مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

المظالم ، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر » (١).

ولعل في قوله عليه‌السلام : « سبيل الأنبياء » إشارة إلى أنّ هذا الأمر موكول إلى الاُمّة بعد انقطاع الوحي وإيصاد باب النبوّة.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا ظهرت البدع ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله » (٢).

ثمّ أنّ هناك جواباً آخر ، ربّما يكون ملائماً لاُصول الشيعة الإمامية في مسئلة الإمامة والخلافة ولأجل إيقاف القارئ الكريم عليه نأتي به إجمالاً ولا يعلم إلاّ بالوقوف على معنى الإمامة لدى الشيعة ودور أهل البيت في إكمال الدين.

دور أهل البيت في إكمال الدين وختم الرسالة :

أنّ للشيعة الإمامية نظراً خاصاً في كيفية استغناء الاُمّة الإسلامية عن ضرورة استمرارية النبوّة وتواصلها بعد لحوق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى ، وعمدة ذلك هو ثبوت نظرية الإمامة التي تتبناها الشيعة الإمامية في باب الولاية الإلهية والخلافة بعد رسول الله.

فالإمامة عندهم عبارة عن الولاية الإلهية العامة على الخلق فيما يختص بشؤونهم الدينية والدنيوية وهي مستمرة بعد قبض النبي الأعظم ، لم يوصد بابها بل أنّه مفتوح إلى أن يشاء الله إيصاده ، وإنّما الذي ختم بالنبي الأعظم هو باب النبوّة التي هي تحمل النبأ عن الله سبحانه ، وباب الرسالة التي هي تنفيذ ما تحمله النبي عن الله سبحانه بين الاُمة (٣).

هذه الولاية الالهية غير النبوّة والرسالة وإن كانت تجامعهما تارة وتفارقهما اُخرى

__________________

(١) وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأوّل الحديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأربعون الحديث ١.

(٣) سيوافيك توضيح الفرق بين النبوّة والرسالة في الجزء الرابع من كتابنا هذا.

٢٢١

فقد تمثلت المناصب الثلاثة في شخص إبراهيم.

إذ كان عليه‌السلام يمثل منصب الإمامة ، كما كان يمثل منصبي النبوّة والرسالة ولقد حباه الله سبحانه منصب الإمامة ، بعد ما منحت له النبوّة وأرسله رسولاً ويدل على ذلك قوله سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ( البقرة ـ ١٢٤ ) (١).

والأئمّة الاثنا عشر لدى الإمامية يمثلون منصب الإمامة ، من دون أن يكونوا أنبياء أو رسلاً ، فهم أئمّة الدين ، وأولياء الله بين الاُمّة ، ولهم رئاسة إلهية عامة ، دينية ودنيوية على وجه يوجب على الاُمّة الانقياد لهم وهم حجج الله على عباده يهتدى بهم إليه سبحانه ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده (٢).

والباعث على انفتاح باب الولاية الإلهية في وجه الاُمّة ، بعد ختم النبوّة والرسالة وإيصاد بابها بالتحاق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى اُمور نشير إلى واحد منها (٣).

لا يختلف اثنان من المسلمين بانقطاع وحي السماء عن وجه الأرض بموت النبي وقبضه كما لا يختلفان في أنّ النبي قام بمهمة التشريع والتبليغ وتثقيف الاُمّة الإسلامية بالثقافة الدينية وبث العقيدة الدينية فيهم وحفظ الشريعة عن شبهات المنكرين وإرجاف المرجفين بأحسن الوجوه وأكملها وقال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ) غير أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يراعي في نشر الأحكام حاجة الناس ومقتضيات الظروف فكانت هناك اُمور مستجدة

__________________

(١) روى ثقة الإسلام الكليني عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال سمعته يقول : أن اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، واتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً ، فلما جمع له هذه الأشياء وقبض قال له يا إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً فمن عظمها في عين إبراهيم قال يا ربّ ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( الكافي باب طبقات الأنبياء والرسل ج ١ ص ١٧٥ ).

(٢) هكذا وصف الإمام باقر العلوم ، راجع الكافي باب « إنّ الأرض لا تخلو من حجة » ج ١ ص ١٧٨.

(٣) قد أوضحنا تلك الاُمور في الجزء الثاني من هذه الموسوعة فلاحظ بحث : صيغة الحكومة الإسلامية بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٢٢

ومسائل مستحدثة ، لم تكن معهودة في زمن الرسول ولم يأت بها نص في الكتاب الكريم وسنّته الثابتة ، ولم يتسن للنبي الإشادة بها أمّا لتأخر ظروفها أو لعدم تهيأ النفوس لها أو لغير ذلك من العلل.

