مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

النفسيّ ، وإظهار الطاعة القلبيّة بعمل محسوس.

ثمّ لو كانت ( البيعة ) الطريق الوحيد لانتخاب الحاكم وتعيين القائد ، لوجب أن يرد لها ذكر في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ولقد كان الإمام عليّ عليه‌السلام هو الخليفة الوحيد الذي انتخب للحكم عن طريق البيعة دون بقيّة الخلفاء ، فالاُمّة لم تبايع أيّاً من الخلفاء الأربعة بحقيقة البيعة ، سواه ... اللّهمّ إلاّ في أبي بكر والتي كانت البيعة في مورده بيعةً ناقصةً ، أقتصرت على بعض المسلمين لا عامّتهم (١) ، وكانت بمثابة التسليم للأمر الواقع.

وهناك أحاديث غامضة حول البيعة تحتاج إلى الدراسة والتحقيق فلتراجع المصادر التالية :

بحار الأنوار ( الجزء ٢ ) كتاب العلم ( باب ٣٣ ) الأحاديث : ٢١ و ٢٢ و ٢٣ و ٢٨. وبحار الأنوار ( الجزء ٢٧ ) كتاب الإمامة ( الباب ٣ ) الأحاديث : ١ و ٤ و ...

__________________

(١) كما مرّ عليك سابقاً.

٢٤١
٢٤٢

الفصل الرابع

صفات الحاكم الإسلاميّ

إنّ أهميّة ( القيادة والحكم ) في حياة الاُمّة وخطورتها البالغة وما يترتّب عليها من سعادة وشقاء ، تقتضي اعتبار سلسلة من الشروط والصفات في الحاكم ، والرئيس لولاها لانحرفت القيادة عن طريق الحقّ ، وانتهت بالاُمّة إلى أسوء مصير. ولقد فطن الإسلام إلى ذلك الأمر الخطير والناحية الحسّاسة ، فاشترط وجود صفات معينة في الحاكم والرئيس ... وقد فرض على الاُمّة الإسلاميّة مراعاة هذه الأوصاف والشروط عند انتخاب الحاكم ..

وها نحن نشير فيما يلي إلى بعض هذه الصفات ، مع الإشارة إلى شيء من أدلتها وفلسفتها على نحو الإجمال والاختصار :

١. الإيمان :

وهو الإعتقاد القلبيّ بالإسلام عقيدةً ونظاماً وخلقاً كما في القرآن الكريم والسنّة المطهرة ، ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى أنّ الدين الإسلاميّ أفضل المبادئ وخير المناهج ، وأنّ العقيدة بالله تعالى ، وبشرائعه من مبادئه الأوّليّة فلا يحقّ للكافر بها أن يسود المؤمنين ؛ بحكم العقل ؛ لأنّ ذلك يكون من قبيل تسويد من لا كفاءة له على صاحب

٢٤٣

الكفاءة التامّة ـ قوله سبحانه : ( وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء : ١٤١ ).

وأيّ سبيل أقوى من الولاية والحكومة على المؤمنين.

* * *

٢. حسن الولاية والقدرة على الإدارة :

إنّ صلاحية الشخص للحكم والإدارة منوطة بقدرته على القيام بلوازم الولاية وأعبائها ، فحسن الولاية والكفاءة الإدارية شرط أساسيّ لاحتلال مقام الحكومة والرئاسة ، إذ التأريخ البشريّ قديماً وحديثاً يشهد بأنّ تصديّ الحكّام غير القادرين على الإدارة وغير الأكّفاء للولاية جرّ على الشعوب والاُمم ـ وخاصّةً الإسلاميّة ـ أسوء المآسي ، وأشد الويلات.

إنّ بداهة هذا الشرط وأهميّة هذه الصفة واضحة لكلّ أحد بحيث لا نحتاج إلى إقامة دليل عليها ، فالقيادة توجب بذاتها هذا الشرط وتوفّر مثل هذه الصفة في الحاكم والرئيس حتّى إذا لم يقم على ذلك دليل من خارج.

وإلى أهمية هذه الصفة الحيوية في الحاكم يشير الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول : « لا تصلُح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاثُ خصال :

١. ورع يحجزه عن معاصي الله.

٢. وحلم يملكُ به غضبهُ.

٣. وحسنُ الولاية على من يلي حتّى يكون كالوالد ( وفي رواية كالأب ) الرحيم » (١).

بل ويشترط الإسلام أن يكون الحاكم أكفأ من غيره على الإدارة ، وأقدر من غيره

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٠٧.

٢٤٤

على الولاية والقيادة.

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام : « أيّها الناسُ إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقومهم [ وفي رواية أقواهم ] وأعلمهم بأمر الله فإن شغب شاغب استُعتب وإن أبى قُوتل » (١).

