الواسطة في معرفة أحوال مالطة ، كشف المخبّا عن فنون أوروبّة

المؤلف:

أحمد فارس الشدياق


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-589-X
الصفحات: ٥٧٩

١
٢

٣
٤

«... ومن الغريب هنا أنّه قد جرت العادة عند العامّة بأن يبيعوا نساءهم بيعا لعدم إمكان طلاقهن ، وصورته أنّه إذا شعر الرجل بأن زوجته تحبّ آخر عرض عليها الانتقال إليه ، فإذا تراضيا أخذها وباعها لعاشقها بمحضر شهود ، وقبض منه ما يؤذن بصحّة البيع ، وتخلّص بعد ذلك من تبعتها.

وفي أخبار العالم ما نصّه : رجل باع زوجته في حانة لرجل بخمسة شلينات ونصف ، وقبض الثمن بحضرة شهود ، وذهب بها المشتري ، ولما كان الغد ندم زوجها على ما فعل ، واستقال في البيع فلم يقبل.».

نص الرحلة ص ٢٥٥

«... إلا أنّه لا ينبغي أن تفهم من هذا أن الأمور الخطيرة عندهم تبتّ في الحال ، فإنّ لها من التوقيف والتعيين ما يعيى به صبر المنتظر ، إذ لا يبرم عندهم أمر من أول وهلة إلا أن يستفرغ فيه البحث والتروّي ، فعلى قدر ما يهون عليهم ارتجال المقال ، يصعب عليهم ارتجال الفعال ، حتى إنّ ديوان المشورة لا يبتّ شيئا إلا بعد استفراغ الكلام فيه ، وإنّما المراد أنّهم لا يعدون بما لا نية لهم على وفائه كما يحدث في بلادنا ، فيبقى الموعود رهين الأماني يطعم الملث ، ويسقى الوعود ، ثم لا يحصل من بعد ذلك على شيء ، فينتج منه التكذيب من قبل الموعود ، والتنكيد من قبل الواعد. وفي الجملة فليس بين الإنكليز عرقوب ، ولا أشعب.».

نص الرحلة ص ٢٢٧

٥
٦

تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب ، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر بالأشياء ، والمتهيء لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية ، هي النموذج الأتمّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي

٧

لتؤسس للظاهرة الإستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

على أن الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله ، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها ، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري ، لتجد نفسها تملك ، بدورها ، الدوافع والأسباب لتشدّ الرحال نحو الآخر ، بحثا واستكشافا ، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته ، ونمط عيشه وأوضاعه ، ضاربة بذلك الأمثال للناس ، ولينبعث في المجتمعات العربية ، وللمرة الأولى ، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته ، وبين معاد للغرب ، رافض له ، ومستعدّ لمقاتلته.

وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها

٨

من موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

إن أحد أهداف هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.

أخيرا ، لا بد من الإشارة إلى أن هذه السّلسة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس ، وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

محمد أحمد السويدي

٩
١٠

أحمد فارس الشدياق ١٨٠٤ ـ ١٨٨٧ م «هو أحد أقطاب الأدب العربي العظام ، نشأ في لبنان ، وشبّ في مصر ومالطة ، واكتهل في باريس ولندن وتونس ، وشيّخ في القسطنطينية ، فمات ابن ثلاث وثمانين ، ما أحوجته الثمانون إلى ترجمان ، ولم تأخذ من ذلك الرأس شيئا ، فبقي عوده غضّا ، ونفسه خضراء كما شهد بذلك جرجي زيدان».

بهذه العبارة الموجزة لخّص مارون عبّود ترجمة الشدياق (١) ، الذي حمله الاضطهاد الديني على الخروج من وطنه شابّا غضّ الإهاب ، ليعود إليه في صندوق مقفل بعد أن نيّف على الثمانين ، وترك في الدنيا دوّيا ولا دويّ المتنبّي!

