّ وراء السفينة ملكاً يأخذ كل سفينة غصباً ، فخرقها حتى لا يرغب فيها ، وقتل غلاماً كان أبواه مؤمنين فخشى أن يرهقهما طغياناً وكفراً وأقام جداراً يريد أن ينقض لعلمه بأنّ تحته كنزاً لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ستره وصيانته عن أعين الناس حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، ثم أسند علمه وعمله هذا إلى الله تعالى وقال : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ( الكهف : ٦٠ ـ ٨٢ ).

فدلّ هذا على أنّ الله تعالى هو الذي أخبره عن هذه الأسرار الغيبية. والنظرة الموضوعية في هذه الأدلة الكافية من القرآن الكريم لا تدع للباحث مجالاً للشك أو التردد في هذه المسألة.

والحقيقة التي نصل إليها بعد كل هذا : أنّه لا يمكن لمن آمن بالقرآن أن ينفي

٤٢٤

( علم الغيب ) عن البشر لأنّ القرآن أثبت ـ كما رأينا ـ هذا العلم للأنبياء ولغيرهم من بعض الصالحين ، وأمّا الآيات القرآنية التي دلّت بظاهرها على اختصاص علم الغيب بالله ونفيه عن البشر فقد أوضحنا المقصود منه ، فلاحظ.

ولا بأس ختاماً للبحث أن نذكر بعض الآيات الاُخرى التي استدل بها علماؤنا الإمامية في هذا المجال وإن كان للمناقشة مجال في بعضها :

١٥. النبي شهيد على الاُمّة :

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد على الاُمّة بنص القرآن العظيم والشهادة على الشيء فرع العلم به وذلك في قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ( البقرة ـ ١٤٣ ) وقوله سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ شَهِيدًا ) ( النساء ـ ٤١ ).

وليس المراد من الشهادة في الآيتين وغيرهما الشهادة على صور الأعمال والأفعال حتى يكتفي فيه بالحواس العادية والقوى الكامنة في البدن بل الشهادة على حقائق الأعمال والمعاني القلبية من الكفر والإيمان والإخلاص والرياء وغيرها وهي مما لا تكفيه الحواس العادية بل يحتاج إلى احساس آخر وراء الاحساس العادي.

١٦. المؤمنون شهداء على المنافقين :

ما دل على أنّ الله ورسوله بل المؤمنون يرون عمل المنافقين وذلك في قوله سبحانه : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة ـ ٩٤ ).

ونظير قوله سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة ـ ١٠٥ ).

٤٢٥

لكن في دلالة الآيتين على تعرّف النبي والمؤمنين على الغيب تأملاً لأنّ المتبادر في بادئ النظر من رؤية الأعمال هو شهودها بأنفسها أو شهودها بآثارها ونتائجها والآية الأولى تهدف إلى أنّ العبرة بالعمل لا بالاعتذار عن التقصير وهو لا يخفى بعد على الله ورسوله ، والمتبادر من الآية الثانية هو ذاك أيضاً لأنّه عطف على قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) أي أعملوا لدنياكم وآخرتكم وهو لا يخفى على الله ولا على رسوله ولا على الناس وهو ممّا تكفي فيه الحواس الظاهرية ولا يتوقف على العلم بالغيب.

ورؤية الأعمال بهذا المعنى وإن كانت لا تختص بالمؤمنين بل تعم الناس جميعاً غير أنّه لمّا كان البحث والحوار في الآية دائراً بين المؤمنين والمنافقين خص الله سبحانه المؤمنين بالذكر وأعرض عن غيرهم.

نعم ربّما يستظهر أنّ المراد من رؤية عملهم هو الوقوف على حقائق الأعمال ومقاصدهم من أعمالهم وهو مما لا يمكن الاطّلاع عليها من طريق الآثار والنتائج بل يتوقف على ادراك غيبي وعند ذاك يكون المراد من المؤمنين شهداء الأعمال لا كلّهم.

