مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

ليس غير وأمّا الدعوة العالمية فتختص بالنبي الخاتم كما أوضحناه (١).

فان قلت : إنّ آدم قد بعث إلى الناس كافة كما أنّ نوحاً كان مبعوثاً إلى أهل الأرض كافة بعد الطوفان لأنّه لم يبق معه إلاّ من آمن به ، وعليه فينتقض الحصر في الحديث المتفق عليه بين الفريقين.

قلت : الحديث منصرف عن بدء الخلقة وعن النبي الذي لم يكن على أديم الأرض إلاّ نفسه وولده ، أمّا نوح فقد تضافرت الآيات أنّه كان مبعوثاً إلى قومه كقوله سبحانه : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) ( نوح ـ ١ ).

وأمّا صيرورة رسالته عالمية بعد الطوفان ، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس ، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ القدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً ، بل كان خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه ويؤيد ذلك أنّه إذا كان مبعوثاً إلى قومه خاصة لم يكن وجه لتعذيب غيرهم وإهلاكهم بتكذيب قومه إذا لم تصلهم دعوته كما هو الظاهر (٢).

هيهنا سؤال :

إذا كانت نبوّة كلّ واحد من هؤلاء الأربعة اقليمية أو مختصة بقوم خاص ، فما معنى « اُولوا العزم من الرسل » الذي وصف الله به عدة من الرسل ؟ فإنّ المشهور أنّ المقصود منهم من كانت رسالته عالمية موجهة إلى الناس كافة.

ولأجل الاجابة على هذا السؤال عقدنا البحث التالي.

__________________

(١) راجع صفحات ٣٧ ـ ٥٦ من هذا الكتاب.

(٢) وقد وقفت على حقيقة الحال عند البحث عن حقيقة نبوّة نوح عليه‌السلام.

١٠١

ما المراد باُولي العزم

من الرسل

لقد وصف الله بعض رسله أو كلهم بكونهم (١) اُولي العزم من الرسل حيث قال : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) ( الاحقاف ـ ٣٥ ).

فأمر نبيّه بالصبر والوقوف في وجه العدو كوقوفهم في وجه معانديهم ومخالفيهم وعندئذ يجب أن نتعرف على ما هو المراد من توصيفهم به وقبل كل شيء نأتي بنصوص أهل اللغة في معنى العزم :

١. يظهر من ابن فارس في مقاييسه أنّ لهذا اللفظ معنى واحداً وهو القطع ضد الوصل وإليه يرجع معناه الآخر وهو العزم وكأنّه يقطع التحيّر والشك قال : « عزم » له أصل واحد صحيح يدل على الصريمة والقطع يقال : عزمت أعزم عزماً ـ إلى أن قال ـ قال الخليل : العزم ما عقد عليه القلب من أمر أنت فاعله أي متيقّنه ويقال : ما لفلان عزيمة أي ما يعزم عليه كأنّه لا يمكنه أن يصرم الأمر بل يختلط فيه ويتردد ومن قولهم : عزمت على الجنى وذلك أن تقرأ عليه من عزائم القرآن وهي الآيات التي يرجى قطع الآفة عن المؤوف واعتزم السائر إذا سلك القصد قاطعاً له والرجل يعتزم الطريق : يمضي

__________________

(١) الترديد مبني على كون لفظة « من » تبعيضية أو بيانية وإن كان الظاهر هو الأوّل.

١٠٢

فيه لا ينثني.

واُولوا العزم من الرسل الذين قطعوا العلائق (١) بينهم وبين من لم يؤمن من الذين بعثوا إليهم كنوح عليه‌السلام إذ قال : ( لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) وكمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ تبرّأ من الكافر وبرّأه الله تعالى منهم وأمره بقتالهم في براءة من الله ورسوله (٢).

٢. وفسّره الراغب بالقصد وعقد القلب ، من غير إشارة إلى أصله الذي اخذ منه هذا المعنى وقال : العزم والعزيمة عقد القلب على امضاء الأمر قال : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ، ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ) ، ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) ، ( إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ، ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) أي محافظة على ما اُمر به وعزيمة على القيام ، والعزيمة تعويذ كأنّه تصوّر أنّك قد عقدت بها من الشيطان أن يمضي ارادته فيك وجمعها العزائم.

