مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

السماوات والأرض ، وحقيقتهما المستورة عن الافهام ، في هذا الزمان ، فهي مما استقر عليه ملكه تعالى ، وله أن يتصرف فيه بالاخفاء تارة وبالاظهار اُخرى ، وليست بصعبة عليه تعالى ، فإنّما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لأنّ الله على كل شيء قدير.

ومن ذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) فإنّ الآيتين متقاربتان في المعنى والمقصد ، ومفاد صدر الآية : يعني كونه سبحانه مالكاً لغيب السماوات ، علّة لذيلها أعني قوله سبحانه : ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ورجوع الكل إليه ، من غيب السماوات والأرض ، ومن يملك غيبهما قادر على إرجاع الاُمور إليه.

ونظيره قوله سبحانه : ( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الكهف ـ ٢٦ ) والمعنى إذا كان سبحانه مالكاً لغيب السماوات والأرض بحقيقة معنى الملك ، وله كمال البصر والسمع ، فهو أعلم بما لبثوا !!.

٢. ما يستفاد منه الحصر بمعونة القرائن :

وهناك آيات يستفاد منها الحصر بمعونة القرائن وهي كثيرة مثل قوله في بدء الخليقة عند تفنيد مزعم الملائكة : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة ـ ٣٣ ) فالآية بصدد تنزيهه سبحانه عن الجهل وترفيعه على من سواه بصفة تختص به سبحانه ولا يشاركه فيها غيره ، وقوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر ـ ٣٨ ) وقوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة ـ ١٠٩ ) والصيغة في المقام للتكثير لا للمبالغة نظير قوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( آل عمران ـ ١٨٢ ) والمراد من اللفظين في كلا الموردين هو الانتساب إلى المبدأ أعني الغيب والظلم فيؤول المعنى إلى أنّه المنسوب إلى علم الغيب فقط دون غيره ، أو أنّه لا صلة بينه وبين الظلم.

٤٠١

كقول امرؤ القيس :

وليس بذي رمح فيطعنني به

وليس بذي سيف وليس بنبال

أي وليس بصاحب نبل ، ولا صلة ونسبة بينه وبين النبل أبداً.

وقد ورد توصيفه سبحانه بهذا اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرات (١) ووزان هذا القسم من الآيات ، وزان قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام ـ ٧٣ ) وقوله : ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) ( التوبة ـ ٩٤ ) وقوله : ( وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة ـ ١٠٥ ) إلى غير ذلك مما يبلغ توصيفه في الذكر بهذا النحو عشر مرات (٢) ، فإنّ الظاهر من هذا التوصيف بهذه الكثرة هو اختصاصه سبحانه بالعلم بالغيب والشهادة ، على نحو لا يشاركه غيره.

٣. سلب العلم بالغيب عن غيره :

هذا القسم من الآيات يدل بالملازمة العرفية على اختصاصه به سبحانه ، مثل قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف ـ ١٨٨ ) ، ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) ( هود ـ ٣١ ) (٣).

ومن هذه الوجوه الثلاثة يستفاد اختصاص العلم بالغيب به سبحانه وأنّه لا يشاركه فيه غيره ، غير أنّ اختصاصه به سبحانه على الوجه اللائق بساحته لا ينافي إمكان إطلاع الغير على الغيب باذن منه سبحانه.

__________________

(١) المائدة ١٠٩ و ١١٦ ، التوبة ٧٨ ، سبأ ٤٨.

(٢) الأنعام ٧٣ ، التوبة ٩٤ ، و ١٠٥ ، الرعد ٩ ، المؤمنون ٩٢ ، السجدة ٦ ، الزمر ٤٦ ، الحشر ٢٢ ، الجمعة ٨ ، التغابن ١٨.

(٣) سيوافيك توضيح مفاد الآية وما يماثلها التي تسلب العلم بالغيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قريب فانتظر.

٤٠٢

توضيحه : أنّ ما يجري على الله سبحانه من صفات ونعوت تختلف عمّا يجري على غيره سبحانه لا بمعنى أنّ للعلم معنيين مختلفين بأحدهما يجري على الواجب وبالمعنى الآخر يجري على الممكن ، فإنّ ذلك باطل بالضرورة إذ ليس للعلم ولا لسائر أوصافه في اللغة والعرف إلاّ معنى واحداً وهو في العلم انكشاف المعلوم لدى العالم بطريق من الطرق ، وكذا الحياة والقدرة والسمع والبصر بل المراد اختلاف المحمول عند الجري على الواجب والممكن من جانب آخر. وهو الاختلاف في كيفية الجري والاتصاف ، فإنّ العلم : منه واجب ، ومنه ممكن منه ذاتي ومنه اكتسابي ، منه مطلق ومرسل عن القيود ، ومنه مقيّد محدود ، منه ما هو عين الذات بلا تعدد بين الوصف والموصوف ، ومنه زائد على الذات وعارض عليه ، وهكذا واللائق من هذه الأقسام بساحته تعالى هو القسم الأوّل.

كما أنّ الصحيح عند الحمل على الموجود الممكن هو الثاني لما تحقق وثبت بالبراهين العلمية أنّ علمه سبحانه مطلقاً بذاته أو غيره ، ذاتي له لا عرضي ، مطلق لا مقيّد. مرسل لا محدود.