حصيلة البحث :

ليس هناك أي مانع من أن يعلم الله أحد أوليائه بشيء من غيبه المكتوم وسره المخفي مما كتمه على غيره وستره عنه.

نعم لا يجب على كل من اطلع على الغيب ، اعلام الناس به أو العمل به فلا يستلزم العلم بالشيء ، العمل به أو إخباره الناس بذلك فإنّ هناك مراحل ثلاث مرحلة الاطّلاع ، مرحلة العمل ، ومرحلة الاعلام ، ولكلّ مقتضيات وشرائط وموانع تجب رعايتها نظير القاضي إذ ليس له إلاّ الحكم على وفق ما سمع واقيمت عنده البينة لا على وفق ما علم.

وسيوافيك توضيح هذا الأمر عند الأجابة عن التساؤلات الموجودة حول علم الغيب.

٤٢٦

ما هو مفاد الآيات النافية

لعلم الغيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

ثم إنّ هناك آيات تسلب بصراحة العلم بالغيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما مفادها وكيف يجتمع مفادها مع الآيات المثبتة وإليك الآيات :

١. ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( الأحقاف ـ ٩ ).

٢. ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ) ( الأنعام ـ ٥٠ ).

٣. ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( هود ـ ٣١ ).

٤. ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف ـ ١٨٨ ).

٥. ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا

٤٢٧

تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة ـ ١٠١ ).

٦. ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٩ ).

٧. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة ـ ١٠٩ ).

٨. ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلإِ الأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( ص : ٦٩ ـ ٧٠ ).

فما مفاد هذه الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصراحة إزاء ما دلّت آيات اُخرى على وجود علم الغيب عند الأنبياء ، بل عند بعض الصالحين أيضاً وكيف تفسر هذه الآيات ؟

الجواب :

إنّ الوقوف على مفاد هذه الآيات النافية سهل بعد الوقوف على ما ذكرناه من أنّ علم الغيب الثابت للنبي ، غير الثابت لله سبحانه ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في الجزء الأوّل وقلنا : بأنّ القرآن بينما يثبت فعلاً لله سبحانه على وجه الحصر في مورد ، يثبته لغيره أيضاً ، فمثلا عندما يقول : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) على وجه الحصر نافياً طلب العون من غيره سبحانه ، يأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة وهما غيره سبحانه حيث يقول : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ( البقرة ـ ٤٥ ).

فعندما يقول : ( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر ـ ٤٢ ) ويجعل التوفيّ فعلاً مختص بالله سبحانه ، يثبته لغيره كالملائكة حيث يقول : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) ( النحل ـ ٣٢ ).

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي بينما ينسب فيه الفعل إليه سبحانه على وجه الحصر ، ينسب إلى غيره أيضاً ، والحل في الجميع واحد وهو أنّ اللائق بساحته الأقدس

٤٢٨

والمنسوب إليه سبحانه ، غير الثابت لغيره ، فالثابت هو الفعل الاستقلالي غير المتكئ على أحد ، إلاّ ذاته سبحانه ، والمنفي عن عباده هو ذاك الفعل الاستقلالي أو الثابت لهم هو الفعل التبعي القائم بالله سبحانه ، وبالوقوف على ما ذكرناه ينفتح عليك باب من أبواب معرفة الذكر الحكيم ، وقد أوعزنا إلى ذلك الأمر في هذه الموسوعة غير مرّة (١).

ولأجل إيضاح مفاد هذه الآيات النافية ، نبحث عن كل واحدة بحثاً مستقلاً ، ليتضح الحق بأجلى مظاهره فنقول :

أمّا الآية الاُولى فهي مكونة من أربع فقرات ، ولمعرفة دلالة الآية بصورة صحيحة لابد من معرفة دلالة كل فقرة من هذه الفقرات الأربع المكوّنة للآية بشكل كامل وهذه الفقرات هي :

١. ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ).

٢. ( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ).

٣. ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ).

٤. ( وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ).

