التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

آبائهم ، وما ترك أبولهب إلاّ للإزراء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه عمه» (١).

١٤ ـ عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ : «من يطع الله ورسوله ـ في ولاية علي والأئمة من بعده ـ فقد فاز فوزاً عظيماً. هكذا نزلت» (٢).

١٥ ـ عن منخّل ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : « نزل جبرئيل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الآية هكذا : ( يا أيا الذين اوتوا الكتاب آمنا بما أنزلنا ـ في علي ـ نوراً مبيناً ) (٣).

١٦ ـ عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله في قوله :

( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات ـ في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم ـ فنسي ... ) (٤).

فهذه طائفة من تلك الأحاديث ، ولنلق الأضواء عليها واحداً واحداً ، لنرى ما قيل في الجواب عن كلّ واحد أو ما جاء فيه من تأويل.

الكلام على هذه الأخبار

الحديث الأول :

رواه الشيخ الكليني والشيخ الصفار ، كلاهما بسند فيه « عمرو بن أبي المقدام » وقد اختلف علماء الرجال فيه على قولين ، كما

__________________

(١) الغيبة للنعماني : ٣١٨.

(٢) الكافي ١ : ٣٤٢.

(٣) الكافي ١ : ٣٤٤.

(٤) الكافي ١ : ٣٤٥.

٦١

اعترف بذلك بعضهم (١).

الحديث الثاني :

رواه الشيخ الكليني والصفار أيضاً بسند فيه « المنخّل بن جميل الأسدي »

وقد ضعّفه أكثر علماء الرجال ، بل كلّهم ، وقالوا : إنّه فاسد العقيدة ، وإنّه يروي الأحاديث الدالّة على الغلو في الأئمة عليهم‌السلام (٢).

هذا بالإضافة إلى أنّه يمكن نفسير هذا الحديث وسابقة بمعنى آخر يساعد عليه اللفظ فيهما.

ولذا فقد قال السيد الطباطبائي في الخبرين ما نصّه :

« قوله عليه‌السلام : إنّ عنده القرآن كلّه ... إلى آخره ، الجملة وإن كانت ظاهرة في لفظ القرآن ومشعرة بوقوع التحريف فيه ، لكنّ تقييدها بقوله : ( ظاهره وباطنه ) يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي.

وكذا قوله في الرواية السابقة ( وما جمعه وحفظه ... إلى آخره ) حيث قيّد الجمع بالحفظ ، فافهم » (٣).

وقد أورد السيد على بن معصوم المدني هذين الخبرين ضمن الأحاديث التي استشهد بها على أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام والأوصياء من أبنائه ، علموا جميع ما في القرآن علماً قطعيّاً بتأييد إلهي وإلهام رباني وتعليم نبوي ، وذكر أنّ الأحاديث في ذلك متواترة بين الفريقين ، وعليه

__________________

(١) تنقيح المقال ٢ : ٣٢٣.

(٢) تنقيح المقال ٣ : ٢٤٧.

(٣) حاشية الكافي ١ : ٢٢٨.

٦٢

إجماع الفرقة الناجية ، وأنّه قد طابق العقل في ذلك النقل (١).

وقد روى الشيخ الصفّار القمي حديثاً آخر في معنى الحديثين المذكورين هذا نصه بسنده :

« جعفر بن أحمد ، عن عبد الكريم بن عبد الرحيم ، عن محمد بن علي القرشي ، عن محمد بن الفضيل ، عن الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : ما أحد من هذه الامة جمع القرآن إلاّ وصي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢). ولكن في سنده « محمد بن علي القرشي » (٣).

الحديث الثالث :

فإن راويه هو « سالم بن سلمة » أو « سالم بن أبي سلمة » ومراجعة واحدة لكتب الرجال تكفي للوقوف على رأيهم في هذا الرجل. فقد ضعّفه ابن الغضائري والنجاشي والعلاّمة الحلّي والشيخ المجلسي وغيرهم (٤). ويفيد الحديث مخالفة القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين عليه‌السلام مع القرآن الموجود بين أيدينا ، وسيأتي الكلام على ذلك في فصل ( الشبهات ). كما يفيد أيضاً مخالفة القرآن الكريم على عهد سيدنا الإمام المهدي عليه‌السلام لهذا القرآن ، وسيأتي الكلام على هذا أيضاً في الفصل المذكور.

