مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

الإداريّة ، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة ، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين ، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم ، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم ، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين ، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم ، حيث يقول عنهم :

١. ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة : ١٠٠ ).

٢. ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح : ١٨ ).

٣. ( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر : ٨ ).

٤. ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح : ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله ( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل ، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً ، بل وممدوحين ، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة : ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة : ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران : ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر ، لاذوا بالفرار ، قال سبحانه عنهم : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الأحزاب : ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات ، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين ، لقوله سبحانه : ( إِذْ جَاءُوكُم ... مِن فَوْقِكُمْ ... وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال ( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل ، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله : ( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ). ( الأحزاب : ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول : بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم ، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين ، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام ، أضف إلى ذلك ، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله : ( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح : ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم ، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها ، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام ، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما ، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب ، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان ، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد ، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة ، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف ، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك ، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم ، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ : ( لمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم ، فأنتم على أمركم ، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و ...

ونهض اليهود وقالوا : والتوراة ، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (١).

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة ، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية ، ما قاله عليّ عليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم : « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك ، فتلقهم فتنكب ، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلاً محرباً ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهر الله فذاك ما تحب ، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ : ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين » (١).

وبالرغم من أنّه عليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة ، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله ، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين ، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد ، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولاّه إمارتها ويقول : « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان ، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (٢).

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم ، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة ، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات ، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر ، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم ، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو ، أو تمزيق الوحدة ، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول ، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم ، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب ، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة ، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة ، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها ... وتلك الامبراطوريّتان هما : الروم ، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً ، ذات حضارة متقدمة زاهرة ، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين ، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة ، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة امّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن ، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً ، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمزّق رسالته المباركة التي كتبها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى ... وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به ) (١).

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دائماً ، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره ، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية ، كانت ذات صفة توسّعيّة ، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة ، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام ، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني ) ، وضرب عنقه (٢).

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف ، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة ، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره ، وعن تعصبهم ضدّه ، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل ، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد ، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢ : ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١ : ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة ، واستشهاد القادة الثلاثة ، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم ، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي ، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً ، وصالح أهلها على الجزية ، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته ، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز (١).

ولم يكتف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الحملة ، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم (٢).

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة ، والمطّلع على تركيبته يجد ، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين ، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص ، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد ، وضرب المسلمين بعضهم ببعض ، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن ، بين أفرادها وأبنائها ، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدوائر ، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة ، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع ، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢ : ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١ : ٢٩ ( طبعة القاهرة ) ، الطبقات الكبرى ٤ : ٦٥ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك ، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية ، وبنحو يخفى على العاديين من الناس (١).

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم ، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول : ( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء : ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً ، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء : ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً ، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن : ( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة : ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام ، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار ، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم ، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء ، وعدم الوفاء بالوعد : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر : ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم ، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم ، وخططهم ، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة ، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر ، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك ، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء : ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً ، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له ، والمؤامرة عليه ، بحيث لولا وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأتوا على ذلك الدين ، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه ، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره ، وخاصّة بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً ، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين ، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب ، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام ، هو النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى ، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية ، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي ، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون ) ، إلاّ أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن ، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة ، حتّى أصبح من العسير ، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية : ( بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي ، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد ، الجزء (٤) الفصل (٤٦) ، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام ، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب ، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها ، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل ، آل النعمان وآل جفنة ، أو لفظة ( بنو) ، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب ، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل ، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد ، وتبنى الأمجاد ، كما كانت هي ، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان ، كما حدث بين الأوس والخزرج ، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة ) ، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا ، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية ، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي ، والاقتتال المرير ، لولا تدخّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة ، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس (١).

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١ : ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم ، ومروج الذهب ٢ : ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها ، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها ، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة ، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها ، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين ، فقد سعى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في محو الروح القبلية ، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد ، والصف الإسلامي الواحد ، ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب ، إلاّ أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة ، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ... ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك ، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز ... و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة ، إلاّ أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار ، إلى قبائل وأفخاذ وفروع ، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية ، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً ، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية ، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى ، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام ، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق ، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : ( بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء ، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له : جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين (١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال : أو قد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلاّ كما قال الأوّل : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم ، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عدوّه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا ، ولكن أذّن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرتحل فيها ... فارتحل الناس (٢).

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم ، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة ، وبأقل تحريك ، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل : أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه ، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ : ( لمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الكلمات قال : « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة ، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً ، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال : قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد ... لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار ، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله ، وانشدهم بعض ما كانوا ما تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ ، أبو أسيد بن حضير ، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ ، فقتلا جميعاً ..

قال ابن هشام : قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له ، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام : ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب ، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه ، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا : قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم ، فقال : « يا معشر المسلمين ، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثمّ انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس ، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع : ( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران : ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما ، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران : ١٠٠ ـ ١٠٥ ) (١).

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام ، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد ، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه ، في قصّة الإفك قال ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على المنبر : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاّ معي ».

قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ (٢) أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت : فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ] ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمرو الله لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١ : ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل ، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة : فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم على المنبر.

قالت : فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت (١).

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة ، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس ، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به اُمّة هذه حالها ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ... ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية ، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها ، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين ، إلى اُمّة نشأت على الاختلاف ، وتربّت على الفرقة ، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة ، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً ... وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة ، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة ، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب ، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر : لمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك ، وعذيلها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب : ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض ) ، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف ) (١).

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه ، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر ، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم ، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة ، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات : لمّا بويع أبو بكر ... وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال ، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢ : ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً ، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه ، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس ، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة ، فقال عمرو بن العاص : والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً ، ولما دفع الله عنهم أعظم ، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه ، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا ، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة ، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره ، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش : ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلاّ ما كرهنا من حربكم ، وما كان اللّهليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه ، إن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « الأئمّة من قريش » فقد قال : « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم ، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة ، لقتل جعفر وأصحابه ، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة ... حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك (١)

إنّ ما نقلناه لك هنا ، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة ، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل ، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن يستخلف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( قائداً ) للاُمّة ، وراعياً لمصالحها وشؤونها ، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات ، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به ، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها ، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم ، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها ، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته ، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال ، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها ، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها ، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك ، والظروف الحرجة المحيطة بهم ، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان ، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها ، وهي في خضمّ تلك الأخطار ، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة ، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع ، والفرقة الكبيرة ، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة ، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها ، والرواسب القبليّة الجاهليّة ، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها ، كانت توجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم العقل السليم ، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها ، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