مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

١٢. عدم السماح للمسلمين بنصرة المحدثين والمبتدعين في الإسلام ولزوم مقاومتهم.

١٣. قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّ مشاكلهم والخصومات التي تحدث بين المسلمين أو بينهم وبين اليهود.

١٤. منح اليهود الحقوق العامّة من الأمن والحريّة وغير ذلك بشرط أن يسايروا المسلمين ولا يعيثوا فساداً في الأرض.

١٥. إعتبار الجار كالنفس غير مضار ولا إثم.

وهذه هي بعض بنود تلك المعاهدة التاريخية (١).

ولم تكن هذه سيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب مع غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلاميّة ، بل كانت سيرة الدولة الإسلاميّة حتّى بعد الرسول الكريم.

فها نحن نرى كيف يساوي الدين الإسلامي بين الحاكم والمحكوم في جميع المجالات ... ومنها القضاء. وإليك مثلاً على ذلك.

وجد الإمام عليّ عليه‌السلام ـ أيام خلافته ـ درعه عند يهوديّ من عامّة الناس ، فأقبل به إلى أحد القضاة ، وهو شريح ، ليخاصمه ويقاضيه ، ولمّا كان الرجلان أمام القاضي قال الإمام عليّ : « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ».

فسأل القاضي الرجل اليهوديّ : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال اليهوديّ : ما الدرع إلاّ درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.

وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله : هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ ، وقال : « أصاب شريح ، مالي بيّنة ».

فقضى شريح بالدرع للرجل اليهودىّ ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلاّ أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول : أمّا أنا فأشهد أنّ هذه أحكام

__________________

(١) النظام السياسيّ في الإسلام : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤١

أنبياء ، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ...

ثمّ قال : الدرع والله درعك ياأمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت.

وبعد زمن شهد الناس هذا الرجل وهو من أصدق الجنود ، وأشدّ الأبطال بأساً وبلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان إلى جانب الإمام عليّ (١).

وفي رواية مماثلة : أنّ يهودياً خاصم عليّاً عليه‌السلام في أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقال له عمر : قم يا أبا الحسن وقف مع خصمك.

فتغيّر وجه الإمام عليه‌السلام وبعد الانتهاء من المرافعة قال له عمر : يا أبا الحسن لعلّه ساءك أمري ؛ أن تقف مع خصمك اليهوديّ ؟

قال عليه‌السلام : « كلاّ ، وإنّما ساءني أنكّ كنّيتني ولم تساو بيني وبين خصمي ، والمسلم واليهوديّ أمام الحقّ سواء » (٢).

كما مرّ شيخ أعمى كبير السنّ يستجدي ويسأل الناس فقال عليّ عليه‌السلام ـ وهو آنئذ في أيّام خلافته ـ : « ما هذا » ؟

فقالوا : يا أمير المؤمنين نصرانيّ !

فقال أمير المؤمنين : « استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه ؟ أنفقوا عليه من بيت المال » (٣).

وقبل كلّ ذلك يشير القرآن الكريم إلى قانون التسامح الدينيّ هذا ، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف والجماعات غير المسلمة بالعدل والرفق ، والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم ، ولا يؤذونهم بالقتال أو

__________________

(١) الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة : ٨٧ ـ ٨٨ ، بحار الأنوار ٩ : ٥٩٨ طبعة تبريز مع اختلاف يسير.

(٢) الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة : ٤٩.

(٣) الوسائل ١١ : ٤٩ ( الطبعة الجديدة ).

٤٢

الإخراج من البلد. فيقول : ( لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة : ٨ ـ ٩ ).

فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم ، وإنّما منع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدّهم.

إنّ هذه الآية تعطي ميزاناً كلّيّاً لكيفية تعامل المسلمين مع غيرهم ، والميزان هو مسالمة كلّ من سالم ومعاداة كلّ من عادى.

وممّا يؤيّد هذا الأمر قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) ( آل عمران : ١١٨ ).

إذن ، فالقرآن يمنع من التسامح مع الآخرين إذا كانوا يعادون المسلمين ويتعاونون مع المشركين لإيذاء المسلمين.

إنّ نظرةً واحدةً إلى التاريخ الإسلاميّ تكشف لنا ، أنّ عدل الحكومات الإسلاميّة وعفوها ولطفها كان سبباً لأن يرجّح الكثير من المسيحيين وغيرهم ، العيش في ظل النظام الإسلاميّ رغبةً وطواعية لما رأوا وسمعوا ولمسوا من مسامحة المسلمين وحسن معاملتهم ، ولما لمسوه من حكّامهم المتديّنين بدينهم من الظلم والجور على خلاف المسلمين وحكّامهم.