وقد ظهرت بوادر هذا الأمر عندما اتسع نطاق الإسلام وضرب بجرانه خارج الجزيرة العربية وطفق المسلمون يخوضون في غمار معارك طاحنة وحروب دامية ، يفتحون البلاد ويخالطون الاُمم ففوجئوا بمسائل مستجدة لم يعرفوا لها حلاً في الكتاب الكريم ولا في سنّة نبيهم مع أنّ الله سبحانه كان قد أخبر في كتابه عن اكمال الدين واتمام النعمة وبناء على هذا فإننا نستكشف أنّ النبي إيفاء لغرض التشريع استودع معارفه عند من يقوم مقامه ويكون له من الصلاحيات ما تخوله للقيام بمثل هذا الأمر الخطير.

وإلى ذلك يشير باقر العلوم بقوله مخاطباً لهشام بن عبد الملك بن مروان : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) والأرض لا تخلو ممّن يكمل هذه الاُمور التي يقصر غيرنا عنها (١).

ثمّ أنّ الكتاب الكريم الذي هو أحد الثقلين فيه محكم ومتشابه وعامّ وخاصّ ومطلق ومقيد ومنسوخ وناسخ ، يجب على الاُمّة عرفانها ، إذ الجهل بها يوجد اتجاهات مذهبية متضاربة. غير أنّ تفسير المتشابه من دون الاستناد إلى ركن وثيق يورث اختلافاً عنيفاً بين المسلمين ، وتفسير المعضل وتفصيل المجمل وتشخيص المنسوخ عن ناسخه يحتاج إلى احاطة كاملة بمفاهيم الكتاب وتشريعاته جليلها ودقيقها وهو ليس إلاّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يتلو تلوه.

فلأجل رفع هذه المحاذير يجب عليه سبحانه حفاظاً على وحدة الاُمّة وصيانتها عن الشرود في متاهات الضلال أن يشفع كتابه بميزان آخر ، وهاد يدعم أمره ، ومعلم يوضح لهم أسراره ، ليرجع إليه المسلمون حتى يكتمل به غرض التشريع ويرتفع

__________________

(١ بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٣٠٧.

٢٢٣

التضارب والخلاف في الشؤون الدينية.

وإلى ذلك يشير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أني أوشك أن اُدعى فاُجيب وأني تارك فيكن الثقلين كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما (٢).

وهذا هو الإمام الصادق عليه‌السلام يعرف الإمام ومكانته العظيمة بقوله : أنّ الأرض لا تخلو وفيها إمام ، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم (٣).

وأبلغ تعبير عن حقيقة الإمامة عند الشيعة ما روي عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في حديث طويل وفيها : أنّ الإمامة منزلة الأنبياء وأرث الأوصياء أنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول ، الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، أنّ الإمامة أساس الإسلام النامي وفرعه السامي.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة (٤).

__________________

(١) أخرجه الحاكم في مستدركه ج ٣ ص ١٤٨ ، وقال هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٢) مسند أحمد ج ٣ ص ١٧ و ٢٦ وللحديث صور كثيرة كلها تنص على وجوب التمسك بأهل بيته وعترته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة ، وقد صدع بها رسول الله في مواقف له شتى : يوم غدير خم ، يوم عرفة في حجة الوداع ، بعد انصرافه من الطائف ، على منبره في المدينة ، وفي حجرته في اُخريات أيامه.

وقد أنهى إسناده العلاّمة الجليل ، السيد مير حامد حسين في بعض أجزاء كتابه الكبير « العبقات » وطبع في ستة أجزاء بإيران وفاح أريجه بين لابتي العالم وقد اغرق نزعاً في التحقيق ، ولم يبق في القوس منزعاً ، وقد أغنانا كتابه عن الافاضة والبحث.

(٣) الكافي ج ١ ص ١٧٨.

(٤) الكافي ج ١ ص ٢٠٠.

٢٢٤

وبذلك تعرف وجه غنى الاُمّة الإسلامية بعد النبي عن أي نبي مروّج وأية نبوّة تبليغية ، ويتضح أنّ الإسلام في تخطيطه المبدئي ، قد فرض أنّه ( بعد إنتهاء وظيفة النبي الأعظم وقطعه أشواطاً بعيدة في الجهات المختلفة المتقدمة ) يتكفّل القيادة المعصومة من بعده من يقوم مقامه بنصه سبحانه وتعيينه ، وله من الشرائط ما للنبي سوى ما يختص به على ما تبيّن في محله حتى تنتهي هذه العملية إلى مراحلها النهائية المفروضة.

ولا يضير الإسلام في شيء أن تكون الاُمّة قد انحرفت عن الخط المفروض لها من قبل الله سبحانه ، وتجاوزت عن كل الضمانات التي وضعها لتنفيذ مخطّطه الالهي.