__________________

(١) شرح الصحيفة السجادية : ٤٠١.

(٢) بصائر الدرجات للصّفار ، وعنه في البحار٨٩ : ٤٨ ، وانظر مرآة العقول المجلد ٢ : ٥٣٥.

(٣) تنتيح المقال ٣ : ١٥١.

(٤) نفس المصدر ٢ : ٤.

٦٣

الحديث الرابع :

هو من رويات الشيخ العياشي في تفسيره (١) ، وقد رواه عنه الشيخ الحرّ العاملي على النحو التالي :

« وعن ميسر ـ أي وروى العياشي عن ميسر ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : لولا أنّه زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقّنا على ذي حجا ،

ولو قد قام قائمنا قنطق صدّقه القرآن » (٢).

ويبطل هذا الحديث إجماع المسلمين كافّة على عدم وقوع الزيادة في القرآن ، وقد ادّعى هذا الإجماع : السيد المرتضى ، وشيخ الطائفة ، والشيخ الطبرسي ، رضي الله تعالى عنهم.

وقال سيدنا الجدّ الميلاني : « هذا ... على أنذ أحداً لم يقل بالزيادة ». وقال السيد الخوئي في بيان معاني التحريف : « الخامس : التحريف بالزيادة ، بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل ، والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين ، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة » (٣).

الحديث الخامس :

وقد صرّح الشيخ المجلسي رحمه‌الله بأنّه مجهول (٤).

وفي الأول من تالييه : إنّه مرسل (٥).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٣.

(٢) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات ٣ : ٤٣.

(٣) البيان : ٢١٨.

(٤) مرآة العقول ١٢ : ٥١٧.

(٥) مرآة العقول ١٢ : ٥١٧.

٦٤

وفي الثاني منهما بأنّه : موثّق (١).

وظاهر هذه الأحاديث ـ وإن أنكر جماعة كالمجلسي والفيض وشارح الكافي ـ منافاة بعضها للبعض ، كما اعترف بذلك السيد عبدالله شبر (٢) وأوضح ذلك السيد هاشم معروف الحسني في دراساته.

الحديث السادس :

ضعّفه الشيخ المجلسي (٣) ، وأوّله المحدّث الكاشاني في الوافي : على أنّ المراد من تلك الآيات ، ما كان مأخوذاً من الوحي من قبيل التفسير وتبيين المراد ، لا من القرآن الكريم على حقيقته ، حتى يقال إنّه يدلّ نقصان القرآن.

الحديث السابع :

هو من روايات الشيخ الصفار القمي والشيخ العياشي ، وسيأتي الكلام عن رواياتهما ، على أنّهما روياه عن « إبراهيم بن عمر » وقد اختلفوا في تضعيفه وتوثيقه على قولين (٤).

ومن الممكن القول : بأنّ تلك الأسماء التي القيت إنما كانت مثبتة فيه على وجه التفسير لألفاظ القرآن ، وتبيين الغرض منها ، لا أنّها نزلت في أصل القرآن كذلك ، كما قيل نظائره.

الحديث الثامن :

رواه الشيخ العياشي مرسلاً عن داود بن فرقد عمّن أخبره ، عنه

__________________

(١) نفس المصدر ١٢ : ٥١٧.

(٢) مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار ١ : ٢٩٤.

(٣) مرآة العقول ١٢ : ٥٠٦.

(٤) تنقيح المقال ١ : ٢٧.

٦٥

عليه‌السلام ، وقد يجاب عنه أيضاً بمثل ما يجاب به عن الأحاديث الآتية.

الحديث التاسع :

رواه الشيخ الكليني عن البزنطي ، وقد قال الشيخ المجلسي : إنّه مرسل (١).

واعترف شارح الكافي بكونه : مرفوعاً.

وروى نحوه الشيخ الكشي عنه أيضاً (٢) وسيأتي ما في رواياته.

هذا ... ولقد قال المحدّث الكاشاني بعده ما نصّه :

« لعلّ المراد أنّه وجد تلك الأسماء مكتوبة في ذلك المصحف تفسيراً للذين كفروا وللمشركين ، مأخوذة من الوحي ، لا أنّها كانت من أجزاء القرآن ...