تشير الفقرة الاُولى إلى خطأ المشركين في ظنهم بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب أن يستثنى من سائر البشر العاديين ، ولا يشابههم في عادتهم من أكل وشرب ونوم وما شاكل ذلك ، وكانوا يقولون لو كان محمد نبياً حقاً لما كان مثل الناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فلا يمكن أن يكون نبياً ـ حسب زعمهم ـ إلاّ أن يتنزّه من تلكم الصفات الموجودة في البشر عادة ، وقد أشار القرآن إلى زعمهم بقوله : ( مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ) ( الفرقان ـ ٧ ).

وقد كشف القرآن عن خطأهم في هذه الفقرة من الآية حيث قال : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) ومعناها أنّ هذا النبي الجديد لا يختلف عن الأنبياء السابقين في هذه

__________________

(١) لاحظ الجزء الأوّل ص ٣٦٢ ـ ٣٦٤.

٤٢٩

الصفات البشرية من أكل الطعام ومشي في الأسواق ، وهذه الصفات ليست أمراً جديداً في هذا النبي بل أنّها صفات دائمة لكل نبي بعثه الله تعالى.

كما كشف في سورة الفرقان أيضاً وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ) ( الفرقان ـ ٢٠ ).

ويفهم من هاتين الآيتين أنّ المشركين كانوا يتوقعون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُموراً هي فوق طبيعة البشر ، حيث زعموا عدم اجتماع النبوّة مع أكل الطعام والمشي في الأسواق.

بل كانوا معتقدين بلزوم وجود قدرة غير متناهية عند النبي المبعوث يختلف بها عن غيره من البشر ، وبذلك انتظروا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلم الغيب ذاتياً دون ارتباط بالله تعالى ، يعلمه وكأنّ الأمر قد فوّض إليه.

إنّ الله تبارك وتعالى خاطب نبيّه مبطلاً هذا الزعم بقوله : ( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) أي قل لهم يا محمد إنّني بشر ولا يستطيع أحد من البشر أن يتنبّأ بمصيره أو مصائر الآخرين دون إلهام من الله تعالى. فالآية الكريمة اذن تنفي ذلك اللون من علم الغيب الذي يتصوره بشكل ذاتي ، وبصورة تفويض مطلق من غير ارتباط بالله تعالى ، وهو الأمر الذي طلبه المشركون ، وهو لا يصطدم ـ أبداً ـ بما أثبتناه نحن من وجود علم الغيب عند الأنبياء بتعليم من الله.

ولأجل نقد هذه المزعمة يقول في الفقرة الثالثة : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) وقد وقفت على أنّ الوحي أحد الطرق التي يطلع الله بها أنبياءه على الاُمور الغائبة عن الحس والأشياء الخفية.

ولو كانت الآية الكريمة تريد نفي ( علم الغيب ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اطلاقاً استقلالاً وتبعاً ذاتياً واكتسابياً لكانت الآية مناقضة لنفسها ، حيث أثبتت قسماً من الغيب للنبي وهو الغيب الذي يأتي عن طريق الوحي وذلك في الفقرة الثالثة ، ولو كانت الفقرة الثالثة من الآية قد جاءت عن طريقة الاستثناء لأمكننا تصديقه بأنّها جاءت على وجه الاستثناء ، ولكنّها لم تأت على طريقة الاستثناء كما هو واضح.

٤٣٠

فقد اتضح مما ذكرناه أنّ الفقرة الثانية من الآية لا تنفي عن النبي إلاّ علم الغيب بشكله الذاتي بينما أثبتت الفقرة الثالثة منها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم الغيب عن طريق الوحي بشكله التبعي ، والفقرة الرابعة من الآية توضح ما وصلنا إليه أيضاً حيث تقول : ( وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ومعناها : أنّ ما ترتقبونه منّي من علم غيب ذاتي ليس إلاّ عبثاً ، إنّما أنا نبي نذير اُخبركم عمّا أطلع عليه عن طريق الوحي فقط ، ولا أعرف شيئاً دون تعليم الله تعالى.