وفي الختام نقول : إنّ التاريخ ليشهد بأنّه ما من إمام من أئمّة الشيعة الاثنى عشرية إلاّ وقد قام بأعباء مهمة الإمامة خير قيام ، وأنّ حياة كلّ منهم كانت مشحونة بالعمل المتواصل في سبيل إيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الاُمّة ولقد عانوا في ذلك من المشاق ولاقوا من الأهوال ما لاقاه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فعند ذاك استغنت الاُمّة الإنسانية بشكل عام والمسلمون بشكل خاص ، بتعاليمهم الدائرة حول نطاق رسالة جدهم السماوية ، عن استمرارية كلتا النبوّتين ، وبصورة خاصة التبليغية منها.

٢٢٥

السؤال الثاني

« لماذا حرم الخلف من الاُمم ، من المكاشفة الغيبية ، والاتصال بالملأ الأعلى ، واستطلاع ما هنالك من معارف وحقائق » ؟

يقول السائل : إنّ النبوّة منصب معنوي ورقي روحي ، تقدر معه النفس على الاتصال بالملأ الأعلى ، والاطلاع على ما هنالك من معارف عقلية ، والتحدث مع الوحي الالهي ، إلى غير ذلك من الفيوضات المعنوية ، ولكن هذا الباب قد اُوصد بعد إكمال الشريعة الإسلامية وختم النبوّة.

هب أنّ الشريعة الإسلامية ، هي أكمل الشرائع ، وأنّ الخلف من الاُمم قادر على حفظ تراثه الديني ، ولأجل ذلك اُوصد باب النبوّة التشريعية والتبليغية ولكن لماذا انقطعت الفتوحات الباطنية والمحادثة مع ملائكته سبحانه ، أو القاء الحقائق في روع الانسان ، إلى غير ذلك من الفيوضات السماوية ، فهذه الاُمور كلّها من لوازم النبوّة ، فلا يعقل انفتاحها مع إيصاد بابها ...

ثم إنّه لماذا كان باب هذا الفيض مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، وحرم منها الخلف الصالح بعد النبي ؟ هل كانت الاُمم السالفة اُولى وأجدر بهذه النعمة ؟ وهل الاُمّة المتأخرة عنهم أقل جدارة بها واستحقاقاً لها ؟!

٢٢٦

الجواب :

ليس الإطلاع على ما احتجب عن عامة الناس من الحقائق ، من لوازم النبوّة ، حتى ينسد بابه بانسداد بابها ، ولا الخلف محروم من الفيض الذي كان مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، فإنّ الولاية الالهية التي تلازم تلكم الفتوحات الباطنية ، ليست من خصائص النبوّة وتوابعها ، حتى تنقطع بانقطاعها ، بل هي كرامة إلهية يرزقها سبحانه ، المخلصين من عباده ، المتحلّين بفضائل الأخلاق المتطهرين عن درك الشرك ولوث المعاصي ، إلى غير ذلك من صفات كريمة.

والنبوّة باب خاص من الولاية تستتبع تحمل الوحي التشريعي أو التبليغي فيوصد بابه بإيصاد بابها ، وأمّا سائر الفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والايحاءات الملكوتية ، فلم يوصد بابها قط.

وللتوضيح نحن نتساءل : ماذا أراد السائل من إيصاد باب الاتصال ، بختم باب النبوّة ؟

فإن أراد الاتصال بالله ومعرفة أسمائه وصفاته والوقوف على ما هنالك من معارف عن طريق البرهنة والاستدلال والتدبر في آياته الآفاقية ، فهذا الطريق مفتوح إلى يوم القيامة في وجه من أراد الإطلاع على حقائق الكون ودقائقه ، وما وراء الحس من عوالم ودقائق.

وقد قال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ... ) ( فصلت ـ ٥٣ ) (١).

__________________

(١) نعم ربّما تفسر الآية بوجه آخر تسقط معه دلالتها على ما نرتئيه وهو أنّ المراد ما يسّر الله عزّ وجلّ لرسوله والمسلمين من بعده في آفاق الدنيا وارجاء العالم من الفتوح التي لم يتيسّر أمثالها لأحد من الجبابرة والأكاسرة ، وتغلب قليلهم على كثير من أعدائهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة وبسط دولته في أقاصيها. فهذه الاُمور الخارقة للعادة يقوى معها اليقين ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أنّ دين الإسلام هو الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلاّ مكابر ... راجع الكشاف ج ٣ ص ٧٥ وما حققناه حول الآية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ص ١٧٣.

٢٢٧

وقال سبحانه : ( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الذاريات : ٢٠ ـ ٢١ ).