وإليك ما ذكره البلاذري في هذا المجال : ( لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص [ وكانوا مسيحيّين ] : لولايتكم وعدلكم أحبُّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم ، والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا :

٤٣

والتوراة ، (١) لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود ، وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه [ من الظلم والحرمان ] وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين ، فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (٢).

هذا ، والشواهد والأمثلة التاريخية على هذا الموضوع أكثر من أن تحصى.

وقد بلغ تسامح الدول الإسلاميّة في التاريخ حداً عجيباً ، إذ أشرك المسيحيون وغيرهم في الأجهزة الحكوميّة ، وهو يدل على العناية القصوى بغير المسلمين.

وستوافيك هذه النصوص وغيرها عند البحث عن السلطة القضائية وحقوق الأقلّيات في الإسلام ، وما ذكرناه هنا سوى لمحة عابرة اقتضاها المقام.

الحكومات الجائرة

ليس من الغريب أن تتبادر إلى أذهان البعض من شعوب الشرق ـ عند سماع اسم الحكومة ـ صورة مخيفة عن الحكومات الجائرة والحكام الجائرين ، فإنّ شعوب هذه المنطقة عانت طوال قرون متمادية أسوأ أنواع الظلم والاضطهاد على أيدي الحكومات المستبدّة.

ولذلك ، سرعان ما يتبادر إلى أذهانهم صورة الحاكم القاهر ، والأمير المتسلّط الذي يمتصُّ دماء الناس ، وينهب أموالهم ، ويتحالف مع أضرابه من الظالمين ومع القوى الأجنبيّة لترسيخ دعائم عرشه. ولكنّ الغاية التي يتوخاها الإسلام ، ليست هي

__________________

(١) أي قسماً بالتوراة.

(٢) فتوح البلدان للبلاذري ( المتوفّى سنة ٢٧٩ ه‍ ) : ١٤٣ ، وراجع أيضاً ( الدعوة إلى الإسلام ) للسير توماس ارنولد.

٤٤

إيجاد مثل هذه الحكومات الجائرة المستبدّة ، إنّما هي : الحكومة الصالحة العادلة الحائزة لرضا الاُمّة ، الملتزمة بإجراء القوانين الإلهيّة العادلة.

ومن المعلوم ، أنّ مثل هذه الحكومة لن تهدف إلاّ خدمة الامة ، وحماية حقوقها وحرمتها وصيانة كرامتها ، وتحقيق سعادتها ، ولذلك فهي تعيش في ضمير الاُمّة وترتبط بوجدانها.

إنّ ما ينشد الإسلام إقامته وإيجاده هو : الدولة العادلة التي رسم الإمام عليّ عليه‌السلام أهمّ خطوطها في عهده المشهور لمالك الأشتر الذي ولاّه على مصر ، حيث يقول في موضع منه : « واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع » (١).

إنّ الحاكم العادل ـ في نظر الإسلام ـ هو من يشارك شعبه في أفراحه وأتراحه ، وفي آلامه وآماله ، لا أن يعيش في البروج العاجيّة ، متنعّماً في أحضان اللّذة ، رافلاً في أنواع الخير ، غير عارف بأحوال من يسوسهم ، كما قال الإمام عليّ عليه‌السلام وهو يرسم بذلك ملامح الحكومة الإسلاميّة الصالحة : « ءأقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمُّمها » (٢).

ولو كان المفكّرون المعاصرون يعرفون ما اشترطه الإسلام للحاكم من شروط وعيّن له من وظائف وواجبات ، وفرض عليه من قيود ، وكيف يجب عليه أن يكون في جميع أفعاله منسجماً مع القوانين الإسلاميّة العادلة ، ولو عرفوا الأهداف التي يبتغيها الإسلام من وراء إقامة الدولة الإسلاميّة ، لما اعتبروا قيام مثل هذه الحكومة معارضاً للحرّيّات الفرديّة أبداً.

__________________

(١) نهج البلاغة : الرسالة رقم ( ٥٣ ).

(٢) نهج البلاغة : الرسالة رقم ( ٤٥ ).

٤٥

وظيفة الاُمّة اتّجاه الحكومة

إذا كانت الحكومة الإسلاميّة تضمن تلك المصالح الكبيرة للاُمّة ، وتوصل الإنسانية إلى قمّة الكمال ، فيجب على الاُمّة الإسلاميّة القيام بتأسيسها وتشكيلها إذا لميكن هناك حكومة إسلاميّة ، وتأييدها ونصرها والتحرُّز عن خيانتها عند قيامها ووجودها.

وإليك بعض النصوص التي تشرح وظيفة الاُمّة الإسلاميّة وواجبها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الدّين النّصيحة ».