ينتسب فارس بن يوسف بن منصور بن جعفر إلى سلالة المقدّم رعدا بن المقدم خاطر الحصروني الماروني الذي تولّى جبّة بشرّي (لبنان) في أوائل القرن التاسع عشر. فهو ينتمي إلى أسرة خاضت غمار السياسة في الدنيا والدين ، واكتوت بنارها ؛ فمات أبوه وجدّه وأخوه دفاعا عن حرّية الرأي ، فليس غريبا أن ينشأ الولد على ما كان آباؤه.

__________________

(١) انظر مارون عبود / مجلة الكتاب / السنة الأولى / الجزء العاشر / المجلد الثاني / أغسطس ١٩٤٦ م

١١

ولد فارس بن يوسف الشدياق في عشقوت من أعمال كسروان سنة ١٨٠٤ م ، ثم انتقلت به أسرته إلى الحدث بجوار بيروت سنة ١٨٠٩ م ، فنشأ الصبي فيها ، وظهرت عليه علائم النجابة والذكاء ؛ فأرسله أبوه إلى مدرسة «عين ورقة» في كسروان ، المدرسة التي تخرّج فيها نخبة من رجال النهضة العربية الحديثة وأعلامها. حيث أتمّ فيها دروسه الابتدائية ، كما تلقّى دروسا في اللغة والأدب على أخيه أسعد الذي كان من نوابغ زمانه.

بدأ الشدياق ينظم الشعر في سنّ مبكّرة ، وكان ميله إلى قراءة الفصيح من الكلام ، والتعمّق في متون اللغة واضحا لا يحتاج إلى دليل ، تسعفه في ذلك مكتبة والده التي كانت حافلة بالكتب المتنوّعة. ولكن الفتى سرعان ما فجع بموت أبيه ، وهو لم يجاوز السادسة عشرة ؛ فاضطرّ إلى السعي المبكر في سبيل العيش؟ فاشتغل بنسخ الكتب وتحبيرها ، فلم يجد ذلك مجزيا ، مّما دفعه لأن يعمل بائعا متجوّلا ، ولكن سعيه خاب هذه المرّة أيضا ، فعمل كاتبا عند الأمير حيدر الشهابي صاحب التاريخ المعروف باسمه ، ولكنّه سرعان ما واجه حدثا خطيرا غيّر مجرى حياته ، ألا وهو نكبة أخيه أسعد الذي اعتنق المذهب الإنجيليّ (البروتستانتي) على يد المرسلين الأمريكان ؛ فغضب عليه البطريك الماروني ، وأوعز إلى رجاله ؛ فقبضوا عليه ، واحتجزوه في أحد الأديرة ، وساموه أنواعا من العذاب ؛ ليرجع عمّا ذهب إليه ، فازداد تمسّكا برأيه ، وإصرارا على موقفه ، ممّا أدى إلى موته وهو في ميعة الشباب ، فأثارت هذه الحادثة حفيظة أخيه فارس ، ودفعته هو الآخر إلى اعتناق البروتستانتية ، مثلما دفعت بالمرسلين الأمريكان إلى إرساله إلى مصر خوفا عليه من أن يصيبه ما أصاب أخاه ، فسافر إليها سنة ١٨٢٥ م ليعلّم اللغة العربية في مدارسهم. وبقي فيها زمنا معلّما ومتعلّما ؛ حيث قرأ على بعض الأساتذة الكبار مثل : نصر الله الطرابلسي الحلبي ، ومحمد شهاب الدين محرّر الوقائع المصرية بعض كتب اللغة والأدب ، إلى أن تمكن من النحو والصرف ، والاشتقاق ، كما تقرّب من حاكم مصر ، ومن خيرة علمائها ، ولم يلبث أن عيّنه الشيخ رفاعة الطهطاوي في إدارة تحرير الوقائع المصرية.