إنّ أهم ما يشترط في الحاكم في نظر الإسلام هو حسن الولاية على من يلي اُمورهم ، والمقدرة الكافية على قيادتهم ، إذ بذلك يمكن للحاكم والرئيس أن يلمَّ شعث المسلمين ، ويجمع شملهم ، ويدفعهم إلى مدارج الكمال والتقدّم ، ويجعلهم في المقدّمة من الشعوب والاُمم ، وفي القّمة من الحضارة المدنيّة والازدهار ، وحسن الولاية ، هذا هو ما يسمّيه ويقصده السياسيّون اليوم بالنُضج العقليّ والرُشد السياسيّ.

٣. التفوّق في الدراية السياسيّة :

على أنّ مجرّد المقدرة وحسن الولاية لا يكفي كما عرفت في منطق الإسلام بل يشترط أن يكون الحاكم الإسلاميّ متفوّقاً على غيره في الدراية السياسيّة فيكون أوسع من غيره في الاطّلاع على مصالح الاُمّة ، وأعرف من غيره باُمورها وحاجاتها ، لكي لايغلب في رأيه ، ولا يُخدع في إدارته ، ولكي يصل المجتمع الإسلاميّ إلى أفضل أنواع القيادة وأدراها ، وأكفأها.

من أجل ذلك يتعين على الحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة أن تبلغ رؤيته السياسيّة والاجتماعيّة درجةً يستطيع معها أن يقود الاُمّة سياسيّاً واجتماعيّاً ويدفع بهم في طريق التقدم جنباً إلى جنب مع الزمن.

وهذا يستلزم أن يكون الحاكم الأعلى للاُمّة مُلماً بالأوضاع السياسيّة وعارفاً بما يجري على الساحة الدوليّة من تطورات سياسيّة لكي يحفظ اُمّته من كلّ ما يمكن أن يتوجّه إليها من أخطار.

يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام في هذا الصدد : « العالمُ بزمانه لا

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة (١٧٢).

٢٤٥

تهجمُ عليه اللوابسُ » (١).

فإنّ من يسوس الاُمّة ويقودها دون بصيرة بالأحوال والأوضاع المحيطة بها يجرّ إليها الويل والانحراف عن جادّة الحقّ كما قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسَّائر على غير الطَّريق ، لا تزيده سرعة السير من الطريق إلاّ بُعداً » (٢).

إنّ تسليم القيادة الجماعة إلى من لا يعرف شؤون السياسة والإدارة ، ولا يحسن الولاية والإمرة ، يكون كإعطائها إلى الصبيان وهو أمر معلوم العواقب ، واضح المخاطر كما يقول الإمام عليّ عليه‌السلام : « يأتي على الناس زمان لا يُقرّب فيه إلاّ الماحلُ ( أي الساعي في الناس بالوشاية ) ولا يُظرّف فيه إلاّ الفاجر ».

إلى أن قال عليه‌السلام : « فعند ذلك يكون السلطانُ بمشورة النساء ، وإمارة الصبيان » (٣).

ومن المعلوم أنّ المراد من قوله عليه‌السلام من إمارة الصبيان هو الإشارة إلى تفويض الاُمور إلى من لا يتمتع بالرشُد السياسيّ ، والخبرة القياديّة ، والبصيرة الإداريّة ، وليس المراد من الصبيّ ـ في المقام ـ هو غير البالغ شرعاً وذلك بقرينة أنّ الإمام يتحدث عن زمن تضيع فيه المقاييس الصحيحة للسياسة والاجتماع ، فبدل أن تسلّم فيه القيادة إلى ذوي الفهم والفكر والكفاءة تُسلّم إلى من لا يملك ذلك.

إنّ تأكيد الإسلام على هذا الشرط ـ بهذه الدرجة الكبيرة من التأكيد ـ إنّما هو لصيانة الاُمّة الإسلاميّة من التورّط في المشاكل بسبب ضعف القادة والحكام في السياسة أو غفلتهم عن مقتضيات عصرهم ، وجهلهم بمتطلبات زمانهم وضروراته ، فبسبب هذا الضعف والجهل والغفلة يمكن أن تقع الاُمّة الإسلاميّة فريسةً للمؤامرات الأجنبيّة الشرسة ، وتغدو آلةً طيّعةً بأيدي الأعداء ، لتنفيذ أغراضهم ، وتحقيق مقاصدهم ، وهو أعظم ما تصاب به الاُمم والشعوب في حياتها وتاريخها.

__________________

(١ و ٢) الكافي ١ : ٢٧ ، ٤٣.

(٣) نهج البلاغة : الحكم رقم (١٠٢).