قيل : لمن يا رسول الله ؟

قال : « لله ، ولرسوله ، ولكتابه ، وللأئمّة ولجماعة المسلمين » (١).

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام : « يحقُّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدّي الأمانة فإذا فعل ذلك فحقّ على النّاس أن يسمعوا له. ويطيعوه ، ويجيبوه إذا دعا » (٢).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب الناس في مسجد الخيف فقال : نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه إلى غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاث لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم :

إخلاص العمل لله.

والنّصيحة لأئمّة المسلمين.

واللّزوم لجماعتهم. فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم.

المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم » (٣).

__________________

(١ و ٢) الأموال : ٩ ـ ١٢.

(٣) الكافي ١ : كتاب الحجة : ٤٠٢.

٤٦

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشّوا هداتكم. ولا تجهلوا أئمّتكم ، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وعلى هذا فليكن تأسيس أموركم ، والزموا هذه الطّريقة » (١).

وقال الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما نظر الله عزّ وجلّ إلى وليّ له يجهد نفسه بالطّاعة لإمامه والنّصيحة إلاّ كان معنا في الرّفيق الأعلى » (٢).

وسأل أبو حمزة من الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : ما حقُّ الإمام على الناس ؟ قال : « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».

قلت : فما حقُّهم عليه ؟ قال عليه‌السلام : « يقسم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة » (٣).

هذه لمحة عن واجبات الاُمّة ووظائفها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.

ومن المعلوم ، أنّ الحكومة لو قامت بوظائفها التي قرّرها الإسلام ، وقامت الاُمّة الإسلاميّة بواجباتها اتّجاه الحكومة كما عيّنها الدين لاستقرّت العدالة ، واستتبّ الأمن ، وانتشر السلام ، وازدهر الخير ، وعّمت السعادة كلّ أرجاء البلاد.

__________________

(١) الكافي ١ : كتاب الحجة : ٤٠٥.

(٢) الكافي ١ : كتاب الحجة : ٤٠٤.

(٣) الكافي ١ : كتاب الحجة : ٤٠٥.

٤٧

٣

أنواع الحكومات

في العالم

إنّ لنظم الحكم في العالم ألواناً وأنواعاً نذكر المعروفة منها باختصار :

١. الملوكيّة

ويتحقّق النظام الملكيّ باستيلاء شخص على زمام الحكم والسلطة بانقلاب عسكريّ وبقوّة النار والحديد ، يعلن على أثره نفسه حاكماً على البلاد ، وملكاً للناس ، ويعاقب معارضيه وينكّل بهم ، ولا يكتفي باعلان نفسه ملكاً على الناس ، بل ينصّب خلفه ملكاً من بعده ، وهكذا تتناوب ذرّيّته عرشه وسلطانه جيلاً بعد جيل ، ونسلاً بعد نسل.

وربما تبلغ به شهوة السلطة وداعية الملك إلى أن يسمّي نفسه ظلاّ ًللّه إن لم يبلغ به الاستعلاء والتفرعن إلى أن يجعل نفسه في مصافّ الله تعالى ، فإذا به يرفع شعار : ( الله ، الملك ، الوطن ).

وهذا هو ما نلحظه في أكثر الملوكيّات الراهنة.

إنّ النظام الملكيّ ضرب من الحكومة الفرديّة التي يكون فيها( فرد واحد ) مبدأً

٤٨

للسلطة ، ومصدراً لكلّ القرارات ، ومنشأً للقوانين. ولا يكون وحده كذلك بل يكون أبناؤه وأحفاده حكّاماً وملوكاً بالتوارث ، فإذن ، هو نظام فرديّ وراثيّ استبداديّ.

وقد كان هذا النمط من النظام ـ ولا يزال ـ ملازماً للاستعلاء والاستكبار ومنشأً للإرهاب والكبت ، وهو ـ لا شكّ ـ أمر مرفوض في منطق القرآن الكريم إذ يقول :

( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص : ٨٣ ).

القرآن الكريم والملوكيّة

إنّ القرآن الكريم يعتبر طبيعة الملوكيّة بحكم كونها ناشئةً من الفرد ، طبيعيةً ميّالةً إلى الفساد والتفرعن ، وحمل الإرادة الفرديّة على الشعوب بالقهر والإرغام وإذلال أبنائها وأعزّتها ، إلى غير ذلك من المنكرات والمفاسد والتبعات التي عانت منها البشريّة ، طوال قرون ، إذ يقول : ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل : ٣٤ ).