٣. وفسّره الفيروز آبادي بقوله : عزم على الأمر أراد فعله وقطع عليه ، أو جدّ في الأمر ـ إلى أن قال ـ : واُولوا العزم من الرسل الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم ، ونقل عن الزمخشري : اُولوا الجد والثبات والصبر.

والمحصّل من هذه النقول أنّ المعنى الأصيل لهذا اللفظ هو القطع ضد الوصل ، ثم يستعمل لأجل المناسبة في عقد القلب والثبات والصبر.

أمّا القرآن فالظاهر أنّه لم يستعمل فيه إلاّ بمعنى عقد القلب مثل قوله :

( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ) ( محمد ـ ٢١ ).

( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ( آل عمران ـ ١٥٩ ).

( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) ( البقرة ـ ٢٢٧ ).

( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ) ( البقرة ـ ٢٣٥ ).

__________________

(١) هذا التفسير لم يعهد من المفسرين.

(٢) المقاييس ج ٤ ص ٣٠٨.

١٠٣

( وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( آل عمران ـ ١٨٦ ).

أي أنّ الصبر والتقى من الاُمور التي بان رشدها ويجب أن يعزم وينعقد القلب عليها وعقد القلب عليها يستلزم الصبر ويتوقف على الثبات في معارك الحياة ، فالصبر لازم العزم.

ومثله قوله سبحانه : ( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( لقمان ـ ١٧ ).

وقوله سبحانه : ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( الشورى ـ ٤٣ ).

والتدبر في الآيتين الأخيرتين يعطي أن العزم ليس مرادفاً للصبر والثبات وإن فسّره به الزمخشري في كشافه حيث قال في تفسيره : « اُولوا العزم أي اُولوا الجد والثبات والصبر » (١).

وذلك لأنّ اسم الإشارة في آية سورة لقمان امّا راجع إلى خصوص الصبر كما هو مقتضى الأقربية أو إلى كل ما أوصى به لقمان من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصابه وعلى أي تقدير لا يصح أن يفسّر العزم بالصبر والثبات إذ يصير معنى الآية حينئذ : أنّ الصبر وحده أو هو مع غيره من عزم الاُمور.

وبذلك يظهر الحال في آية سورة الشورى فلاحظ.

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ( طه ـ ١١٥ ).

والمقصود لم نجد له عزماً حافظاً على عهده الذي عاهدناه.

نعم العزم على الشيء والمحافظة على عقد القلب في طول الحياة لا ينفك عن الثبات والجد والوقوف في وجه المشاكل.

هذا معنى العزم في القرآن وبذلك يظهر معنى العزم في الآية التي نحن بصدد

__________________

(١) الكشاف ج ٣ ص ١٢٦.

١٠٤

رفع الستر عن وجهها أعني قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ). فانّه بمعنى أصحاب العزائم والقصود المؤكدة التي لا تنفصم أصلاً وتدعو إلى العمل والسعي في سبيل الله سبحانه.

من هم اُولي العزم من الرسل ؟

يجد القارئ الكريم حول الآية وجوهاً ومعاني حملت على الآية والآية لا تحتملها ودونك تلك الوجوه :

الوجه الأوّل :

١. هم الذين بعثوا إلى شرق الأرض وغربها جنّها وانّسها (١).

هذا المعنى أحد الوجوه التي تفسّر بها الآية وعلى هذا يجب عدّ رسالة كلّ من قام الاجماع على كونه من الرسل اُولي العزم أو عدّ منهم في الأخبار الصحاح رسالة عالمية لا اقليمية وبما أنّ موسى والمسيح قامت الضرورة على كونهم من اُولي العزم يجب أن يكون رسالتهم عالمية حسب هذا القول.

وقد عرفت ضعف هذا القول في البحث الماضي وأنّ الآيات تفيد كون رسالة الكليم والمسيح مختصة بقومهما وبالمناطق التي بعثا فيها فضلاً عن كون رسالة نوح والخليل عليهما‌السلام عالمية.

وعلى ذلك فهذا الاحتمال في تفسير الآية لا يمكن الركون إليه فلنبحث عن المحتملات الاُخر حول الموضوع.

