المعاد يوم القيامة

علي موسى الكعبي

المعاد يوم القيامة

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-362-4
الصفحات: ١٥٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ويسحبون على وجوههم إلى النار وقد خبت حواسّهم ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ) (١) .

٥ ـ المحكمة الإلهية : قال تعالى : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) (٢) تلك هي المحكمة الإلهية التي لا تشبه محاكم الدنيا في شيء ، لأنّ قاضيها يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وشهودها الأنبياء والمرسلون ، وأعضاء المتهم ، وأعماله التي تتجسّد أمامه ، وصحائف الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصتها ، فأنّى للمتّهم الإنكار والأعمال محضرة ، والصحف منشورة ، والشهود قائمة ، والجوارح ناطقة ؟ !

وفيما يلي نذكر بعض ما يتعلق بفصل القضاء في تلك المحكمة من السؤال والحساب والشهود ، وهي كما يلي :

أولاً : السؤال : وهو واقع على جميع الخلق لقوله تعالى : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) وقوله تعالى : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٤) يعني عن الدين ، وأمّا الذنب فلا يُسأل عنه إلّا من يُحاسب ، وكل محاسب فهو معذّب ولو بطول الوقوف (٥) .

__________________________

١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧ .

٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٩ ـ ٧٠ .

٣) سورة الحجر : ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣ .

٤) سورة الأعراف : ٧ / ٦ .

٥) الاعتقادات / الصدوق : ٧٤ .

١٢١
 &

وتُسأل الأعضاء والجوارح ، لما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) (١) أنه قال : « يُسأل السمع عما سمع ، والبصر عما يطرف ، والفؤاد عما يعقد عليه » (٢) .

والسؤال يستغرق كلّ وجود الانسان وكيانه واعتقاده ، لما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله مما اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت » (٣) .

والمراد بأهل البيت الذين يُسأل الناس عن محبّتهم ، هم المنصوص على عصمتهم في قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٤) والذين باهَلَ بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصارى نجران استناداً إلى قوله تعالى : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٥) وهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام والتسعة المعصومون من ذريته دون غيرهم من الخلق .

وإنّما يُسأل عن محبّة أهل البيت عليهم‌السلام لأنّ الله سبحانه فرض مودتهم

__________________________

١) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٦ .

٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٩٢ / ٧٥ .

٣) الخصال / الصدوق : ٢٥٣ / ١٢٥ ، الأمالي / الطوسي : ٥٩٣ / ١٢٣٧ ، المعجم الكبير / الطبراني ١١ : ٨٣ / ١١١٧٧ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، مجمع الزوائد / الهيثمي ١٠ : ٣٤٦ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت .

٤) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣ .

٥) سورة آل عمران : ٣ / ٦١ .

١٢٢
 &

على الخلق في قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) كمبدأ عقائدي يجسّد عمق الانتماء للإسلام وأصالة الارتباط بالعقيدة ، وأكّد ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث كثيرة منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبّي » (٢) .

والمسؤول عنه ليس مجرد الحبّ والمودّة ، بل اعتقاد الموالاة لهم عليهم‌السلام باعتبارهم أوصياء معصومين وقادة رساليين للاُمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) (٣) أنّه قال : « يعني عن ولاية علي بن أبي طالب » (٤) .

ثانياً : الحساب : قال تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا

__________________________

١) سورة الشورى : ٢١ / ٢٣ .

٢) سنن الترمذي ٥ : ٦٦٤ / ٣٧٨٩ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، حلية الأولياء / أبو نعيم ٣ : ٢١١ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ، تاريخ بغداد / الخطيب ٤ : ١٥٩ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ، أُسد الغابة / ابن الأثير ٢ : ١٣ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، المستدرك / الحاكم ٣ : ١٥٠ وصححه ـ دار المعرفة ـ بيروت .

٣) سورة الصافات : ٣٧ / ٢٤ .

٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الصدوق ١ : ٣١٣ / ٨٦ ، معاني الأخبار / الصدوق : ٦٧ / ٧ ، الصواعق المحرقة / الهيتمي : ١٤٩ باب ١١ فصل ١ قال : أخرجه الديلمي ، الأمالي / الطوسي : ٢٩٠ / ٥٦٤ ، تفسير الحبري : ٣١٢ / ٦٠ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ـ قم ، المناقب / ابن شهرآشوب ٢ : ١٥٢ دار الأضواء ـ بيروت ، مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام / الخوارزمي : ١٩٥ ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ١٧ .