ولو أراد معرفة ربّه وأسمائه وصفاته ، وعظمته وكبريائه ، وما هناك من مقامات ودرجات ، بلا توسيط برهان ، أو تسبيب دليل ، بل مشاهدة بعين قلبه وبصر روحه ، وبعبارة أوجز : شهود الحقائق العلوية ، وانكشاف ما وراء الحس والطبيعة ، من العوالم الروحية ، والمشاعر الإلهية ، ومعرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره والاتصال بجنوده وملائكته واستماع كلامهم ووحيهم وصوتهم إلى غير ذلك من الاُمور ، فهذا مقام خطير ، يحصل للعرفاء الشامخين المخلصين من عباده ، المطهرين من اللوث والدنس ، المتحررين عن قيود الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات الله ، الحاكمين بالكتاب ، العاملين بسننه وسنن نبيّه حسب اخلاصهم وعرفانهم ، حسب استعدادهم وقابليتهم ، حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل عجائب الحقائق الغيبية ، ومشاهدة جلال الله وجماله وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات ، وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات.

ثمّ إنّ لأهل السلوك والعرفان كلاماً في المقام ، لا يخلو عن فائدة ، وخلاصته :

أنّ اليقين الحقيقي النوراني المنزّه عن ظلمات الأوهام والشكوك ، لا يحصل من مجرد أعمال الفكر والاستدلال ، بل يتوقف حصوله على الرياضة والمجاهدة وصقل النفس وتصفيتها عن كدورات ذمائم الأخلاق ، وإزالة الصدأ عنها ، ليحصل لها التجرد التام ، والسر أنّ النفس بمنزلة المرآة تنعكس على صفحتها الصور المتعلّقة بالموجودات الخارجية ، ولا ريب في أنّ انعكاس الصور من ذواتها على المرآة ، يتوقف على تمامية شكلها وصفاء جوهرها ، وحصول ما يتمكن انعكاسه عليها وإرتفاع الحائل بينهما ، والظفر بالجهة التي فيها الصور المطلوبة ، كذلك يجب في انعكاس حقائق الأشياء من العقل على النفس ، تحقق اُمور :

١. عدم نقصان جوهرها ، بأن لا تكون كنفس الصبي التي لا تتجلىّ لها

٢٢٨

المعلومات ، لنقصانها.

٢. صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة ، وخبائث المعاصي ، وهو بمنزلة الصيقل عن الخبث والصدأ.

٣. توجّهها التام وانصراف فكرها إلى المطلوب ، بأن لا يكون غارقاً في الاُمور الدنيوية ، وهو بمنزلة المحاذاة.

٤. تخليتها عن التعصب والتقليد ، وهو بمنزلة إرتفاع الحجب.

٥. التوصل إلى المطلوب بتأليف مقدمات ، مناسبة للوصول إليه على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة ، وهو بمنزلة العثور على الجهة التي فيها الصورة.

ولولا هذه الأسباب المانعة للنفوس عن افاضة الحقائق اليقينية إليها ، لكانت عالمة بجميع الأشياء المرتسمة في العوالم الروحانية.

إذ كل نفس لكونها أمراً ربّانياً وجوهراً ملكوتياً بحسب الفطرة ، صالحة لمعرفة الحقائق ، فحرمان النفس عن معرفة حقائق الموجودات إنّما هو لأحد الموانع.

وقد أشار سيد الرسل إلى أنّ كدورات المعاصي وصدأها مانعة عن ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض.

فلو ارتفعت عن النفس ، حجب السيئات والتعصب ، وحاذت شطر الحق الأوّل لتجلّت لها صورة عالم الملك والشهادة بأسرها ، إذ هو متناه يمكن لها الإحاطة به ، وصورة عالمي الملكوت وإلجبروت ، بقدر ما يتمكّن منه ، بحسب مرتبته (١).

فالعارف الشامخ في عالم المعرفة ، إذا اتصف بما ذكرناه : « صار سمع الله الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاه أجابه ، وإن سأله أعطاه » (٢).

__________________

(١) جامع السعادات ج ١ ص ١٢٥ ـ ١٢٦ ولاحظ مقدمة ابن خلدون.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ـ الباب ١٧ الحديث ٦.

٢٢٩

فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والالقاءات في الروع ، غير مسدودة بنص الكتاب العزيز :

١. قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) ( الأنفال ـ ٢٩ ) أي يجعل في قولبكم نوراً تفرّقون به بين الحق والباطل وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، لا بالبرهنة والاستدلال ، بل بالشهود والمكاشفة.

٢. وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الحديد ـ ٢٨ ).