هذه الكلمة التي نقلها الله سبحانه في هذه الآية عن بلقيس ملكة سبأ ، تمثّل إحدى سنن التاريخ الحاكمة في الحياة البشريّة ، ولولا أنّها كذلك ، لردّ عليها الله سبحانه ولم يمر عليها بسلام كما هو شأنه في هذه الحالات.

يقول السيد قطب ـ في ظلاله ـ حول تفسير هذه الآية : ( ... فهي تعرف أنّ من طبيعة الملوك أنّهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطّموا القوّة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ، وجعلوهم أذلّةً لأنّهم عنصر المقاومة ، وأنّ هذا هو دأبهم الذي يفعلون ) (١).

إنّ القرآن عندما يتعرّض لأحوال الملوك الذين حكموا الأرض ، يذكر جشعهم

__________________

(١) في ظلال القرآن ١٩ : ١٤٦.

٤٩

وطمعهم الذي لم يقف عند حدّ ويصوّر لنا كيف أنّهم لم يتركوا حتّى أموال الضعفاء والمساكين طمعاً وجشعاً.

فها هو القرآن يذكر لنا عن ملك بلغ به الجشع والحرص إلى درجة انتزاع سفينة بعض المساكين التي كانوا يرتزقون من ورائها ، ويحصلون بها على لقمة عيشهم ، فيقول : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف : ٧٩ ).

وها هو فرعون أحد ملوك مصر الذين حملوا أنفسهم على رقاب الناس وأكتافهم ، يبلغ به الطمع والحرص إلى أن يعدّ نفسه مالكاً لأرض مصر وأنهارها وما فيها من خيرات من دون مبرر ولا سبب ، إلاّ الطمع وحب الاستئثار بكلّ شيء لوحده ، فإذا به يتباهى بما في يده من ملك ، ويتبجّح بما له من سلطان كما يقول القرآن عنه : ( وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الزخرف : ٥١ ).

إنّ الملوكيّة بما أنهّا لا تنطلق من مقاييس وضوابط إلهيّة دينيّة ، بل تنطلق من المقاييس الشخصيّة والتسلُّط الفرديّ ، لا يمكن أن تلازم غير صفة الاستئثار والطمع في اموال الآخرين.

فإذا كانت هذه هي طبيعة الملوك ، وهذه هي سجيّتهم ، فهل يسمح العقل ـ فضلاً عن الشرع ـ بأن يفوّض إليهم مقدّرات الناس وأعراضهم وأموالهم ونفوسهم وما يملكون من حول وقوّة ؟! وهل يسمح العقل بأن يترك الأمر لتلك النفوس الجشعة والطبائع المنحرفة أن تتصرّف في شؤون الناس كيفما شاءت وارتأت ؟ وأن تتسلّط على رقاب الناس لتفعل ما تريد ؟.

أجل ، إنّ الملوكيّة بما أنّها نظام فرديّ يقوم على تغليب إرادة الفرد على الجماعة ، وبما أنّها تحظى بالسيادة والحاكميّة دون أن تمتلك كفاءة الإدارة والحكم حسب الضوابط الإنسانيّة والأخلاقيّة بل تمارس ذلك بالقوّة والقهر والإرهاب ، فمن الطبيعيّ أن تؤول إلى

٥٠

الجشع والتفرعن والطغيان والاستكبار ... وهذا هو ما تثبته أحوال الملوك في الماضي والحاضر وفي كلّ مكان من العالم.

يقول العلامة الطباطبائيّ ـ في تفسير الميزان ـ في وصفه لطبيعة النظام الملكيّ والسلطة الملوكيّة تحت عنوان ( من الذي يتقلّد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته ) :

( إنّ هذه الطريقة ـ أي طريقة نظام الحكم الإسلاميّ ـ غير طريقة الملوكيّة التي تجعل مال الله فيئاً لصاحب العرش ، وعباد الله أرقّاء له ، يفعل بهم ما يشاء ، ويحكم فيهم ما يريد ، كما هي ليست من الطرق الاجتماعيّة التي وضعت على أساس التمتُّع الماديّ من الديمقراطيّة وغيرها ، فإنّ بينها وبين الإسلام فروقاً بيّنةً تمنع من التشابه والتماثل.

ومن أعظم هذه الفروق أنّ هذه المجتمعات لمّا بنيت على أساس التمتُّع الماديّ نفخت في قالبها روح الاستثمار والاستعباد ، والاستكبار البشريّ الذي يجعل كلّ شيء تحت إرادة الإنسان وعمله ، حتّى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان ، ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلُّط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه ، وهذا بعينه هو ( الاستبداد الملوكي ) في الأعصار السالفة ، وقد ظهرت في زيّ الاجتماع المدنيّ على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القويّة وإجحافاتهم وتحكُّماتهم بالنسبة إلى الامم الضعيفة ، وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التاريخ.

فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكُّمه ولعبه ، كلّ ما يريده ويهواه ، ويعتذر ـ لو اعتذر ـ أنّ ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة ، وتحكيم أساس الدولة ويستدلُّ عليه بسيفه !!! ) (١).

إنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام يتحدّث عن وضع الناس المأساويّ في ظلّ النظام الملكيّ ، الكسرويّ والقيصريّ ، اللّذين كانا يمثّلان أسوء مظاهر الملوكيّة التاريخيّة ، وهو عليه‌السلام يخبرنا : كيف أنّ الاكاسرة والقياصرة كانوا يعتدون على حقوق الناس الطبيعيّة

__________________

(١) تفسير الميزان ٤ : ١٣١.

٥١

ويهجّرونهم عن أوطانهم ومساكنهم ومزارعهم إلى أراض لا عشب فيها ولا ماء ولا عيش فيها ولا حياة ، طمعاً في أراضيهم ، واستئثاراً لممتلكاتهم ومزارعهم. ويعبّر الإمام عليّ عليه‌السلام عن تلك العهود والأيام بالليالي السود إذ يقول : « واعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهم‌السلام فما أشدّ اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال !

تأمّلوا أمرهم في حال تشتُّتهم وتفرُّقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم يحتازونهم ( أي يمنعونهم ويدفعونهم ويهجرونهم ) عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدُّنيا ، إلى منابت الشّيح ومهافي الرّيح ونكد المعاش فتركوهم عالةً مساكين ، أذلّ الامم داراً وأجدبهم قراراً ... فالأحوال مضطربة والكثرة متفرّقة في بلاء أزل ، وأطباق جهل !!! » (١).

إنّ الحكم الملكيّ حكم استبداديّ ، وإنّ مفاسد الحكم الاستبداديّ أوضح وأكثر من أن تبيّن.

غير أنّنا للوقوف على ما يذكره القرآن الكريم من مفاسد تترتب على الحكم الاستبداديّ لا بدّ من ملاحظة ما ورد في هذا الصدد من آيات.

إنّ القرآن الكريم يأتي بفرعون نموذجاً حيّاً وكاملاً للحاكم المستبدّ ، والحكومة الاستبداديّة ، ثم يستعرض ما كان يفكّر فرعون به ، ويقوم به انطلاقاً من هذه الخصّيصة ، وبمقتضى هذه الصفة ، وبذلك يوقفنا القرآن على مفاسد الحكم الفرديّ الاستبداديّ :

١. مفاسد الحكم الاستبداديّ

فالقرآن الكريم يصف ( فرعون ) بأنّه كان مستكبراً عالياً مسرفاً متجاوزاً الحدّ ، فهو يرى نفسه فوق الآخرين ، وإرادته فوق إرادتهم إذ يقول : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم (١٨٧).

٥٢

مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) ( يونس : ٧٥ ). ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ ) ( يونس : ٨٣ ). ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) ( المؤمنون : ٤٥ ـ ٤٦ ). ( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ المُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المُسْرِفِينَ ) ( الدخان : ٣٠ ـ ٣١ ).

ومن البديهي لمن يعتبر نفسه أعلى من الآخرين ، أن يطغى على الله تعالى ويعصيه ويفسد في الأرض ، وكذلك كان فرعون المستبدّ كما يصفه القرآن إذ يقول : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس : ٩٠ ـ ٩١ ).

ترى وأيّ فساد أعظم وأيّ استكبار أكبر من أن يستعبد الناس ، ويسلبهم حرياتهم ويتخذ عباد الله خولاً.

فها هو القرآن ، ينقل عن فرعون قوله مخاطباً قومه وهو يشير إلى قوم موسى وهارون : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) ؟ ( المؤمنون : ٤٥ ـ ٤٧ ).

كما أنّ القرآن الكريم ينقل اعتراض النبيّ موسى عليه‌السلام على فرعون ، استعباده للناس إذ يقول له بعد أن ذكر تربيته وحضانته وعنايته بموسى في طفولته بقوله : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) ؟ ( الشعراء : ١٨ ). ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء : ٢٢ ).

وما أوقح فرعون وأشد كفره واستكباره إذ يقول : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) !!! ( الشعراء : ٢٣ ).

٥٣

إنّ الاستبداد حالة طغيان تجعل الحاكم المستبدّ أن لا يقبل نصيحةً أو انتقاداً فيصير سيّء فعله حسناً في نظره كما يخبر بذلك القرآن عن فرعون إذ يقول : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ) ( المؤمن : ٣٦ ـ ٣٧ ).