وعلى ذلك ـ فعلمه سبحانه بكل شيء ، عين ذاته ، لا عارض عليه ، فالذات هو نفس العلم والعلم هو عين الذات بلا تعدد ولا اثنينية بين الذات وعلمه ونظير المقام اطلاق علمه ، فعلمه سبحانه مطلق عن القيود ، مرسل عن الحدود ، فلا يحدده كيف ولا يقيّده أين ، مجرد عن الامكان وأحكامه ، منزّه عن التجزئة والمقدار وآثاره إلى غير ذلك من أحكام الممكنات ولوازمها.

فهذه الآيات الدالة على اختصاص العلم بالغيب به سبحانه لا تهدف إلاّ إلى ما يناسب ساحته وهو العلم الواجب الذاتي المرسل المطلق عن الحدود ، الذي لا يشاركه غيره ، لا ما يمكن أن ينعت به الممكن ويتصف به غير الواجب واتصاف الغير بالعلم الامكاني الكسبي منه سبحانه ، المحدود بالزمان والمكان وغيرها من الحدود ، الزائد على ذات الموصوف ، والعارض عليه ، لا يعد نقضاً للحصر ، بل لا يستلزم استثناء عن الحكم

٤٠٣

استثناء حقيقياً متصلاً ولا يستلزم مشاركة الواجب والممكن في هذا الوصف ، كاتصاف سائر الموجودات بالحياة والقدرة ، والسمع والبصر وغيرهما من الصفات الثبوتية.

فالغيب المختص به سبحانه إنّما هو هذا النوع من العلم الذي لا يشاركه فيه شيء ، بل يمتنع أن يشاركه فيه أحد لاستلزامه الشرك وتعدد الواجب.

وعليه يحمل كل ما دلّ على أنّ علم الغيب مختص به سبحانه ، فالعلم بالغيب الذي هو عين ذاته سبحانه الذي لا يحده شيء ، ولا يقيده قيد ، مخصوص به تعالى ، لا يشاركه في هذا العلم أحد من خلقه ، بل العلم بالشهادة على هذا الوجه أيضاً مختص به ، كما قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام ـ ٧٣ ) إلى غير ذلك ممّا يلمح إلى انحصار كلا العلمين فيه سبحانه.

وهذه قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآيات الدالة على اختصاص علم الغيب به سبحانه ، هو ما يليق بساحة الواجب الذي لا يشاركه فيه أحد ، وإلاّ فالعلم بالشهادة على غير الوجه الذاتي ، وغير المطلق المرسل عن القيود ، بأن يكون محدوداً ومقيداً وعرضياً ، فغير مختص به ، بل يوجد عند كل من أعطى له الإدراك والشعور ، وقدرة الاتصال بالخارج ، فما دل على انحصار كلا العلمين ( العلم بالغيب والشهادة ) فيه سبحانه إنّما يراد منه ما يليق بساحته عزّ وجلّ.

هل يمكن للانسان الاطلاع على الغيب :

إنّ في وسع المولى سبحانه أن يظهر على غيبه من شاء من عباده ويطلعه على ما حدث وغبر ، أو يحدث ويتحقق من ملاحم وأحداث وفتن أو غيرها ، في حين أو أحايين ويوقفه على ما لم يره ولم يشهده ، وليس في ذلك أي تصادم مع اختصاصه بالله ، فهو يعلم الغيب بالأصالة ، وغيره بتعلّم منه ومن طريق التبعية.

قال الشيخ الرئيس في اشاراته ما هذا لفظه : « التجربة والقياس متطابقان على أنّ للنفس الانسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما ، في حالة المنام ، فلا مانع من أن يقع مثل

٤٠٤

ذلك النيل في حال اليقظة إلاّ ما كان إلى زواله سبيل ، ولارتفاعه إمكان ، أمّا التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به ، وليس أحد من الناس إلاّ وقد جرب ذلك في نفسه ، تجارب ألهمته التصديق اللّهمّ إلاّ أن يكون أحدهم فاسد المزاج ، نائم قوي التخيل والتذكر ، وأمّا القياس فاستبصر فيه من تنبيهات » ثم ذكر بعض التنبيهات لاثبات ما ارتآه (١).

وقد صرّح بذلك في آيات :

الاُولى : قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) ( الجن : ٢٦ ـ ٢٨ ) فمعناه أن الغيب كلّه مختص به ، لا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فيظهر رسوله على ما شاء من الغيب ، فهذه الآية إذا انضمت إلى قوله سبحانه : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ ) ( النمل ـ ٦٥ ) يتضح أنّ الهدف من الآية ، اختصاصه به على وجه الأصالة والذاتية ، واطلاع الغير بتعليم منه سبحانه وليس ابطالاً له بل استثناء منه يشبه الاستثناء المنقطع ، فإنّ علمه بالأشياء بالأصالة وعلم غيره بالتبعية ، والعلم التبعي الاستنادي ، لم يكن داخلاً فيه ، حتى يحتاج إلى اخراجه إلاّ بضرب من التأويل ، لتشابه بين العلمين من بعض الجهات وإن افترقا من جهات شتى ، فصح أن يقال : إنّ العلم بالغيب مختص به سبحانه وفي الوقت نفسه يظهر على غيبه بعض عباده من دون أن يمس كرامة اختصاصه به.