مكث الشدياق في مصر تسع سنوات تعرّف خلالها بعائلة الصولي السوريّة المقيمة بمصر ، فصاهرها ، ورزق من زواجه ولدين هما : سليم وفائز ، ثم رغب إليه

١٢

المرسلون الأمريكان أن يذهب إلى مالطة ليعلّم العربية في مدرستهم ؛ فسافر إليها سنة ١٨٣٤ م ، وتولّى هناك ـ إلى جانب التعليم ـ تصحيح ما يطبع في مطبعتهم ، ومنشوراتهم العربية. فأقام في مالطة أربعة عشر عاما منصرفا إلى التدريس ، والتأليف ، والتصحيح.

يقول جرجي زيدان في تراجم مشاهير الشرق : «ولا يكاد يوجد كتاب مطبوع في مطبعة مالطة ، إلا وكان هو مؤلفه ، أو مترجمه ، أو مصحّحه». (٢)

ومن جملة ما ألّفه في هذه الجزيرة كتاب «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» الذي سيأتي الكلام عليه لا حقا.

وفي سنة ١٨٤٨ طلبته جمعية ترجمة التوراة في لندرة من حاكم مالطة عن طريق وزير خارجية إنكلترة لمساعدة الدكتور لي «Lee» في ترجمة التوراة إلى العربية ، فتوجّه إليها ، وفي طريقه مرّ بعدد من المدن الأوروبيّة إلى أن وصل إلى إنكلترة التي أقام فيها نحو ثماني سنوات ، اختلف في أثنائها إلى باريس عدّة مرّات. وفي هذه المدينة ألّف كتابه الشهير «الساق على الساق فيما هو الفارياق».

على أن المحصّلة الهامة لهذه السياحة الأوربية كانت تأليف كتابه الذي نحن بصدد تقديمه للقرّاء.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الشدياق خلال إقامته في مالطة ، وأوروبا بقي محافظا على لباسه الشرقي ، وطربوشه التركي ، على الرغم من نظرات الاستهجان ، والاستغراب ، والسخرية التي كانت تلاحقه في حلّه وترحاله ، ممّا يدلّ على تماسكه ، واعتداده بما ينطوي عليه من موروث حضاريّ يقيه من الذوبان السريع في مجتمع ناهض ومتمدّن ، لكنّه مغاير ومختلف في جوانب كثيرة عن المجتمع الذي نشأ به ، وتمثّل قيمه الأخلاقية والحضارية على نحو عميق.

وفي سنة ١٨٥٧ استدعاه باي تونس للحضور إليها إثر قصيدة كان قد مدحه بها أثناء زيارة الباي لفرنسا ، فأرسل في طلبه دارعة خاصة ليبحر على متنها من فرنسا مع عائلته إلى الحاضرة التونسية ، ثم عهد إليه تحرير جريدة «الرائد التونسي» وهي

__________________

(٢) انظر تراجم مشاهير الشرق. ج ٢ ص ١٠٤.

١٣

الجريدة الرسمية للحكومة التونسية آنذاك. وفي تونس أعلن الشدياق إسلامه ، وسمّى نفسه أحمد فارس الشدياق في الوقت الذي ذاع فيه صيته في الشرق والغرب على السواء ، ممّا حمل السلطان العثماني عبد المجيد على استدعائه من تونس إلى الآستانة ؛ فاستأذن الباي قاصدا عاصمة الخلافة العثمانية ، حيث قوبل بالتّرحاب من قبل كبرائها ، ثم أسند إليه تصحيح المطبوعات الرسميّة للدولة العليّة.

وفي سنة ١٨٦١ أصدر من الآستانة جريدته الأسبوعية «الجوائب» ، فاحتلت مكان الصدارة بين الصحف العربية آنذاك ، مثلما أحرزت مكانة مرموقة لدى الأوساط الصحفية والسياسية في الغرب ، فنقلت عنها كبريات الصحف الغربية رأيها في سياسة الشرق وأحواله؟ لذا عدّت لسان حال السياسة الشرقية الناطق في عاصمة الخلافة العثمانية. هذا إلى جانب كونها منبرا لكبار أدباء العصر ومفكّريه من أمثال : الازجي ، والشرتوني ، ورشيد الدحداح ، وبطرس البستاني ، وسواهم من أعلام القرن التاسع عشر.