٢٤٦

٤. العدالة :

إنّ أهمّ ما يجب أنّ يتحلّى به الحاكم الإسلاميّ والرئيس الأعلى للحكومة الإسلاميّة ـ بعد حسن الولاية ـ هو أن يكون متصفاً بالعدالة ، بعيداً عن المعاصي والذنوب فأيّ حاكم يمكن أن يؤتمن على مصير الاُمّة ، ومقدّراتها ويكون ملتزماً بالدين ، ومخلصاً لواجباته ووفيّاً لمصالح الاُمّة ، ما لم يتصف بالعدالة التي هي حالة نفسانيّة تمنعه من ارتكاب الذنوب ، وتردعه عن اقتراف المعاصي ، التي منها الخيانة ، والكذب ، والتضليل ، والغلول.

ولعلّ أوضح ما يدلّ على لزوم وجود مثل هذه الصفة في الحاكم ، وحثّ الناس على اعتبارها وملاحظتها فيه عند اختياره وانتخابه هو قوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) ( هود : ١١٣ ).

وأيّ ركون إلى الظلم أعظم من تسليط الحاكم الفاسق ، والقبول بولايته ، والانصياع لأوامره وتسليم مقدرات الاُمّة إليه ؟

وقال سبحانه : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف : ٢٨ ).

وفي آية أُخرى يعتبر طاعة الأسياد الفاسدين الفاسقين موجباً للضلال وينقل عن لسان المضلَّلين بهم وقولهم : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ( الأحزاب : ٦٧ ).

وأنت إذا لاحظت الآيات الواردة حول الإطاعة تجد أنّ إطاعة الفاسق أمر محرّم بنص الكتاب فراجع الآيات الواردة بهذا الصدد.

وفي هذا المجال قال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تصلُح الإمامةُ إلاّ لرجل فيه ثلاثُ خصال : ورع يحجزه عن محارم الله ... » (١).

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٠٧.

٢٤٧

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام : « وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدِّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين :

١. البخيل ، فتكون في أموالهم نهمتهُ

٢. ولا الجاهل ، فيُضلَّهم بجهله

٣. ولا الجافي ، فيقطعهم بجفائه

٤. ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم

٥. ولا المُرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ( أي الحدود التي عيّنها الله لها ).

٦. ولا المُعطّل للسّنّة فيهلك الاُمّة » (١).

وقال عليه‌السلام أيضاً : « من نصب نفسه للنَّاس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلّم النَّاس ومؤدّبهم » (٢).

قال الإمام عليّ عليه‌السلام : « لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلاّ بإمام عدل » (٣).

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يوم واحد من سطان عادل خير من مطر أربعين يوماً ، وحدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة سنة » (٤).

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام : « وعدل السلطان خير من خصب الزَّمان »(٥).

وقال الإمام الحسين بن عليّ عليه‌السلام : « فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الله ، الحابس نفسه على ذات الله » (٦).

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة (١٢٧) شرح عبده.

(٢) نهج البلاغة : الحكم الرقم (٧٣).

(٣) الكافي ١ : ٣١٤.

(٤) المستدرك ٣ : ٢١٦.

(٥) البحار ٧٨ : ١٠.

(٦) روضة الواعظين : ٢٠٦ ، الإرشاد للمفيد : ٢١٠.

٢٤٨

وقال عليه‌السلام أيضاً : « إنّما الخليفةُ من سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه » (١).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : « ايّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد هؤلاء الفُسّاق »(٢).

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام : « اتقوا الله وأطيعوا إمامكم فإنَّ الرَّعيَّة الصَّالحة تنجو بالإمام العادل ، ألا وإنَّ الرَّعيَّة الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر » (٣).

وقال الإمام الكاظم عليه‌السلام : « طاعة ولاة العدل تمام العزِّ » (٤).

وكتب الإمام عليّ عليه‌السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أرديشرخرة : « أمَّا بعد فإنَّ من أعظم الخيانة خيانة الاُمّة ، وأعظم الغشِّ على أهل المصر غشّ الإمام » (٥).

وقال عليه‌السلام أيضاً : « اتقوا الحكومة إنَّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين كنبيّ أو وصيِّ نبيّ » (٦).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إيّاكُم أن يُحاكم بعضُكُم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلمُ شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلتُهُ قاضياً فتحاكموا إليه » (٧).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبّ النَّاس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغضُ الناس إلى الله ، وأبعدهم منهُ مجلساً إمام جائر » (٨).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرَّحمن وكلتا يديه

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٩.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٠٣.

(٣) البحار ٨ : ٤٨٢.

(٤) تحف العقول : ٢٨٢.

(٥) البحار ٨ : ٦١٨.

(٦) وسائل الشيعة ( كتاب القضاء ) ١٨ : الباب ٣ الطبعة الجديدة نقلاً عن الكافي ٧ : ٤٠٦.