أمّا الآية الثانية أعني قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) ( الأنعام ـ ٥٠ ) فبالنظر إلى ما ذكرناه من التصورات الخاطئة التي حملها المشركون في أذهانهم عن الأنبياء ، يتضح مفهوم هذه الآية أيضاً ، إذ أنّهم ترقبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلم الغيب من عند نفسه ودون سابق ارتباط بالله ، ولكن الآية ترد عليهم هذا الارتقاب غير الصحيح بقولها : ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) أي لا أعلم الغيب إلاّ من الله ، والفقرة الأخيرة من الآية تدل على ذلك : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) أي انّي عن طريق الوحي أطلع على الغيب.

أمّا الآية الثالثة أعني قوله سبحانه : ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) ( هود ـ ٣١ ).

فغنية عن التوضيح إذ أنّها لا تختلف عن الآية الثانية لفظاً ومفاداً.

أمّا الآية الرابعة أعني قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف ـ ١٨٨ ).

فيتضح مفهومها بملاحظة ما قدمناه حول الآية الاُولى حيث أنّها تبطل ما يحمله المشركون في أذهانهم اتّجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تصورات خاطئة من قبيل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب أن يحظى بقدرة فائقة وسلطة عريضة في هذا الكون دون اتصال بالله تعالى ، فيجلب ـ استناداً لهذه القدرة الفائقة ـ كل خير إلى نفسه ويبعد كل شر مرتقب عنه ، ثم يخبر عن

٤٣١

الغيب أيضاً.

فيأمر الله تعالى نبيّه أن ينفي عن نفسه أيّة قدرة أو علم دون الإرتباط بالله تعالى والاستمداد منه ، وذلك تفنيداً لمزاعم المشركين الباطلة.

وتأتي جملة : ( إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ) في الآية الكريمة دليلاً آخر على أنّ الآية ليست في مقام نفي القدرة والعلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة مطلقة ، بل أنّها نفت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اللون من العلم والقدرة اللّذين يتصور أنّ النبي واجد لهما استقلالاً وبصورة التفويض ، ولأجل ذلك فالآية لم تنف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العلم والقدرة اللّذين يقتبسهما من الله ، بل أثبتت ذلك له حسب الاستثناء الوارد في قوله تعالى : ( إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ).

وبالتالي يتضح لنا مفهوم الفقرة الاُخرى من الآية وهي قوله : ( لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) الخ.

ومعناها : لو كنت أعلم الغيب دون إلهام من الله تعالى لحصلت على الخير الكثير ودفعت عن نفسي الشر الكثير ، ولكن لا أستطيع ذلك لأنّ علم الغيب ليس وصفاً ذاتياً لي ، بل هو فيض من الله ، يعطيني ذلك حين يشاء ، وفي جانب قدرة التصرف في هذا الكون أحظى بمقدار ما يشاء.

أما الآية الخامسة أعني قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة ـ ١٠١ ).

فالآية الكريمة وإن كانت تدلّ ـ بحكم كلمة ( لا تَعْلَمُهُمْ ) ـ على وجود منافقين في المدينة لا يعرفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو لا يتفق مع ما يدعى له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علم الغيب ؟ إلاّ أنّ الآية لا تدل على أكثر من نفي العلم عن النبي بالنسبة للمنافقين في ظرف نزول الآية فقط ، ولا يعني هذا نفي العلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه المنافقين في كل الظروف والأحوال ، ولا شك في أنّ الله تعالى أخفى عن نبيّه بعض الحوادث عند وقوعها ، وكان منها وضع المنافقين المؤسف في المدينة لما يحمل في طياته من ألم عميق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٣٢

ولكن هذا الأمر يختلف من أن نقول : إنّ الله أخفى عن نبيّه أحوال المنافقين حتى آخر عمره.

وثانياً : في الوقت الذي يخاطب الله نبيّه بقوله : ( لا تَعْلَمُهُمْ ) في مورد المنافقين ، يخاطبه في موضع آخر بقوله : ( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد ـ ٣٠ ) فهذه الآية الثانية تعرفنا امكان معرفة النبي للمنافقين عن طريق أقوالهم.

