المعاد يوم القيامة

علي موسى الكعبي

المعاد يوم القيامة

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-362-4
الصفحات: ١٥٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

عبارة عن قطع العلاقة بين الروح والبدن ، وأنها بعد ذلك تذهب إلى خالقها . فهو تعالى يقبض النفس عند موت الجسد وعند منامه ، فتبقى التي قضى عليها الموت عند بارئها إلى يوم القيامة ، ويردّ الاُخرى إلى الجسد حتى يحين أمدها المعيّن .

وقيل : إن النَّفْس التي تتوفّى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، وإذا زالت لا يزول معها النَّفَس ، والتي تتوفّى عند الموت هي نَفْس الحياة التي إذا زالت زال معها النَّفَس ، فقبض النوم يضادّ اليقظة وتكون الروح معه ، وقبض الموت يضادّ الحياة وتخرج الروح معه من البدن (١) .

فالإنسان حينما يموت على وفق المنطق القرآني ، فإن ما يقوّم ملاك شخصيته الحقيقية يظلّ باقياً ، وهو الروح ، التي تعدّ حقيقة إرادية واعية فيما يضمحل البدن ويتلاشى (٢) .

وما تشتمل عليه هذه الآية من الأخذ والإمساك والإرسال ظاهرٌ في المغايرة بين النفس والبدن (٣) ، لأنّ تلك الخواص قد تفرّدت بها الروح دون الجسد ، فإذا كانت حقيقة الإنسان مادية فلا معنى للأخذ والارسال والامساك .

٥ ـ قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (٤) ،

__________________________

١) مجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٧٨١ .

٢) الكاشف / مغنية ٦ : ٤١٩ ـ دار العلم للملايين ـ بيروت .

٣) الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٥١ .

٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٥ .

٦١
 &

والأمر هو ( كن ) المشار إليه في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) يعنى أن الأمر ومنه الروح دفعيّ الوجود غير تدريجيه ، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان ، ومن هنا يتبين أن الأمر ومنه الروح شيء غير جسماني ولا مادي ، لأن الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود مقيدة بالزمان والمكان ، فالروح ليست بمادية جسمانية (٢) .

ثانياً : أدلة السّنة ، وهي كثيرة ، نذكر منها :

١ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من صلّى عليّ عند قبري سمعته ، ومن صلى عليَّ من بعيد بُلّغته » . وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من صلّى عليَّ مرة صليت عليه عشراً ، ومن صلّى عليَّ عشراً صلّيت عليه مائة ، فليكثر امرؤ منكم الصلاة عليَّ أو فليقلّ » . فبيّن أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه ، ولا يكون كذلك إلّا وهو حي عند الله تعالى ، وكذلك أئمة الهدى عليهم‌السلام يسمعون سلام المسلّم عليهم من قرب ، ويبلغهم سلامه من بعد ، وبذلك جاءت الأخبار الصادقة عنهم عليهم‌السلام (٣) .

٢ ـ روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه وقف على قليب بدر ، فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذٍ وقد اُلقوا في القليب : « لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ، اخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ » فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________________

١) سورة يس : ٣٦ / ٨٢ .

٢) تفسير الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ .

٣) تصحيح الاعتقاد / المفيد : ٩١ ـ ٩٢ ـ مؤتمر الشيخ المفيد .

٦٢
 &

ما خطابك لهامٍ قد صديت ؟ ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فوالله ما أنتم بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلّا أن أُعرض بوجهي هكذا عنهم » (١) .

وفي رواية : « ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوني » (٢) .

٣ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة طويلة : « حتى إذا حمل الميت على نعشه ، رفرف روحه فوق النعش ويقول : يا أهلي ويا ولدي ، لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال من حلّه وغير حلّه ، فالغنى لغيري والتبعة عليَّ ، فاحذروا مثل ما حلّ بي » (٣) .

٤ ـ وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه ركب بعد انفصال الأمر من حرب البصرة ، فصار يتخلّل الصفوف حتى مرّ على كعب بن سورة . . . وهو صريع بين القتلى ، فقال : « اجلسوا كعب بن سورة » فاُجلس بين نفسين ، وقال له : « يا كعب بن سورة ، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ؟ » ثم قال : « أضجعوا كعباً » وفعل مثل ذلك بطلحة بن عبد الله ، فقال له رجل من أصحابه : يا أمير المؤمنين ، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك ؟ ! فقال عليه‌السلام : « مه يا رجل ، فوالله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٤) .