(٧) الوسائل ١٨ : أبواب صفات القاضي الباب (١).

(٨) جامع الاُصول ٤ : ٥٥ أخرجه الترمذيّ.

٢٤٩

يمين ، الَّذين يعدلون في حُكمهم وأهلهم وما ولوا » (١).

إنّ الحديث الأخير وإن كان حول القضاء والفصل بين الخصومات إلاّ أنّ اعتبار هذه الصفة في مقام القيادة والزعامة العليا يكون أقوى بدليل الأولويّة ، لأنّ مقام الرئاسة العليا والقيادة أكثر خطورةً وأهميّةً من مقام القضاء ، ومسؤوليّة الفصل بين الخصومات ولذلك فهو أكثر حاجة إلى اعتبار وصف العدالة.

أضف إلى ذلك ، أنّ من كان يتصدّى للقضاء ـ في تلك العهود ـ كان نفسه يشغل مقام الحكم والإدارة أيضاً ..

ثمّ إذا كان وصف العدالة مشترطاً في إمام الجماعة الذي يؤم جماعةً من المصلّين وهو عمل محدود ومؤقت ، كما نعلم ، فمن الأولى أن يكون مشترطاً في الحاكم الإسلاميّ للاُمّة المتربّع علس مسند القيادة العامّة والآخذ بمقدرات الاُمّة ، والمتصرف في عامّة شؤونها ، والمدبّر لاُمورها في شتى المجالات الحيويّة في خضمِّ الحياة السياسيّة.

* * *

٥. الرجولة :

إذا كان الإسلام يشترط أن يكون الوالي والحاكم والقاضي رجلاً فليس لأجل أنّه يريد الحطّ من كرامة المرأة والتقليل من شأوها وشأنها ، أو احتقارها ، إنّما يقوم بهذا العمل مراعاةً للظروف والنواحي الطبيعيّة في المرأة والخصائص التكوينيّة التي تقتضي مثل هذا التفاوت في موضوع الرئاسة العليا ، كما أنّ مبدأ توزيع المسؤوليات الاجتماعيّة وتقسيم الوظائف حسب الإمكانيات يقتضي من جانب آخر إيكال كلّ مسؤوليّة ووظيفة إلى من يمكنه ـ بحكم طبيعته ـ القيام بها ، وأدائها.

وحيث إنّ ( المرأة ) انسانة عاطفية أكثر من الرجل ، لذلك ، فهي قد اعفيت في ـ منطق الإسلام ـ من المسؤوليّات الشاقة والواجبات الثقيلة ، وأوكل كلّ ذلك إلى

__________________

(١) جامع الاُصول ٤ : ٥٣ أخرجه مسلم.

٢٥٠

( العنصر الرجاليّ ) باعتباره قادراً ـ بحكم خلقته وصلابة تكوينه ـ على القيام بالأعمال الخشنة والمهمّات الثقيلة العبء ، ولذلك أُنيطت إليه الرئاسة العليا للاُمّة والبلاد لكونها أثقل المسؤوليّات الاجتماعيّة وأشدّها وطأةً ... فيما حظر على المرأة التصدي لها ... وتحمّلها.

فكما أنّ الرجل لا يصلح للاُمور المحتاجة إلى مزيد من العاطفة كالاُمومة والتربية ، فكذلك لا تصلح المرأة للاُمور التي تحتاج إلى مزيد من الصلابة كالقيادة والزعامة.

وهذا أمر أثبتته التجارب ... فقد دلّت على عدم استعداد المرأة لخوض هذا الميدان بنفسها.

إنّ ( المرأة ) حسب نظر القرآن الكريم إنسانة ظريفةُ الإحساس ، لطيفةُ المشاعر ولذلك ، فهي تتناسب حسب حكاية القرآن عنها ـ مع الزينة والحليّ ، لا مع النواحي الخشنة من الحياة البشريّة ، فليس للمرأة في مقام الجدل والمناقشة منطق قويّ ، وموقف صلب ، لأنّها بحكم طبيعتها ومشاعرها العاطفيّة الطاغية ، ميّالة إلى الزينة ميالة إلى العيش فيها إذ يقول : ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ( الزخرف : ١٨ ).

فالآية تستنكر على المشركين جعلهم البنات لله واختيارهم الذكور ..

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( قوله تعالى : ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ، أي ؛ وجعلوا لله سبحانه من ينشأ في الحلية ، أي يتربى في الزينة ، وهو في المخاصمة والمحاجّة غير مبين لحجّته ، لا يقدر على تقدير دعواه.

وإنّما ذكر هذان الوصفان لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفةً ، وشفقةً ، وأضعف تعقّلاً بالقياس إلى الرجل ، وهو بالعكس ، ومن أوضح مظاهر قوّة عواطفها ؛ تعلّقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل ) (١).

