نظرات معاصرة في القرآن الكريم

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

نظرات معاصرة في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٦ ـ وقد تحدث الإمام الصادق في مقام إكمال الشرائع فاعتبر تحريم الخمر أصلاً فيها ، وقال : « ما بعث الله نبياً قط ، إلا وقد علم الله أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر ، ولم تزل الخمر حراماً » (١).

٧ ـ وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إن الله حرّم الخمر بعينها ، فقليلها وكثيرها حرام ، كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير » (٢).

٨ ـ وقد وردت البشارة العظمىٰ على لسان الإمام الصادق عليه‌السلام لمن ترك المسكر في ذات الله ، فقال : « من ترك المسكر صيانة لنفسه سقاه الله من الرحيق المختوم » (٣).

إن السنة الشريفة شارحة للقرآن ، ومفصلة لمجمله ، ومبينة لإبهامه ، وفيما تقدم من الأحاديث غنية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

بعد هذا يمكننا أن نتحدث عن بعض أضرار الخمر في ضوء قوله تعالى : ( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) على الوجه الآتي : الضرر فيما يبدو على أنواع ، نوجز الكلام حولها :

١ ـ الضرر الاجتماعي ، وذلك أن شارب الخمر هو عضو في الهيئة الانسانية ويمثل جزءاً من هذه البنية القائمة على أساس التعارف والإجتماع ، إلا أن هذا الجزء قد أصبح مشلولاً في الفكر والحركة ، بعيداً عن الأحساس والعقل السليم ، همته ملذاته وشهواته ، ووكده نشوته وإنفعالاته ، والمجتمع الإنساني متكافل في الحقوق والواجبات ، وشارب الخمر لا يعطي من نفسه الحق ، ولا يقوم بواجبه تجاه الآخرين ، وما ذاك إلا أنه انحرف عن المسرى الصحيح ، وأتخذ له طريقاً يبتعد به عن مجتمع الطهر والشرف ، وإقترب من مجتمع الرجس والآثام ، وإذا توافر هذا النموذج المنحرف في هذا الكيان الإجتماعي ، ذاب المجتمع ، وتهرأت أوصاله في خضم الشهوات الموبقة والذنوب المهلكة.

__________________

(١) الحر العاملي ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٢٣٧.

(٢) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٥٩.

(٣) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٣٩.

١٠١

٢ ـ الضرر الأسري : شارب الخمر في أسرته يرشح هذه الأسرة لاقتراف هذه الكبيرة الموبقة ، ورب الأسرة هو الشاخص الماثل في كيان الأسرة ، يقتدى به ، وينظر إلى تصرفاته ، وفي الأسرة الزوج والولد والأخ ، فأما أن يقتدوا بعمله ، وذلك ما يفتت جسم هذه الأسرة وينذرها بالفناء ، وإما أن يتمردوا عليه ، فيصبح شريداً منبوذاً ، وبذلك أيضاً يتفكك التركيب الأسري ، ويركب كل طريقه دون توجيه ، والحديث يقول : « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » فأين هي المسؤولية هنا ، ورب الأسرة في الهوة الدنيا من الانحراف الاخلاقي ، والأسرة متشرذمة في هذا الجو القاتم.

٣ ـ الضرر الفردي : ويتمثل في جناية المرء على نفسه ، وتدهوره صحياً وخلقياً وعقلياً ونفسياً ومالياً ، وهذا مما سنقف عنده قليلاً :

أ ـ الضرر الصحي ، وأطباؤنا أعرف بهذا الضرر على المرء في أمراض شتى ، لعل من أبرزها : أمراض المعدة والكبد والطحال والعيون والأعصاب ؛ أضف إلى ذلك ما تتأثر به الجينات الوراثية ، وما يورثه الأب للأبناء من الاصابات الخطيرة ، حيث ثبت أن ذرية معاقري الخمرة أكثر تعرضاً للأمراض ، والأمراض تشيع فيهم تأصلاً دون غيرهم من الأبناء من ذرية غير المدنيين.