__________________________

١) تصحيح الاعتقاد / المفيد : ٩٢ .

٢) السيرة النبوية / ابن هشام ٢ : ٢٩٢ ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر .

٣) تفسير الرازي ٢١ : ٤١ .

٤) تصحيح الاعتقاد / المفيد : ٩٣ .

٦٣
 &

٥ ـ وعن حبّه العرني ، قال : خرجت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الظهر ، فوقف بوادي السلام ، كأنّه مخاطبٌ لأقوامٍ . . . فقلت : يا أمير المؤمنين ، إني قد أشفقت عليك من طول القيام ، فراحة ساعة . . . ! فقال لي : « يا حبّة ، إن هو إلّا محادثة مؤمن أو مؤانسته » قلت : يا أمير المؤمنين ، وإنهم لكذلك ؟ ! قال : « نعم ، ولو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون . . . » (١) .

٦ ـ وعن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أرواح المؤمنين ، فقال : « في حجرات في الجنة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون : ربنا أقم الساعة لنا ، وأنجز لنا ما وعدتنا ، وألحق آخرنا بأولنا » (٢) .

٧ ـ وعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن أرواح المشركين ، فقال : « في النار يعذّبون ، يقولون : ربنا لا تقم لنا الساعة ، ولا تنجز لنا ما وعدتنا ، ولا تلحق آخرنا بأولنا » (٣) .

ثالثاً : الأدلة العقلية

استدلّ القائلون بتجرد النفس عن صفات المادة بعدّة أدلة عقلية نذكر منها :

١ ـ بديهي أن معلومات الانسان مجردة عن المواد ، فالعلم المتعلق بها

__________________________

١) الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٣ / ١ .

٢) الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٤ / ٤ .

٣) الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٥ / ١ .

٦٤
 &

يكون لا محالة مطابقاً لها ، فيكون مجرداً لتجردها ، فمحله ـ وهو النفس ـ يجب أن يكون كذلك ، لاستحالة حلول المجرد في المادي .

٢ ـ الماديات قابلة للقسمة ، وعارض النفس ـ وهو العلم ـ غير منقسم ، فمحلّه ـ وهو النفس ـ لا بد أن يكون كذلك ، ثمّ إن محلّ العلوم الكلية لو كان جسماً أو جسمانياً لانقسمت تلك العلوم ، لأن الحالّ في المنقسم منقسم ، وانقسام العلوم والمفاهيم الذهنية مستحيل .

٣ ـ إن النفوس البشرية تقوى على أفعال وإدراكات لا تتناهى ، كتعقّل الأعداد غير المتناهية ، والقوة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى ، فهي إذن غيرها .

٤ ـ لو كان وعاء العلم هو الدماغ أو غيره من آلات التعقّل ، لكانت كلّ معلومةٍ تضاف إليه تشغل حيزاً منه ، ولأصبحت القابلية العلمية للانسان متناهية ؛ لأن قابلية المادة على استيعاب المعلومات محدودة كالصحيفة التي تمتلئ بالكتابة ، أو القرص الذي يمتلئ بالصوت أو الصورة ، وذلك يعني أن الانسان لو سمح له عمره أن يستوفي كل وعائه العلمي ، فسيصل إلى مرحلة يفقد فيها استعداده للتعلم ، وذلك محال .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كل وعاء يضيق بما جُعل فيه ، إلّا وعاء العلم فإنه يتّسع به » (١) فسعة وعاء العلم بمقدار العلم ذاته ، فوعاؤه إذن غير مادي .

٥ ـ العلم البديهي حاصله أن في ذات الانسان حقيقة ثابتة يشعر بها

__________________________

١) نهج البلاغة / تحقيق صبحي الصالح : ٥٠٥ / الحكمة ( ٢٠٥ ) .

٦٥
 &

على طول العمر وحتى بعد النشور ، ويعبّر عنها بالأنا ، فلو كان الانسان هو هذا البدن المحسوس لأصبح عرضةً للتبدّل والتغيّر ، ولاُسدل الستار على جميع معلوماته وأفكاره ، ولكان شعوره بالأنا أمراً باطلاً وإحساساً خاطئاً ، لأنّ أجزاء البدن متبدّلة متغيّرة ، ففي كلّ يوم تموت ملايين الخلايا وتحلّ محلّها خلايا جديدة ، وقد حسب العلماء معدل هذا التجدّد ، فظهر أنه يحصل بصورة شاملة في البدن مرة كلّ عشر سنين ، أما بعد الموت فإن البدن يضمحلّ ويتلاشى ، والمتبدّل غير الثابت الباقي ، وعليه فإن ملاك وحدة شخصية الانسان والاساس في ثبات أفكاره ومعلوماته رغم حصول التغير في البناء الجسمي هو الروح .