إنّ صاحب الكشّاف ومن لفّ لفّه وإن فسره بقوله : « ويجعل لكم يوم القيامة نوراً تمشون به » إلاّ أنّ الظاهر خلافه ، وأنّ المراد النور الذي يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته ، في معاشه ومعاده ، في دينه ودنياه ، وهذا النور الذي يحيط به ويضيء قلبه ، نتيجة إيمانه وتقاه ويوضّحه قوله سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) ( الأنعام ـ ١٢٢ ).

٣. وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ( العنكبوت ـ ٦٩ ).

٤. وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة ـ ٢٨٢ ).

فإنّ عطف الجملة الثانية على الاُولى يحكي عن صلة بين التقي وتعليمه سبحانه.

٥. وقال سبحانه : ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ) ( التكاثر : ٥ ـ ٦ ).

فإنّ الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة ، رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام ـ ٧٥ ).

وهذه الرؤية القلبية غير محققة قبل يوم القيامة لمن الهاه التكاثر بل ممتنعة في حقه لامتناع اليقين عليهم.

٢٣٠

والمراد من قوله : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) هو مشاهدتها يوم القيامة بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فالمراد بالرؤية الاُولى رؤيتها قبل يوم القيامة ، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة (١).

٦. وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) ( محمد ـ ١٧ ) فلو أنّ الانسان جعل نفسه في مسير الهداية ، وطلبها من الله سبحانه زاده تعالى هدى وآتاه تقواه.

٧. وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) ( الكهف ـ ١٣ ) والآية تبيّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ، وتغرّبوا لحفظ إيمانهم ودينهم فزاد الله من هداه في حقهم وربط على قلوبهم كما يقول سبحانه :

٨. ( وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) ( الكهف ـ ١٤ ).

والقرآن يصرح بانفتاح باب الهجرة إلى الله ورسوله ، والهجرة كما تشمل الهجرة الظاهرية تشمل الهجرة المعنوية ، التي هي عبارة عن السير في مدارج الكمال والإنابة إليه سبحانه.

٩. يقول سبحانه : ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) ( النساء ـ ١٠٠ ) ، وإلى الهجرة المعنوية ( هجرة النفوس عن السيئات إلى الطاعات ) يشير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول :

« من كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى مال يصيبه فهجرته إلى ما هاجر إليه » (٢) فحمل الآية والرواية على خصوص الهجرة الظاهرية والخروج عن الأوطان والتغرّب لحفظ الإيمان هو أحد أبعاد الآية ، فهناك بعد آخر ، وهو حملها على مهاجرة النفوس من الظلمة إلى النور ، ومن الضلال إلى الهداية ،

__________________

(١) الميزان ج ٢٠ ص ٤٩٦ ـ ٤٩٧.

(٢) صحيح البخاري ج ١ كتاب الإيمان الباب ٤٢ ص ١٦.

٢٣١

ويؤيده قوله سبحانه :

١٠. ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) ( آل عمران ـ ١٩٥ ). فالمراد من المهاجرة هو الهجرة المعنوية حتى تصح مقابلتها مع قوله سبحانه : ( وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

نعم كثرت في القرون الأخيرة عناية طوائف من صوفية أهل السنّة بمسألة الإمامة والإمام ومنهم « النجانية » وقد كتب عنهم العقاد في كتابه « بين الكتب والناس » ومنهم « السنوسية » وقد أفاض فيهم القول البستاني في دائرة معارفه غير أنّ في بعض ما ذكروه خداعاً وضلالاً ، وللبحث عن ما يدّعونه من الكشف والعرفان مجال آخر لا يسعه المقام.

انّ الناظر في نهج البلاغة يجد في كلام الإمام علي عليه‌السلام تصريحات وإشارات على فتح هذا الباب وعدم إيصاده فالإمام عليه‌السلام يقول :

« قد أحيى عقله ، وأمات نفسه ، حتى دق جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع ، كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه ، في قرار الأمن والراحة » (١) ، ويقول :

« هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين » (٢).

فهذه الكلمات العلوية تبيّن جلياً أنّ القلب يمكن أن يصبح محلاً للإشعاع الإلهي على مدار الزمان وفي زمن الخاتمية.

وقد روى الفريقان عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال من أخلص لله أربعين صباحاً ، فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه ، على لسانه (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢١٥.

(٢) نهج البلاغة قصار الكلم الرقم ١٤٧.

(٣) سفينة البحار ، مادة « خلص » نقله عن عدة الداعي لابن فهد الحلي.

٢٣٢

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم ، لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع » (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : « ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً ، إلاّ زهّده الله في الدنيا ، وبصره داءها ودواءها ، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه » (٢).

وهناك كلمة طيبة عن الإمام أمير المؤمنين ، تعرب عن رأي الإسلام في المقام ، قال عليه‌السلام :

« إنّ الله تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ، عزت آلاؤه ، في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات (٣) ، عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم » (٤).