إنّ الأدلّة الإسلاميّة ( سنّةً وسيرةً وإجماعاً ) تقتضي بأنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصدّى

__________________

(١) الميزان ١٨ : ٩٣.

٢٥١

لفصل الخصومات والقضاء وهو شعبة صغيرة من شُعب الإمارة ، وما ذلك إلاّ لعدم قدرتها على الاستقامة والثَّبات أمام المؤثّرات القويّة التي تعترض القضاة غالباً ، وعجزها عن التزام جانب الحقّ بعيداً عن العاطفة ، والتأثير العاطفيّ. فعن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « يا عليّ ... ليس على النساء ... ولا تولي القضاء » (١).

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام في وصية لابنه الحسن عليه‌السلام كتبها له بحاضرين : « ولا تملكُ المرأةُ ما جاوز نفسها فإنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة » (٢).

ومن المعلوم ؛ أنّ القضاء هو أحد الاُمور الخارجة عن شؤونها ... الخارجة عن حيطة قدرتها ..

وأمّا السيرة العمليّة فلم يعهد من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته أن أعطى امرأة منصب القضاء ، ونصب منهنّ قاضيةً تفصل بين الخصومات (٣).

رغم وجود طائفة من النساء ذوات علوم ومحاسن أخلاق.

بل لم يفعل ذلك حتّى الأمويّون والعباسيّون الذين ولُوا أمر الاُمّة الإسلاميّة أكثر من خمسمائة سنة رغم أنّهم ولّوا كثيراً من عبيدهم وغلمانهم وقلّدوهم المناصب الرفيعة (٤).

وأمّا إجماع العلماء فهو أوضح من أن يخفى على أحد ، فقد أجمع علماء الإماميّة كلّهم على عدم انعقاد القضاء للمرأة وإن استكملت جميع الشرائط الاُخرى ، ووافقهم على ذلك طائفة من علماء الطوائف الإسلاميّة الاُخرى كالشافعي (٥).

قال ابن قُدامة في المغني : ( إنّ المرأة ... لا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ، ولهذا لم يولّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأةً قضاءاً ولا ولاية

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٦ ( كتاب القضاء ).

(٢) نهج البلاغة : الرسائل الرقم (٣١).

(٣) تفسير الميزان ٥ : ٣٤٧.

(٤) راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة ٧٠ ـ ٧٦ وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

(٥) راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة ٧٠ ـ ٧٦ وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

٢٥٢

بلد فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً ) (١).

وقال الشيخ الطوسيّ في « الخلاف » : لا يجوز أن تكون امرأة قاضيةً في شيء من الأحكام وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن تكون شاهدةً فيه ، وهو جميع الأحكام إلاّ الحدود والقصاص ، وقال ابن جرير : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه ، لأنّها تُعدّ من أهل الاجتهاد.

ثمّ استدل على المنع بقوله : إنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل لأنّ القضاء حكم شرعيّ ، فمن يصلح له يحتاج إلى دليل شرعيّ وروي عن النبيّ أنّه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (٢).

فإذا كان تولّي القضاء محظوراً على المرأة وهو ليس إلاّ شعبةً محدودةً من شعب الزعامة والولاية ، كان حظر تولّي الرئاسة العليا للبلاد والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الاُمّة ؛ بطريق أولى.

وقد دلّت على حظر تولّي الولاية والحكم على المرأة أحاديث كثيرة منها :

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (٣).

ورواه الترمذيّ بنحو آخر هو : « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة » (٤).

كما رواه ابن حزم بكيفيّة أُخرى هي : « لا يُفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة » (٥).

وذكره ابن الأثير في النهاية « ما أفلح قوم قيّمهم امراة » (٦).

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١٠ : ١٢٧.

(٢) الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) ٢ : ٢٣٠ المسألة (٦).

(٣) الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) ٢ : ٢٣٠ المسألة (٦).

(٤) أخرجه الترمذيّ كما في جامع الاُصول ٤ : ٤٩ والنسائيّ أيضاً في سُننه : ٨ ( كتاب آداب القضاء ).

(٥) الملل والأهواء ٤ : ٦٦ ، ٦٧ ، ورواه في كنز العمال ٦ : ١١ وأسنده إلى البخاريّ وابن ماجة وأحمد بن حنبل ، وفي لفظهم ( لن يُفلح ) بدل ( لا يُفلحُ ).

(٦) النهاية ٤ : ١٣٥.

٢٥٣

وفي المستند : « لا يصلُح قوم وليتُهُم امرأة » (١).

وعن أبي هريرة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « إذا كان أُمراؤُكُم شراركُم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، واُموركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهورها » (٢).