الوجه الثاني :

أن يراد من اُولي العزم كل الرسل ولم يبعث الله رسولاً إلاّ كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال وعقل وعلى هذا فلفظة « من » في قوله : ( مِنَ الرُّسُلِ ) تبيين لا تبعيض كما يقال :

__________________

(١) حق اليقين لشبر ص ١١١ ناقلاً عن كامل الزيارت.

١٠٥

كسيته من الخز ، وكأنّه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ، ووصفهم بالعزم لأجل صبرهم وثباتهم (١).

ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب ـ ٧ ).

فإنّ اضافة الميثاق إلى النبيين دليل على أنّ الميثاق المأخوذ منهم بوصف كونهم من النبيين غير الميثاق المأخود منهم بوصف كونهم من بني آدم الذي يشير إلى ذلك الميثاق قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) ( الأعراف ـ ١٧٢ ).

فالآية الاُولى تدل على أخذ الميثاق من النبيين عامة وأخذ الميثاق وإن كان لا يدل على العزم الراسخ لكن سكوت القرآن عن نقضهم لهذا الميثاق وبما هم أنبياء معصومون من كل عصيان ، يشعر أو يدل على قيامهم بالميثاق الغليظ الذي يتوقف على العزم الراسخ والإرادة القوية التي تستتبع الصبر والثبات.

وأمّا تخصيص الخمسة بالذكر فهو لعظمة شأنهم ورفعة مكانهم لكونهم أصحاب الشرائع والكتب لا لانحصار ذاك الوصف فيهم ، كما يمكن أن يتوهم فقد خصّ الله سبحانه هؤلاء الخمسة بالذكر في مورد آخر وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ ١٣ ).

وقد أشار سبحانه إلى أخذ الميثاق من الأنبياء جميعاً في قوله :

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا ) ( آل عمران ـ ٨١ ) (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٩٤.

(٢) وقد بسّط الطبرسي الكلام في تفسير الآية فراجع ج ١ ص ٤٦٨.

١٠٦

وهذه الآية تحتمل معنيين :

الأوّل : أنّه سبحانه أخذ الميثاق من النبيين ولم يذكر متعلّق الميثاق عندئذ وقوله : ( لَمَا آتَيْتُكُم ) ليس متعلّقاً لأخذ الميثاق منهم ، لكون اللام مفتوحة توطئة للقسم وقوله لتؤمنن جواب له ، وعند ذلك يحتمل أن يكون الميثاق المأخوذ منهم هو وحدة الكلمة في الدين وعدم الاختلاف فيه وإليه تؤمى آية سورة الشورى أعني قوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا ) ( الشورى ـ ١٣ ).

الثاني : انّه سبحانه أخذ الميثاق من الاُمم على أنبيائهم على تصديقهم والاقتداء بهم وعلى ذلك تخرج عمّا نحن بصدد البحث عنه والمعنى الأوّل أظهر.

الوجه الثالث :

أن يكون « من » للتبعيض ويراد من « اُولوا العزم » بعض الأنبياء ، قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى إذ قال له قومه : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) وداود يبكي على زلته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنّها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقال الله تعالى في آدم : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ، وفي يونس : ( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) (١).

وهذا القول أقرب الأقوال لولا أنّ فيه مسحة إسرائيلية حيث عد إسحاق ذبيحاً مع أنّ الذبيح هو إسماعيل ولكنّه لا يضر بأصل المعنى ويؤيده كما اُشير إليه نفي العزم عن آدم بعد ما عهد إليه ونسي ما عهد ، والنسيان كناية عن الترك اُطلق السبب واُريد المسبّب لأنّ الشيء إذا نسي ترك ، والمراد من العهد هو النهي عن أكل الشجرة بمثل قوله : ( وَلا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ ) ( الأعراف ـ ١٩ ).

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ١٩٤ ـ واحتمله الفخر راجع ج ٧ ص ٤٦٨.

١٠٧

وعلى ذلك فالعزم أمّا بمعنى القصد الجازم كما هو الحق أو الصبر والثبات ويؤيده ما رواه القمي في تفسير الآية حيث قال : وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، ومعنى اُولوا العزم : أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والأذى (١).

ولا يرد على هذه الرواية ما أوردناه على السابقة ، نعم انحصاره في الخمسة المذكورة في الرواية يحتاج إلى دليل قاطع.