وظل الشدياق عاملا في حقل التأليف والصحافة حتى سنة ١٨٨٤ حيث اعتراه ضعف في بصره حال دون متابعة القراءة والكتابة.

وفي سنة ١٨٨٦ زار مصر ، ولقي فيها حفاوة بالغة من قبل ساستها وعلمائها (٣) ، لكن مقامه فيها لم يطل ، فغادرها إلى الآستانة حيث وافاه الأجل في العشرين من أيلول (سبتمبر) سنة ١٨٨٧ ، وكان لوفاته أثر كبير في حواضر الشرق والغرب ، فرثاه الكبراء والعظماء ، ونقل جثمانه إلى لبنان عملا بوصيّته ، ودفن بمقابر المسلمين في الحازميّة قرب بيروت.

وبعد : فإن ريادة الشدياق لم تكن كلمة تقال في معرض التقريظ والمدح ، بقدر

__________________

(٣) قال جرجي زيدان في كتابه مشاهير الشرق : قدم مصر ، وقد شاخ وهرم ١٨٦٨ ، وأتيح لنا مشاهدته ، وقد علاه الكبر ، وأحدق بحدقتيه قوس الأشياخ ، واحدودب ظهره ، ولكنه لم يفقد شيئا من الانتباه أو الذكاء ، وكان إلى آخر أيامه حلو الحديث ، طلي العبارة ، رقيق الجانب ، مع ميل إلى المجون. وقد لاقى في أثناء إقامته بمصر ـ هذه المرة ـ حسن الوفادة؟ فزاره الوزراء ، والعظماء ، وتشرّف بالمثول بين يدي الخديوي ، فأكرمه ، ولاطفه ، وذكر خدمته للشرق. (مشاهير الشرق : ج ٢ ص ١٠٨)

١٤

ما تعني العمل الدؤوب الذي لا يعرف الكلل في عصر عمّ فيه الجهل والتخلّف ، ووهت تلك الأواصر التي تصل حاضر الأمة بماضيها لتتمكن من استشراف المستقبل على أساس من الوعي بالذّات ، ومن ثم الوعي بالآخر الذي قطع أشواطا في مضمار التمدّن والرقيّ.

فاللغة العربية لسان الأمّة ، وذاكرتها ، ومخزن عبقريتها ، ووسيلتها للتعبير عن حاجات العصر ، كانت قد غلبت عليها العجمة ، والركاكة ، وأثقلتها قيود الصنعة ، فبدت عاجزة عن مواكبة العصر ومستجدّاته ، إلى أن قيّض الله لها تلك النخبة المستنيرة ممّن اخترقوا حجب الجهل ، وبدّدوا بمشاعل قرائحهم ظلمات التخلّف والركود؟ ليعيدوا إلى هذه اللغة حيويّتها ، وقدرتها على الاستجابة لمتطلّبات النهوض والإصلاح.

وكان الشدياق في مقدمة هؤلاء الأعلام؟ إذ وجّه جلّ اهتمامه إلى بعث العربيّة من رقدتها ، وإحياء آدابها وكنوزها ، ولعلّ خير دليل على ذلك عناوين كتبه من مثل :

ـ سرّ الليال في القلب والإبدال ، وهو كتاب لغوي تحليلي يقع في ٦٠٠ صفحة من القطع الكبير.

ـ الجاسوس على القاموس. ألّفه في الآستانة ، ينتقد فيه القاموس المحيط للفيروز آبادي ويقع في ٧٠٠ صفحة من القطع الكبير.

ـ منتهى العجب في خصائص لغة العرب ، نحا فيه نحوا لم يسبق إليه ، ويقع في عدّة مجلّدات ، ولكنّه فقد في الحريق الذي أصاب منزله في الآستانة. هذا إلى جانب مساهماته الكثيرة في جريدة الجوائب على مدى ثلاثة عقود تقريبا.