١٢٣
 &

حِسَابَهُم ) (١) الحساب : هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها ، والمواقفة للعبد على ما فرط منه ، والتوبيخ له على سيئاته ، والحمد له على حسناته ، ومعاملته في ذلك باستحقاقه (٢) .

والله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبةً واحدةً ، يسمع منها كلّ واحد قضيته دون غيرها ، ويظنّ أنه المخاطب دون غيره ، لا تشغله تعالى مخاطبة عن مخاطبة ، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا (٣) .

وفي قوله تعالى : ( وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٤) ورد في الخبر أنه تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر ، وروي بقدر حلب شاةٍ (٥) .

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٦) قال : « لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل ان يفرغوا ، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة » (٧) .

وسئل أمير المؤمنين عليه‌السلام : كيف يحاسب اللهُ الخلقَ على كثرتهم ؟ فقال : « كما يرزقهم على كثرتهم » قيل : فكيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ قال : « كما

__________________________

١) سورة الغاشية : ٨٨ / ٢٥ ـ ٢٦ .

٢) تصحيح الاعتقاد / المفيد : ١١٣ .

٣) الاعتقادات / الصدوق : ٧٥ .

٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٢ .

٥) مجمع البيان / الطبرسي ٢ : ٥٣١ .

٦) سورة المعارج : ٧٠ / ٤ .

٧) مجمع البيان / الطبرسي ١٠ : ٥٣١ .

١٢٤
 &

يرزقهم ولا يرونه » (١) .

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « إن أوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة ، فان قُبلِت قُبِل ما سواها » (٢) .

ولا ينجو من أهوال يوم الحساب إلّا من حاسب نفسه في الدنيا ، ووزن أعماله وأقواله بميزان الشريعة ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « عباد الله ، زنوا انفسكم من قبل أن تُوزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تُحاسبوا ، وتنفّسوا قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل عنف السياق » (٣) .

ثالثاً : الشهود وتطاير الكتب : وهي من أهوال القيامة المروّعة ، لانّ العبد يجد نفسه أمام عدة شهود لا تُدحض حجّتهم ، ولا يكذّب قولهم ، فلا محيص له إلّا الإقرار بالذنب والاعتراف بالخطيئة ، ومن الشهود :

أ ـ الله سبحانه : فهو تعالى محيط بكلّ شيءٍ علماً ، وعلى كلّ شيء شهيد ، يشهد على العبد في خلواته ، ويعلم ما يكنّه ضميره ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، قال تعالى : ( وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ) (٤) وقال سبحانه : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٥) .

__________________________

١) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٥٢٨ / الحكمة ( ٣٠٠ ) .

٢) الكافي / الكليني ٣ : ٢٦٨ / ٤ التهذيب / الطوسي ٢ : ٢٣٩ / ٩٤٦ .

٣) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ١٢٣ / الخطبة ( ٩٠ ) .

٤) سورة يونس : ١٠ / ٦١ .

٥) سورة المجادلة : ٥٨ / ٧ .

١٢٥
 &

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اتقوا معاصي الله في الخلوات ، فإنّ الشاهد هو الحاكم » (١) .

ب ـ الأنبياء والأوصياء : دلّ الكتاب الكريم على أنّ الله سبحانه يستشهد كلّ نبي على اُمّته يوم القيامة ، ويستشهد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اُمّته ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ) (٢) .

وفي قوله تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ) (٣) بيّن سبحانه أيضاً أنه يبعث في يوم القيامة من كلّ اُمّة شهيداً ، وهم الأنبياء والعدول من كلّ عصر ، يشهدون على الناس بأعمالهم (٤) .

وفي هذه الآية دلالة على أن كل عصر لا يجوز أن يخلو ممّن يكون قوله حجّة على أهل عصره ، وهو عدل عند الله تعالى ، وهو قول الجبّائي وأكثر أهل العدل ، وهذا يوافق ما ذهب إليه الإمامية ، وإن خالفوهم في أن ذلك العدل والحجّة من هو (٥) .