ومع ذلك فهذا القول أقرب الأقوال لكن بتصرف فيه وهو أنّ جعل « اُولوا العزم » من الرسل حيث قال : اُولوا العزم من الرسل يدل على أنّ عزمهم القوي كان في تبليغ رسالتهم ونشرها بين الناس ، لا مجرد إبتلائهم بالشدائد والبلايا ولو في غير طريق نشر الدين ، فابتلاء يعقوب ويوسف وأيوب وغيرهم لا يجعلهم داخلاً في « اُولوا العزم من الرسل » بما هم رسل ذووا رسالة من الله سبحانه إلى عباده.

ويؤيده أنّ الآية بصدد تحريض النبي على تحمل المشاق في طريق دعوته ورسالته ، والقرآن يصف نوحاً وإبراهيم وموسى بكونهم ذوي عزائم قوية في سبيل الدعوة وتبليغ الدين ولعلّ ههنا من يصفه القرآن بهذا الوصف أو هو كذلك وإن لم يصفه القرآن ولكنّا غير واقفين عليه.

الوجه الرابع :

من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه وهم خمسة اوّلهم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روي عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قال : وهم سادة النبيين وعليهم دارت رحى المرسلين(٢).

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٠٠.

(٢) مجمع البيان ج ٥ ص ١٩٤.

١٠٨

غير أنّه لم يثبت نسخ كلّ شريعة لاحقة لما تقدمها.

فذا هو عيسى بن مريم يبيّن الغاية من بعثته بقوله : ( قَدْ جِئْتُكُم بِالحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ( الزخرف ـ ٦٣ ).

فإنّ معنى ذلك أنّ المسيح جاء مبيّناً لا ناسخاً لما تقدمه من الشرائع.

الوجه الخامس :

هم الذين اُمروا بالجهاد والقتال وجاهدوا في الدين. نقل عن السدي والكلبي (١).

وهذا لوجه ينطبق مع بعض المعاني المتقدمة خصوصاً الثالث.

الوجه السادس :

إنّ العزم بمعنى الوجوب والحتم واُولوا العزم من الرسل هم الذين شرعوا التشريع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها وخصهم القائل بأربعة أعني نوحاً وهوداً وإبراهيم ومحمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وهذا المعنى مبني على كون العزم بمعنى الحكم والشريعة مقابل الرخصة وهو الذي يؤيده بعض الروايات المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام وقد روي في العيون عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « إنّما سمّي اُولوا العزم اُولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كلّ نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل » (٣).

الوجه السابع :

المقصود هم الرسل الثمانية المذكورون في قوله سبحانه : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا

__________________

(١) و (٢) مجمع البيان ج ٥ ص ١٩٤.

(٣) العيون ج ١٢ الباب ٣٢ ص ٨٠ ونور الثقلين ج ٥ ص ٢٢.

١٠٩

إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ( الأنعام : ٨٣ ـ ٨٤ ).

والدليل على ذلك قوله سبحانه : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) ( الأنعام ـ ٩٠ ).

وهذا المعنى من أبعد الأقوال عن الحق لأنّه سبحانه لم يخص الاهتداء بالثمانية إلاّ وقد أشار إلى آبائهم بقوله : ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الأنعام ـ ٨٧ ).

ثم قال سبحانه : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ).

فيجب أن يكون الكل اُولي العزم.

وهناك أقوال اُخر يرجع إلى الاختلاف في عددهم بين كونه تسعة أو سبعة أو ستة أو خمسة أو أربعة وقد ضربنا عن ذكرها صفحاً.

وعرفت أنّ الحق هو الوجه الثالث بالتصرف الذي عرفته فيه وأوضحنا أنّ هذه اللفظة ليس علماً لعدة معيّنة بل هي وصف يشير إلى الجماعة الذين صبروا في طريق رسالاتهم وتبليغ دين الله سبحانه ، وقد عرفت أنّ القرآن يصف ثلاثة من الرسل بهذا العنوان وهم عبارة عن نوح والخليل والكليم ولعلّ هناك من صبر في هذا الطريق ، وعرفه القرآن ولم نقف عليه ، عصمك الله وإيّانا من الزلل في القول والعمل وجعلنا من أصحاب العزائم القوية في نشر الحق.