٦ ـ إن القوى الجسمانية تضعف وتكلّ مع توارد الأفعال عليها ، فإنّ من نظر إلى قرص الشمس طويلاً لا يكاد يدرك في الحال غيره إدراكاً تاماً ، أما القوى النفسانية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال ، بل عند كثرة التعقلات تقوى وتزداد نشاطاً ، فالحاصل لها عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوى الجسمانية عند كثرة الأفعال ، فوجب أن لا تكون جسمانية .

٧ ـ حصول الأضداد في القوى النفسانية وعدم حصولها في القوى الجسمانية ، فإذا حكمنا بأنّ السواد مضادّ للبياض ، وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض ، والبداهة حاكمة بأن اجتماع الأضداد في الأجسام محال ، فلمّا حصل اجتماعها في القوى النفسانية وجب أن لا تكون جسمانية .

٨ ـ إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها صور ونقوش مخصوصة ، فإن

٦٦
 &

وجود تلك الصور يمنع من حصول غيرها إلّا بعد إزالة الاُولى ، بينما يستوعب التعقّل والتصوّر الذهني الصور المتعاقبة التي يستطيع الإنسان أن يستحضرها أو يتخيلها في لحظة ما بمقدار وجودها الخارجي دون حاجة إلى التدرّج أو مرور الزمان ودون أن يمتلئ المحلّ بها ، فلا بد أن يكون محلها غير ماديّ ولا متحيّز .

رابعاً : أدلة علمية تجريبية

توصّل علماء الغرب إلى نتائج باهرة على صعيد إثبات عالم الروح وصحة خلودها وتجردها عن صفات المادة ، ليس على أساس فلسفي يقوم على النظر والاستدلال ، بل على أساس علمي تجريبي لا يتطرق إليه أدنى شكّ ، فنُسِفت على أيديهم صروح المذهب المادي ، وطُعِن طعنة نجلاء لا يرجى له بعدها شفاء ، وذلك من خلال علمي استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي اللذين فتحا إلى عالم الروح آفاقاً جديدة ، غيّرت الكثير من العلماء الماديين الجاحدين لعالم الروح إلى مؤمنين بعالم الغيب موقنين بخلود النفس .

وكلا العلمين المتقدمين كان معروفاً منذ القدم ، فقد كان يعرفه المصريون القدماء والآشوريون والهنود والرومان وغيرهم ، ولكنه كان لا يتعدّى المعابد ولا يشتغل به إلّا رجال الدين ، وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي شاع هذان العلمان في أمريكا واُوربا ، وانتشرا على نطاق واسع في أنحاء المعمورة ، وأصبحا من العلوم المعترف بها عند أساتذة الجامعات وأساطين الدراسات العالية ، وأضفوا عليهما روحاً علمية جديدة ، وفي ما يلي نذكر طرفاً من الجهود العلمية في كلا العلمين .

٦٧
 &

أولاً : استحضار الأرواح : وهو العلم الذي يتمّ بواسطته الارتباط بالموتى عن طريق استحضار أرواحهم من عالمها ، فتظهر أمام المستحضر وتُحدّثه وتُثبت له بكلّ وضوح أنها روح فلان ، وتجيب على أكثر الأسئلة التي توجه إليها بعقلٍ وحكمة إلى الحدّ الذي استعان بعض العلماء بالأرواح في حلّ ما يجهلونه من مسائل معقدة ، كما تجيب الروح عندما تُسأل عن حالها ومصيرها بعد الموت وما هي فيه من نعيم أو جحيم .