ومن المعلوم أن الاُمّة كلّها لا تتصف بالخيار والعدل ، وكونهم شهداء على الناس ، فإنّ فيهم الكثير ممن لا يخفى حاله ، فهذه الصفات إنما تكون

__________________________

١) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٥٣٢ / الحكمة ( ٣٢٤ ) .

٢) سورة النساء : ٤ / ٤١ .

٣) سورة النحل : ١٦ / ٨٩ .

٤) مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٥٨٤ .

٥) مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٥٨٦ .

١٢٦
 &

باعتبار البعض ، والموجّه إليه الخطاب هو ذلك البعض .

وقد روى العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (١) أنه قال : « فإنّ ظننت أنّ الله تعالى عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاعٍ من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟ كلا لم يعنِ الله مثل هذا من خلقه ، يعني الاُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه‌السلام ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (٢) وهم الاُمّة الوسطى ، وهم خير اُمّة اُخرجت للناس » (٣) .

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « نحن الاُمّة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحججه في أرضه » (٤) .

ج ـ الملائكة : جعل الله تعالى على الانسان حفظةً من الملائكة ، يصاحبونه ويسجّلون كلّ أعماله ، قال تعالى : ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٥) وحينما يرد العبد صعيد الحساب تشهد عليه الملائكة بما عمل في الدنيا من خير أو شرّ ،

__________________________

١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣ .

٢) سورة آل عمران : ٣ / ١١٠ .

٣) تفسير العياشي ١ : ٦٣ / ١١٤ .

٤) الكافي / الكليني ١ : ١٤٦ / ٢ و ١٤٧ / ٤ ، بصائر الدرجات / الصفار : ١٨٣ / ١١ و ١٠٢ / ٣ ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران ، تفسير العياشي ١ : ٦٢ / ١١٠ .

٥) سورة ق : ٥٠ / ١٧ ـ ١٨ .

١٢٧
 &

قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (١) .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « سائق يسوقها إلى محشرها ، وشهيد يشهد عليها بعملها » (٢) .

د ـ الأعضاء والجوارح : وفي بعض مواقف القيامة يختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ، وتشهد أيديهم وجميع جوارحهم بما كانوا يعملون ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .

والمراد بالشهادة شهادة الأعضاء على السيئات والمعاصي بحسب ما يناسبها ، فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف والكذب والغيبة ونحوها ، شهدت عليه الألسنة ، وما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة والمشي للنميمة والسعاية وغيرها ، شهدت عليه بقية الأعضاء (٤) .

هـ ـ صحائف الأعمال : ذكرنا أنّ أعمال الانسان وأقواله تضبط في صحف عند الحفظة من الملائكة ، قال تعالى : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (٥) .

وفي يوم القيامة تُنشَر صحف الأعمال ، فيخرج الله سبحانه لكلّ اُمّةٍ كتاباً ينطق بجميع أقوالهم وحقائق أفعالهم ، قال تعالى : ( وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ

__________________________

١) سورة ق : ٥٠ / ٢٠ ـ ٢١ .

٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ١١٦ / الخطبة ( ٨٥ ) .

٣) سورة النور : ٢٤ / ٢٤ .

٤) تفسير الميزان / الطباطبائي ١٥ : ٩٤ .

٥) سورة الانفطار : ٨٢ / ١٠ ـ ١٢ .

١٢٨
 &

جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

ويخرج لكلّ إنسانٍ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ويجعل الله سبحانه الإنسان حسيب نفسه والحاكم عليها ، قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) (٢) .

ويشفق المجرمون من الكافرين والمشركين مما في تلك الكتب من المتابعة والرصد الدقيق ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) (٣) .

و ـ ظهور الأعمال أو تجسّمها : قال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) (٤) . وقال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) (٥) .

فالأعمال شهود على الإنسان في النشأة الآخرة ، لكن اختلف المفسرون في بيان طريقة إحضارها ، فبعضهم تأوّل ذلك باحضار جزاء الأعمال من الثواب والعقاب ، أو بإحضار صحائف الأعمال وما فيها من الحسنات والسيئات ، بناءً على أن الأعمال أعراض ، والأعراض

__________________________

١) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٨ ـ ٢٩ .

٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٣ ـ ١٤ .

٣) سورة الكهف : ١٨ / ٤٩ .

٤) سورة الزلزلة : ٩٩ / ٦ .