لكن اهتمام الشدياق بشؤون اللغة والأدب لا يعني البتّة أنّه قصر عنايته على هذا المجال فحسب ، بل توجّه في كتبه الأخرى ومقالاته العديدة إلى التبشير بحقائق العصر الحضارية ، ومحاربة الجهل والتعصّب ، والوقوف في وجه الظلم ، وتندرج في هذا السياق دعوته إلى تخليص المرأة من القيود الجائرة ، التي حالت دون مساهمتها الفاعلة في بناء المجتمع الحديث ، وذلك بتعليمها ، وتهذيبها ، وتأكيد إنسانيتها ، وفتح

١٥

سبل الحياة أمامها ؛ لتساهم في قيادة المجتمع وتطويره.

لقد وجّه الشدياق عنايته إلى كلّ ما يمكّن الأمّة من اليقظة ، والإصلاح الشامل في كافّة مناحي الحياة ؛ للّحاق بركب المدينة الحديثة على أساس من خصوصيّة الأمّة الحضاريّة والأخلاقيّة التي تميّزها عن سواها من الأمم. لأنّه خبر مدنيّة الغرب عن كثب ، وخالط أهلها ، ووقف على منجزاتها العلمية والتقنية وقوف الفاحص المدقّق ؛ ليعرف حقيقتها ، ويميّز جوهرها من عرضها ، وصالحها من طالحها مسلّحا بصر العلماء ، وجلدهم وأمانتهم ؛ ليدوّن هذه التجربة في هذه المعلمة الطريفة التي نحن بصدد إحيائها بعد مضيّ ما يقرب من قرن وربع القرن على آخر طبعة لها.

يقع هذا الكتاب في جزأين : الأول هو : الواسطة في معرفة أحوال مالطة» ، والثاني: «كشف المخبّا عن فنون أوربا» وقد تصدّرت الكتاب بجزأيه مقدّمة واحدة تبين الغرض من تأليفه.

ففي الجزء الأول : يبيّن المؤلّف حسب تعبيره «ما ظهر من أمر هذه الجزيرة وما بطن ، ويكشف مخبأها لمن رغب فيها ، أو عنها» ولكن الكتابة عن هذه الجزيرة وحدها ، لا تروي له غليلا ، أو تضيف إلى وصفه لها فوائد تاريخيّة خطيرة ؛ فاغتنم فرصة سفره إلى بلاد الإنكليز المتمدّنة ؛ ليشفع واسطته برحلة أكبر خطرا ، وأعمّ نفعا ؛ فقيّد خواطره ، ومشاهداته حينا ، ونقل أحيانا أخرى من الكتب «ما ليس للفكر فيه مسرح ، وللطّرف إليه مطمح» راجيا من كلّ ذلك أن يقتدي قومه بتلك المفاخر والمآثر ، وبما في بلادهم من التمدّن ، والبراعة والتفنن ، وبما حقّقوه «من المصالح المدنيّة ، والأسباب المعاشية ، وانتشار المعارف العموميّة ، وإتقان الصنائع ، وتعميم الفوائد والمنافع».

ففي حديثه عن مالطة ، يستهلّ كلامه بلمحة جغرافية وتاريخية تحدّد موقعها على الخريطة ، وتذكر تعاقب الفاتحين عليها إلى أن أصبحت تحت الحماية البريطانية. ثم يفرد فصلا خاصّا للحديث عن هوائها ، ومنازهها ، ويخصّ قاعدتها «فالتة» بوصف مفصّل لدورها ، وشوارعها ، وأسواقها ، وكنائسها ، ومدارسها ، ولا يغادر معلما من معالمها دون أن يتناوله بالذكر. ثم يفيض بالحديث عن عادات المالطيين في أفراحهم وأتراحهم ، وأنماط عيشهم ، وتباين أحوالهم ، وطبقاتهم ، كما يصف ملابسهم ،

١٦

وحليّهم ، ومراقدهم ، ومجالسهم ، إلى غير ذلك من شؤون حياتهم المختلفة.