وكذلك كل ما ورد من هذا القبيل عليهم‌السلام » (٣).

الحديث العاشر :

ونظائره التي رواها الشيخان القمي والكليني وغيرهما ، من الأحاديث الدالّة على حذف اسم أمير المؤمنين علي عليه‌السلام و « آل محمد » وكلمة « الولاية » وأسماء « المنافقين » ... وغير ذلك.

ويغنينا عن النظر في أسانيد هذه الأحاديث واحداً واحداً اعتراف المحدّث الكاشاني بعدم صحتها ، وحملها ـ على فرض الصحة ـ على أنّه بهذا المعنى نزلت ، وليس المراد أنّها كذلك نزلت في أصل القرآن فحذف ذلك.

__________________

(١) مرآة العقول ١٢ : ٥٢١.

(٢) رجال الكشّي : ٤٩٢.

(٣) الوافي ٢ : ٢٧٣.

٦٦

ثم قال ـ رحمة الله تعالى ـ : « كذلك يخطر ببالي في تأويل تلك الأخبار إن صحت ... » (١).

وقال السيد الخوئي :

« والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة : إنّا قد أو ضحنا فيما تقدّم أنّ بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن ، وليس من القرآن نفسه ، فلا بدّ من حمل هذه الروايات على أنّ ذكر أسماء الأئمة في التنزيل من هذا القبيل ، وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بدّ من طرح هذه الروايات ، لمخالفتها الكتاب والسنّة والأدلّة المتقدّمة على نفي التحريف.

وقد دلّت الأخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب والسنّة ، وإن ما خالف الكتاب منها يجب طرحه وضربه على الجدار ».

وقال أيضاً : « ومما يدلّ على أنّ اسم أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يذكر صريحاً في القرآن : حديث الغدير ، فإنّه صريح في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما نصب علياً بأمر الله ، وبعد أن ورد عليه التأكيد في ذلك وبعد أن وعده الله بالعصمة من الناس ، ولو كان اسم « علي » مذكوراً في القرآن لم يحتج إلى ذلك النصب ، ولا إلى تهيئة ذلك الاجتماع الحافل بالمسلمين ، ولما خشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إظهار ذلك ، ليحتاج إلى التأكيد في أمر التبليغ ».

وقال بالنسبة إلى هذا الحديث بالذات :

« على أنّ الرواية الآخيرة المرويّة في الكافي مما لا يحتمل صدقه في نفسه ، فإنّ ذكر اسم علي عليه‌السلام في مقام إثبات النبوّة والتحدى على

__________________

(١) نفس المصدر ٢ : ٢٧٤.

٦٧

الإتيان بمثل القرآن لا يناسب مقتضى الحال ».

قال : « ويعارض جميع هذه الروايات صحيحة أبي بصير المروية في الكافي ، قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن قول الله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ).

قال : فقال : نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم‌السلام.

فقلت له : إنّ الناس يقولون لهم : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزلت عليه الصلاة ولم يسّم لهم ثلاثاً ولا أربعاً ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسّر لهم ذلك.

فتكون هذه الصحيحة حاكمة على جميع تلك الروايات ، وموضّحة للمراد

منها » (١).

هذا ، وقد تقدّم عن الشيخ البهائي قوله :

« وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين عليه‌السلام منه في بعض المواضع ، مثل تعالى : ( يا ايّها الذين الرسول بلّغ ما انزل إليك ـ في علي ـ ) وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء » (٢).

الحديث الحادي عشر :

فيجاب عنه ـ بعد غضّ النظر عن سنده ـ بأنّ الشيخ الطبرسي رحمة الله وغيره رووه عن ابن سنان بدون زيادة « ثم قال ... » (٣).

__________________

(١) البيان ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) نقله عنه في آلاء الرحمن : ٢٦.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٣٣٤.

٦٨

على أنّ نفس هذا الحديث ، وكذا الحديثان الآخران (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل على أنّ سورة الأحزاب كانت مدوّنة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما يجاب عنه ـ إن صح ـ بما اجيب عن نظائره فيما تقدّم.