٥) سورة آل عمران : ٣ / ٣٠ .

١٢٩
 &

تنعدم (١) ، أو بظهورها عياناً ، لأنّ الإحضار يدلّ على أن الأعمال موجودة ومحفوظة عن البطلان ، لكنها غائبة عنا في هذا العالم ، ويحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ، ومن هنا قيل : بأن كتاب الأعمال يتضمن نفس الأعمال بحقائقها . (٢)

وعليه فإن إظهار الأعمال بأعيانها يدلّ على أنّها تُحفَظ في العالم الخارجي بطريقة غيبية هي أقرب إلى التصوير فضلاً عن الحفظ والتدوين ، وتعرض على العبد يوم القيامة فيراها عياناً ، ولا حجة كالعيان .

٦ ـ الميزان : الميزان في اللغة : آلة توزن بها الأشياء ، أو هو المعيار الذي يُعرَف به قدر الشيء ، ومن مشاهد القيامة نصب الموازين الحق لتمييز أهل الطاعة والإيمان عن أهل الجحود والعصيان ، قال تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) (٣) .

ولا يقام للكافرين والمشركين وزن يوم القيامة ، بل تبطل أعمالهم ، ويحشرون إلى جهنّم زمراً ، قال تعالى : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) (٤) .

وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « اعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تُنصَب لهم الموازين ، ولا تُنشَر لهم الدواوين ، وإنّما يحشرون إلى جهنّم زمراً ، وإنّما نصب الموازين ونشر

__________________________

١) مجمع البيان / الطبرسي ٢ : ٧٣٢ ، تفسير الرازي ٨ : ١٦ .

٢) راجع : الميزان / الطباطبائي ٣ : ١٥٦ و ١٣ : ٥٥ .

٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٤٧ .

٤) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٥ .

١٣٠
 &

الدواوين لأهل الإسلام ، فاتقوا الله عباد الله » (١) .

وأصل الميزان لا خلاف فيه بين طوائف الاُمة المختلفة ، لدلالة الكتاب عليه ، وإخبار المعصوم عنه ، لكن وقع الاختلاف في مفهومه ومعناه على أقوال بعضها يستند إلى الروايات وأهمها :

أوّلاً ـ إن في القيامة موازين كموازين الدنيا ، لكلّ ميزان لسان وكفّتان ، تُوزَن به أعمال العباد من الحسنات والسيئات ، أخذاً بظاهر اللفظ ، واختلفوا في الموزون هل هو الأعمال ، أو صحائف الأعمال ، أو غيرها ، على عدّة أقوال (٢) .

ثانياً ـ الميزان كناية عن العدل في الآخرة ، وأنه لا ظلم فيها على أحدٍ ، ووضع الموازين هو وضع العدل ، وثقلها رجحان الأعمال بكونها حسنات ، وخفّتها مرجوحيتها بكونها سيئات ، أي إن الترجيح بالعدل ، فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فاُولئك هم المفلحون ، ومن لم ترجح أعماله لقلّة الحسنات فاُولئك الذين خسروا أنفسهم (٣) .

ويؤيد هذا المعنى ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام وقد سأله الزنديق : أوليس توزن الأعمال ؟ فقال عليه‌السلام : « لا ، إنّ الأعمال ليست بأجسام ، وإنّما هي صفة ما عملوا ، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها أو خفّتها ، وإنّ الله لا يخفى عليه شيء » .

__________________________

١) الكافي ٨ : ٧٥ / ٢٩ ، الأمالي / الصدوق : ٥٩٥ / ٨٢٢ ـ مؤسسة البعثة ـ قم .

٢) راجع : كشف المراد / العلّامة الحلي : ٤٥٣ ، تفسير الميزان / الطباطبائي ٨ : ١٤ ، حق اليقين / عبد الله شبر ٢ : ١٠٩ .

٣) راجع : تصحيح الاعتقاد / المفيد : ١١٤ ، تفسير الميزان / الطباطبائي ٨ : ١٢ ـ ١٣ .

١٣١
 &

قال : فما معنى الميزان ؟ قال : « العدل » قال : فما معناه في كتابه ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) (١) ؟ قال : « فمن رجح عمله » (٢) .