ب ـ الضرر الخلقي ، هناك إنحراف في أخلاقية المتناول للخمر ، فالفحش والبذاء وهما محرمان في الشريعة الإسلامية ملازمان له في الأغلب ، والتطاول على الآخرين بالكلم النابي ، والحديث الفج ، والسليقة المعوجة ، والترهل في التصرفات ، والامبالاة في القول والعمل ، وكل أولئك مما تتقاصر معه الأخلاق ، وتتدانى به التقاليد والأعراف ، وتتآكل فيه بنية الهرم الإنساني فيسود الغضب والاعتداء ، وتتحكم الأنانية والأثرة بأسوأ صورهما.

ج‍ ـ الضّرر العقلي : لا ريب أن معاقرة الخمر مما يفتقد معها العقل كلاً أو جزءاً ، فإذا فقد كلاً فقد خرج المرء عن دائرة بشريته ، وإذا فقد جزءاً ، فهو تضييع للجوهرة الانسانية الفريدة التي وهبها الله لهذا المخلوق دون سائر مخلوقاته « ولقد كرّمنا بني آدم ».

١٠٢

وإضاعة هذا التكريم إضاعة لأغلى هبة منحها الله لعبده ، والعقل هو مناط التكليف ، وبه تتقدم البشرية ، وتتفاضل المجتمعات الراقية ، وضياع هذا العقل في قارعة الطريق بين موائد الخمر ومباذل الشهوات إجهاز فعلي على إبراز مقومات الروح الانساني.

د ـ الضرر النفسي : وتبدو الآثار النفسية بأبشع صورها عند شاربي الخمور ، وأبرزها الخمول الذهني ، والوهن العصبي ، والتقوقع على الذات ، وفقدان السيطرة على الإرادة ، يلوح عليه التردد ، ويصاحبه الفشل والخذلان ، يتوقع التهرب من الواقع السيء ليقع في واقع أسوأ ، كمن يطفىء النار بالحطب.

لقد صورت الحضارة الغربية للشبان أن التخلص من مشكلات الحياة مقترن بشرب الخمور ، وأن التغلب على مكاره الدهر يكمن في حب الشهوات ، وكلا العلاجيْن المزعومين لا نصيب لهما من الصحة ، بل على العكس تماماً ، فهو يفرّ من الهموم ليقع في الغموم ، وهو ينفس عن الكربات بأسوأ منها من الموبقات.

ه‍ ـ الضرر المالي ، ويتمثل بهذا النوع من العبث والاسراف بالمال دونما وضعه في موقعه المشروع الذي يراد منه وله ، والمرء يسأل غداً عن ماله ممّ إكتسبه ، وفيم أنفقه ، فلا يجوز التكسب بالحرام بيعاً وشراء ، والتصرف ببيع الخمور وشرائها من الحرام ، وهو محرم حرمة تشريعية ، وتترتب عليها أحكام فقهية. يقول الشيخ الأنصاري ( ت : ١٢٨١ ه‍ ).

« يحرم التكسب بالخمر مسكر مائع إجماعاً نصاً وفتوى » (١). ويقول السيد السيستاني مدّ ظله العالي : « لا يجوز التكسب بالخمر ، وباقي المسكرات المائعة ... ولا فرق بين أنواع التكسب من البيع والشراء وجعلها ثمناً في البيع ، وأجرة في الإجارة ، وعوضاً عن العمل في الجعالة ، وغير ذلك من أنحاء المعاوضة عليها ، وفي حكم ذلك جعلها مهراً في

__________________

(١) الأنصاري ، المكاسب : ١ / ١١٦.

١٠٣

النكاح ، وعوضاً في الطلاق الخلعي ، وكذا هبتها والصلح بلا عوض على الأظهر » (١).