فهو عليه‌السلام يصرح بأنّ الذاكرين من عباده قد بلغ بهم المقام إلى درجة يناجيهم الله في سرائر ضمائرهم ، ويكلمهم من طريق عقولهم ، فهل يوجد مقام أرفع من هذا ، أو درجة أشرف من تلك.

وقريب من ذلك ما رواه الديلمي في إرشاده في خطابات له سبحانه لنبيّه في ليلة المعراج بلفظ « يا أحمد ! فمن عمل برضائي الزمه ثلاث خصال ، أعرفه : شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا اُخفي عليه خاصّة خلقي ، واُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، واُعرفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا اُخفي عليه شيئاً

__________________

(١) حديث مشهور.

(٢) سفينة البحار ، مادة « ربع ».

(٣) التخصيص بعد التعميم فلا يضر بالمطلوب لو كان المراد منه الفترة بين المسيح وبعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٧.

٢٣٣

من جنّة ولا نار ، واُعرّفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة. وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء ... ـ إلى أن قال : ـ يا أحمد ! اجعل همّك هماً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً ، من غفل عنّي لا اُبالي بأي واد هلك » (١).

وهذه الرواية توقفنا على أنّ المعرفة الحقيقية ، التي تحيى بها نفوسنا ، لا تستوفى بالسير الفكري ، ولا يقف السالك في سبيل الحق على هذه الاُمور ، إلاّ بتهذيب النفوس وتطهير القلوب والانقطاع إلى الربّ عن كل شيء ، حتى يرفع دونه كل حجاب مضروب ، وكل غشاء مسدول ، فيعرف ربّه وأسماءه ، وصفاته حق المعرفة ، ويشاهده بعين القلب ويسمع كلامه وكلام ملائكته ، ويرى عظمته وسرادقات كبريائه.

فهذه الفتوحات الباطنية بمراتبها ، ميسّرة في وجه الاُمّة ، لم توصد قط.

الاسفار المعنوية الأربعة :

ثم إنّ للسالك من العرفاء والأولياء أسفاراً ، وهي على ما اعتبرها أهل الشهود أربعة.

أحدها : السفر من الخلق إلى الحق.

ثانيها : السفر من الحق إلى الحق بالحق.

ثالثها : السفر من الحق إلى الخلق بالحق.

رابعها : السفر من الخلق إلى الخلق بالحق.

فبعض هذه الأسفار وقطع منازلها وإن كان يختص بأنبيائه ورسله ، إلاّ أنّ السفر الأوّل والثاني ، لا يختصان بهم ، بل يتيسّران لكل سالك الهي ، لا يقصد إلاّ الاناخة في ساحة ربّه ، والنزول على طاعته ، بلا استثناء ، ودونك توضيح ذينك السفرين : ففي السفر الأوّل ، أعني السفر من الخلق إلى الحق ، ترفع الحجب المظلمة ، بين السالك وربّه ،

__________________

(١) إرشاد القلوب للديلمي ص ٣٢٩.

٢٣٤

فيشاهد جمال الحق ويفني ذاته فيه ، ولأجل ذلك يسمى مقام الفناء. وعندما ينتهي السفر الأوّل يأخذ السالك في السفر الثاني ، وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق وإنّما يكون بالحق لأنّه صار ولياً ، وصار وجوده وجوداً حقّانياً ، فيأخذ السلوك من موقف الذات إلى الكمالات واحداً بعد واحد حتى يشاهد جميع كمالاته فيعلم جميع أسمائه كلّها إلاّ ما استأثر به عنده ، فتصير ولايته تامة ، ويفني ذاته وأفعاله وصفاته في ذات الحق وصفاته وأفعاله ، فبه يسمع ، وبه يبصر وبه يمشي وبه يبطش ، وحينئذ تتم دائرة الولاية.

ولعمري لولا خوف الإطالة ، والخروج عمّا هو الهدف الأسمى للرسالة ، لشرحت للقارئ الكريم ، تلكم الاسفار والمواطن واحداً بعد واحد ، وكفانا ما حبرته يراعة العرفاء الشامخين في هذا الباب (١).

وفي الاُمّة الإسلامية رجالاً مخلصون ، لا يدرك شأوهم ولا يشق غبارهم ، اُولئك أولياء الله في أرضه وخلفاؤه في خلقه ، تغبطهم النبوّة ، كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لله عباداً ليسوا بأنبياء ، تغبطهم النبوّة (٢).

هب أنّ النبوّة قد اُوصد بابها ، إلاّ أنّ باب الفيض المعنوي ، من جانب الإمام الحي عليه‌السلام بعد مفتوح لم يوصد (٣).

__________________

(١) راجع تعاليق الأسفار الأربعة ج ١ ص ١٣ ـ ١٨ للحكيم السبزواري.