ثالثاً ـ الميزان : هو الحساب ، وثقل الميزان وخفّته كناية عن قلّة الحساب وكثرته ، لما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « ومعنى قوله : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ، ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) فهو قلة الحساب وكثرته ، والناس يومئذٍ على طبقات ومنازل ، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً ، ومنهم الذين يدخلون الجنّة بغير حساب ، لأنهم لم يتلبّسوا من أمر الدنيا بشيء ، وإنّما الحساب هناك على من تلبّس هاهنا ، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ، ويصير إلى عذاب السعير ، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلال ، فاُولئك لا يقيم لهم وزناً ، ولا يعبأ بهم ، لأنهم لم يعبأوا بأمره ونهيه ، فهم في جنهم خالدون ، تلفح وجوههم النار ، وهم فيها كالحون » (٣) .

رابعاً ـ الموازين : الأنبياء ، والأوصياء ، لما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) قال : « الموازين : الأنبياء والأوصياء » (٤) هم عليهم‌السلام المعايير التي يعرف بها الحق والعدل ، ورجحان الأعمال إنما هو بقدر الإيمان بخطّهم ، واعتقاد محبّتهم وطاعتهم ، والاقتداء بهديهم وآثارهم .

__________________________

١) سورة الأعراف : ٧ / ٨ .

٢) الاحتجاج / الطبرسي : ٣٥١ .

٣) الاحتجاج / الطبرسي : ٢٤٤ .

٤) الكافي / الكليني ١ : ٣٤٧ / ٣٦ ، معاني الأخبار / الصدوق : ٣١ / ١ ، الاعتقادات / الصدوق : ٧٤ .

١٣٢
 &

هذه هي أهم الأقوال والأخبار الواردة في معنى الميزان ، ولعلها تمثّل بعض مصاديقه ، ولا يلزمنا الاعتقاد بها على التفصيل ، إنما الواجب هو الإيمان بالميزان على الجملة دون الخوض في التفاصيل والماهيات .

٧ ـ الصراط : الصِّراط في اللغة : الطريق ، أو السبيل الواضح ، وهو لغة في ( السِّراط ) بالسين ، والصاد أعلى لمكان المُضارعة (١) ، وإن كانت السين هي الأصل ، والصاد لغة قريش التي جاء بها الكتاب ، وعامة العرب تجعلها سيناً ، قال تعالى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (٢) أي ثبّتنا على المنهاج الواضح (٣) .

والصراط من منازل المعاد ، ويراد به الجسر الذي يُنصَب على جهنّم ، ويُكلّف جميع الخلق المرور عليه ، ويكون أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فأهل الجنة يمرون عليه لا يلحقهم خوف ولا غمّ ، والكفار يمرون عليه عقوبةً لهم وزيادة في خوفهم ، فإذا بلغ كلّ واحدٍ إلى مستقره من النار سقط من ذلك الصراط (٤) .

وتتفاوت سرعة العابرين على الصراط بحسب ما قدّموا من أعمال في الدنيا ، فالمؤمنون يعبرونه كالبرق الخاطف ، والكافرون يتعثّرون من أول قدم ، ويتهافتون إلى النار ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « الناس يمرون على الصراط طبقات ، والصراط أدق من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمر حبواً ،

__________________________

١) أي مضارعة الطاء .

٢) سورة الفاتحة : ١ / ٦ .

٣) لسان العرب ـ سرط ـ ٧ : ٣١٣ ـ ٣١٤ .

٤) كشف المراد / العلّامة الحلي : ٤٥٣ .

١٣٣
 &

ومنهم من يمرّ مشياً ، ومنهم من يمرّ متعلقاً ، قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً » (١) .

وقيل : الصراط في الآخرة هو نموذج يُعبّر عن صراط الدنيا ، فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم ، خفّ على صراط الآخرة ونجا ، ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا ، وأثقل ظهره بالأوزار وعصى ، تعثّر في أول قدمٍ من الصراط وتردّى (٢) .

قال الإمام الصادق عليه‌السلام في بيان معنى الصراط : « هو الطريق إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ ، وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، وأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا ، زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة ، فتردّى في نار جهنم » (٣) .

ويدلّ عليه حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا كان يوم القيامة ، ونُصب الصراط على شفير جهنّم ، لم يجز إلّا من معه كتاب علي بن أبي طالب » (٤) .