ومع هذا التفصيل عند السيد السيستاني فقد ذهب إلى أكثر من هذا كله ، فقال « يحرم بيع العنب ليعمل خمراً ، وكذا تحرم ولا تصح إجارة المساكن لتباع فيها الخمر ، أو تحرز فيها ، وكذا تحرم ولا تصح إجارة السفن أو الدواب وغيرها لحمل الخمر ، والأجرة في ذلك محرمة » (٢).

وهذه الفتاوى المدويّة في تحريم بيع وشراء الخمور ومتفرعاتها ، مستنبطة من أدلتها الشرعية في ضوء الروايات الصحيحة متناً وسنداً كما في الكافي للكليني ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ، والتهذيب والاستبصار للطوسي ، والوسائل للحر العاملي في باب المكاسب المحرمة ، وهي مناقشة علمية رصينة في كتب الفقه الاستدلالي.

بقي أن نقول : إن الخمر قد حرمت لإسكارها ، فما كان مسكراً فهو حرام ، كالويسكي والبراندي والبيرة وبقية المشروبات المادية التي تسمى جزافاً بالمشروبات الروحية لأنها ترتبط بالمادة ، ولا علاقة لها بالصفاء الروحي على الإطلاق ، ولكنها المفاهيم الغربية التي فرضت شهرتها على الشرق.

هذه الحرمة مبتنية على قاعدة أصولية يذهب بها الإمامية ، وهي القول بقياس منصوص العلة ، فإن علة تحريم الخمر هو الاسكار ، فكل مسكر إذن حرام ، مهما تعددت أسماؤه ، واختلفت تركيباته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

النجف الأشرف / ٢٨ شعبان المعظم ١٤١٨ ه‍ ٢٩ / ١٢ / ١٩٩٧ م

الدكتور محمد حسين علي الصغير

__________________

(١) السيستاني ، منهاج الصالحين : ٢ / ٥.

(٢) المصدر نفسه : ٢ / ٩.

١٠٤

مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في

القرآن العظيم

ألقيت في الندوة العلمية المتخصصة التي عقدها الاستاذ سامي محي الدين وأخوته في ديوانهم العامر في النجف الاشرف مساء يوم السبت ١٨ رمضان ١٤١٨ ه‍ ١٧ / ١ / ١٩٩٨ م. وعقبّت بالاجابة عن الأسئلة التي تخص البحث في مناقشة مكثفة. حضرها العلماء الأعلام وأساتذة الجامعات وجمهور كبير من النجفيين والمثقفين.

١٠٥
١٠٦

حياة الكائن الانساني في القرآن تستدعي تأملاً كثيراً في كل منحنياتها ، وتستدعي إنتباه الباحث الموضوعي في تناثر جزئياتها ، فهذا الكائن دون سواه قد حضي بالتكريم الالهي ، قال تعالىٰ : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (٧٠) ) (١). والعلة في هذا التكريم إعتباره الخلق الأول في حياة الأرض ، كما هو ظاهر القرآن ، وهذا الخلق يمتاز بالدقة في التركيب ، والحسن بالتقويم ، والابداع في التصوير.

هذا الخلق الجديد ذو طابعين : طابع إعجازي لا عن مثيل ، وطابع فطري في سنة الحياة يقترن بالتزاوج والتناسل بين الذكر والأنثىٰ بتلاقح الحويمن المنوي المذكّر بالبيضة المخصبة الأنثوية ، لينتج ذلك كائناً ناطقاً عاقلاً مفكراً من جماد ، لا أهلية له من نطق أو عقل أو إرادة أو تفكير ، وهذا ما جلب إنتباه فيلسوف المعرّة أبي العلاء المعري فقال :

والذي حارث البريةُ فيهِ

حَيَوانٌ مستحدثٌ من جماد (٢)

ولكل من هذين الملحظين المهمين في تكوين الإنسان حديث يتناول أبعاده الأولىٰ والمتطورة على حد سواء ، حتى لحظات الموت وحياة البرزخ وقيام الساعة.