شبهة واهية في المقام :

ذهب بعض المعترضين من لا إلمام له بحقيقة التعاليم الإسلامية ولا معرفة له باُصول الدين المحمدي وفروعه إلى انكار عالمية الإسلام ، تمسّكاً بالأمر التالي وهو :

انّ الإسلام جاء بضرائب على الابل والبقر والغنم بمقادير دقيقة في غاية الدقة لأنّ الجزيرة العربية كانت يوم ذاك تكثر فيها الجمال والمواشي دون غيرها من البلاد

١١٠

والقارات وذلك آية كونه ديناً اقليمياً لا عالمياً ، بل آية على أنّ تخطيطاته الاقتصادية ، وقوانينه في الضرائب وغيرها تناسب عصر الجمال والمواشي ، لا عصر الصاروخ والطائرة ، والمعامل الكبرى ، والمصانع الضخمة ، والأعمال التجارية الهائلة.

قلت : هذه شبهة يتمسّك بها تارة على نفي كون الإسلام ديناً عالمياً ، واُخرى على نفي كونه ديناً أبدياً وخاتماً لرسالات السماء بحجّة أنّ ما جاء به الإسلام من تشريع في مجال الضرائب ناقص لا يفي بالحاجات المتجددة في العصور المتطورة والحضارات المتقدمة ، والنفقات المتزايدة.

وقد أجبنا عن هذه الشبهة مفصّلاً في الجزء الثاني من هذه الموسوعة عند البحث عن ( المنابع المالية للحكومة الإسلامية ) فلاحظ تجد فيها ما يقطع جذور الشبهة من أساسها.

١١١
١١٢

الفصل الثاني

الخاتمية

في

الذكر الحكيم

اتفقت الاُمّة الإسلامية عن بكرة أبيها على أنّ نبيّهم محمداً خاتم النبيين ، وأنّ دينه خاتم الأديان ، وكتابه خاتم الكتب والصحف ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر السفراء الالهيين ، أوصد به باب الرسالة والنبوّة ، وختمت به رسالة السماء إلى الأرض.

لقد اتفق المسلمون كافة على أنّ دين نبيّهم ، دين الله الأبدي ، وكتابه ، كتاب الله الخالد ، ودستوره الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد أنهى الله إليه كلّ تشريع وأودع فيه اُصول كلّ رقي ، وأناط به كلّ سعادة ورخاء ، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.

توضيحه : أنّ الشريعة الحقة الالهية التي أنزلها الله إلى أوّل سفرائه لا تفترق جوهراً عمّا أنزله على آخرهم ، بل كانت الشريعة السماوية في بدء أمرها كنواة قابلة للنمو والنشوء ، فأخذت تنمو وتستكمل عبر القرون والأجيال ، حسب تطور الزمان وتكامل

١١٣

الاُمم ، وتسرب الحصافة إلى عقولهم ، وتسلل الحضارة إلى حياتهم.

ويفصح عمّا ذكرنا قوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا ... ) ( الشورى ـ ١٣ ) فقد وصّى نبيّنا محمداً بما وصّى به نوحاً ، من توحيده سبحانه وتنزيهه عن الشرك ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والتنديد بالجرائم الخلقية ، والقضاء على أسبابها ، إلى غير ذلك ممّا تجده في صحف الأوّلين والآخرين.

وتتجلى تلك الحقيقة الناصعة ، أي وحدة الشرائع السماوية ، جوهراً من مختلف الآيات في شتى المواضع ، قال سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ( آل عمران ـ ١٩ ) وظاهر الآية يعطي أنّ الدين عند الله ـ لم يزل ولن يزال ـ هو الإسلام في طول القرون والأجيال ، ويعاضدها قوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آل عمران ـ ٨٥ ).

وقد نبّه سبحانه في مورد آخر على خطأ اليهود والنصارى في رمي ـ بطل التوحيد ـ إبراهيم باليهودية والنصرانية ، وقال : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران ـ ٦٧ ).

نعم المراد من الإسلام في الآيتين هو التسليم لله والامتثال لأوامره ونواهيه لا المعنى العلمي منه ، الذي يقابل اليهودية والنصرانية.