إنّ الحاكم المستبد في الرأي والحكم ، يعتقد أنّه يجب على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته ، سواء وافق الدليل أم لا ، وسواء طابق المصلحة أم لا ، بل يكفي في صحّته ولزوم طاعته أنّه رأي الملك ومشيئته.

ولهذا يقول القرآن حاكياً عن لسان فرعون كلامه بعد ما قال موسى : ( يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىٰ ) ( غافر : ٢٩ ).

ويبلغ الاستبداد بالحاكم المتفرّد ، إلى أن يستهين بالمجتمع ولا يعتني بأرائه ، ويستخفّه ، كما فعل فرعون الملك المستبد في مصر آنذاك إذ يقول الله عنه : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ).

ومن الطبيعي أن يفقد مثل هذا المجتمع ثقته بنفسه وبفكره وبعقله فيطيع الحاكم المستبدّ طاعةً عمياء كما يقول القرآن الكريم معقّباً على هذه الكلمة : ( فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) ( الزخرف : ٥٤ ).

كما قد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبد إلى أن يرى نفسه أعلى من كلّ الموجودات ويطلب من الناس عبادته كما يعبدون الله ويحظر عليهم عبادة غيره ، حظراً شديداً ومنعاً باتاً ، بحيث لو سوّلت لأحد نفسه أن يعبد غير ذلك الحاكم الطاغي والملك المستبد ، أخذه بأشدّ العذاب وأقسى أنواع العقاب بدءاً من السجن وانتهاءً بما هو أشدّ.

وهذا هو ما يخبر به القرآن عن فرعون إذ يقول : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي ) ( القصص : ٣٨ ). ( فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ ( أي فرعون ) أَنَا

٥٤

رَبُّكُمُ الأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَىٰ ) ( النازعات : ٢٣ ـ ٢٥ ). ( قَالَ ( أي فرعون لموسى عليه‌السلام ) لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ ) ( الشعراء : ٢٩ ).

وقد بلغ به الاستبداد إلى أن يوجد الكبت في المجتمع ويقف دون يقظتهم ووعيهم ، بحيث لو لمس فيهم ذلك نكّل بهم وعذّبهم أشدّ العذاب : ( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( الشعراء : ٤٩ ). ( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ) ( طه : ٧١ ).

إن الحاكم الاستبدادي ، لا يتحمل حركات التوعية والإصلاح ، ولذلك يتهم اصحابها بكلّ تهمة كما فعل فرعون بالنسبة لموسى عليه‌السلام ودعوته الإلهية المباركة حيث اتّهمه فرعون وأخاه بأنّه يطلب الزعامة : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) ( يونس : ٧٨ ).

بل ينفر الناس عن اولئك المصلحين ، وأصحاب الرسالات بأنّهم يريدون إشقاء الناس وخداعهم وتضليلهم : ( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ ) ( طه : ٥٦ ـ ٥٧ ). ( قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا ) ( طه : ٦٣ ).

وربّما يصوّر للناس وضعهم الأسود البائس تصويراً جميلاً ويلقّنهم بأنّ ما هم فيه من طريقة ، هي الطريقة المثلى كما يقول ذلك عن لسان فرعون وملائه : ( إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ ... وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَىٰ ) ( طه : ٦٣ ).

وقد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبدّ حداً يجعله يتوسّل بكلّ وسيلة للحفاظ على عرشه حتّى ادّعاء التديُّن ، والتستُّر به ، ونصب نفسه حامياً لحياض الدين مع أنّه يريد ـ في قرارة نفسه ـ ، هدم الدين والقضاء عليه من جذوره ، وربّما يتّهم من يريد إرشاد

٥٥

الناس إلى الحقيقة ، وإلى الدين الحقيقيّ ، بأنّه يريد الفساد والعبث بأمن البلاد ، كما فعل فرعون لما جاءه موسى عليه‌السلام يدعوه ويدعو قومه إلى الله : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) ( غافر : ٢٦ ).

بل أنّ الحاكم المستبدّ لا يمتنع من أن يخادع الجماهير ويضلّلهم ، ويصوّر نفسه مرشداً وهادياً إلى الحقّ إذ يقول القرآن عنه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ( غافر : ٢٩ ).

وقد يتوسّل لتثبيت سلطانه ، بتقسيم المجتمع إلى مستكبر بالغ درجة كبيرة في استكباره ومستضعف محروم من أقلّ حقوقه الإنسانيّة ، فيستعين بالمستكبرين على المستضعفين كما فعل فرعون إذ يصفه الله تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) ( القصص : ٤ ).

إنّ الاستبداد قد يبلغ بالحاكم المستبد إلى أن يدّعي ملكيّة البلاد كلّها وملكية انهارها وعيونها ، كما ادعى فرعون إذ قال : ( وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الزخرف : ٥١ ).