وقد بدأ هذا الإبداع الالهي بما حكاه الله تعالى في كتابه : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا

__________________

(١) الإسراء : ٧٠.

(٢) طه حسين ، تجديد ذكرى أبي العلاء : ١٧٠.

١٠٧

وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٠) ) (١).

هذه هي البداية بهذا الجعل التكويني المستفيض الذي لا يقبل الردّ ، وهنا تنطلق قضيّتان : الأولى هذا الأستفهام من الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ولا يمكن أن يصوّر هذا الاستفهام في طلب المعرفة وإستيضاح الحال بأنّه إعتراض على الله ، لأن الإفاضات التي حصل عليها الملائكة ، وهم عباد مقربّون مكرمون ، لا تبيح لهم الإعتراض والانكار ، فهم أعرف بجلالة المقام الالهي ، وسمو الحضرة القدسية ، وقد يقال بأنهم قد أشكلوا على الله تعالى لمزيد الإفاضة عليهم ، فيكون الحال مزيجاً بين الاستفسار والاسترحام والتلطف في المسألة لا على جهة الاعتراض والانكار ، وهذا الإشكال على هذا النحو لا يشكّل ما لا يجوز لهم ولا يباح ، لأنهم طلاب معرفة ، وهم يستشكلون الأمر لأنهم يقدّسون الله ويسبحونه ، فعلىٰ هذا يكون الباعث على ذلك مجرد التعجب من وجود حالتين متقابلتين : حالة الملائكة وهم بين التسبيح والتقديس لله في السماء ، وحالة البشرية في الإفساد وسفك الدماء في الأرض ، فكان الجواب : إنه يعلم ما لا يعلمون ، فسلّموا للأمر تسليماً.

هذا الانقداح الذهني في التصور الملائكي قد يكون للشفافية التي جبلوا عليها في الخلق ، فهم يتفرسون بما سيحدث لو وُجد هذا المخلوق البشري ، وهو ظاهر السياق القرآني ، وقد يقال : بأنّ الله خلق خلقاً قبل آدم ، وقد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، وكأنهم قاسوا هؤلاء على أولئك ، وهذا مما لم ينطق به القرآن ، وهو من القياس الباطل.

القضية الثانية : بعد أن خلق الله آدم حكى الله ما حدث بقوله : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤) ) (٢).

وهنا يظهر إمتناع إبليس من السجود ، فزجره الله تعالىٰ : ( قَالَ مَا مَنَعَكَ

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

(٢) البقرة : ٣٤.

١٠٨

أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (١). فأجاب إبليس بصيغة واحدة ، وأخرىٰ ، أما الصيغة الواحدة : ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) (٢) ، والصيغة الأخرى في سورة أخرى ، فيما حكاه تعالى عنه : ( قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٣٣) ) (٣).

والتعليل في الإجابة واحد أن الله خلق آدم من عنصر الطين ، وهو من عنصر النار ، والنار في زعمه أشرف عنصراً من الطين.

وهنا يتضح أن الله تعالت قدرته قد خلق آدم من طين ، كما نصّ عليه : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (٧١) ) (٤).

وفي هذا الضوء نجد خلق عيسى بن مريم عليه في كيفية خرق بها الله النواميس الطبيعية للكون ، فكان عيسى عليه‌السلام كمثل آدم كما قال : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩) ) (٥).

وهذا الخلق الاعجازي العظيم هزّ العالمين في الحديث عن قدرة الله تعالى ، وقد تحدث القرآن عن بداية هذا الخلق وإرهاصات تكوينه الإبداعي ، ببيان ظروفه كافة ، وشرح أبعاده ، فقال تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) ) (٦).