ثم يفرد فصلا خاصّا لحكومة الإنكليز في مالطة ، ويصفها بالتساهل واللين مع أهل الجزيرة ، فالحكم فيها مالطي ، وإن يكن الحاكم إنكليزيا. لن معظم موظّفي الدولة من أهل الجزيرة ، وليسوا من الإنكليز. ثمّ يتطرّق إلى الحديث عن سنن الإنكليز وشرائعهم ، وأخلاقهم ، ويصف نساءهم بأنّهنّ «مخالفات لمن في بلادهنّ فهنّ بمعزل عن الحسن والجمال ، وأكثرهنّ فقم وشوه (٤) ، ولا فضيلة لهن إلا في كونهنّ يحسنّ القراءة والكتابة ، ويؤسسن العلم في أولادهن على صغر».

وبعد أن ينهي حديثه عن الإنكليز يعود للحديث عن موسيقى المالطيين وغنائهم ، ثم يوازن بين موسيقى العرب وموسيقى الإفرنج مبيّنا وجوه الاتفاق والاختلاف. أمّا أهل مالطة «فإنّهم في الغناء مذبذبون كما في غيره ، فلاهم كالإفرنج ، ولا كالعرب ، فأهل القرى ليس لهم إلا أغاني قليلة ، وإذا غنّوا مطّوا أصواتهم أصواتهم مطّا فاحشا تنفر منه المسامع».(٥)

أما لغة المالطيين ، فهي في رأيه عربية فاسدة ، تخللتها ألفاظ أعجمية ، وربّما بقي في هذه اللغة ألفاظ أفصح من نظائرها في مصر والشام! ومّا بقي عندهم من فصيح العربية : دار نادية ، وحقها نديّة ، وهي أفصح من قول أهل مصر والشام ناطية ، وقابلة : أي داية. وخطر ومخاطرة ، أي رهان ، وغرفة ، أي عليّة ... إلخ.

والشدياق في كل ما يصف دقيق الملاحظة ، يتتبع التفاصل الصغيرة ، والجزئيّات ؛ فيصفها أدق وصف ، مع قدرة فائقة على التحليل والنفاذ إلى أعماق الظواهر والمشاهد التي يطالعها هنا أو هناك.

أما الجزء الثاني من هذا الكتاب ، فهو من أهم وأخطر ما كتب عن تمدّن أوربا في منتصف القرن التاسع عشر ، إذا استطاع مؤلّفه أن يلمّ بجوانب الحياة كافّة في كلّ من إنكلترة وفرنسا إلمام المعاين والباحث ، فقد تحدّث عن عادات الإنكليز ، وتقاليدهم ،

__________________

(٤) فقم : جمع فقماء وهي المرأة إذا طال أحد فكيها ، وقصر الآخر ، وشوه جمع شوهاء وهي المرأة القبيحة.

(٥) انظر الفصل الخاص بغناء المالطيين ص ٥٠ وما بعدها.

١٧

وعقائدهم ، وشرائعهم ، وذكر منها ما يسوء وما يسرّ ، وأشاد بحبّهم للعمل ، واحترامهم للحقوق العامّة ، وحسن إدارتهم ، وضبطهم للمصالح العمومية ، وحبّهم لبلادهم ، ثم بيّن الفرق بين خاصّتهم وعامّتهم في العادات والأخلاق ، والسلوك. فعامّتهم على حد تعبيره : «لا تكاد خلائقهم وعاداتهم ترضي أحدا من البشر ممّن كان ذا ذوق سليم ، وطبع مستقيم». (٦)

كما تحدّث عن الفروق بين سكان المدن ، وسكان القرى ، وذلك بعد معاينته المباشرة للعديد من الحواضر ، والأرياف في كل من إنكلترة ، ووالس ، وإرلاند ، فجاءت أوصافه للبريطانيين وافية. ثمّ توقّف طويلا عندما أنجزوه في ميادين الحياة كافّة من فنون وعلوم وصناعة وتجارة ، ولم يخف فضوله لمعرفة حقيقة ما اخترعوه ، واستحدثوه من آلات عجيبة كالتلغراف ، والقطار ، والمطبعة وغيرها.