وهذا وقد جمع الإمام الباقر محمّد بن عليّ عليه‌السلام الحظر عن الأمرين ( القضاء والحكومة ) في حديث واحد إذ قال : « ليس على النساء أذان ولا إقامة ».

إلى أن قال : « ولا تولَّى المرأة القضاء ولا تولَّى الإمارة » (٣).

إلى غيرها من الأحاديث والروايات المتضافرة مضافاً إلى السيرة العمليّة. بل وروح الشريعة الإسلاميّة المتمثّلة في الحفاظ على شرف المرأة وكرامتها ومكانتها الحقيقية الطبيعيّة ، ومضافاً إلى سعي الشريعة الإسلاميّة للحفاظ على الأخلاق الاجتماعيّة وسلامة أمر الاُمّة بإشاعة جوّ التقوى ؛ وذلك يستلزم بأن تُصان المرأة من الظهور على المسرح السياسيّ في أعلى مستوياته لما في ذلك من أخطار لا تخفى.

ولابدّ في الأخير من الإشارة إلى أمرين هامّين :

الأوّل : أنّ عدم السماح للمرأة بتولّي القضاء والولاية ليس بخساً لحقّها ، أو حطّها من كرامتها أو حرماناً لها من حقّها ، بل رفع لمسؤوليّة ثقيلة جداً عن كاهلها ، ووضعها في الموضع الصحيح لها في تركيبة الحياة الاجتماعيّة المستقيمة السويّة ، وفي الحقيقة إيكال ما هو مناسب لها إليها ، ممّا يكون متناسباً مع تركيبتها العاطفيّة الرقيقة ألا وهو تربية الأولاد وتثقيفهم ، وتعليمهم مالهم وما عليهم من الشؤون والوظائف الاجتماعيّة ، كما لها أن تقوم بما هو دون الولاية من قبيل التصدّي للتعليم والتمريض والخياطة والطبابة وما سواها من الشؤون والأعمال الاجتماعيّة.

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( وأمّا غيرها ( أي الولاية والقيادة ) من

__________________

(١) المستند ٢ ( كتاب القضاء ) : ٥١٩.

(٢) الترمذيّ في سننه ٤ ( كتاب الفتن ) : ٥٢٩ و ٥٣٠.

(٣) الخصال٢ : ٣٧٣ ، البحار ١٠٣ : ٢٥٤ ، الحديث ١.

٢٥٤

الجهات كجهات التعلّم والتعليم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة ، والسيرة النبويّة تُمضي كثيراً منها ، والكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ ، فإنّ ذلك لازم ما أُعطين من الحريّة والإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة ) (١).

ثمّ في الجوّ الإسلاميّ الذي يوجده الإسلام بتعاليمه ونظامه يتّخذ أعمال المسلم والمسلمة صفة العبادة الشرعيّة ويتحلّى بقداسة لا يماثلها شيء في غير المجتمع الإسلاميّ. ولذلك فإنّ ما أُعطيت المرأة من المسؤوليّة تتّخذ صفة العبادة والقداسة ، وهذا يعني أنّ الإسلام أبدل عملاً بعمل آخر مع الاحتفاظ بالقيمة الشرعيّة ... فإذا أسقط عن المرأة الجهاد مثلاً ، جعل حسن تبعّلها جهاداً كالجهاد في سوح الحرب. فلا فضل لعمل على عمل مادام الهدف واحداً هو تحقيق أمر الله وإرادته وإطاعته فيما أراد.

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( انّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن يكون قد تداركها ، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية ، كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة (٢) وهذه الاُمور التي هي مفاخر في نظر الإسلام أوشكت أن لا يكون لها عندنا ـ في ظرفنا الفاسد ـ قدر ، لكن الظرف الإسلاميّ الذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقية ، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضية عند الله سبحانه ، وهو يقدّرها حقّ قدرها ، يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي ندبه إليه ، وللزومه الطريق الذي خطّ له ؛ من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة ، وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج ـ على ما فيه من الفضل ـ ، على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ ، ولا لقاض يتكئ على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلِّد

__________________

(١) تفسير الميزان ٥ : ٣٤٧.

(٢) لاحظ نهج البلاغة : الحكم (١٣٦) قال الإمام عليّ : « وجهاد المرأة حسن التَّبعّل ».

٢٥٥

ـ بهما في الدنيا ـ لو عمل فيما عمل ، بالحقّ وجرى فيما جرى على الحقّ ـ إلاّ تحمّل أثقال الولاية والقضاء ، والتعرّض لمهالك ومخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلاّ ربّ العالمين ... فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين من الورود موردهما ، وخطّ له خطّاً آخر ، وأشار إليه بلزومه وسلوكه ...

وخلاصة القول : أنّه ليس من المستبعد أن يُعظِّم الإسلام اُموراً نستحقرها ، أو يُحقّر اُموراً نستعظمها ونتنافس فيها ... ) (١).