وهنا الإرهاص التوقعي أن مريم عليها‌السلام ستلد غلاماً زكياً ، بعد أن إنتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، وأتخذت لها من دونهم ستراً وحجاباً ، فأرسل الله الروح الأمين جبرئيل عليه‌السلام متمثلاً بشراً سوياً متكاملاً ، فأستعاذت به من الله تعالىٰ إن كان تقياً ، فأخبرها بأنه رسول الله ليهب لها هذا

__________________

(١) (٢) الأعراف : ١٢.

(٣) الحجر : ٣٣.

(٤) ص : ٧١.

(٥) آل عمران : ٥٩.

(٦) مريم : ١٦ ـ ٢٠.

١٠٩

الغلام ، فأنكرت ذلك لأنها لم يمسسها بشر ولم تك بغيّاً ، وهنا يتجلىٰ البعد الاعجازي الجديد ، في بيان هوان الأمر على الله ، وفي جعله آية للعالمين : ( قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (٢٦) ) (١). فالأمر هين على الله ليجعل عيسى آية للناس ورحمة ، وكان ذلك أمراً إلهياً تكوينياً ، فحملتهُ وإبتعدت به ، فأجاءها المخاض مباشرة إلى جذع النخلة ، وتحسست بفداحة ما حملت به ، فتمنت الموت فناداها الملك أو عيسى ألا تحزني ، وتحدث إليها ، وأمرها بهز الجذع فتساقط الرطب ، وأمرت بالأكل والشرب وقرة العين ، وأن تقول لمن تراه من الناس أني نذرت لله صوم الصمت ، وإنتهىٰ هذا الفصل ، وقد ولد عيسى دون أب ، وكان حقيقة واقعة لا تجحد ، وتختتم القصة بمثولها أمام قومها ، ليتجلى المحور الإعجازي لهم ، ويخشعوا صامتين ، وهكذا كان ، قال تعالى : ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ) (٢). ويستخلص من هذا أن مريم حينما جاءت به قومها ، جوبهت مباشرة بالاستنكار الشديد ، وهذا ديدن الناس في إستعجال الأمر وقالة السوء ، وقلق الوضين ، فأشارت إليه بحرارة وعزم وإصرار ، فأستغربوا إشارتها وعجبوا لها ، وصرخوا بفظاعة تكليم الطفل في مهده ، وهنا تبدو الآية الالهية الناطقة ، لتحسم الأمر في حركة إرادية غير متوقعة وليست بالحسبان ، قال إني عبد الله ،

__________________

(١) مريم : ٢١ ـ ٢٦.

(٢) مريم : ٢٧ ـ ٣٣.

١١٠

أتاني الكتاب ، وجعلني نبياً ... إلى آخر ما قال ، فأسقط بأيديهم ، وأخذتهم الدهشة ، وانحلّ كل إغلاق وإبهام ، فآمن من آمن عن دليل ، وأشرك من قال أنه ابن الله.

هذا النحو من الايجاد هو الخلق الاعجازي دون مثال أو سبيل طبيعي ، والخلق الاعجازي الآخر هو الخلق الفطري في التناسل البشري الذي أصبح فيما بعد طبيعياً ، وإن كان في أصل الايجاد إعجازياً ، لأنه عاد متعارفاً عن طريق التناسل ، أما حقيقة هذا التناسل وكيفيته ، وجعل الإرادة التكوينية متعلقة بها ، فهو مما لا تصل إليه يد الطبيعة ، وإنما هو من صنع أحسن الخالقين ، وقد أشار الله تعالى إلى الخلقين معاً بقوله تعالىٰ : ( وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) ) (١).

هذه العوالم الهائلة كلها يسيرة عند الله ، فهو الخالق من التراب ، وهو الخالق من النطفة ، وهو جاعل الزوجية ، وهو العالم بما تحمل كل أنثى ، وما تضع ، يضاف إلى هذا كله إحصاء هذه العوالم في كتاب مبين : المعمر وغير المعمر ، وما فوقهما وما دونهما ، ولكن الإنسان يطغىٰ : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) ) (٢).