(٢) حكاه صدر المتألّهين في مفاتيح الغيب ، وقال : هذا الحديث ممّا رواه المعتبرون من أهل الحديث ، من طريقة غيرنا ، نعم لم أقف عليه مسنداً حتى اُحقق حاله.

(٣) وقد دلّت البراهين الكلامية على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة ، وأنّه لا بد للناس في كل دورة وكورة من إمام معصوم يهدي إلى الرشد ـ وقد تفرّدت به الشيعة عن سائر فرق الإسلام.

وقال أمير المؤمنين : اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة : أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته وكم ذا وأين اُولئك ؟ اُولئك ـ والله ـ الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعونها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقه بالمحل الأعلى ، اُولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم ( نهج البلاغة باب الحكم رقم ١٤٧ ).

٢٣٥

وقد حقق في أبحاث الولاية الالهية أنّ وجه الأرض والمجتمع الانساني لا يخلو أبداً من انسان كامل ذي يقين ، مكشوف له عالم الملكوت ، وله ولاية على الناس في أعمالهم ، يهديهم إلى الحق ويوصلهم إلى المطلوب بأمر من الله سبحانه ، كما هو شأن الإمام في كل عصر ودور ، لقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة ـ ٢٤ ).

فهذا الفيض الالهي والعرفان المعنوي ، لم يزل يجري علي المجتمع البشري بأمر منه سبحانه ، وينزل عليهم من طريق الإمام ، ليهديهم سبيل الحق ويرشدهم إلى مدارج الكمال ، حسب استعداداتهم وقابلياتهم.

قال سيدنا الاُستاذ قدس‌سره : إنّه سبحانه كلّما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية ، تعرض التفسير قال تعالى في قصة إبراهيم : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ( الأنبياء ـ ٧٢ ـ ٧٣ ).

وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة ـ ٢٤ ).

فوصفهم بالهداية وصف تعريف ، ثمّ قيد هذا الوصف بالأمر فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق الهداية بل هي الهداية التي تقع بأمر الله ، فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتهم ، إيصالهم إلى الكمال بأمر الله دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة (١).

فهذا الباب من الفتوحات الغيبية والفيوض الالهية مفتوح ، في وجه الاُمّة لم يوصد أبداً.

__________________

(١) الميزان ج ١ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٣٦

مثل الفضيلة والأخلاق

قد كان لأمير المؤمنين صفوة من الأصحاب يستدر بهم الغمام ، ويندر مثالهم في الدهر كزيد وصعصعة ابني صوحان واُويس القرني والأصبغ بن نباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وأشباههم ، وكان هؤلاء مثلاً للفضيلة وكرم الاخلاص وخزنة للعلم والاسرار ، منحهم أمير المؤمنين من سابغ علمه واستأمنهم على غامض أسراره ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم فجمعوا العلم ، سرّه وجهره ، والفضائل ، نفسية وخلقية ، ذاتية وكسبية ، والعبادة قولاً وعملاً وجارحة وجانحة ، فاكتسبوا من أمير المؤمنين جميع الفعال والخصال وأخذوا عنه أسرار العلم وعلم الأسرار ، حتى زكت بهم النفوس وكادوا أن يزاحموا الملائكة المقرّبين في صفوفهم ، وغبطهم الملأ الأعلى على ما اتصفوا به من كمال الذات والصفات ، فصاروا أهلاً ، لأن يأتمنهم الإمام على نفائس الأسرار وأسرار النفائس فكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم.

فهذا ميثم ، عظيم من حواري علي ، وولي من أوليائه وأحد خريجي مدرسته العالية ، الذين نهجوا في السير على هداه واتبعوه قائداً وقدوة في أمره ونهيه فصار مستودع أسراره وحقل علومه وخاصة حواريه.

كان رسول الله يخلو بعلي يناجيه ، وكانت اُم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك البرة الطاهرة ، تلتقط من المناجات درراً ثمينة ، فممّا التقطته منها ، وصاياه لأبي الحسن عليه‌السلام في ميثم ، فدخل ميثم على اُمّ سلمة وهو يريد الحج ، فقالت له : طالما سمعت رسول الله يذكرك في جوف الليل ويوصي بك علياً.

وكان ميثم يصحب الإمام أحياناً إلى الأماكن الخالية وعند خروجه في الليل إلى الصحراء ، فيستمع منه الأدعية والمناجاة ، وكثيراً ما يجلس إليه الإمام في السوق وأفواج الناس ذاهبة وآيبة ، ينظرون الإمام وهو في دكان « ميثم » يسامره ويحادثه ويلقي إليه

٢٣٧

دروسه ويميره من العرفان الالهي ، فعلّمه علم المنايا والبلايا ، أي علم الآجال وعلم الحوادث والوقائع التي يبتلى بها الناس ، حتى أخبره أنّه سيصلب على باب عمرو بن حريث.