ونظير المقام قوله سبحانه : ( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر ـ ٤٢ ) فهو ظاهر في أنّ التوفّي منحصر في الله سبحانه مع أنّه سبحانه أسنده إلى ملك الموت في مورد وإلى رسله في مورد آخر ، وقال : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ( السجدة ـ ١١ ) فالتوفّي وأخذ الأرواح والنفوس ، من فعل الله سبحانه على وجه

__________________

(١) راجع الاشارات والتنبيهات النمط العاشر ج ٣ ص ٣٩٩.

٤٠٥

الأصالة ومن فعل غيره على وجه التسبيب والتبعية ، ومع ذلك لا ينافي اختصاصه به سبحانه على الاطلاق لاختلاف الفعلين من جهة وتشابههما من جهة اُخرى.

نعم ما يظهره على رسوله من الغيب لما كان في مظنة التغيير لم يكتف بنفس الاظهار والاعلام بل عين له رصداً وحفظة يحفظون ما يلقى إليه ، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ).

ولما كان علم الرسول بالغيب محاطاً بعلمه سبحانه قال : ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ) أي ما لدى الأنبياء والخلائق وهم لا يحيطون إلاّ بما يطلعهم الله عليه فقد : ( وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ).

ثمّ إنّه وإن خصص العام في هذه الآية بالرسول حيث قال : ( إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) إلاّ أنّه لا يأبى عن ورود مخصص آخر عليه فإنّه سبحانه كما أظهر غيبه على رسله ، أظهره على أنبيائه الآخرين حيث قال سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) ( النساء ـ ١٦٣ ) والوحي أحد مصاديق الغيب على ما عرفناك.

هذا إذا قلنا باختلاف الرسول والنبي في المصداق وأنّ بين اللفظين حسب المصداق عموم مطلق أو عموم من وجه ، أمّا إذا قلنا باختلافهما في المفهوم وتساويهما في المصداق كما هو غير بعيد ، فلا يلزم تخصيص آخر.

ومن هنا يظهر الحال في علم خلفاء الرسول بالغيب فإنّهم عليهم‌السلام لما جعلوا مصدر علمهم بالغيب ، التعلّم من ذي علم وهو الرسول والوراثة منه (١) لا يلزم عندئذ تخصيص آخر على الآية ، غير أنّ كون مصدر علمهم منحصراً فيها لا يخلو من غموض لما سيوافيك من كونهم عليهم‌السلام محدثين ـ بالفتح ـ فانتظر.

وربّما يقال : انّ المراد من الغيب في قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) ( الجن ـ ٢٦ ـ ٢٧ ) وهكذا في نظائره ممّا استدل به على جواز تعرّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الغيب ، هو الوحي القرآني الذي نزل على قلب

__________________

(١) وقد عقد الكليني في اُصوله باباً لذلك فراجع ج ١ ص ٢٢٣.

٤٠٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ، وإنّما الخلاف في تعرّفهم على الغيب ، من غير هذا الطريق ، وممّا يدل على ما استظهر ، قوله سبحانه في عدة مواضع من القرآن : ( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) فلاحظ ( آل عمران ـ ٤٤ ، ويوسف ـ ١٠٢ ، وهود ـ ٤٩ ).

والاجابة عنه سهلة بعد الوقوف على معنى الغيب في اللغة والعرف ومصطلح القرآن في غير هذه المواضع ويتضح الجواب بملاحظة اُمور :

١. أنّ الغيب يطلق في اللغة على الأمر الغائب عن الحس في مقابل الشهود الذي يطلق على المعنى المحسوس بأحد الحواس ، وإذا اُطلق على الوحي كلمة الغيب فإنّما هو بسبب خفاءه عن حواسنا كالحوادث الغائبة عن حواسنا الواقعة في هذا الكون وعندئذ فما هو المبرر لتخصيص كلمة الغيب بالوحي فقط.

إنّ القرآن الكريم يجعل أحد علائم المتقين في كتابه هو ( الإيمان بالغيب ) حيث يقول : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) فهل يسوغ المعترض لنفسه تفسير الغيب في الآية بالوحي فحسب ؟ في حين أنّ الغيب هنا يحمل معنى واسعاً يكون الإيمان بالقيامة والوعد والوعيد أحد مصاديقه أيضاً ، التي يؤمن بها المتقون رغم عدم إدراكهم لها بالحواس ، أضف إلى ذلك أنّ الغيب في اللغة بمعنى الأمر الغائب عن الحس مقابل ( الشهادة ) ، ومن هنا يقول القرآن في وصفه سبحانه : ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وليس المراد منه خصوص الوحي قطعاً ، واطلاق الغيب على الوحي ، ليس لأنّ الوحي هو معناه ، بل لأنّ الوحي هو من بعض مصاديقه باعتبار عدم ادراكنا له بالحس أيضاً ، فهذا الاشتباه من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم في مصطلح العلماء ، وقد تصور المعترض أنّ الغيب بمعنى الوحي فقط بينما ليس الوحي إلاّ أحد مصاديق الغيب حسبما عرفنا الآن ، وقد ورد لفظ الغيب في القرآن الكريم أربعاً وخمسين مرّة ولم يقصد فيه إلاّ الاُمور الغائبة عن الحس أيضاً حتى الآيات التي استدل بها المعترض على ما يقوله من تفسير الغيب بالوحي فقط.