فكيف بدأ هذا الخلق على النحو الطبيعي كما هي الحال اليوم ، وإلى انقضاء أجل الدنيا ، وقيام الساعة ، هذا ما يجيب عليه القرآن الكريم مستدلاً فيه على البعث والنشور ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) (٣).

__________________

(١) فاطر : ١١.

(٢) ياسين : ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) الحج : ٥.

١١١

فالتراب هو الأصل التركيبي والانشائي للانسان ، والنطفة هي الأصل الفطري للتناسل ، والعلقة : القطعة من الدم الجامد ، والمضغة القطعة من اللحم الممضوغة ، المخلّقة على ما قبل تامة الخلقة ، وغير المخلّقة غير تامة الخلقة ، وينطبق ذلك على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه ، وعليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق هو التصوير (١).

هذا السرد التدريجي في تركيبة النسل الرحمي مما يرفع التشكيك في البعث والنشور ، فإن من تدرج بالانسان من التراب إلى النطفة ، ومن النطفة إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة ، إلى التخليق في الصورة ، إلى الكائن الحي الناطق ، وهي مجموعة من التقلبات المختلفة حتى تصل إلى حين قبول الحياة ، لقادرٌ على إمكانية تمتع الانسان بعد الموت بالحياة ، نشراً وحشراً ، ذاتاً وعيناً ، روحاً وبدناً.

والقرآن الكريم يؤكد حقيقة الخلق الاعجازي والطبيعي لا في التركيب بل في الانفصال الأولي والالتقاء الثانوي ، فالانسان ترابي الأصل ، منويّ التفريع في التكوين ، فله تعالى وحده الحديث عن دقة الصنع وعظمة الخلق ، ومساحة المصنع التكويني الذي لا يتجاوز الرحم في صغره ، ليتولد منه هذا الانسان ، يقول تعالىٰ : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (١٤) ) (٢).

وفي الآية ردٌّ على نظرية الأستاذ ( دارون ) في النشوء والارتقاء ، فالانسان خُلِقَ متطوراً بعد هذه الأطوار.

وفي هذه الآيات تتجلىٰ القدرة الباهرة في تطويع السلالة الانسانية حيث التدرج التكويني من البسيط إلى المركب ، ومن الصعب إلى الأصعب ، فهذه المواد الأولية في التركيب للكيان الانساني : تراب ، نطفة ، علقة ، مضغة ، عظام ، لحم ، تكوّن جسماً ما ولكن ذلك يترتب عليه خلقٌ

__________________

(١) ظ : الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ١٤ / ٣٤٤.

(٢) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

١١٢

آخر في الانشاء ، ذلك الخلق الآخر هو الانسان ، فهو شيء إذن ، والمراحل التكوينية شيء آخر ، فهو ليس من جنس تلك المراحل بل هو إمتداد لها ، وإبداع حادث فيه العلم والقدرة والحياة والنطق والإرادة ، وهي معالم تختلف تماماً عن جنس المواد التي ركب منها ، وهذا ملحظ دقيق للغاية.

وتناسل هذا الانسان الأول « آدم » فكانت ثمرته « قابيل وهابيل » ولمّا كان التعليل الكوني في خلق الانسان وسواه هو توحيد الله وعبادته : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ) (١) والعبادة تشمل كل الفروض والسنن التي نادىٰ بها شعار الخلق بما فيها التقرب إلى الله في مراسم القرابين ، فقرّب قابيل قربانه فلم يتقبل منه ، وتقبل من أخيه هابيل ، فأخذته الأنانية ، وتمكن منه الغيظ وربما الحسد ، فأقدم على قتله دون تورّع ، أما كيف علما بتقبل القربان وعدمه « فإنه كان من المعهود عند الأمم السابقة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه ، قال تعالى : ( حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) (٢) .. فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضاً على هذا النحو .. وكيف ما كان فالقاتل والمقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما وردّه من الآخر » (٣). ذلك ما يقرره القرآن في سورة المائدة الآيات ( ٢٧ ـ ٣١ ) والتي تبدأ بقوله تعالى : ( * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ (٢٧) ) (٤).