وأثارت هذه الظاهرة دهشة كثير من علماء الطبيعة والطب والفلاسفة وغيرهم من كافة أرجاء المعمورة ، فتواصلت دراساتهم العلمية متلاحقةً ، وأوقفتهم على قضايا مثيرة للانتباه فيما يتعلق بعالم الروح وبقائها وحضورها بعد الموت عن طريق التحقيقات العلمية القائمة على البحث والتجربة والدراسات المستفيضة ، فأقروا هذا العلم ، واعترفوا بخوارق مشاهداته بعد أن قام لهم الدليل الذي لا يتطرق إليه الشك والبرهان الذي يستحيل دحضه ، وقد ذكر وجدي في ( دائرة المعارف ) جدولاً بأسماء مشاهير اُولئك العلماء (١) .

كما اُخضعت تلك الدراسات للرقابة العلمية حيث تأسست جمعية في بريطانيا وأمريكا برئاسة الاستاذ هيزلوب عن أمريكا ، والدكتور هودسن عن بريطانيا ، واستمرت تلك الجمعية بالفحص والبحث نحواً من اثني عشر عاماً ، ثمّ أعلنت سنة ١٨٩٩ م أنّها قد اقتنعت بصحة تلك التحقيقات وبكون نتائجها هي من فعل أرواح الموتىٰ .

وتفرّغ كثير من العلماء الماديين من مختلف بلدان العالم للبحث في هذا

__________________________

١) دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٧٧ ـ ٣٧٨ .

٦٨
 &

المضمار ، فاستنتجوا من مجموع التجارب التي أجروها أن للانسان قوة روحية مجردة عن صفات المادة ، ولا تفنى بموت الجسد ، تستطيع التحرك بنشاط وحيوية دون حاجة إلى الجسم الترابي ، فاعتقدوا بخلود الروح بعد أن كانوا جاحدين لها ، ومن هؤلاء : آلفرد روسل دلاس ، والاستاذ كروكس رئيس الجمعية العلمية الملكية البريطانية ، والسير أوليفر لودج عالم الطبيعة ورئيس جامعة برمنجهام ، والدكتور البريطاني جورج سكستون ، والدكتور شامبير ، والدكتور جيمس جللي ، والاستاذ الأمريكي هيزلوب ، والاستاذ البريطاني هودسن ، والفلكي المشهور كاميل فلامريون (١) ، والفيلسوف البريطاني سيرجون كوكس ، والاستاذ الجيولوجي باركس ، وغيرهم كثير ، ولا تزال جهود العلماء تتواصل إلى اليوم لتسجل الحقائق تلو الحقائق عن عالم الروح .

ثانياً : التنويم المغناطيسي : وهو تنويم صناعي يحدثه المتخصّصون بهذا العلم ، فيغطّ المُنوَّم في نوم عميق تتوقّف فيه أعضاؤه عن الحركة والاحساس ، ولا يسمع إلّا صوت مُنوّمه ، ويستسلم لإرادته متأثّراً بأفكاره ، مطيعاً لأوامره دون تردّد ، وتظهر منه نتيجة ذلك خوارق تُثبت أن له روحاً متميزة عن البدن ، فقد تنتقل روحه إلىٰ مناطق بعيدة عن موضع النائم ، وتكشف أسراراً لا يعرفها وهو في حال اليقظة ، وقد يتكلم بلغات لا يتقنها ، ويخبر عن أشياء ليس له أدنى إطلاع بها .

__________________________

١) له كتاب ( المجهول والمسائل الروحية ) توصل فيه إلى عدة نظريات ، منها :

١ ـ الروح موجودة وجود كائن مستقل عن الجسم .

٢ ـ هي متمتعة بخصائص لم تزل إلى الآن مجهولة لدى العلم .

٣ ـ يمكن للروح أن تؤثر أو تتأثر دون مساعدة الحواس وغيرها .

٦٩
 &

وتوجه جملة من أقطاب الفلسفة إلى دراسة النوم مستنيرين بمشكاة العلوم النفسية الحديثة ، فسجّلوا حوادث روحية مدهشة وظواهر عجيبة توصلوا من خلالها إلى نتائج باهرة ، ومن هؤلاء الاستاذ البريطاني ميارس المدرس في جامعة كمبردج ، وصاحب كتاب ( الشخصية الإنسانية ) الذي ذكر فيه عدة مشاهد وتجارب من عالم التنويم المغناطيسي ، واعتبرها من المسائل التجريبية التي لا يمكن تعليلها بعلم وظائف الأعضاء ، بل هي تثبت أنّ الانسان مع تركّبه من جسم مادي يشتمل على سرٍّ روحي يستمدّ وجوده من العالم الروحاني ومن العالم الأرضي ، وتلك هي حقيقة الانسان الكريمة ، على حدّ تعبيره .