وطريق الأئمة عليهم‌السلام هو منهاجهم الواضح المعبّر عن الاستقامة والاعتدال في محبّتهم ، والتمسك بالحدّ الوسط الذي يقع بين الأفراط والتفريط ، أو الغلو والتقصير ، وهو الحبّ الذي أُمرنا به ، وعلينا أن ندين

__________________________

١) الأمالي / الصدوق : ٢٤٢ / ٢٥٧ ، تفسير القمي ١ : ٢٩ .

٢) إحياء علوم الدين / الغزالي ٥ : ٣٦٣ .

٣) معاني الأخبار / الصدوق : ٣٢ / ١ .

٤) الصواعق المحرقة / ابن حجر : ١٤٩ ، مناقب علي بن أبي طالب / ابن المغازلي : ٢٤٢ / ٢٨٩ ، فرائد السمطين / الجويني ١ : ٢٨٩ / ٢٢٨ ، الأمالي / الطوسي : ٢٩٠ / ٥٦٤ .

١٣٤
 &

به ونلقى الله عليه .

قال الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : « الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا ، فهو ما قصر عن الغلوّ ، وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، أما الصراط الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة ، الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنة إلى النار ، ولا إلى غير النار سوى الجنة » (١) .

عقبات الصراط : الصراط من المنازل المروّعة ، لما فيه من العقبات التي لا بدّ للعبد من المرور عليها ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « واعلموا ان مجازكم على الصراط ، ومزالق دَحْضِهِ ، وأهاويل زللـهِ ، وتارات أهواله » (٢) .

قال الشيخ الصدوق : وعلى الصراط عقبات تسمّى بأسماء الأوامر والنواهي كالصلاة ، والزكاة ، والرحم ، والأمانة ، والولاية ، فمن قصّر في شيءٍ منها حُبِس عند تلك العقبة ، وطُولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج منها بعملٍ صالح قدّمه أو رحمةٍ تداركته ، نجا منها إلى عقبة اُخرى ، فلا يزال كذلك حتى إذا سلم منها جميعاً انتهى إلى دار البقاء ، فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، ويسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وإن لم يسلم زلّت قدمه عن العقبة فتردّى في نار جهنّم (٣) .

وقال الشيخ المفيد : العقبات : عبارة عن الأعمال الواجبة والمُساءلة عنها ، والمواقفة عليها ، وليس المراد بها جبال في الأرض تُقطَع ، وإنما هي

__________________________

١) معاني الأخبار / الصدوق : ٣٣ / ٤ .

٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ١١١ ـ الخطبة ( ٨٣ ) .

٣) الاعتقادات / الصدوق : ٧١ ـ ٧٢ .

١٣٥
 &

الأعمال شُبّهت بالعقبات ، وجعل الوصف لما يلحق الانسان في تخلّصه من تقصيره في طاعة الله كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها ، قال الله تعالى : ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ) (١) فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد عقبات ، تشبيهاً لها بالعقبات والجبال ، لما يلحق الانسان في أدائها من المشاقّ ، كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إن أمامكم عقبة كؤوداً ومنازل مهولة ، لا بدّ لكم من الممر بها ، والوقوف عليها ، فإمّا برحمةٍ من الله نجوتم ، وإمّا بهلكةٍ ليس بعدها انجبار » أراد عليه‌السلام بالعقبة تخلّص الإنسان من التبعات التي عليه (٢) .

المبحث الخامس : أهل الجنة وأهل النار

يساق الناس بعد أهوال الحساب والصراط والميزان إلى المستقر الأبدي ، فإمّا إلى نعيم الجنة ، وإمّا إلى عذاب النار .

أوّلاً : صفة الجنة وأهلها ونعيمها

صفة الجنة : وهي الدار التي أعدّها الله سبحانه لمن عرفه وعبده من المتقين والمؤمنين والصالحين ، ونعيمها دائم لا انقطاع له ، وهي دار البقاء ، ودار السلامة ، لا موت فيها ولا هرم ولا سقم ، ولا مرض ولا آفة ، ولا زوال ولا زمانة ، ولا غمّ ولا همّ ، ولا حاجة ولا فقر ، وهي دار الغنى

__________________________

١) سورة البلد : ٩٠ / ١١ ـ ١٣ .

٢) تصحيح الاعتقاد / المفيد : ١١٢ ـ ١١٣ .