إنّ هذه الآيات تشير إلى قصص مريم ويوسف ونوح التي لم تكن معروفة عند

٤٠٧

الناس بشكلها الصحيح ، فبيّنها القرآن لهم بالشكل المطلوب الصحيح ، وفي الواقع كان الوحي هنا أحد طرق معرفة الغيب ، لا أنّ الغيب موضوع للوحي خاصة ، ولعلك لا تعثر في القرآن كلّه على موضع واحد اُطلق فيه لفظ الغيب واُريد منه الوحي فقط وإليك بعض النماذج :

( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( البقرة ـ ٣٣ ) ، ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) ( الأنعام ـ ٥٩ ) ، ( أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ ) ( سبأ ـ ١٤ ) (١).

٢. إنّ كلمة ( الغيب ) في قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ) ( الجن ـ ٢٦ ) بمعنى الاُمور الغائبة عن الحس كما قدمناه وليست بمعنى الوحي كالقرآن مثلاً ، وذلك لأنّ الآية السابقة (٢) قد عرضت موضوع اطّلاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على موعد القيامة وكانت الآية قد نفت ـ بلسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مثل هذا الاطّلاع عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحين يأتي بعد هذا النفي المباشر قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ).

يكون موضوع القيامة داخلاً في اطار كلمة ( الغيب ) المستعملة في الآية أيضاً وتكون الآية الأخيرة بمثابة تعليل لما تقدم في الآية السابقة من نفي العلم بموعد القيامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجعلها من علم الغيب المختص بالله سبحانه ولا يمكننا بعد ذلك تفسير ( الغيب ) في الآية بخصوص الوحي ، لأنّ سياق الآية يمنع من إخراج العلم بموعد القيامة عن مورد الآية. وإذا كان العلم بموعد القيامة ممّا تتضمنه الآية أيضاً حسب السياق ، لا يمكننا استثناء سائر المواضيع الغيبية من هذه الآية ، وحينئذ يكون معنى الآية كما يلي :

( أنّ الله عَالِمُ الْغَيْبِ ـ كل من غاب عن الحس من وحي وغيره ـ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ). وتكون الآية دليلاً واضحاً على اطّلاع

__________________

(١) راجع المعجم المفهرس.

(٢) تقول الآية السابقة : ( حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ ... ).

٤٠٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الغيب من وحي وغيره بأمر من الله تعالى.

٣. إنّ المفسرين فسّروا الغيب في الآية المبحوث عنها من ( سورة الجن ) بالاُمور الغائبة عن الحس ، وأيدوا بها اطّلاع الأنبياء على هذه الاُمور ، ويعلل طائفة من هؤلاء المفسرين كالطبرسي والقرطبي وصاحب ( روح البيان ) اطّلاع الأنبياء على الغيب بأنّ ذلك دليل متمّم على صدق رسالتهم ، ومعجزة لهم ، حيث إنّ علمهم بالغيب سبب لوثوق الناس بهم ، ودليل على ارتباطهم بالسماء. وبعد هذا هل يمكن تخطئة جميع هؤلاء المفسرين وتصحيح ما قاله المعترض فقط ؟!

إنّنا راجعنا التفاسير التالية فوجدناها جميعاً تفسر ( الغيب ) بكل أمر غاب عن الحس مطلقاً ولم يفسر أحد منهم الغيب بالوحي خاصة وإليك أسماء التفاسير التي راجعناها مع أرقام الصفحات والمجلدات : تفسير التبيان للشيخ الطوسي ١٠ / ١٥٨ ، ومجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٣٧٤ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٤٣٣ ، تفسير القاضي البيضاوي ص ٤٤٥ الطبعة الحجرية ، تفسير جوامع الجوامع للطبرسي ص ٥١٤ ، الكشاف ٤ / ٦٣٣ ، زاد المسير لابن الجوزي ٧ / ٣٨٥ ، تفسير القرطبي ١٠ / ٦٨١٩ ، تفسير الجلالين ص ٧٦٦ ، الطنطاوي ٢٤ / ٢٨١ ، المراغي ٢٩ / ١٠٦ تفسير گازر ١٠ / ١٩١ ، في ظلال القرآن ٢٩ / ١٦٢ ، تفسير القمي ص ٧٠٠ ، الصافي ٢ / ٧٥٣ ، تفسير شبر ص ١١٦٤ ، مقتنيات الدرر ١١ / ٢٧٣ ، منهج الصادقين ١٠ / ٤ ، روح البيان ١٠ / ٢٠١.

الثانية : قوله سبحانه : ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران ـ ١٧٩ ) فهو بظاهره يفيد أنّ الله سبحانه لا يظهر على غيبه أحداً من الناس ليعلم ما في قلوب الآخرين ، ويميز المؤمن من المنافق ، ولكن يختار من يشاء من رسله فيوقفه على الغيب ويطلعه عليه.

ولا يتوهّم أنّ المقصود من الغيب هو الوحي القرآني فإنّه لا يناسب مفاد الآية إذ

٤٠٩

المقصود من ( الخَبِيثَ ) هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، كما أنّ المقصود من ( الطَّيِّبِ ) هم المؤمنون الحقيقيون.