وخطا هذا العلم خطوات واسعة في مجال عالم الروح الرحب على أيدي نخبة من العلماء الذين تخصصوا به وحققوا نتائج علمية فائقة تقوم على أساس البحث والتحقيق ، ومنهم العالم البريطاني جيمس برايد ، ونولز ، وشاركو ، وفيليب كارث وغيرهم (١) .

ومن مجموع الأدلة التي قدمناها تبين أن شخصية الانسان التي يشار إليها بالأنا ليست بجسم ولا أجزاء من هذا الجسم ، لأن هذه الشخصية تتصف بالعلم والادراك ، ولا تتبدل بتبدّل الجسم والأعضاء ، ولا تخضع لقوانين الزمان والمكان خضوع الجسم لها ، وتتميز بخصائص اُخرى ليست

__________________________

١) راجع : اُصول العقائد في الإسلام / اللاري ٤ : ٨٩ و ٩٢ ـ ٩٤ ـ الدار الإسلامية ـ بيروت ، الحياة بعد الموت / رضا المطوّف السماوي : ٢٩٧ ـ ٣١٥ ـ دار الزهراء ـ بيروت ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٦٥ ـ ٤٠٠ و ١٠ : ٤٠٠ ـ ٤٠٩ .

٧٠
 &

من خصائص الجسم والمادة في شيء على ما بيناه .

أما علاقة الجسم والأعضاء بهذه الروح فهي علاقة أدوات وآلات لظهور حركتها وإبراز آثارها وأفعالها ، مع أنعكاس أثر كل منهما على الآخر ، فالخوف والرهبة والسرور والابتهاج تنعكس آثارها على أعضاء الجسم من حيث التقلص وتغيّر اللون وغيرهما ، كما أن ضعف الأدوات أو تلفها يؤثر على النشاط الفكري والعقلي ، وتستمر العلاقة بين الروح وأدواتها المادية في يوم النشور حيث تعاد الروح إلى البدن ، وتكون الجوارح شاهدة على فعل الروح ، كما دلّ عليه صريح القرآن الكريم في عدة آيات ، منها قوله تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) .

على أنه لا يمكن الجزم في الأساس الذي تقوم عليه العلاقة المتبادلة بين الروح والجسد ، فهل تقوم على أساس الامتزاج بينهما ، أو على أنهما شيء واحد ، أو على أساس استقلال كل منهما عن الآخر بصورة موضوعية ؟ إنه من أمر ربي وهو العالم بجلية الحال .

المبحث الثاني : حقيقة المعاد

اتفق المسلمون على حقية المعاد وثبوت النشأة الآخرة ، وشاطرهم المحققون من الفلاسفة الرأي في ذلك ، ولكن اختلفوا في كيفية المعاد على قولين :

__________________________

١) سورة النور : ٢٤ / ٢٤ .

٧١
 &

الأوّل ـ المعاد جسماني

ويعني أن الله سبحانه يحشر الناس يوم القيامة بهذا البدن المشهود بعد رجوعه إلى هيئته الاُولى ، والمعاد بهذا المعنى أصل عظيم من اُصول الدين ، وضرورياته الواجبة الاعتقاد ، وأركانه الثابتة ، وجاحده كافر بالاجماع ، والدليل على ثبوته أنه ممكن ، والصادق أخبر بثبوته ، فوجب الجزم به والمصير إليه .

أما إمكانه فقد تقدّم بحثه في الفصل السابق ، وأما الإخبار بالثبوت فضروري من دين الأنبياء عليهم‌السلام ، كما أنّه معلومٌ بالضرورة في دين نبينا الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد نصّ عليه القرآن الكريم وأنكر على جاحديه في آيات صريحة كثيرة في ألفاظها واضحة في معانيها ، مؤكدة أن المعاد إنما يكون حينما يخرج الناس من أجداثهم مسرعين إلى الحساب ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) (١) من خير وشرّ ، كما أنه ثبت بالتواتر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته المعصومين عليهم‌السلام قد نصّوا على ثبوت المعاد الجسماني وقالوا به في أحاديث صريحة بهذا المعنى ، فمن الآيات :

١ ـ قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) (٢) .

٢ ـ قوله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ

__________________________

١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٨ و ٥١ .

٢) سورة القيامة : ٧٥ / ٣ ـ ٤ .