١٣٦
 &

والسعادة ، ودار المقامة والكرامة ، لا يمسّ أهلها فيها نصب ، ولا يمسّهم فيها لغوب ، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وهم فيها خالدون ، وهي دار أهلها جيران الله وأولياؤه وأحبّاؤه ، وأهل كرامته (١) .

أهل الجنّة : ( أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٢) .

وصف القرآن الكريم الفائزين بالنعيم المقيم والملك العظيم ، بأنّهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والذين اتقوا ربهم ، والذين آمنوا بالله ورسله ، وأطاعوا الله ورسوله ، والذين صبروا ابتغاء وجه الله ، وأقاموا الصلاة ، وانفقوا مما رزقهم الله سرّاً وعلانية ، والصديقون والشهداء ، والذين اتّبعوا هدى الله ، والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، والذين خافوا مقام ربهم ونهوا النفس عن الهوى ، والذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، والذين هاجروا في سبيل الله ثم قُتِلوا أو ماتوا ، وعباد الله المخلصون ، والذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين ، ويتبعهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم المؤمنين ، وكلّ أواب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب ، وجاء بقلب سليم (٣) .

__________________________

١) الاعتقادات / الصدوق : ٧٦ ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : ١١٦ .

٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠ ـ ١١ .

٣) راجع : سورة البقرة : ٢ / ٢٥ و ٣٨ ، سورة آل عمران : ٣ / ١٩٨ ، سورة النساء : ٤ / ١٣ و ٦٩ ، سورة التوبة : ٩ / ٢٠ ، سورة الرعد : ١٣ / ٢٢ ـ ٢٤ ، سورة طه : ٢٠ / ٧٥ ، سورة الحج : ٢٢ / ٥٨ ، سورة الصافات : ٣٧ / ٤٠ ، سورة غافر :

١٣٧
 &

وجاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف ما كان عليه أهل الجنة في الدنيا ، وذلك فيقوله تعالى : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) (١) قال عليه‌السلام : « قد اُمِن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزُحزحوا عن النار ، واطمأنّت بهم الدار ، ورضوا المثوى والقرار ، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم في دنياهم نهاراً ، تخشّعاً واستغفاراً ، وكان نهارهم ليلاً توحّشاً وانقطاعاً ، فجعل الله لهم الجنة مآباً ، والجزاء ثواباً ، وكانوا أحق بها وأهلها ، في ملك دائم ، ونعيم قائم » (٢) .

أقسام المقيمين فيها : ذكر الشيخ المفيد أن الساكنين في الجنة على ثلاثة أضرب ، وهم :

١ ـ من أخلص لله تعالى ، فذلك الذي يدخلها على أمانٍ من عذاب الله .

٢ ـ من خلط عمله الصالح بأعماله السيئة ، وكان يسوّف منها التوبة ، فاخترمته المنية قبل ذلك ، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله ، أو في عاجله دون آجله ، ثم سكن الجنة بعد عفو الله أو عقابه .

٣ ـ من يتفضّل عليه الله سبحانه بغير عملٍ سلف منه في الدنيا ، وهم الولدان المخلدون ، الذين جعل الله تعالى تصرّفهم لحوائج أهل الجنة ثواباً للعاملين ، وليس في تصرّفهم مشاقّ عليهم ولا كلفة ، لأنّهم مطبوعون إذ

__________________________

٤٠ / ٨ ، سورة الزخرف : ٤٣ / ٦٩ ، سورة الأحقاف : ٤٦ / ١٣ ـ ١٤ ، سورة الفتح : ٤٨ / ١٧ ، سورة ق : ٥٠ / ٣١ ـ ٣٣ ، سورة الطور : ٥٢ / ٢١ ، سورة الحديد : ٥٧ / ٢١ ، سورة النازعات : ٧٩ / ٤٠ .

١) سورة الزمر : ٣٩ / ٧٣ .

٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٢٨٢ ـ الخطبة ( ١٩٠ ) .

١٣٨
 &

ذاك على المسارّ بتصرفهم في حوائج المؤمنين (١) .

صفة نعيم الجنة : حُفّت الجنة بأنواع اللذات والنعم ، ولأهلها فيها نعيم مقيم وسرور دائم ، ولهم فيها كلّ ما يشاءون وجميع ما يشتهون ، قال تعالى : ( فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) (٢) وقال سبحانه : ( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) (٣) .