وثالثاً : لم يكن المنافقون مجهولين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دائماً كيف وقد عرفهم القرآن بذكر الأوصاف المختلفة لهم كما في الآية التالية : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المنافقون ـ ٤ ).

لقد وصفوا في هذه الآية بالأوصاف التالية :

١. اعطوا بسطة في الجسم.

٢. يمثّلون في ظاهرهم الحق والدين.

٣. إنّهم كالخشب المسندة التي اُسندت إلى جدار (١).

وهناك آيات اُخرى تعرف المنافقين في نفس هذه السورة ( المنافقون ) وهي ظاهرة لمن نظر إليها بدقة بل كشف النقاب عن المنافقين وعرفهم بصورة واضحة في صورة التوبة بقوله سبحانه : ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة ـ ٥٤ ) وهكذا سائر الآيات الواردة في هذه السورة.

ورابعاً : إنّ الله يأمر نبيّه بمحاربة الكفّار والمنافقين وعدم اتباع أقوالهم كما في قوله :

__________________

(١) والمقصود من هذا التشبيه : أنّ آيات القرآن وكلمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكيمة لم تؤثر فيهم الأثر الحسن المطلوب ، ولم يظهر منهم أي رد فعل ايجابي تجاه تلكم الأقوال الهادية ، فهم كالخشب المسندة أجسام لا روح فيها.

٤٣٣

١. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ( التوبة ـ ٧٣ ).

٢. ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( الأحزاب ـ ٤٨ ).

فهل يمكن أن يأمر الله نبيّه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجهاد المنافقين والغلظة عليهم ثمّ لا يعرّفهم له طيلة عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ إنّ هذه الآيات تدل ـ على سبيل الملازمة ـ على أنّ كتمان أمر بعض المنافقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يك بصورة دائمية وإنّما كان حكماً مؤقتاً.

ويخاطب الله نبيّه أيضاً بقوله : ( وَلا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) ( التوبة ـ ٨٤ ) والآية نازلة في حق المنافقين انّ هذه الآيات وغيرها تحكي لنا معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنافقين ، ولم يكن النبي وحده الذي يعرف المنافقين بل كان قد أودع أسماءهم وأوصافهم عند ( حذيفة ) (١) الصحابي الشهير. ومن هنا كان الخليفة الثاني لا يصلّي على أحد يشك في نفاقه إلاّ أن يسأل حذيفة عنه ، وهذا أمر مذكور في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتاريخ الخلفاء والصحابة من بعده.

أمّا الآية السادسة أعني قوله سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٩ ).

فالجواب عن الاستدلال بها واضح إذ البحث في أصل ثبوت علم الغيب للنبي والإمام لا في المقدار الذي يتحمّله صدر النبي أو الإمام من علم الغيب.

وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نفى في موضوع ما عن نفسه علم الغيب فإنّ ذلك لا يتنافى أبداً مع ما نحن فيه من اثبات علم الغيب له ، وهناك نقطة جديرة بالذكر في هذه

__________________

(١) راجع أسد الغابة ١ / ٣٩١ وسائر الكتب التي تترجم الصحابة ونص كلام ( اُسد الغابة ) كما يلي : « وحذيفة صاحب سر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنافقين لم يعلمهم أحداً إلاّ حذيفة أعلمهم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله عمر : أفي عمّالي أحد من المنافقين ؟ قال : نعم ، أحد ، قال : من هو؟ قال : لا أذكره ، قال حذيفة : فعزله كأنّما دل عليه ، كان ( عمر بن الخطاب ) إذا مات ميت يسأل عن حذيفة فإن حضر الصلاة عليه صلّى عليه وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضره عمر.

٤٣٤

الآية وهي :

انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ينفي عن نفسه علم الغيب هنا فهو ينفيه عن موضوع يختص علمه بالله تعالى وذلك هو يوم القيامة ، ووقت تحقق الوعد والوعيد اللّذين أنذر بهما عباده.