ولما انتقل إلى باريس تناولها بالوصف الدقيق والشامل لكلّ ما فيها من دور وشوارع وأسواق ومنازه ، ومبان ، ومصانع ، وملاه ، ومطاعم ثمّ وصف الناس وعاداتهم وطباعهم ، وعقد مقارنات كثيرة بين باريس ولندرة ، ومن ثم بين الإنكليز والفرنسيس من حيث الطباع والأخلاق ، والعادات ، والنظم ، والمعارف ، والمخترعات. وشفع ذلك كلّه بإحصاءات دقيقة وموثقة عن فرنسا وإنكلترا وسواهما من دول أوربا إلى جانب الدول المتّحدة (أمريكا). ويمكن للقارئ الاطلاع على تفاصيلها بالصيغة التي اعتمدها الشدياق نفسه ، وبالكيفية التي أرادها.

وبعد هذا التعريف الموجز بالكتاب ومؤلّفه لا بدّ من التذكير بأن الشدياق توخّى ممّا قدّمه عن تمدّن أوربا أن ينقل لأبناء جلدته الخبر اليقين من موقع الرائد ، لا من موقع السائح الذي يستمتع بما يرى ؛ فيلتقط من المشاهد ما يروق له ، أو ما يمتع به قرّاءه ، كما أنّ معرفة هذه الحضارة والتعريف بها ضرورة لازمة من ضرورات الإصلاح والنهوض.

ولعلّ مواكبة الشدياق ـ أثناء وجوده في مصر ـ لمساعي محمد علي باشا الجادّة لبناء دولة عصريّة مستفيدا ممّا أنجزه الغرب ، وما نمي إليه عن مساع تونسية مماثلة ،

__________________

(٦) انظر كلامه عن عامة الإنكيز وخاصتهم صفحة ١٥٥.

١٨

كانت من الأسباب التي حفزته إلى تقرّي هذه المدنيّة وفحصها عن كثب. يضاف إلى ذلك معرفته بالشيخ رفاعة الطهطاوي أحد أقطاب النهضة الحديثة في مصر ، وصاحب الرحلة المعروفة ب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» حيث من المرجّح أن تجعله أكثر اقتناعا في ارتياد الغرب والتحقّق ممّا يقال فيه أو عنه.

فلمّا سنحت له الفرصة في السفر إلى إنكلترة ، والإقامة فيها لسنوات سارع إلى تدوين هذه التجربة في كتاب شامل يبزّ به سلفه الطهطاوي ، الذي كان يكنّ له الكثير من الاحترام ، ويجعله دليلا ومرشدا لمن تتوق نفسه إلى معرفة الغرب ، وما أنجزه من التقدم والرقيّ.

إن من يمعن النظر في سيرة الشدياق ، لا سيّما أثناء إقامته في أوربا يلحظ أنّه لم يتوقّف عن السعي للوصول إلى سلاطين زمانه في كل مناسبة ، لعلّه يجد عند أحدهم خطوة تمكّنه من أن يسعد في ظلّه من جهة ، وليضع في خدمته مواهبه وقدرته على المساهمة في الإصلاح والتنوير من جهة ثانية.