وقد سئل علي عليه‌السلام عن حقيقة الإسلام ، فقال : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين » (١) ففسّر الإسلام بالتسليم له سبحانه ، وحقيقة التسليم هنا هو إرجاع الأمر والنهي إليه سبحانه ، فالواجب ما أمر به والحرام ما نهى عنه ، لا ما أمر به الأحبار والرهبان ، أو نهوا عنه ، ولا يتحقق التسليم إلاّ برفض تحكيم الرجال في الشريعة ، ورد آراء الناس والأحبار والرهبان في الحلال والحرام.

فحقيقة الشرائع السماوية في جميع الأدوار والأجيال كانت أمراً واحداً وهو

__________________

(١) نهج البلاغة : المختار من الحكم ١٢٥.

١١٤

التسليم لله في فرائضه وعزائمه وحده.

ولأجل ذلك كتب الرسول إلى قيصر عندما دعاه إلى الإسلام ، قوله سبحانه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (١).

وقد أمر سبحانه في آية اُخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعاً إلى اتباع ملّة إبراهيم ، قال سبحانه : ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران ـ ٩٥ ).

وصرّح سبحانه بأنّ كلّ نبي جاء عقب نبي آخر ، كان يصرّح بأنّه مصدّق بوجود ذلك النبي المتقدم عليه وكتابه ودينه ، فالمسيح مصدّق لما بين يديه من التوراة ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدّق لما بين يديه من الكتب وكتابه مهيمن عليه ، كما قال سبحانه : ( وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ، ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة : ٤٦ ، ٤٨ ).

وهذه النصوص كلّها تعبّر عن وحدة اُصول الشرائع وجذورها ولبابها.

وعلى هذه فرسالة السماء إلى الأرض ، رسالة واحدة في الحقيقة مقولة بالتشكيك ، متكاملة عبر القرون ، جاءت بها الرسل طوال الأجيال ، وكلّهم يحملون إلى المجتمع البشري رسالة واحدة لتصعد بهم إلى مدارج الكمال ، وتهديهم إلى معالم الهداية ومكارم الأخلاق.

نعم كان البشر في أوّليات حياتهم يعيشون في غاية البساطة والسذاجة ، فما كانت لهم دولة تسوسهم ، ولا مجتمع يخدمهم ولا ذرائع تربطهم ، وكانت أواصر الوحدة ووشائج الارتباط بينهم ضعيفة جداً ، فلأجل ذاك القصور في العقل ، وقلة التقدم ، وضعف الرقي ، كانت تعاليم أنبيائهم ، والأحكام المشروعة لهم ، طفيفة في غاية البساطة ، فلما أخذت الانسانية بالتقدم والرقي ، وكثرت المسائل يوماً فيوماً ، اتسع نطاق الشريعة

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٥ ، مسند أحمد ج ١ ص ٢٦٢.

١١٥

واكتملت الأحكام تلو هذه الأحوال والتطورات.

فهذه الشرائع ( مع اختلافها في بعض الفروع والأحكام نظراً إلى الأحوال الاُممية والشؤون الجغرافية ) لا تختلف في اُصولها ولبابها ، بل كلها تهدف إلى أمر واحد ، وتسوق المجتمع إلى هدف مفرد ، والاختلاف إنّما هو في الشريعة والمنهاج لا في المقاصد والغايات كما قال سبحانه : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ) ( المائدة ـ ٤٨ ) (١).

وقال سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الجاثية ـ ١٨ ).

وخلاصة القول : إنّ السنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللانجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ولكن الدين هو الاُصول والعقائد والأحكام التي تساير الفطرة الإنسانية ولا تخالفها ، واحد.

وهاتان الآيتان لا تهدفان إلى اختلاف الشرائع في جميع موادها ، ومواردها اختلافاً كلّياً بحيث يكون من النسبة بينها نسبة التباين ، كيف وهو سبحانه يأمر نبيّه بالاقتداء بهدى أنبيائه السالفين ويقول : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) ( الأنعام ـ ٩٠ ).

وتخصيص الاقتداء بالتبعية لسننهم وسيرتهم في دعوة أقوامهم إلى الدين والصبر على أذاهم كما في قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف ـ ٣٥ ) تخصيص بلا وجه.