إنّ الله تعالى يلفت أنظار الاُمّة في مطلع هذه الآية بأنّه تعالى سوف لا يدع الاُمّة بهذا الشكل المختلط من المؤمنين والمنافقين بل أنّه تعالى سيميز بين الفريقين بأحد الطريقين التاليين :

١. فرض الامتحان والابتلاء عليهم جميعاً وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان فيعرف المؤمن من المنافق.

٢. عن طريق علم الغيب وذلك بأن يطلع نبيه على شؤون المؤمنين والمنافقين والفوارق بينهما ، ولكن هذا الطريق مختص بالنبي والأنبياء فقط ، وليس كل الأنبياء ، بل اُولئك الذين يجتبيهم الله من أنبيائه ورسله. ولقد أشار الى هذه الحقيقة بقوله : ( مَا كَانَ اللهُ ). ويتضح من ذلك كلّه أنّ ليس المقصود من الغيب في هذه الآية هو الوحي المصطلح ، بل معناه الاطّلاع على المواضيع الخارجية مثل تمييز المنافق من المؤمن ، لأنّه لو كان المراد منه الوحي المصطلح ما كان هناك داع لتخصيصه بطائفة من الرسل ، في حين أنّ جميع الأنبياء ينزل عليهم مثل هذا الوحي.

أضف إلى ذلك أنّ الهدف من اطّلاع الأنبياء على الغيب هنا ، حسبما يدل عليه السياق هو تمييز المؤمن من المنافق ، ولا يكون هذا إلاّ بأن يطّلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كل شؤون المنافقين ويعرف كل فرد منهم ، والقرآن وإن بين بعض صفات المنافقين على وجه العموم ، ولكنّه لم يعرفهم بشكل تفصيلي يؤدي إلى التمييز بينهم وبين المؤمنين ، والدليل على أنّ المقصود من الآية هو معرفة المنافقين تفصيلياً هو ما يرويه التاريخ من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرف جميع المنافقين يوم تبوك وعرّفهم لحذيفة (١) أيضاً. ولقد تحقق مفهوم هذه الآية : ( حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) بمعرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمنافقين ، عن طريق تحقق

__________________

(١) لاحظ المصادر التالية : تاريخ بغداد ج ١ ص ١٦١ ، اُسد الغابة ج ١ ص ٣١٩ ، الاستيعاب ج ١ ص ٢٧٧ ، الدرجات الرفيعة ص ٢٨٤ وغيرها وقد عرف حذيفة بأنّه صاحب سر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤١٠

محتوى هذه الآية.

إنّ من يمعن النظر في الآية يذعن بأنّه ليس المقصود من « الغيب » فيها وحي السماء بل المقصود هو : معرفة الخبيث ( المنافق ) من الطيب ( المؤمن ) الحقيقي ، ومثل هذه المعرفة التفصيلية لا تحصل عن طريق الاُمور الكلية والعامة ، بل لا بد من طريق آخر يعرّفهم النبي ثم يعرّفهم للآخرين.

الثالثة : قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) ( التكوير : ٢٣ ـ ٢٤ ) ، المراد من « الغيب » هو الوحي النازل عليه والمعنى أنّه لا يبخل بشيء مما يوحى إليه ، فلا يكتمه ولا يحبسه ولا يغيره ، بل يبلّغ الناس على النحو الذي اُمر بابلاغه فتدل الآية على اطّلاعه على الغيب.

الرابعة : قوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) وقد تكررت الآية في الذكر الحكيم فراجع آل عمران ـ ٤٤ ، يوسف ـ ١٠٢ ، وقال سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ) ( هود ـ ٤٩ ) وعلى أي تقدير فتدل هذه الآيات الأربعة على أنّه سبحانه يظهر غيبه على رسوله ويطلعه عليه ، وعلى الأنباء الغيبية مما لم يكن يعلمه لا هو ولا قومه.

وقد استدل في بعض الروايات على اطّلاع النبي والأئمة على الغيب بقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) ( الدخان : ٣ ـ ٥ ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... ) ( القدر : ١ ـ ٥ ).

ونقلها الكليني في اُصوله (١) عن الحسن بن العباس بن الحريش وقد عرفت حال الرجل وأنّه لا يلتفت إليه ولا يكتب حديثه وأنّه ... (٢).

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٢٤٥ ـ ٢٤٩.

(٢) راجع ما أسلفناه ص ٣٤٢ ـ ٣٤٣ من كتابنا هذا ، وجامع الرواة ج ١ ص ٢٠٥ وقاموس الرجال ج ٣ ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

٤١١

نعم استدل بعض الأكابر (١) على عموم علم النبي والأئمة من أهل بيته لكل غابر وحادث بل على فعلية علومهم بكل شيء بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ( الأحزاب ـ ٣٣ ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران ـ ٣٣ ).

حيث قال : « إنّ عموم إذهاب الرجس والتطهير والاصطفاء ، الظاهري والباطني والتنزيه عن شوائب الكدر ، وظلمات الجهل والسهو دال على كلّ من المطلوبين من عموم علمهم وفعليته » لكن في دلالة الآيتين على المطلوب خفاءً.