لم يكن ميثم فريداً من بين أصحاب الإمام وحوارييه ، وإن كان أحد عظمائهم إذ أنّه قد أودع هذا العلم عند من كان يأتمنه عليه من أفذاذ أصحابه الآخرين ، نظراء رشيد الهجري واُويس القرني ، وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي وكميل بن زياد ومن يشابههم في الإيمان الشامخ.

ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغاية ، لنقلنا كثير ممّا دار بينهم من المحادثات حول البلايا والمنايا.

فهذا ميثم نفسه ، وقد قيد على خشبة الصلب يقول للناس رافعاً صوته ، أيها الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قبل أن اُقتل فوالله لأخبرنّكم بعلم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وما يكون من الفتن (١).

لم يكن علي عليه‌السلام نسيج وحده في تربية هؤلاء العظماء الذين صقلت نفوسهم وتجلّت لهم صور ما في الكون من الحقائق والموجودات ، بل سبقه سيد الرسل فأدّب أناساً ، نهجوا في السير على هداه ، واتبعوه في أمره ونهيه ، وساروا في الطريق الذي رسمه لهم ، فكانوا مثلاً أعلى للفضيلة وكرم الأخلاق وخزنة للعلم والأسرار ، فشاهدوا الخليقة وما فيها من حقائق غامضة ، ورأوا ملكوت السماوات والأرض ، وعاينوا الحقائق العلوية والعوالم الروحية ، من قبل أن يخرجوا من الدنيا.

روى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حارثة ابن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال : يا رسول الله مؤمن حقاً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك ؟ فقال :

__________________

(١) راجع في ترجمة ميثم ، كتب الرجال ، ولا سيما « قاموس الرجال » ج ٩ ص ١٦٤ ـ ١٧١ وما دبجته براعة الاُستاذ المغفور له الشيخ محمد حسين المظفر حول حياة ميثم.

٢٣٨

يا رسول الله ! عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري كأنّي أنظر إلى عرش ربّ ـ ي وقد وضع للحساب ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنيّ أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال له رسول الله : عبد نوّر الله قلبه ، أبصرت فاثبت ، فقال : يا رسول الله اُدع الله لي أن يرزقني الشهادة معك ، فقال : اللّهمّ أرزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلاّ أياماً حتى بعث رسول الله سرية فبعثه فيها فقاتل ، فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل (١).

أخرج الكليني عن إسحاق بن عمار ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى شاب في المسجد فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف أصبحت يا فلان ؟ قال : أصبحت يارسول الله موقناً ، فعجب رسول الله من قوله وقال : إنّ لكل يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك ؟ فقال : إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، وعلى الأرائك متّكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار ، يدور في مسامعي فقال رسول الله لأصحابه : هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان (٢).

هذا هو الإيمان المحض والعبودية الخالصة بل أنّه لشأن لا يتوصل إليه بالحس والعلم.

فكم في الاُمّة الإسلامية من ذوي الرتب العلوية ، رجال وأبدال شملتهم العناية الالهية ، فجردوا أنفسهم عن أبدانهم ، حينما أرادوا ، فعاينوا الحقائق واطلعوا على الأسرار.

وقد تضافرت الأحاديث على أنّ في الاُمّة الإسلامية مثل الاُمم السابقة رجالاً مخلصين محدّثين ( بالفتح ) يطلعون على المغيبات باحدى الطرق التي ألمحت إليها

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٥٤.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٥٣.

٢٣٩

الروايات.

والمحدث على ما تشرحه الأحاديث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

روى البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقد كان في من كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء (١).

روى شيخ الطائفة باسناده عن أبي عبد الله قال كان علي عليه‌السلام محدثاً وكان سلمان محدثاً ، قال : قلت فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه ملك فينكت في قلبه ومنّا من يخاطب (٢).

قال صدر المتألهين في الفاتحة الحادية عشرة :

« اعلم أنّ الوحي إذا اُريد به تعليم الله عباده ، فهو لا ينقطع أبداً ، وإنّما انقطع الوحي الخاصّ بالرسول والنبي من نزول الملك على اُذنه وقلبه » (٣).

نعم ليس كل من رمى أصاب الغرض ، وليست الحقائق رمية للنبال ، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممّن خلص روحه وصفا قلبه ، كما كان كذلك في الاُمم السابقة أيضاً.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٢ ص ١٤٩.

(٢) أمالي الطوسي ص ٢٦٠.

(٣) مفاتيح الغيب ص ١٢.

٢٤٠