٧٢
 &

وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (١) .

٣ ـ الآيات الدالة على إخراج الأموات من القبور ، كقوله تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ) (٣) .

٤ ـ الآيات الدالة على أن الإنسان يحضر إلى الحساب بكامل جوارحه ، وتكون ضمن الشهود على أعماله ، كقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٤) ، وقوله تعالى : ( حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٥) .

٥ ـ الآيات التي قدّمت أمثلة عينية على المعاد البدني (٦) ، كما في بيان قصة إحياء العزير ، وقتيل بني إسرائيل ، وأصحاب الكهف ، وإحياء الطيور لإبراهيم عليه‌السلام ، وقد ذكرناها في أدلّة المعاد .

__________________________

١) سورة يس : ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩ .

٢) سورة يس : ٣٦ / ٥١ ـ ٥٤ .

٣) سورة طه : ٢٠ / ٥٥ .

٤) سورة يس : ٣٦ / ٦٥ .

٥) سورة فصلت : ٤١ / ٢٠ .

٦) سورة البقرة : ٢ / ٧٣ و ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، سورة الكهف : ١٨ / ٢١ ـ ٢٥ .

٧٣
 &

٦ ـ الآيات الدالة على لذّات الجنة التي لا تدرك إلّا بآلة جسمانية ، والآلام التي تقع على بعض أجزاء الجسم المعذّب في نار جهنم ، قال تعالى في وصف أهل الجنة : ( عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) (١) وقال تعالى في وصف أهل النار : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (٢) .

أما الأحاديث فكثيرة ، منها قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الغرّاء : « حتى إذا تصرّمت الاُمور ، وتقضّت الدهور ، وأزف النشور ، أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعاً إلى أمره ، مهطعين إلى معاده ، رعيلاً صموتاً ، قياماً صفوفاً . . . » (٣) .

ومنها ما رواه علي بن إبراهيم والشيخ الصدوق في الصحيح عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : « إذا أراد الله أن يبعث الخلق ، أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً ، فاجتمعت الأوصال ، ونبتت اللحوم » (٤) .

__________________________

١) سورة الواقعة : ٥٦ / ١٥ ـ ٢٣ .

٢) سورة النساء : ٤ / ٥٦ .

٣) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ١٠٨ ـ الخطبة ( ٨٣ ) .

٤) الأمالي / الصدوق : ٢٤٣ / ٢٥٨ ـ مؤسسة البعثة ـ قم ، حق اليقين / عبد الله شبر ٢ : ٥٤ ، بحار الأنوار / المجلسي ٧ : ٣٣ / ١ عن الأمالي و ٧ : ٣٩ / ٨ عن تفسير علي بن إبراهيم .

٧٤
 &

حقيقة المعاد الجسماني

القائلون بالمعاد الجسماني هم عامة أهل الإسلام من الفقهاء والمتكلمين وأهل الحديث والعرفان ، وقد اتفقت كلمتهم على إعادة الإنسان ببدنه يوم القيامة كما أخبر عنه الله تعالى في كتابه ، لكنهم اختلفوا في حقيقة الروح ، فمنهم من يرى أن الروح هي جسم سارٍ في البدن ، سريان النار في الفحم ، والماء في الورد ، وعليه فيكون المعاد عندهم بالنسبة للبدن والروح جسمانياً ، ولا يعني ذلك قولهم بعودة الأجسام ميتةً لا روح فيها ، بل تعود حية عاقلة ، وإنما الروح عندهم معدودة في عداد الأجسام .

أما الذين قالوا بتجرّد الروح عن البدن ، فالمعاد عندهم سيكون للأجسام وللأرواح ، وذلك بعودة الروح إلى البدن عند البعث . والقائلون بهذا هم كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين ، كالغزالي ، والكعبي ، والحليمي ، والراغب الأصفهاني ، وكثير من أصحابنا الإمامية ، كالشيخ المفيد ، وأبي جعفر الطوسي ، والسيد المرتضى ، والمحقق الطوسي ، والعلامة الحلي ( رضوان الله عليهم أجمعين ) ذهاباً إلى أن النفس المجردة تعود إلى البدن في يوم القيامة (١) .