أمّا الاُولى : فإنّ دلالتها على اعتصام أهل البيت بالعصمة الالهية في غاية الظهور على ما هو مقرر في محله ، وأمّا دلالتها على سعة علمهم وفعليته ففيه خفاء تام ، فإنّ الرجس هو الشيء القذر يقال : رجل رجس ، ورجال أرجاس ، والقذارة أمر وجودي توجب تنفر النفس من الشيء المتلبس بها وهي إمّا بحسب ظاهر الشيء كما في الخنزير كقوله سبحانه : ( إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) ( الأنعام ـ ١٤٥ ) ، أو بحسب باطنه وهي القذارة المعنوية كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق والخمر والميسر بما لهما من الآثار الموبقة ، قال سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) ( التوبة ـ ١٢٥ ) ، وقال عزّ وجلّ : ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( الأنعام ـ ١٢٥ ) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة ـ ٩٠ ). والمتفحص في موارد استعماله يذعن بأنّه أمر وجودي في الشيء إمّا بحسب ظاهره مما يدركه الناس أو باطنه مما يجب أن ينبه عليه من جانب العقل أو الشرع ، والغاية من إذهاب الرجس عنهم هو إزالة كل صفة خبيثة في النفس ، تدعو إلى الاعتقاد الباطل أو العمل السيء في مقابل العصمة الالهية ، التي هي هيئة

__________________

(١) السيد عبد الحسين النجفي الشيرازي.

٤١٢

علمية نفسانية ، تصون الانسان عن الزلل في الرأي والقول والعمل.

أمّا الجهل بالشيء مطلقاً خصوصاً الجهل بالفتن وملاحم أحداث وكل ما يجري في الكون من نوازل أو ملمات أو ما يحكم فيه من نواميس وقوانين فليس أمراً وجودياً أو هيئة في النفس ، يورث التنفّر والتجنب ، حتى يدل إذهاب الرجس على إذهابه فلو جهل الانسان بنواميس الكون والقوانين السائدة في الأفلاك لا يعد جهله هذا رجساً ، أترى من نفسك أن جهل الفقيه بالمعادلات الجبرية والقوانين الطبية رجس ، أو جهل الأديب بفنون الصنايع رجس ؟

وأمّا عد الإلحاد والشرك من الرجس ، فليس لأجل كون الملحد والمشرك جاهلاً بالله سبحانه وصفاته بل لأجل تعلق قلبه بأمر باطل لا يعدو كونه أمراً وجودياً وإن كان يجتمع مع الجهل أيضاً (١).

وأمّا الآية الثانية : فلأنّ المراد من الاصطفاء هو أخذ صفوة الشيء وتخليصه ممّا يكدر ، فالمناسب له ، هو اصطفاؤهم من الزلل في الرأي والقول والعمل الذي هو عبارة عن العصمة الالهية وهي الجهة الجامعة الوحيدة بين المصطفين أعني آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ، فإنّ المراد من آل إبراهيم هم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسماعيل والطاهرون من ذريتهما ، كما أنّ المراد من آل عمران هي مريم وابنها المسيح أو هما وزوجة عمران بقرينة ذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنته بعد الآيتين. وعلى أي تقدير فالمراد اصطفاؤهم من كدر الشرك وقذارة الذنوب وتطهيرهم من مساوئ الأعمال وقبائحها ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران ـ ٤٢ ).

نعم إنّ الله سبحانه وإن اصطفى آدم بتعليمه الأسماء حين قال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ( البقرة ـ ٣١ ) لكنّه اصطفاه باُمور اُخرى أيضاً فهو أوّل خليقة وطأ الأرض من النوع الانساني قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ص ١٨٨ والميزان ج ١٦ ص ٣٣٠.

٤١٣

فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة ـ ٣٠ ) ، وأول من اجتباه بقبول توبته قال سبحانه : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) ( طه ـ ١٢٢ ) إلى غير ذلك من خصائص ومناقب ، كما أنّه اصطفى نوحاً بجعله أوّل الخمسة من اُولي العزم أصحاب العزائم القوية والشريعة لقوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا ) ( الشورى ـ ١٣ ) إلى غير ذلك ، واصطفى إبراهيم وآله باُمور وخصال يجدها المتفحص في سيرتهم المذكورة في القرآن.

لكن الجهة الجامعة المشتركة بين الجميع في الآية ، التي يمكن أن يكون الاصطفاء لأجلها ليست إلاّ العصمة الالهية ، أعني التطهير من الذنوب وكدر الشرك أو هي مع النبوّة في غير مريم ، لا ما يختص بكل واحد منهم من صفات وخصال كتعليم الأسماء لآدم مثلاً حتى تكون الآية ناظرة إلى اصطفاء المذكورين في الآية بتعليمهم كل شيء واطلاعهم على كل أمر ، ويدل بالنتيجة على اطلاع النبي وآله على الغيب.

القرآن يدل على تحقق التنبّؤ من الأنبياء والصالحين :

ما مر عليك من الآيات تدل بصورة كلية على أنّ رجال الوحي يمكنهم الاطّلاع على الغيب والتطلع على ما ليس بمشهود لغيرهم ، هلم معي نتدبر في الآيات التي تدل على تحقق التنبّؤ عنهم في مواقف شتى.