* * *

الثاني : انّنا لا ننكر وجود نساء معدودات تمتَّعن بالقدرة على الإمرة ، وتحلَّين بالمنطق القويّ ، والفكر المتفوّق ... إلاّ أنّ وجود هؤلاء النسوة المعدودات لا يدلّ على قدرة العنصر النسويّ بعمومه على الإدارة والولاية ، والتحلّي بهذه الخصيصة ... وهل يمكن خرق القاعدة العامّة لعدة موارد شاذّة ؟ ونحن نعلم أنّ المقنّين يراعون عند وضع القوانين ، الأكثريّة الساحقة ، فهي الملاك في الخطابات القانونية ... وهي الملاك أيضاً في الخطابات الشرعيّة ... لا الأقليّة النادرة ... والأفراد المعدودون.

* * *

٦. العلم بالقانون اجتهاداً أو تقليداً :

لمّا كانت الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس لزم أن يكون الحاكم المجري له في مجالات الحكم والإدارة عالماً به ، وإلاّ عادت حكومةً استبداديّةً ينبع القانون فيها من إرادة الحاكم وهواه. وفي هذا المجال يقول الإمام الخمينيّ :

( بما أنّ الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون ـ كما ورد في الحديث ـ وكلّ من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معينة فإنّه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه وبمقدار حاجته ). إلى أن قال : ( انّ الحاكم

__________________

(١) تفسير الميزان ٥ : ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٢٥٦

ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد وحسن الأخلاق وهذا ما يقتضيه العقل السليم ، خاصّة ونحن نعرف أنّ الحكومة الإسلاميّة تجسيد عمليّ للقانون وليست ركوب هوى فالجاهل بالقوانين لا أهليّة فيه للحكم ) (١).

ثمّ على القول بأنّ الولاية ـ عند عدم التمكن من الإمام المعصوم ـ من شؤون الفقيه العدل ، يلزم أنّ يكون الحاكم هو الفقيه ، بيد أنّه لا يلزم أن يتصدّى الفقيه بنفسه إدارة البلاد ، بل يمكن له أن يُوكل شخصاً آخر ـ ترتضيه الاُمّة وتختاره ـ ويكون عارفاً بالقانون عن طريق الاجتهاد ، وتجتمع فيه سائر الصفات والمؤهّلات.

ولأجل ذلك قلنا : اجتهاداً أو تقليداً ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت قول الإمام الحسين بن عليّ عليه‌السلام : « مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله والامناء على حلاله وحرامه » (٢).

وقوله عليه‌السلام : « والله ما الإمام إلاّ القائم بالقسط ، الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله » (٣).

ومن المعلوم أنّ القيام بالقسط والحكم على طبق الكتاب لا ينفكّ عن العلم بالقانون الإسلاميّ اجتهاداً ، أو تقليداً.

* * *

٧. الحريّة :

يختلف نظام الرقِّ في الإسلام عمّا هو عليه في سائر الأنظمة البشريّة ، فإنّ النظم البشريّة ترى جواز استعباد الانسان واسترقاقه لأخيه الإنسان بحجّة أنّه أقلّ ثقافةً أو لأنّه يعيش في بلد متأخّر ، أو لأنّه يجري في عروقه دم وضيع ، أو لأنّه لا ينتمي إلى حزب !!

غير أنّ الإسلام الذي حرّم على الناس التفاضل بهذه الخرافات ، انقذهم من سيادة بعضهم على بعض بتلك الحجج الواهية السخيفة ، ولم يجز لأحد أن يسلب حريّة

__________________

(١) الحكومة الإسلاميّة : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) تحف العقول : ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

(٣) روضة الواعظين : ٢٠٦.

٢٥٧

غيره لتلك الحجج والمعاذير فقال القرآن الكريم : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) ( آل عمران : ٦٤ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : « بعث الله محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليُخرج عبادهُ من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عُهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته » (١).

وقال عليه‌السلام أيضاً : « ولا تكُن عبد غيرك وقد جعلك الله حُراً » (٢).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : « أيّها الناسُ إنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمة. وإنّ الناس كلهم أحرار ولكنَّ الله خوّل بعضكم بعضاً » (٣).

وقد وجّه الإسلام دعوته الشاملة إلى كلّ اُمم الأرض ، ودعاها إلى التحرّر من العبوديات الباطلة والانضواء تحت لواء واحد هو لواء الإسلام لله تعالى والتسليم لأوامره في جوّ من المساواة الكاملة والوحدة الشاملة يوم لم يسمع العالم عن الاُمميّة الحديثة شيئاً.

منذ ذلك اليوم دعا الإسلام إلى صيانة الحريّات الطبيعيّة المعقولة ، وحارب بشدة من يحاول إغفالها وتجاهلها.