وقد استفاض النقل بأن الروح جوهر لطيف نوراني مغاير للبدن ، وأنّها تبقى بعد خرابه مبتهجة مسرورة حيّة مرزوقة ، أو بالعكس (٢) ، وقد تقدّم ذكر الكثير منها في المبحث الأول ، ونكتفي هنا بذكر الحديث الآتي

__________________________

١) الأسفار / صدر المتألهين ٩ : ١٦٥ ، المبدأ والمعاد / صدر المتألهين : ٣٧٥ .

٢) حق اليقين / عبد الله شبر ٢ : ٣٨ ـ ٣٩ .

٧٥
 &

عن الامام الصادق عليه‌السلام ، والذي يستوعب حقيقة المعاد بأكملها : سأل زنديق الامام الصادق عليه‌السلام مستنكراً البعث : وأنّى له بالبعث والبدن قد بلى ، والأعضاء قد تفرقت ، فعضو ببلدة يأكلها سباعها ، وعضو باُخرى تمزّقه هوامها ، وعضو صار تراباً بني مع الطين حائط ؟

فقال عليه‌السلام : « إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفُسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير تراباً كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها . . . فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ، ثمّ تُمخَضوا مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غُسِل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مُخِض ، فيجتمع تراب كلّ قالب إلى قالبه ، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً » (١) .

الثاني ـ المعاد روحاني

ذهب جمهور الفلاسفة إلى أنّ المعاد روحاني ؛ لأنّهم لم يتمكّنوا من تعقّل عودة الأبدان على معاييرهم الفلسفية ، فقالوا : إنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه ، لقطع تعلّق النفس به ، فلا يعاد بشخصه تارة اُخرى ، إذ المعدوم لا يعاد ، والنفس جوهر باقٍ لا سبيل للفناء

__________________________

١) الاحتجاج / الطبرسي : ٣٥٠ .

٧٦
 &

إليه (١) ، وعليه جعلوا المعاد وما يتعلّق به من شأن الروح وحدها التي لا يعتريها الفناء .

وهذا القول لا تساعده ظواهر آيات القرآن الكريم وصحيح سنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالّة على إعادة الإنسان ببدنه يوم القيامة ، والقائلون بالروحاني من بعض فلاسفة المسلمين ، اعتبروا الثواب والعقاب هو التذاذ النفس أو تألمها باللذات أو الآلام العقلية أو الروحية بعد مفارقتها البدن ، وحاولوا تأويل ظواهر الأدلّة الشرعية حتىٰ تنطبق على أسسهم العقلية ، فتكلّفوا في تأويل الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على النعيم والعذاب الحسّيين اللذين يتعرض لهما الإنسان في الجنة والنار ، حيث اعتبروهما من باب التمثيل الحسّي للنعيم والعذاب الروحاني أو العقلي ، تقريباً لأذهان عامة الناس الذين تستهويهم الاُمور الحسيّة دون المعاني العقلية ، ليكون ذلك باعثاً لهم على الانقياد والطاعة .

وقد اشتهر عن الشيخ الرئيس ابن سينا أنه ينكر المعاد الجسماني ويقول بالمعاد الروحاني (٢) حتى أن الغزالي كفّر ابن سينا وبعض الفلاسفة في ( تهافت الفلاسفة ) لانكارهم المعاد الجسماني (٣) .

والحق أنه لم يتعرّض ابن سينا في كتبه المعروفة لإنكار البعث الجسماني صراحة ، بل نجده في ( الشفاء ) وهو أكبر كتبه ، يعترف بالبعث الجسماني

__________________________

١) الأسفار / صدر المتألهين ٩ : ١٦٥ ، شرح المواقف / الجرجاني ٨ : ٢٩٨ ـ ٣٠٠ .

٢) راجع : الأضحوية في المعاد / ابن سينا : ١٢٦ ـ المؤسسة الجامعية ـ بيروت .

٣) تهافت الفلاسفة / الغزالي : ٢٣٥ ـ ٢٥٣ ـ بيروت ـ ١٩٣٧ .

٧٧
 &

ويرى أنه حق لا ريب فيه .

قال المحقق الدواني في شرحه على ( العقائد العضدية ) : إن الرئيس أبا علي مع إنكاره للمعاد الجسماني على ما هو بسطه في كتاب ( المعاد ) وبالغ فيه ، وأقام الدليل بزعمه على نفيه ، قال في كتاب ( النجاة والشفاء ) : يجب أن يُعلم أن المعاد منه ما هو منقول من الشرع ، ولا سبيل إلى إثباته إلّا من طرق الشريعة وتصديق خبر النبوة ، وهو الذي للبدن عند البعث ، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تُعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها نبينا وسيدنا ومولانا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ، ومنه ما هو مُدرك بالعقل والقياس البرهاني ، وقد صدّقته النبوة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس ، وإن كانت الأوهام هاهنا تقصر عن تصوّرهما الآن (١) .