ولنقدم كلمة ، وهي : أنّ كل ما أتى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اُصول وفروع وقصص و ... كلّها أنباء غيبية أظهره الله عليها قال سبحانه في شأن النبي الأعظم : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( هود ـ ٤٩ ) فأي غيب أعلى وأجلى ممّا أظهر نبيه عليه من القرآن المبين الذي يعد بنفسه نبأً غيبياً ويحتوي من الإخبار بالمغيبات الوافرة ما لا يعد ولا يحصى ، فكل ما جاء به في مجالات مختلفة ، غيب بلفظه ومعناه أطلعه الله عليه وأوحاه إليه بصورته ومادته ، إذ المفروض أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه والمعجزات احدى المغيبات.

وعلى كل تقدير أنّ القرآن يدل بفضل نصوصه على أخبار غيبية ، تنبّأت بها ثلّة

٤١٤

جليلة من عباده المخلصين من انبيائه ورسله وخيار عباده وان الله أظهر من علمه المكنون ما كان خفياً ، على بعض رسله وانبيائه وثلّة من أوليائه ودونك ما وقفنا عليه عند التدبر في الذكر الحكيم.

١. النبي آدم عليه‌السلام والاطلاع على الغيب :

قال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة : ٣١ ـ ٣٣ ).

والنظر الدقيق في هذه الآيات الثلاث يقودنا إلى أنّه سبحانه أطلع نبيه آدم عليه‌السلام على جملة من الحقائق كان يغيب علمها عن الملائكة وقد أخبر آدم ـ بأمر من الله ـ الملائكة عن هذه الحقائق التي عبر عنها القرآن بالأسماء ، وليس المراد من الأسماء في الآية : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) أسماء الأشياء فقط فإنّ معرفة الأسماء لا تعد فضيلة لآدم عليه‌السلام.

وإنّما المقصود منها مسمّياتها ـ أي حقائق الأشياء ـ وعلى هذا علمه سبحانه أسرار الخليقة فاطّلع على خواص الأشياء وآثارها فصارت نتيجة تعليم الأسماء لآدم عليه‌السلام هو نصب الحقائق الكونية بين يديه وإخباره عن واقع الحياة (١). والاتيان بضمير الجمع المذكر العاقل في قوله تعالى : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ ) دون الاتيان بضمير المفرد المؤنث يدل على ما قلناه فلو كان الهدف تعليم نفس الأسماء لآدم عليه‌السلام فحسب لكان ضمير المفرد المؤنث جديراً بالمقام. وهذه الآيات الكريمة دلّت على وجود علم الغيب الفعلي عند آدم عليه‌السلام وذلك لأنّ الاطّلاع على الغيب

__________________

(١) قد نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ج ١ ص ٧٦ طبع صيدا ، أقوال المفسرين حول المراد من الأسماء واختار ما ذكرناه.

٤١٥

والإخبار عن شؤون البشر في المستقبل ، والايحاء إلى الملاحم والفتن ليس بأعلى من الوقوف على حقائق المسمّيات التي كلت دون إدراكها ملائكة الله سبحانه حتى أنبأهم وأطلعهم عليها.

٢. تنبّؤ نوح عليه‌السلام :

قال سبحانه : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) ( نوح : ٢٦ ـ ٢٧ ).

لقد سار شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام باُمته سيراً سجحاً وتحمّل في سبيل دعوته المحن والكوارث ، وجابه ضوضاء الشرك بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يئس من إيمانهم ، فدعا ربّه بإهلاكهم وإبادتهم مخبراً عن مآل قومه ومن يرثهم وذلك كما تقدم في الآية ، أوليس هذا إخباراً عن عواقب اُمورهم وأخلافهم ، وأنّه لن يؤمن أحد منهم ولا من أخلافهم ؟

ولعل المعترض يقول : إنّ نوحاً بعد أن قضى ردحاً مديداً من الزمن مع قومه ، رأى أنّ البيئة الاجتماعية أصبحت منحرفة إلى درجة لا تسمح مطلقاً بمقتضى علمه العادي أن يوجد فيها فرداً صالح وهذا أمر متصور. أو أنّه وقف على مآل أمر قومه ، بعد إخباره سبحانه بذلك كما قال : ( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( هود ـ ٣٦ ).

أقول : هب أنّه فهم مآل قومه من القرائن أو من اخباره سبحانه لكنّه من أين وقف على أحوال خلفهم وإن من يرثهم لا يكون إلاّ فاجراً كفاراً ؟ وليس ذلك إلاّ بتعليم من الله واظهاره على نبيه باحدى الطرق.

٣. إبراهيم عليه‌السلام وملكوت السماوات والأرض :

إنّ القرآن يصف إبراهيم بصفات كثيرة ويشرح أمره في بدء الدعوة ويقول :

٤١٦

( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام ـ ٧٥ ).

فالملكوت هو الملك كالطاغوت والجبروت وإن كان آكد بالنسبة إلى الملك كما أنّ الطاغوت والجبروت آكد بالنسبة إلى الطغيان والجبر والجبران.

والمراد من اراءة ملكوت السماوات والأرض لإبراهيم هو توجيه نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه استناداً لا يقبل الشرك بحيث عاد إبراهيم بعد تلك الاراءة فحكم أنّ ليس في صفحة الوجود ربّ غيره سبحانه يتولى تدبير النظام وإدارة الاُمور حتى صار من الموقنين.