وإذ لم يكن للحاكم المستبد أي رادع من خلق وأي وازع من دين ، فإن استبداده قد ينتهي به إلى حدّ يجعل نفسه مشرّعاً ، ويعطي لنفسه حق التشريع والتقنين ، ويحمل بذلك اهواءه على الناس في قالب الدين ـ كما هو الرائج ـ وهذا هو ما ينهى القرآن عنه إذ يقول : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) ( النحل : ١١٦ ).

كما أنّ الاستبداد قد يدفع بصاحبه إلى مساواة نفسه العاجزة بالله في القدرة على بعض الأفعال التي هي من شؤون الله خاصّةً كالإماتة والإحياء ... كما يحدّثنا القرآن الكريم عن نمرود وهو ملك آخر من الملوك المستبدّين ، إذ يقول عنه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا

٥٦

أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ( البقرة : ٢٥٨ ).

إنّ التاريخ مليء بالم آسي التي سببّتها الديكتاتوريّة والاستبداد للناس وحوّلت حياتهم إلى جحيم لا يطاق ، فمن يمكن أن ينسى ما لحق ببعض الناس الأبرياء على أيدي أصحاب الاخدود ، الذين يذكرهم القرآن ، وكانوا ملوكاً جبابرة ... أرادوا أن يحملوا الناس على عقيدتهم ومسلكهم فلمّا رفض الناس ذلك خدُّوا لهم أخدوداً وخندقاً ، وأوقدوا فيه النار ، ورموا اولئك الناس فيها أحياء مع أولادهم وأطفالهم ... وكان ذلك من أشدّ ما عاناه الناس على أيدي الملوك المستبدّين ، إذ يقول القرآن وهو يصبُّ لعناته عليهم : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( البروج : ٤ ـ ٨ ).

ففي تفسير القمّي في قوله تعالى : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) ( كان سببه ، أنّ آخر ملك من ملوك حمير تهوّد ، واجتمعت معه حمير على اليهودية ، وسمّى نفسه يوسف وأقام على ذلك حين من الدهر.

ثمّ أخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى وحكم الانجيل ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ، ويدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ، ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص كل الحرص أن يدخلوا في اليهوديّة ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ، واختاروا القتل.

فاتّخذ لهم أخدوداً [ أي خندقاً ] وجمع فيه الحطب ، وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثّل بهم كلّ مثلة فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار : عشرين ألفاً ) (١).

وفي حديث آخر حول هذه الآية عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : « أنّ ملكاً

__________________

(١) تفسير القمّي كما في نور الثقلين ٥ : ٥٤٤.

٥٧

سكر فوقع على ابنته [ أو قال على اخته ] فلمّا أفاق قال لها كيف المخرج ممّا وقعت فيه. . قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنّك ترى [ أي تجوّز ] نكاح البنات وتأمرهم أن يحلّوه فأخبرهم ، فأبوا أن يتابعوه ، فخدّ لهم اخدوداً في الأرض وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها ، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار ، ومن أجاب خلى سبيله » (١).

وهكذا يبلغ الاستبداد بالحاكم والملك المستبد إلى أن يرتكب ما يريد ، ويستبيح كلّ حرام ، ويأتي بكل منكر ، ويدعو قومه مع ذلك إلى متابعته ، وإلاّ قتلهم ونكّل بهم وعذّبهم وأخذهم بأشدّ عقاب.

إنّ ما يذكره القرآن الكريم عن فرعون أو بعض الملوك من الاستبداد وما يترتب عليه من مفاسد خطيرة ، لا يختصُّ بفرعون ومن ذكرهم القرآن خاصة ، بل هي خصّيصة تلازم النظام الملكيّ باعتباره حكماً فردياً لا ينطلق من مقاييس إلهيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة ، بل ينطلق من التسلط والقهر ، وحمل الفرد نفسه على رقاب الشعوب ... وإنّما ذكر القرآن فرعون وخصّه بالذكر ، لكونه مثلاً حيّاً ونموذجاً معروفاً للملك المستبدّ.

على أنّ آثار الاستبداد ومفاسده على درجات ومراتب في الكمّية والكيفيّة حسب توفُّر هذه الخصلة [ الاستبداد ] في الحاكم والملك.

فمن مستبد يسلب بعض الحريات ويترك بعضها ، إلى آخر يسلب جميعها جملةً واحدةً ويتجاوز الحدود ويستأثر بفيء العباد ، إلى آخر يتصوّر نفسه مالكاً للبلد الذي يحكم فيه ، ومالكاً لأهله وما فيه قاطبةً ، إلى آخر يشتدُّ فيه الاستبداد حتّى يدعي الالوهيّة ، أو يصف نفسه بأنّه الإله الأعلى وعلى الناس أن يعبدوه إلى ... وإلى ..