وسيوافيك أنّ العلم بالساعة وبموعد القيامة من الموضع أو المواضيع التي خص الله به نفسه ولم يطلع عليها أحداً ، والآيات القرآنية في هذا الموضوع صريحة إلى حد لا يمكن تصوّر خلافها ، ولا مانع أن يخبر الله نبيّه عمّا مضى ويأتي من الحوادث ولكنّه يخص علم الساعة لنفسه ، وإليكم بعض الآيات القرآنية التي صرحت بأنّ علم الساعة من مختصاته تعالى :

١. ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الأعراف ـ ١٨٧ ).

٢. ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ) ( طه ـ ١٥ ).

٣. ( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان ـ ٣٤ ).

٤. ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ) ( الأحزاب ـ ٦٣ ).

٥. ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( فصلت ـ ٤٧ ).

٦. ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزخرف ـ ٨٥ ).

دلّت هذه الآيات بصورة واضحة على أنّ علم الساعة ممّا استأثر الله بعلمها لحكمة يعلمها سبحانه وعدم اطلاع النبي على وقت الساعة لا يستلزم أبداً عدم اطلاعه على اُمور اُخرى ولكلّ الأشياء.

ولقد ورد هذا المعنى أيضاً في آية اُخرى من سورة الجن ، قال سبحانه : (حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا

٤٣٥

تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) ( الجن : ٢٤ ـ ٢٧ ).

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في هذه الآيات كما نرى ـ ينفي عن نفسه العلم بموعد القيامة لأنّ العلم بذلك من مختصاته سبحانه كما تصرح هذه الآيات.

وأمّا الآية السابعة أعني قوله : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة ـ ١٠٩ ) فقد استدل بها على نفي علم الغيب عن الأنبياء لأنّهم ينفون عن أنفسهم أي شكل من أشكال الغيب ويصفون الله بأنّه : ( علاّم الغيوب ) ولكن الاجابة عن الاستدلال واضحة بعد معرفة موارد استعمال « لا » النافية للجنس ، فإنّها وإن كانت لنفي الجنس ولكنّها تأتي على وجهين :

١. نفي الجنس حقيقة وبصورة واقعية مثل قولنا : « لا إله إلاّ الله » وقوله سبحانه : ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام ـ ٥٩ ) وقولنا : لا رجل في الدار ، حين لا يوجد رجل في الدار صغيراً كان أم كبيراً ، صحيحاً أم سقيماً.

٢. نفي الجنس على سبيل التجوز فتقول : « لا أحد هنا » حين يطرق الباب طارق فيسأل هل يوجد أحد هنا ؟ فرغم وجود شيخ كبير ، أو انسان لا طاقة له على الحركة في الدار ، ولكنّك تنفي وجود أحد في الدار مجازاً لأنّ ذلك الشيخ الكبير أو المريض لا يفيدان السائل بشيء ، فاعتبرت وجودهما كالعدم بالنسبة إلى السائل فنفيت الجنس مجازاً. ومن هذا القبيل كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام التي خاطب بها أصحابه المتخاذلين ، والذين كانوا يجعلون من الحر والبرد وسيلة للتقاعس عن ساحة الحرب والجلوس عن مجاهدة البغاة معاوية وأمثاله ، حيث قال : يا أشباه الرجال ولا رجال (١).

ونظير قوله عليه‌السلام : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ». والآية الكريمة من هذا القبيل ، فإنّ الأنبياء حين ما يقيسون علمهم المحدود الاكتسابي إلى علم الله تعالى اللامحدود واللامتناهي والذاتي ، يرون ضآلة ما عندهم من العلم تجاه ما عند الله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢٦ طبع عبده.

٤٣٦

تعالى ، حتى العلم المحدود الموجود عندهم الذي هو مظهر من مظاهر فيضه تعالى عليهم ، وعند ذاك ينفون عن أنفسهم العلم أمام المولى خضوعاً وتسليماً ويقولون : ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ويدل على ما ذكرناه من التفسير وجوه :

١. إنّ الآيات الورادة في موضوع شهادة النبي والشهداء الآخرين تصرح بأنّ الأنبياء سوف يدعون في الآخرة لأداء الشهادة قال سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) ( الزمر ـ ٦٩ ) وهل يمكن أن يشهد الأنبياء والشهداء الآخرون في المحكمة الإلهية العادلة دون علمهم بشيء من أحوال المشهود عليهم. إنّ آيات الشهادة في القرآن وخاصة قوله سبحانه : ( وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ شَهِيدًا ) ( النساء ـ ٤١ ) وقوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر ـ ٥١ ) تدفعنا إلى أنّ المراد من قوله سبحانه : ( لا عِلْمَ لَنَا ) عن لسان الأنبياء يوم القيامة هو ما قدمناه من التفسير.

٢. إنّ سلب العلم عن الأنبياء لأحوال اُممهم على وجه الاطلاق يتنافى مع ما يحكيه الله تعالى عن لسان نبيّه يوم القيامة وذلك عند تجمع الأنبياء وقيام المحكمة الالهية العادلة في قوله تعالى : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) ( الفرقان ـ ٣٠ ) وسياق الآيات الاُخر مثل قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ ) ( الفرقان ـ ٢٧ ) يوضح أنّ شكوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه تكون يوم القيامة.

٣. كيف يمكن نسبة عدم العلم إلى الأنبياء يوم القيامة بصورة كلية وهم الذين يعرفون المحسنين والمسيئين على الأعراف بسيماهم كما يقول القرآن : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) ( الأعراف ـ ٤٦ ). ثمّ إنّ نبياً ينزل عليه الوحي فيخبره عن غدر الوليد (١) وخيانته في قضية مشهورة ، أو تنزل عليه آيات قرآنية في كشف حقيقة أبي لهب ، أقول إنّ نبيّاً بهذه المنزلة هل يمكن أن يقول يوم القيامة : ( لا عِلْمَ لَنَا ) على سبيل الحقيقة ؟ دون قصد أهداف اُخرى من هذا الكلام وهو الخضوع أمام عظمة المولى جل شأنه.

__________________

(١) الحجرات ـ ٦ ولاحظ ما ورد حولها من الأخبار في التفاسير.

٤٣٧

إنّ هذه الوجوه تشير إلى الحقيقة التي قدمناها الآن وهي : أنّ الهدف من هذا النفي في قوله تعالى : ( لا عِلْمَ لَنَا ) ليس إلاّ التأدّب أمام المولى واستعمال كل أسلوب يدل على الخضوع التام أمام علم الله اللامتناهي ، وليس المراد به نفي العلم عن الأنبياء على سبيل الحقيقة والواقع.

٤. يصرح القرآن بتوجيه السؤال يوم القيامة إلى كل من الأنبياء والاُمم فيقول : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) ( الأعراف ـ ٦ ). ودلّت آيات اُخرى من القرآن على علم المجرمين والعاصين بأحوالهم الماضية في الدنيا وما تجره في ذلك اليوم إليهم من آلام ، حيث يبدون أسفهم على ما قدموا وتكون كلمة ( ليت ولعل ) طوع ألسنتهم يقول تعالى : ( يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) ( الفرقان ـ ٢٧ ) ( يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً ) ( الفرقان ـ ٢٨ ) ( فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) ( السجدة ـ ١٢ ).

ترى كم يملك نصيباً من الصحة القول : بأنّ الاُمّة تعلم يومذاك عن مرارة أوضاعها وسوء مصائرها فتطرق برؤوسها متمنية العودة إلى الحياة الدنيا لتستأنف العمل في حين ينفي الأنبياء ـ الذين عاصروا اُممهم فترات طويلة من الزمن ـ عن أنفسهم يوم القيامة أي لون من ألوان العلم على سبيل الحقيقة ؟

وبالنظر إلى كل ما قدمناه يتضح مفهوم الآية ونعلم جيداً أنّها لا تختلف أبداً عن الآيات التي تثبت علم الغيب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا الآية الثامنة أعني قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلإِ الأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( ص : ٦٩ ـ ٧٠ ) المراد من الخصومة في الآية هي خصومة الملائكة في موضوع خلق الانسان ، وقد جاءت واضحة في سورة البقرة ضمن الآية ( ٣٠ ـ ٣٣ ).