إنّ تحرير الإنسان من وطأة استعباد الآخرين له ممّا جوز القرآن أن تراق من أجله الدماء إذ قال سبحانه : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) ( النساء : ٧٥ ).

ولذلك فإنّ الإسلام لا يُقرّ بالرقّيّة والاسترقاق الذي تقول به الأنظمة البشريّة ، نعم ؛ للإسلام نظام للرقّ بشكل آخر ، وهو موقف يتخذه الإسلام الحنيف كعمل اضطراري لمعالجة حالة شاذّة.

__________________

(١) الوافي ٣ ج ١٤٢ : ٢٢.

(٢) نهج البلاغة : الرسائل ( الرسالة ٣١ ).

(٣) روضة الكافي : ٦٩.

٢٥٨

فإنّ أعداء الإسلام وأعداء الحريّة إذا هاجموا المسلمين وعرّضوا حياتهم للخطر كان جزاء المعتدين أن يُقتلوا أينما ثُقفوا ما لم تضع الحرب أوزارها (١) ، فإذا وضعت الحرب أوزارها استؤسروا ثمّ وضعوا تحت ولاية حكيمة تعلمهم ما هو جزاء المعتدين على حقوق الآخرين وحرياتهم وتعطي لهم ولأمثالهم درساً عملياً تُفهمهم أنّ الذي يريد أن يستعبد الناس فهو يستعبد جزاءً وفاقاً ، وستظل هذه الولاية ريثما ينشأ نشأةً أُخرى يفهم في ضوئها قيمة الحريّة المخوّلة إليه ، والسبيل الذي يجب أن تصرف فيه فإذا عرف ذلك ردّت إليه حريته ، ويعيش معه في راحة وأمان ... قال الله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور : ٣٣ ).

وهذه الآية تفيد ؛ أنّ تعريض العبد للحريّة والخروج من حالة الرقيّة أمر مرغوب فيه في الإسلام بشرط أن يُعلم منه الخير ، ولا يكون تحريره مضرّاً بالإسلام والمسلمين.

وبهذا تظهر العلّة في عدم سماح الإسلام للعبيد بأن يتصدّروا مسند القيادة ويسلّم إليهم المجتمع الإسلاميّ زمام إدارتهم وحكومتهم.

فإنّ الذي استُرقّ لسوء ماضيه ولإرادته العدوان على نفوس المسلمين وحرياتهم وأموالهم وأعراضهم ، لا يجوز أن يعطى إليه زمام قيادتهم إذ لا يؤمن على أموال المسلمين وحريّاتهم ونفوسهم وأعراضهم ، وهو الذي سبق له الاعتداء عليها.

وخلاصة القول : نعلم من هذا الموقف الإسلاميّ اتّجاه العبد ؛ بأنّ الإسلام إنّما سلب عنهم الصلاحيّة للقيادة لأنّهم كانوا من الذين يريدون أن يسلبوا حريّة الناس ، فلا يمكن لمن يحمل هذه النزعة الخطيرة ، ولو في أمد من الزمان ـ أن سيود على المسلمين ، ويُسلَّط على شؤونهم.

* * *

هذا مضافاً إلى أنّ حرمان العبد من الارتفاع إلى مستوى القيادة نوع من النكال

__________________

(١) سيأتي مفصّل القول في هذا المجال عند البحث عن أحكام الجهاد.

٢٥٩

والتبكيت للعبد ، ولكلّ من يريد ما أراد من العدوان والتجاوز على حرمة المسلمين وبلادهم.

ثمّ كيف يصلح العبد للولاية وهو بدوره مولّىً عليه ... فهل يجوز أن يرفع إلى مستوى قيادة الأحرار ؟

يبقى أن يعرف القارئ الكريم أنّ الإسلام كما قلنا لم يعمد الاسترقاق إلاّ للضرورة ؛ إذ لم يكن أمام الإسلام اتّجاه المعتدين بعد السيطرة عليهم إلاّ خمس خيارات :

١. أن يقتلهم جميعاً ويسفك دمائهم عن آخرهم وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.

٢. أن يسجنهم جميعاً وذلك يكلف الدولة تكاليف باهضةً وميزانيةً ضخمةً مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين ، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.

٣. أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين ، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة اُخرى.

٤. أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين ، انتقاماً منهم.

ولمّا لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائيّاً ... يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو :

٥. استرقاقهم ، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين ليراقبوا بشدة تصرفاتهم ، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلاميّة أن يقفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأةً إسلاميّةً ويكون الإسلام بهذا قد حافظ على حياتهم ، ومنع من سفك دمهم ، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم أشد المحافظة بخلاف من لا يملكهم ، ولا يرجوا منهم نفعاً.

٢٦٠