ولنا أن نطالب ـ بعد ذلك كلّه ـ من يصحّح هذا الحديث ويعتمد عليه ، أن يثبت لنا أن ذهبت هذه الكثرة من الآيات؟ وأن يذكر كيفيّة سقوطها ـ أو إسقاطها ـ من دون أن يعلم سائر المسلمين؟

ألم تكن الدواعي متوفّرة على أخذ القرآن وتعلّمه كلّما نزل من السماء؟ ألم

تكن السورة تنتشر بمجرد نزولها بأمر النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين وتقرأ في بيوتهم؟

الحديث الثاني عشر :

من روايات الشيخ الكشي ، وسيأتي الكلام عنها بصورة عامة.

الحديث الثالث عشر :

سنده غير قويّ كما يتّصح ذلك لمن راجعه ، ثمّ إنّ الشيخ النعماني نفسه قد روى حديثين آخرين :

أحدهما : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً ، قال : « كأنّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة ، وقد ضربوا الفساطيط يعلّمون الناس القرآن كما أنزل » (٣).

__________________

(١) مجمع البيان ، ورواه أهل السنة في كتبهم المعتبرة. انظر منها الدر المنثور ٥ : ١٧٩ عن جملة من كتب الحديث.

(٢) نصّ على هذا أكابر الطائفة ، منهم العلامة الحلّي في كتابة نهاية الوصول ، وقد تقدمت عبارته في الفصل الثاني من الكتاب.

(٣) الغيبة للنعماني : ٣١٧.

٦٩

والثاني منهما : عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام ، قال : « كأنّي بشيعة علي في أيديهم المثاني يعلّمون القرآن » (١).

وهذان الحديثان يعارضان الحديث المذكور.

وأوضح من ذلك قول الإمام الباقر عليه‌السلام : « إذا قام القائم من آل محمد ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن على أنزله الله عزّ وجلّ ، فاصعب ما يكون على من حفظه اليوم ، لأنّه يخالف فيه التأليف » (٢).

وليتأمّل في قوله عليه‌السلام : « لأنّه يخالف فيه التأليف » فإنّه يفيد فيما

سيأتي.

أمّا الأحاديث المتبقية ـ ١٤ ، ١٥ ، ١٦ ـ فقد ضعّفها الشيخ المجلسي جميعها (٣) ، بالإضافة إلى أنّه يجاب عنها بما يجاب عن نظائرها.

__________________

(١) الغيبة للنعماني : ٣١٨.

(٢) روضة الواعظين : ٢٦٥ ، الإرشاد للشيخ المفيد : ٣٦٥.

(٣) مرآة العقول ٥ : ١٤ ، ٢٩ ، ٢٩.

٧٠

الفصل الرابع

شبهات حول القرآن

على ضوء روايات الشيعة

وهناك شبهات تعرض للناظر في أحاديث الشيعة الإمامية حول القرآن الحكيم ، فعلينا ـ بالرغم من ثبوت بطلان تلك الأحاديث المتقدّمة وأمثالها ، وعدم صلاحيتها للإستناد إليها ، بالأدلّة المذكورة على عدم وقوع التحريف في القرآن ، وبالأجوبة السالفة عن كل منها ـ أن نتعرض لتلك الشبهات ، ونبيّن وجه اندفاعها :

الشبهة الاولى : تواتر أحاديث تحريف القرآن

لما رأى بعض محدّثي الإمامية كثرة الأحاديث الظاهرة في تحريف القرآن ، ووجدوا كثيراً منها في المجاميع الحديثيّة المعروفة ، عرضت لهم شبهة تواتر تلك الأحاديث ـ ولا سيمّا الأخباريون الظاهريون ممن يرى صحّة كل حديث منسوب إلى أئمة الهدى عليهم‌السلام من غير تحقيق ـ وهؤلاءهم :

١ ـ المحدّث الجزائري ، فإنّه قال في وجوه ردّه على القول بتواتر

٧١

القراءات : « الثالث : إنّ تسليم تواترها عن الوحي الإلهي ، وكون الكلّ قد نزل به الروح الأمين ، يفضي إلى طرح الأخبار المستقيضة بل المتواترة الدالّة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن ، كلاماً ومادة وإعراباً » (١).

ولكن يردّه تصريح جماعة من كبار العلماء المحقّقين ـ وفيهم الأخباريون الفطاحل ـ بأنّ أحاديث التحريف أخبار آحاد ، لا يمكن الركون إليها والإعتماد عليها في هذه المسألة الإعتقادية.