وهذه الاراءة لا تقل عن علم الغيب بما هو خارج عن إطار الحس لو لم يكن أشرف منه.

وللبحث حول قصة إبراهيم ودلائله الباهرة في إبطال ربوبية الأجرام السماوية والأرضية مجال آخر قدمنا بعضه في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة (١).

٤. اطّلاع لوط عليه‌السلام على الغيب :

هذا هو لوط أحد الأنبياء ، المعاصر لإبراهيم فقد اطّلع على مسير قومه وهلاكهم في وقت الصبح عن طريق جنود ربّه ورسله قال سبحانه :

( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ( هود ـ ٨١ ).

فلو أخبر هذا النبي الكريم بطانته الصالحين بأنّ قومه سيهلكون في الصبح وأنّ موعدهم هو ذاك الوقت ، يصح أن يقال : إنّه مخبر عن الغيب وعالم به وإن كان علمه

__________________

(١) لاحظ الجزء الأول ص ١٣٢ ـ ١٤٣.

٤١٧

محدوداً ومتناهياً ، مكتسباً غير ذاتي.

٥. تنبّؤ يعقوب عليه‌السلام :

قال سبحانه : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ للإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( يوسف : ٤ ـ ٦ ).

تدل الآيات على أنّ يعقوب عليه‌السلام فسر رؤيا ولده يوسف ، مخبراً عن حقيقة مستورة من خلال تلكم الرؤيا وكانت تلك الحقيقة وصول ولده يوسف إلى المقام الشامخ في الدنيا ، والاطلاع على الواقع من خلال الرؤيا وهو لون من الاطّلاع على الغيب ، خص تعالى بعض عباده بهذا الفضل.

لمّا طلب اخوة يوسف من أبيهم يعقوب أن يرسل يوسف حتى يرتع ويلعب معهم ، أجابهم يعقوب بقوله : ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) ( يوسف ـ ١٣ ) ، أفليس قوله : ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ) تنبّؤً بفكرتهم الشيطانية في حق يوسف كيف وقد حكاه سبحانه عنهم بقوله : ( يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) ( يوسف ـ ١٧ ).

ثمّ أنّ يعقوب لمّا سمع تقولهم في حق أخيهم عاد يكذّبهم بقوله : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) ( يوسف ـ ١٨ ) قائلاً : بأنّ يوسف حي يرزق ولم يأكله الذئب أوليس هذا إخباراً عن ما وراء الحس ؟

ولا غرو في ذلك فإنّ الله يصف نبيه يعقوب بقوله : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف ـ ٦٨ ).

ولأجل تلك المكانة لما أخبر الاخوة بأنّ ابنه ( أخا يوسف ) سرق ، كذّبهم أو كذّب

٤١٨

الخبر بأنّه : ( سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) ( يوسف ـ ٨٣ ).

ولمّا اعترض أولاده على بكائه بقولهم : ( تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ ) أجابهم بقوله : ( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ( يوسف : ٨٥ ـ ٨٧ ).

هذه تنبّؤات نبي الله يعقوب فيعرب عن صدق قوله سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ) كما يدل على صدق قوله : ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ).

أفبعد هذه التنبّؤات يصح لقائل أن ينفي علمه بالغيب بتاتاً.

أضف إلى ذلك قوله : ( عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف ـ ٨٣ ).

مخبراً عن حياة يوسف وأخيه وأنّه وأخاه سوف يأتي الله بهما.

وهكذا قوله سبحانه :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ ) ( يوسف : ٩٣ ـ ٩٤ ).

فلو لم يك يعقوب عليه‌السلام عالماً بمصير يوسف ولم يدر عما بلغ إليه ولده من جلال وعظمة ، ولم يك مطلعاً على تعرف الاخوة على أخيهم ورجوعهم بخبره السار ، كيف يقول : ( إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) أليس هذا علماً بالغيب وهبه الله لنبيه المبتلى يعقوب ؟

٦. تنبّؤ يوسف عليه‌السلام :

قال سبحانه : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ

٤١٩

وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ( يوسف ـ ١٠١ ).

والآية تصرح بأنّ الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه‌السلام تفسير الرؤيا وتأويلها وذلك قسم من علم الغيب.

وقال سبحانه : ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ * ... يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) ( يوسف : ٣٦ ـ ٤١ ) وتحقق الأمر الذي أخبر عنه يوسف عليه‌السلام فنجى أحدهما وأصبح ساقي البلاط بينما اُعدم الثاني ومن الوضوح بمكان أنّ هذا اللون من التفسير للرؤيا هو قسم من الغيب الذي نطق به يوسف عليه‌السلام.

وقال سبحانه : ( وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ ... * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) ( يوسف : ٤٣ ـ ٤٩ ).

وفي هذه القصة يخبر يوسف عليه‌السلام عن ثلاثة اُمور غيبية وذلك ضمن تفسيره لرؤيا الملك وهذه الاُمور هي : ١. ينعمون بسبع سنوات مليئة بالبركات والخيرات ويتحسن وضعهم الزراعي. ٢. يصابون بعدها بسبع سنوات جدب حيث تغلق عنهم أبواب الرحمة. ٣. وفي الخامسة عشر من هذه السنين تعود إليهم النعم والخيرات من جديد وتفتح عليهم أبواب الرحمة.

٤٢٠