فالقول باختلاف الشرائع وتباينها في جميع الموارد لا يرتضيه القرآن والقول باتحاد الشرائع باطل بالضرورة قال سبحانه : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا

__________________

(١) أي جعلنا لكل من موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكل من اُمم التوراة والانجيل والقرآن شريعة وطريقاً خاصاً إلى ما هو الهدف الأقصى من بعث الرسل ومنهاجاً واضحاً ، والاختلاف بين الكتب والشرائع جزئي لا كلي ، والنسخ في بعض الأحكام لا في جميعها.

١١٦

يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ ) ( الحج ـ ٦٧ ).

والقول الوسط هو الأوسط ، والشريعة الكاملة السمحة الصالحة لكلّ زمان وكلّ مكان هي الشريعة التي جاء بها الإسلام ونبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم إنّه سبحانه يصرح بحكمة اختلاف الشرائع وتعددها بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) ( المائدة ـ ٤٨ ).

فإنّ الشريعة الواحدة إنّما تصلح لاُمّة مخلوقة على استعداد واحد ، وحالة واحدة كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين كالطير والنمل والنحل ، وأمّا النوع الممتاز كالانسان الذي يرتقي في اطوار الحياة بالتدريج وعلى سنّة الارتقاء فلا تصلح له شريعة واحدة في كل طور من أطوار حياته ، فشدة أحكام الانجيل في الزهد وترك الدنيا والخضوع لكل حاكم وكل معتد لا يمكن أن يؤخذ به في هذا العصر ، ومثله ما في التوراة من أحكام شديدة كما لا يخفى.

نعم جاءت الرسل تترى ، وتواصلت حلقات النبوّة في الأدوار الماضية إلى أن بعث الله آخر سفرائه ، فأتم به نعمته وأكمل به دينه ، فأصبح المجتمع البشري في ظل دينه الكامل وكتابه الجامع ، غنياً عن تواصل الرسالة وتعاقب النبوّة ، وأصبح البشر غير محتاجين إلى ارسال أي رسول بعده ، إذ جاء الرسول بأكمل الشرائع وأتقنها وأجمعها للحقوق وبكل ما يحتاج إليه البشر في أدوار حياتهم وأنواع تطوّراتهم وفي الوقت نفسه فيها مرونة تتمشى مع جميع الأزمنة والأجيال ، من دون أن تمس جوهر الرسالة الأصلي بتحوير وتحريف.

ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية.

النصوص القرآنية الدالّة على ختم النبوّة :

لقد نص القرآن الكريم على ذلك تنصيصاً لا يقبل الشك والترديد ، ولا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية ، وذلك في مواضع :

١١٧

النص الأوّل : قوله سبحانه :

( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الأحزاب ـ ٤٠ ).

توضيحه : تبنّى رسول الله زيداً قبل عصر الرسالة ، وكان العرب ينزّلون الادعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج والميراث ، فأراد الله سبحانه أن ينسخ تلك السنّة الجاهلية ، فأمر رسوله أن يتزوّج زينب زوجة زيد بعد مفارقته لها ، فلمّا تزوّجها رسول الله ، أوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين والمتوغلين في النزعات الجاهلية ، والمنساقين وراءها ، فرد الله سبحانه مزاعمهم وطعنهم بقوله : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) من الذين لم يلدهم ومنهم زيد ولكنّه ( رَسُولَ اللهِ ) وهو لا يترك ما أمره الله به ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وآخرهم ختمت به النبوّة فلا نبي بعده ولا شريعة سوى شريعته ، فنبوّته أبدية وشريعته باقية إلى يوم الدين.

الخاتم وما يراد منه :

الخاتم ( سواء كان بفتح التاء كما عليه « عاصم » أم بكسرها ، كما عليه الباقون وعلى الفتح سواء أقلنا أنّه فعل كضارب بمعنى ختمهم ، أم اسم بمعنى آخرهم ، أو بمعنى ما يختم به أي المختوم به باب النبوّة ، كما يختم بالطابع ) لا يفهم منه في المقام إلاّ معنى واحد وهو أنّه قد ختم به باب النبوّة وأوصد بوجوده ودينه وكتابه باب الرسالة فلا نبي بعده أصلاً.