وسرعان ما قاده الحظ إلى تونس ، حيث استقدمه «الباي» من باريس كما أسلفنا ، وكان هذا الحاكم المصلح آنذاك يعمل على تحديث بلاده ، وبناء دولته على أسس عصرية ، وقد أسند تنفيذ هذه المهمّة إلى خير الدين باشا التونسي أحد المصلحين الكبار ، وأحد أركان النهضة والإصلاح في الأقطار الإسلامية ، والذي رآه الشدياق جديرا بأن يهدي إليه مدوّنته عن حضارة الغرب ، مشفوعة بقصيدة عصماء يعدّد فيها مناقبه. يقول في مطلعها :

إذا كان خير الدين عنّي راضيا

فما ضائري أن أغضب الدهر والوسعا

هو البحر جودا والصباح صباحة

ونور الدجى نفعا ولطف الصّبا طبعا

فأثابه خير الدين بخاتم من الماس ذكره الشدياق في هذه القصيدة ، ثم طبع الكتاب بمطبعة الدولة التونسية سنة ١٢٨٣ ه‍.

وربما كان الشدياق في هديّته تلك «كجالب التمر إلى هجر» كما «أنّ العوان لا تعلّم الخمرة» فالوزير التونسي لم يكن خبيرا بشؤون السياسة والإدارة فحسب ، بل

١٩

كان مفكرا بعيد النظر ، ومثقفا مرموقا يتقن العربية والتركية والفرنسية ، وقد أقام في باريس لسنوات عديدة ، وفي الفترة التي كان الشدياق يتنقل فيها بين لندن وباريس ، ثم انكبّ خير الدين على دراسة التجربة الأوربيّة ، ووضع عنها كتابه الهام :

«قوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» ، وهو أحد المراجع الرئيسة لدارسي الفكر العربي في عصر النهضة.

لذا فإنه من غير المتوقّع أن تلقى رحلة الشدياق في تونس من الفضول المعرفة ما يجري في الغرب ما لقيته رحلة الطهطاوي في مصر من الحفاوة والانبهار. وعلى كل حال ، فإن إقامة الشدياق في تونس لم تطل ؛ بسبب اضطراره لقبول دعوة السلطان عبد المجيد إلى الآستانة بعد الاستئذان من الباي ، فربما وجد في حاضرة الدولة العليّة ما لم يجده في تونس. كما أن الآستانة كانت إحدى العواصم الكبرى في العالم التي تتطلّع إليها الأعين ، وتهفو نحوها أفئدة الحالمين بمكانة لائقة من أمثال الشدياق ، الذي تحقق له ما أراد ، فلقّبته صحف الغرب ب «السياسي الشهير ، والإخباري الطائر الصيت ، وقد خاطبه الملوك والأمراء ، والعظماء في سائر أقطار العالم ، ووجدوا بين أوراقه بعد وفاته مئات من الكتب واردة عليه من عظماء العالم وملوكهم (٧)».

وفي الختام فإنه لا بدّ القول بأنني لّما كلّفت بتحرير هذا الكتاب ، وإخراجه إلى النور ، اعتمدت الطبعة الأولى الصادرة بتونس سنة ١٢٨٣ ه‍ والتي تفضّل بتزويدي بها الأخ الأستاذ نوري الجرّاح ، وقد بذلت الكثير من العناء في قراءتها ، وضبطها ، وتصحيحها ، وسدّ ما اعتاها من نقص ، ثم شرح ما تخلّله من الغريب الذي شغف به الشدياق شغفا عظيما! ، ـ وسوف يلحظ القارئ ذلك في هوامش الكتاب ـ ولكنّني بعد الانتهاء من العمل فيها تمكّنت من الحصول على الطبعة الثانية التي أصدرها المؤلف من الآستانة من مطبعة الجوائب سنة ١٢٩٩ ه‍ ، فألفيتها مختلفة عن الأولى ، ومن الصعب إدخال تعديلات المؤلّف عليها ، ممّا اضطرّني إلى ترك الأولى ، واعتماد الثانية التي أضاف إليها «بعض أقوال سديدة ، وأخبار مفيدة ، وأشياء أخرى

__________________

(٧) مشاهير الشرق لجرجي زيدان ج ٢ ص ١٠٨. منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت ـ بلا تاريخ.

(٨) يتفخلون : يرتدون أحسن ثيابهم. (م).

٢٠