وفي الجنة ما لا تحيط بوصفه الكلمات وما لم يسمع به بشر مما أعدّه الله سبحانه لعباده المتقين ، قال تعالى : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

وفي الحديث القدسي : « قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » (٥) .

اللذائذ الحسية : ثواب أهل الجنة الالتذاذ بالمآكل والمشارب ، والمناظر والمناكح ، وما تدركه حواسهم مما يُطبعون على الميل إليه ، ويدركون مرادهم بالظفر به (٦) .

وفيما يلي وصف لبعض تلك اللذائذ وفقاً لما جاء في الكتاب الكريم :

١ ـ المأكل والمشرب : يُرزَق أهل الجنة بغير حسابٍ رزقاً كريماً واُكلاً

__________________________

١) تصحيح الاعتقاد / المفيد : ١١٦ ـ ١١٧ .

٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٧١ .

٣) سورة ق : ٥٠ / ٣٥ .

٤) سورة السجدة : ٣٢ / ١٧ .

٥) كنز العمال / المتقي الهندي ١٥ : ٧٧٨ / ٤٣٠٦٩ ، بحار الأنوار / المجلسي ٨ : ١٩١ / ١٦٨ .

٦) تصحيح الاعتقاد / المفيد : ١١٧ .

١٣٩
 &

وافراً ، ليس له نفاد ، مما تشتهيه أنفسهم من أنواع الطعام والشراب ، ولهم فيها فاكهة كثيرة ممّا يتخيّرون ، لا مقطوعة ولا ممنوعة ، دانية عليهم ظلالها ، وذللت لهم قطوفها تذليلاً (١) .

ولهم فيها شراب طهور ، ويسقون خمرةً مختومةً بالمسك ، لا تحدث صداعاً ، ولا تذهب عقلاً ، ولا لغو فيها ولا تأثيم ، ويطاف عليهم بكأسٍ منها بيضاء لذيذة ، ممزوجة بأنواع الطيب كالكافور والزنجبيل ، وفيها أنهار كثيرة وعيون ، منها أنهار من ماءٍ غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه ، وأنهار من خمرٍ لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفّى ، ويشربون من أعذب العيون كالتسنيم والسلسبيل ، ويقال لهم : كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون (٢) .

٢ ـ الملابس والحُليّ : وفي الجنة يرفل المؤمنون بثيابٍ خضرٍ من أرقّ أنواع الحرير والديباج ، كالسندس والاستبرق ، ويُحلّون فيها بأساور من ذهبٍ ولؤلؤ وفضّة (٣) .

__________________________

١) راجع : سورة الرعد : ١٣ / ٣٥ ، سورة الحج : ٢٢ / ٥٠ ، سورة يس : ٣٦ / ٥٧ ، سورة ص : ٣٨ / ٥٤ ، سورة غافر : ٤٠ / ٤٠ ، سورة فصلت : ٤١ / ٣١ ، سورة محمد : ٤٧ / ١٥ ، سورة الطور : ٥٢ / ٢٢ ، سورة الرحمن : ٥٥ / ٥٢ ، سورة الواقعة : ٥٦ / ٢١ و ٢٨ ـ ٣٣ ، سورة الدهر : ٧٦ / ١٤ ، سورة المرسلات : ٧٧ / ٤٢ .

٢) راجع : سورة الصافات : ٣٧ / ٤٥ ـ ٤٧ ، سورة محمد : ٤٧ / ١٥ ، سورة الطور : ٥٢ / ١٩ و ٢٣ ، سورة الواقعة : ٥٦ / ١٧ ـ ١٩ ، سورة الإنسان : ٧٦ / ٥ ـ ٦ و ١٧ ـ ١٨ و ٢١ ، سورة المرسلات : ٧٧ / ٤٣ ، سورة المطففين : ٨٣ / ٢٥ ـ ٢٨ .

٣) راجع : سورة الحج : ٢٢ / ٢٣ ، سورة الكهف : ١٨ / ٣١ ، سورة فاطر : ٣٥ / ٣٣ ، سورة الدخان : ٤٤ / ٥٣ ، سورة الدهر : ٧٦ / ١٢ و ٢١ .

١٤٠