وقد أصفقت على هذا كتب اللغة والتفسير والتاريخ طيلة أربعة عشر قرناً ولم يختلف فيه اثنان ، ولم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه ، فهذه معاجم اللغة وكتب التفسير المؤلفة في العهود الإسلامية السابقة ، بيد أساطين اللغة وفطاحلها وأئمّة التفسير وأبطاله ، ضع يدك على أي واحد منها ، تجدها متضافرة على ما قلناه وسوف ننقل بعض نصوصهم.

١١٨

والأولى أن نرجع قبل كل شيء إلى نفس القرآن وموارد استعمال هذه المادة فيه ، حتى نستعين بالقرآن الكريم نفسه ، في رفع الابهام :

١. ( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ) ( المطففين ـ ٢٥ ) أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه ، تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك ، أو مختوم بابه بشي مثل الشمع وغيره ، وذلك آية خلوصه.

٢. ( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ) ( المطففين ـ ٢٦ ) مقطعه رائحة مسك إذا شرب.

٣. ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ ) ( الشوري ـ ٢٤ ).

٤. ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ ) ( يس ـ ٦٥ ) أي طبع على أفواههم فتوصّد أفواههم وتتكلم أيديهم.

٥. ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) ( الجاثية ـ ٢٣ ).

٦. ( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) ( البقرة ـ ٧ ).

٧. ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ ) ( الأنعام ـ ٤٦ ).

فإذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله أنّه لا يؤمن ، يطبع الله على قلبه كما يطبع على الشيء بالشمع والطين فيصير قلبه كالمختوم عليه ، لا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء ، فلا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر.

فالختم على الشيء ، بمعنى الطبع عليه كناية عن ختم أمره ، فالختم على القلب يلازم انتهاء أمره وامتلاءه بالكفر والالحاد فلم يبق فيه موضع لنور الحق وكلماته ، كما أنّ ختم الورقة وطبعها بالطابع علامة أنّ الكاتب بلغ ما أراد من كتابته فيها ، وانتهى غرضه

١١٩

ومقصده.

والختم على النبوّة عبارة عن أنّه أوصد باب النبوّة وطبع على بابها ، فهو مقفل إلى يوم القيامة ، لا يفتح في وجه أحد.

وعلى أي تقدير فالناظر في هذه الآيات لا يتلقّى من تلك المادة إلاّ معنى واحداً وهو الانتهاء ، أو ما يلازمه من الطبع على الشيء.

وقد أوضحه إمام اللغة ابن فارس في معجمه وقال : « الختم » له أصل واحد وهو البلوغ آخر الشيء ، يقال ختمت العمل ، وختم القارئ السورة ، فأمّا الختم وهو الطبع على الشيء ، فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلاّ بعد بلوغ آخره في الإحراز ، والخاتم مشتق من الختم ، لأنّه به يختم ، ويقال : الخاتم بالكسر ، والخاتام والخيتام.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء لأنّه آخرهم ، وختام كل مشروب ، آخره ، قال الله تعالى : ( خِتَامُهُ مِسْكٌ ) ، أي أنّ آخر ما يجدونه عند شربهم إياه رائحة المسك.

وقال أبو البقاء العكبري : الخاتم بفتح التاء على معنى المصدر ، أو هو فعل مثل قاتل بمعنى ختمهم ، وقال الآخرون : اسم بمعنى آخرهم ، وقيل : هو بمعنى المختوم به النبيون ، كما يختم بالطابع ويقرأ بكسرها ، بمعنى آخرهم (١).

وقال الجوهري في صحاحه : ختمه ويختمه ختماً وختاماً ، طبع على قلبه : جعله لا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء ، وختم الشيء : بلغ آخره ، والختام ككتاب : الطين يختم به على الشيء ، والخاتم ما يوضع على الطينة ، وحلي للاصبع ...

قال الفيروز آبادي في قاموسه : ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختم ، شدّد للمبالغة ، وختم الله له بخير منه ، وختمت القرآن : بلغت آخره ، واختتمت الشيء : نقيض افتتحته ، وإلخاتم بكسر التاء وفتحها ، والخيتام والخاتام : كلّها بمعنى واحد ،

__________________

(١) التبيان في اعراب القرآن ج ٢ ص ١٠٠.

١٢٠