فقد قال شيخ الطائفة : « غير أنّه رويت كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها ».

وقال الشيخ المجلسي عن الشيخ المفيد : « إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد يقطع على الله تعالى بصحتها ».

وكذا قال غيرهما من أعلام الطائفة.

على أنّ كلام هذا المحدّث نفسه يدل على أنّ دعواه تلك بعيدة كلّ البعد عما نحن بصدده ، لأنّه يدّعي التواتر في أحاديث التحريف بمختلف معانيه كلاماً ومادة وإعراباً.

ومن المعلوم : إنّ طائفة من الأحاديث جاءت ظاهرة في أنّ المسلمين حرّفوا القرآن من جهة المعنى دون اللفظ ، وحملوا آياته على خلاف مراد الله تعالى ، وإن طائفة اخرى من الأحاديث جاءت ظاهرة في وقوع التحريف في القرآن نتيجة اختلاف القراءات. إلى غير ذلك من

__________________

(١) الأنوار النعمانية ٢ : ٣٥٧.

٧٢

طوائف الأحاديث الراجعة إلى تحريف القرآن ، وتبقى الطائفة الدالّة منها على التحريف بمعنى « نقصان القرآن » وهو موضوع بحثنا ، وقد ذكرنا نحن طائفة من تلك الأحاديث ونبّهنا على ما فيها.

٢ ـ الشيخ المجلسي في كتابه ( مرآة العقول ) فإنّه قال بعد حديث قال إنّه موثق :

« ولا يخفى أنّ هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره. وعندى أنّ الأخبار في هذا الباب متواترة معنىً ، وطرح جميعها يوجب رفع الإعتماد على الأخبار رأساً ، بل ظنّي أنّ الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة ، فكيف يثبتونها بالخبر ».

ويردّه ما ذكره هو في « بحار الأنوار » وقد تقدّم نصّة.

على أنّ قوله : « وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن » غريب ، فإنّ السيد المرتضى قال : « نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته ».

كما أنكر صحتها الطوسي شيخ الطائفة والمحدّث الكاشاني ، بل جاء في العبارة التي نقلناها عن بحاره « إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها ».

ومن قبلهم قال شيخ المحدّثين ما نصّه : « إعتقادنا أنّ القرآن الذين أنزله الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما بين الدفّتين وما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذاك ... ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب ». ولو كانت أحاديث النقيصة صحيحة ومقبولة لما قال الصدوق ذلك كما لا يخفى.

وأما قوله : « وطرح جميعها يوجب رفع الإعتماد على الأخبار

٧٣

رأساً » ففيه : إنّ قبول جميعها أيضاً يوجب رفع الإعتماد على الأحاديث رأساً ، على أنّه رحمة الله قد حكم في أكثر الأحاديث المخرّجة في « الكافي » والمفيدة نقص القرآن إمّا بالضعف وإمّا بالإرسال ، كما تقدّم ذلك كلّه.

ومن العجيب قوله : « بل ظنّي ... » إذ إثبات الإمامية ليس دليلة منحصراً بالأحاديث حتى يقال ذلك ، وكيف أنّ تلك الأحاديث لا تقصر عن أحاديث الإمامة؟ وهل يقصد الكثرة في الورود؟ أو القوة في الدلالة؟ أو الصحة في الأسانيد؟

٣ ـ المحدّث الحر العاملي ، فإنّه قال بعد أن روى حديثين عن تفسير العياشي :

« أقول : هذه الأحاديث وأمثالها دالّة على النصّ على الأئمة عليهم‌السلام وكذا التصريح بأسمائهم ، وقد تواترت الأخبار بأنّ القرآن نقص منه كثير وسقط منه آيات لمّا تكتب ».

ويكفي لدفع دعوى التواتر هذه نصوص العلماء ، وما تقدّم نقله عنه في الفصل الأول.

ولعلّ قوله رحمة الله بعد ذلك : « وبعضهم يحمل تلك الأخبار عن أنّ ما نقص وسقط كان تأويلاً نزل مع التنزيل ، وبعضهم على أنّه وحي لا قرآن » يدلّ على أنّه لا يعتقد بوقوع التحريف في القرآن الشريف.