وقد أثبت الأستاذ فتح الله خليفة في دراسته لمذهب ابن سينا في النفس أنه يقول بجسمانية المعاد بما لا يقبل الشكّ والترديد (٢) .

كما توهّم البعض أن الغزالي يُنكر حشر الأجساد ، والحق بخلاف ذلك ، فقد قال شارح المقاصد : قد بالغ الإمام الغزالي في تحقيق المعاد الروحاني وبيان أنواع الثواب والعقاب بالنسبة إلى الروح حتى سبق إلى كثير من الأوهام ووقع في ألسنة بعض العوام أنه يُنكر حشر الأجساد افتراءً عليه ، كيف وقد صرّح به في مواضع من كتاب ( الإحياء ) وغيره ، وذهب إلى أن إنكاره كفرٌ ؟ وإنما لم يشرحه في كتبه كثير شرحٍ لما قال : إنه

__________________________

١) الشفاء ـ الإلهيات / ابن سينا : ٤٢٣ ـ القاهرة ، بحار الأنوار / المجلسي ٧ : ٥٠ .

٢) ابن سينا ومذهبه في النفس / فتح الله خليفة : ١١٧ ـ بيروت ـ ١٩٧٤ .

٧٨
 &

ظاهر لا يحتاج إلى زيادة بيان (١) .

إنكار المعاد الجسماني

لقد عانى الأنبياء والمرسلون عليهم‌السلام من إنكار أقوامهم لعقيدة المعاد ، وتحمّلوا في هذا السبيل مصاعب جمّة وافتراءات باطلة ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) (٢) هذا مع أن المعاد من أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي والعقل حتى وصفه تعالى في مواضع من كتابه ( لَا رَيْبَ فِيهِ ) وما إحياء الطيور لإبراهيم عليه‌السلام وإحياء قتيل بني إسرائيل والعزير وأصحاب الكهف وغيرها إلّا أمثلة حية قدمتها يد القدرة الإلهية في فترات متفاوتة لترسيخ عقيدة المعاد في أذهان الناس ، وهي تدلّ على شدّة نكيرهم لهذه العقيدة الحقّة .

وإنكار المعاد عند اُولئك الأقوام لا يقوم على شيءٍ من الدليل المطابق للواقع أو المؤيد بالبرهان ، بل يقوم على أساس الظنّ الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً ، قال تعالى : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) (٣) ويقوم على أساس الاستبعاد الذي لا يعدّ شبهة وفق الموازين العلمية ، بل هو دليل على العجز عن فهم الحجة وتأمّل البرهان للوصول إلى الحق ، والارتقاء

__________________________

١) بحار الأنوار / المجلسي ٧ : ٥٢ .

٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٧ ـ ٨ .

٣) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٤ .

٧٩
 &

إلى ما عند الله سبحانه من النعيم المقيم والملك العظيم .

والباعث الأساس لانكار المعاد هو قصور الانسان في المقاصد الدنيوية والغايات المادية وعبادة الشهوات ، مما يدفعه إلى التحرر من قيود التقوى ، وعبور حواجز الإيمان التي تفرضها عليه عقيدة المعاد ، والانطلاق باتجاه عالم الجريمة والفساد والفجور ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (١) .

ولهذا نجد أن المستكبرين الذين ملأوا الدنيا فساداً وجوراً ، والمترفين الذين عبدوا شهواتهم وأهواءهم ، قد بالغوا في إنكار المعاد وتأكيد استبعاد حصوله علواً واستكباراً ، ومن هؤلاء قوم هود عليه‌السلام قال تعالى : ( قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) (٢) . وأكّد تعالى على استكبارهم عن الخضوع للحقّ والانصياع لنور الحجة وإشراقة البرهان في قوله تعالى : ( فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) (٣) .

وأنكر الجاهليون المعاصرون للرسالة الخاتمة المعاد بناءً على نفس

__________________________

١) سورة القيامة : ٧٥ / ٥ ـ ٦ .

٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٣٣ ـ ٣٨ .

٣) سورة النحل : ١٦ / ٢٢ .

٨٠