فأين هذا النظام من الحكومة التي ينشدها الإسلام ويريد اقامتها ، حيث يخاطب الله تعالى نبيّه داود ـ بصددها ـ بقوله : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ) ( ص : ٢٦ ).

أو يخاطب نبيّه محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٦٥ والدرّ المنثور للسيوطيّ ٦ : ٣٣٣.

٥٨

أَهْوَاءَهُمْ ) ( المائدة : ٤٩ ).

أجل ، تلك هي طبيعة الملكية ... جشع بالغ وطمع يتجاوز الحدود ، وتفرعن واستعلاء وفساد وإفساد ، وبالتالي تاريخ مشحون بالمآسي والدموع ، وإخراج الآمنين من أوطانهم ظلماً وعدواناً.

وأمّا الملكيّة التي منّ الله بها على بني اسرائيل ، فهي تختلف عن هذه الملكية لأنّها مقرونةً بالنبوّة ، موهوبةً من جانب الله سبحانه ، فلا تفرعن فيها ولا استكبار ولا عدوان فيها ولا إفساد.

وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة : ٢٠ ).

والمقصود من الملوك في الآية ، هم الأنبياء أمثال يوسف وداود وسليمان عليهم‌السلام إذ يقول القرآن عن ذلك : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء : ٥٤ ) (١).

ومن المعلوم ، أنّ يوسف وداود وسليمان عليهم‌السلام كانوا من آل إبراهيم عليه‌السلام وكانوا في القمّة من أنبياء بني اسرائيل.

وأمّا الشخص الذي اختاره الله ملكاً لبني اسرائيل كما في قوله سبحانه : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة : ٢٤٧ ).

فهو وإن لم يكن نبيّاً ، ولكنّه مع ذلك لم يكن فرداً عادياً ، بل كان ممّن تربّى

__________________

(١) والمراد بالملك ـ في المورد هو السلطة على الاُمور الماديّة والمعنويّة ، فيشمل ملك النبوّة والولاية والهداية والثروة وغيرها ، وذلك هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة ، فإنّ الآية السابقة ( أي الآية ٥٣ ) تؤمى إلى دعواهم أنّهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين ، راجع الميزان للعلاّمة الطباطبائيّ ٤ : ٣٧٥.

٥٩

بالتربية الإلهية ، وحظي بمؤهلات الحكم والملك ، ولذلك اختاره الله سبحانه ، وإلى هذه المؤهلات أشار القرآن الكريم بقوله : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ ).

فلا يمكن الاستدلال بهذه الموارد التي اقترنت فيها الملوكيّة بالنبوّة ، والصفات الإنسانيّة العليا الموهوبة من الله سبحانه لهم ، على حسن الملوكيّة وقدرتها على إقامة العدل بين الاُمّة.

وهذا أشبه شيء بالاستدلال بموارد نادرة على طبيعة الحكم الكلّي.

أضف الى ذلك ، أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الملوكيّة هو مطلق الحاكميّة على الناس ، وامتلاك هؤلاء الأنبياء إدارة اُمور الناس ، الذي اعطي لهم من جانب الله سبحانه وتعالى.

غير أنّ التعبير عن هذه الحاكميّة والامتلاك بلفظ الملوكيّة ، إنّما هو لأجل المحافظة على الاصطلاح الرائج بين الناس في موضوع الحاكميّة ، حيث إنّه لم يكن يوجد بينهم أي لون من الحاكميّة إلاّ الملوكيّة ، فاستعار سبحانه هذه اللفظة للتعبير عن حاكميتهم المعطاة لهم ، مع الفارق الكبير والبون الشاسع بين الحاكميتين والامتلاكين.

وبالتالي ، فانّ هذه الملوكية التي وصف الله بها ثلّةً من الأنبياء ، تختلف جداً عن الملكية التي هي محطُّ بحثنا هنا ، فإنّ الملكيّة التي في هذه الآيات ، هي ممّا جعلها الله سبحانه لرجل صالح من الأنبياء ، وليست ممّا حصّلت بالقهر ، والتغلُّب بالقوّة على رقاب الناس ، ممّا تتصف بها جميع ملوكيات الأرض.

وباختصار : إنّ الملوكية التي كانت للأنبياء ، تفترق عن الملوكيات الدارجة المتعارفة ـ التي يذمُّها الله سبحانه في ما مضى من الآيات في مطلع هذا البحث ـ في أمرين :

الأوّل : اقتران العصمة والصفات الكريمة العليا مع صفة الملوكية في الأنبياء دون غيرهم من ملوك الأرض.

٦٠