وكأنّه إنّما يدّعي التواتر في هذه الأحاديث للإحتجاج بها على وجود النصوص العامة على إمامة الأئمة عليهم‌السلام ، ولذا فإنّه قال : « وعلى كلّ حال ، فهو حجّة في النصّ ، وتلك الأخبار متواترة من طريق

٧٤

العامة والخاصة » (١).

والخلاصة : إنّه لا مجال لدعوى التواتر في أحاديث تحريف القرآن بهذا المعنى المتنازع فيه.

الشبهة الثانية : اختلاف مصحف علي عليه‌السلام مع المصحف الموجود

وتفيد طائفة من أحاديث الشيعة أنّ علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجمع القرآن العظيم ، وفي حديث رواه الشيخ بن إبراهيم القمي ـ رحمة الله تعالى ـ في تفسيره : إنّ عمله ذاك كان بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : لا أرتدي حتى أجمعه ، حتى روي أنّه عليه‌السلام لم يرتد رداءه إلاّ للصلاة إلى أن فرغ من هذه المهمّة.

وأضافت تلك الأحاديث ـ ومنها الحديث الثالث من الأحاديث المتقدّمة وحديثان رواهما الشيخ أبو منصور الطبرسي في « الإحتجاج » ـ إنّه عليه‌السلام حمل ذاك المصحف الذي جمعه إلى الناس ، وأخبرهم بأنّه الذي نزل من عندالله سبحانه على النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الناس ردوّه وأعرضوا عنه زاعمين أنّهم في غنىً عنه ، فعند ذلك قال الإمام عليه‌السلام : إنّكم لن تروه بعد اليوم.

والذي يستنتجه الناظر في هذه الأحاديث مخالفة ما جمعه الإمام عليه‌السلام مع القرآن الموجود ، ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ذلك المصحف لما حمله إليهم ، ولما دعاهم إلى تلاوته والأخذ به وجعله

__________________

(١) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات ٣ : ٤٣.

٧٥

القرآن المتّبع لدى جميع المسلمين.

ومن هنا تأتي الشبهة في هذا المصحف الذي بين أيدينا ، إذ لا يشك مسلم في أعلميّة الإمام عليه‌السلام بالكتاب ودرايته بحقائقه وأسراره ودقائقه.

ولكنّ هذه الشبهة تندفع ـ بعد التسليم بصحّة هذه الأخبار ـ بما ذكره جماعة من أنّ القرآن الكريم كان مجموعاً على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكن في عهده مبثوثاً متفرقاً هنا وهناك حتى يحتاج إلى جمع ، ويؤيد ذلك أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الأحاديث هو الخالفة بين المصحفين إجمالاً ، وهي كما يحتمل أن تكون بالزيادة والنقصان في أصل الآيات والسور المنزلة ، كذلك يحتمل أن تكون :

أولاّ : بالإختلاف في الترتيب والتأليف ، كما يدلّ عليه الحديث في ( الإرشاد ) و ( روضة الواعظين ) وذهب إليه جماعة ، فقد قال السيد الطباطبائي : « إنّ جمعه عليه‌السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعية ، إلاّ أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزل نجوماً ، بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

ولو كان كذلك لعارضهم بالإحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد إعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه ، كما روي عنه عليه‌السلام في موارد شتى ، ولم ينقل عنه عليه‌السلام فيما روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك ، وجبّهم على إسقاطها أو تحريفها » (١).

__________________

(١) الميزان ١٢ : ١١٩.

٧٦

وثانياً : بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة الأحاديث القدسيّة ، بأن يكون مصحف الإمام عليه‌السلام مشتملاً عليها ، ومصحفهم خالياً عنها ، كما ذهب إليه شيخ المحدّثين الصدوق حيث قال : « وقد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغة مقدار سبع عشرة ألف آية ، وذلك قول جبرئيل عليه‌السلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تعالى يقول لك : يا محمّد دار خلقي : ومثل قوله : عش ما شئت فإنّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ، وشرف المؤمن صلاته بالليل وعزّه كفّ الأذى عن الناس ».

قال : « ومثل هذا كثير ، كلّه وحي وليس بقرآن ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه ، كما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام جمعه ، فلما جاء به قال : هذا كتاب ربّكم كما أنزل على نبيّكم ، لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف ، قالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول : فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس ما يشترون » (١).