ويؤكد كون المراد من الخصومة ذلك ، قوله سبحانه بعد الآيتين : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ

٤٣٨

سَاجِدِينَ ) ( ص : ٧١ ـ ٧٢ ) هذا وأنّ التعرف على مفاد الآية يتوقّف على الاطلاع على موارد استعمال لفظة ( ما كان ) في القرآن الكريم وكيفية استعمالها قال سبحانه :

١. ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة ـ ١٤٣ ).

٢. ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي ) ( آل عمران ـ ٧٩ ).

٣. ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) ( آل عمران ـ ١٤٥ ).

٤. ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) ( الأنفال ـ ٦٧ ).

٥. ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ ) ( التوبة ـ ١٧ ).

٦. ( وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللهِ ) ( يونس ـ ٣٧ ).

٧. ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) ( الرعد ـ ٣٨ ).

إنّ التعمّق في هذه الآيات ونظائرها يعطي أنّ الهدف من هذا النفي هو نفي الاقتضاء الذاتي لمضمون الجملة ، ومعناه أنّ الموضوع لا يقتضي مثل هذا الأمر ذاتياً ، ولكن مثل هذا النفي ينقسم إلى قسمين :

١. النفي الأبدي حيث لا يحتمل التغيير والخلاف في موضوعه أبداً مثل قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) فليس من شأن الله تضييع جزاء الأعمال لأنّ تضييع جزاء الأعمال لون من ألوان الظلم وتخلف عن الوعد ، وهو منزّه عنهما.

٢. النفي غير الأبدي : وهو ما يمكن تغيير موضوعه أو مضمونه في ظل عنوان آخر كما في الآية التالية : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) ( الرعد ـ ٣٨ ).

والهدف من هذه الآية هو : أنّ أي رسول من قبل الله لا يملك القدرة على الاتيان بمعجزة ، ولكن عدم تمكن الرسول من نفسه لا يعني عدم تمكنه على الاتيان بالمعجزة على الاطلاق فإنّ ذلك ممكن له في ظلال قدرة الله تعالى.

إذا وقفت على ما ذكرناه يتضح لك مفهوم الآية المبحوث عنها ، أنّها تقول : ما

٤٣٩

كان لي من علم من جانب نفسي وذاتي بالخصومة التي وقعت بالملأ الأعلى. وهذا العلم الذاتي ليس من شأن البشر.

ولكن هذا لا يدل على عدم العلم على الاطلاق ليشمل عدم علمه عن طريق الوحي أيضاً أو في المستقبل مثلاً ، وأحسن دليل على هذا الموضوع هو الآية التالية لها حيث تقول : ( إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) فتدل الآية على أن ترقب علم الغيب الذاتي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبث ، إنّما هو نذير ، لا يوجد عند نظير مثله ما يتوقعون ولا يمكنه الاطلاع على الغيب بغير إيحاء منه سبحانه ولكنه لا يمنع من اطلاعه عليه عن طريق الكسب كما تقدم ، وكونه نذيراً لا يمنع أن يطلعه الله على بعض الاُمور الغيبية التي تعزز هدفه ، وتؤيده في الطريق ، حيث يتمكن بواسطة بث الاُمور الغيبية للناس إدخال خوف الله إلى قلوبهم فيكون نذيراً حقاً.

وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نفى عن نفسه في هذا الموضع العلم بخصومة الملأ الأعلى ، نجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواضع اُخرى من القرآن يذكر هذه الخصومة بصورة تفصيلية ، ألا يدل ذلك النفي وهذا الاثبات على ما قلناه من أنّ هدف النفي في الموضع الأوّل هو نفي العلم الاستقلالي عن نفسه لا التبعي ؟

٤٤٠