وثالثاً : بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة التأويل والتفسير ، بأن يكون مصحفه عليه‌السلام مشتملاً على تأويل الآيات وتفسيرها ، والمصحف الموجود خال عن ذلك ، كما ذهب إلى ذلك جماعة.

قال الشيخ المفيد : « ولكنّ حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ،

__________________

(١) الاعتقادات : ٩٣.

٧٧

وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله تعالى : ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربّ زدني علماً ) فسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف ، وعندي أنّ هذا القول أشبه » (١).

وقال المحدّث الكاشاني : « ولا يبعد أيضاً أن يقال : إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ، ولم يكن من أجزاء القرآن ، فيكون التبديل من حيث المعنى ، أي : حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله ، أعني : حملوه على خلاف ما هو به ، فمعنى قولهم عليهم‌السلام : ( كذا أنزلت ) أنّ المراد به ذلك ، لا أنّها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها ، فحذف منها ذلك اللفظ.

وممّا يدلّ على هذا ما رواه في ( الكافي ) بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ... الحديث.

وما رواه العامّة : إنّ علياً عليه‌السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ.

ومعلوم أنّ الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان ، ولا يكون جزءاً من القرآن ، فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضاً

__________________

(١) أوائل المقالات في المذاهب المختارات ، وكذا قال في غيره كما سيأتي عن تاريخ القرآن.

٧٨

كذلك » (١).

وإلى ذلك ذهب السيد الخوئي (٢).

وقال الزنجاني : « ويظهر من بعض الروايات إنّ علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام كتب القرآن وقدّم المنسوخ والناسخ. خرّج إبن أشته في المصاحف عن ابن سيرين : إنّ علياً عليه‌السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. وإن ابن سيرين قال : تطلبت ذلك وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. وقال ابن حجر : قد ورد عن علي عليه‌السلام أنّه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرّجه ابن أبي داود.

وفي شرح الكافي عن كتاب سليم بن قيس الهلالي : إنّ علياً عليه‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه فلم يخرج من بيته حتى جمعه كلّه ، وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.

ذكر الشيخ الإمام محمد بن محمد بن النعمان المفيد في كتاب الإرشاد والرسالة السروية : إنّ علياً قدّم في مصحفه المنسوخ على الناسخ ، وكتب في تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل.

يقول الشهرستاني في مقدّمة تفسيره : كان الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ متفقين على إنّ علم القرآن مخصوص لأهل البيت عليهم‌السلام إذا كانوا يسألون علي بن أبي طالب هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على

__________________

(١) الصافي ١ : ٤٦ ، علم اليقين : ١٣٠.

(٢) البيان : ١٩٧.

٧٩

إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه وتنزيله وتأويله مخصوص بهم » (١).

وقال بعض الأعلام من أهل السنّة : إنّ قرآن على كان يشتمل على علم كثير (٢).

بل عن الإمام عليه‌السلام نفسه أنّه قال للزنديق : انّه أحضر الكتاب كملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه حرف » (٣).

ويؤيّده : ما اشتهر من أن الذي جاءهم به كان مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش (٤).

الشبهة الثالثة : القرآن في عهد الإمام المهدي عليه‌السلام.

ومن الأحاديث المتقدّمة وغيرها ما يفيد : أنّ القرآن الكريم على عهد الإمام الحجّة المهديّ المنتظر السّلام يختلف عما هو عليه الآن ، وهذا يفضي ـ بلا ريب ـ إلى الشك في هذا القرآن الموجود.

ولكنّ هذه الشبهة أيضاً مندفعة ، لعلمنا بضعف تلك الأحاديث ، ومخالفتها للكتاب والسنّة والإجماع.

على أنّ المستفاد من هذه الأحاديث إختلاف قراءة أهل البيت عليهم‌السلام مع القراءات المشهورة ، إلاّ إنّهم كانوا يمنعون عن تلك القراءة ، ويأمرون شيعتهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس حتى يظهر

__________________

(١) تاريخ القرآن : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ٣.

(٣) الصافي ١ : ٤٢.

(٤) بحر الفوائد ٩٩ عن شرح الوافية.

٨٠