ومن هنا بدأ الصراع الدموي عند الانسان متمثلاً بالكفر والايمان ، ومرت البشرية بأدوار وأطوار لا يعرض القرآن لتفصيلها دون الاجمال ، حتى بعث أبو البشر الثاني نوح عليه‌السلام في العراق ، وفي الكوفة على وجه التحديد ، ذلك ما يحكيه القرآن في خطابه للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالىٰ : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) آل عمران : ١٨٣.

(٣) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ٥ / ٣٠٠.

(٤) المائدة : ٢٧.

١١٣

إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) (١). فهذا الوحي النازل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له سابقة تأريخية بما أوحاه الله إلى نوح والأنبياء من بعد نوح ، فالقرآن إذن يبدأ حديثه عن وحي الأنبياء إعتباراً من نوح إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا كان نوح عليه‌السلام هو المقدم في الذكر بعد آدم مباشرة ، قال تعالىٰ : ( * إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ) (٢).

وكانت رسالة نوح واضحة المعالم بالدعوة إلى التوحيد ، قال تعالىٰ : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (٣). ولم تجد رسالة نوح آذاناً واعية ، ولا أسماعاً صاغيةً ، بل كان قومه من العتاة الطغاة المتكبرين ، لذلك فقد صرح القرآن الكريم بقلة من آمن مع نوح : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (٤) ، وسلك العديد الأكثر طرق الضلال وعبادة الأوثان والأصنام في معزل عن الدعوة الالهية إلى التوحيد ، وتواصوا بالأبقاء على الأوثان : ( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣) ) (٥).

والملاحظ هنا أن أسماء هذه الأصنام أسماء عربية ، فهل كان نوح عربياً وهل كانت المنطقة عربية ، وهل ورثوها من قوم عرب ، إن لم يكونوا هم عرباً ، هذا ما يجيب عليه علماء الآثار واللغات والحفريات.

وكان قوم نوح بحيث أتعبوا نوحاً تعباً مضنياً ، فلم يستمعوا له ، ولم يستجيبوا لدعوته ، بل قابلوه بما حكاه القرآن الكريم عنه : ( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ) (٦).

بل ذهبوا إلى أكثر من هذا مع سماحة النبي ، وبرّه في الدعاء ، ولين

__________________

(١) النساء : ١٦٣.

(٢) آل عمران : ٣٣.

(٣) الأعراف : ٥٩.

(٤) هود : ٤٠.

(٥) نوح : ٢٣.

(٦) نوح : ٧.

١١٤

الجانب ، وتكرار الدعوة ، فعبّر عنهم نوح : ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) ) (١) ، حتى ضاق بهم ذرعاً طيلة هذه المدّة الطويلة التي بلغت ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فما أجدى معهم الوعظ ولا الارشاد ولا حسن التأني الذي جبل عليه نوح عليه‌السلام : ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (١٠) ) (٢) ، فأمره تعالى بصنع السفينة ، وضرب له موعداً فيها بمجيء الأمر لدى فوران التنور ، فكان ذلك علامة له ، وفيه توجيه وإخبار ، توجيه فيمن يحمل معه في السفينة ، وإخبار بهلاك الذين سبق عليهم القول ، قال تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (٢٧) ) (٣).

وكان صنع الفلك بعناية من الله ، وبمرئىً منه ، وفي ظل مراقبته القصوى ، ورعايته الالهية المعهودة مع الأنبياء ، وكان قومه يعجبون من هذا الصنع وبهذه السعة الكبيرة ، ويبدو أنهم بمنأى عن الحياة البحرية ، وإستقرارهم في مناخ بدوي لا يعدو القوافل الساذجة البدائية : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) ) (٤). ونفّذ نوح ما أوحى الله به إليه ، فأسلك فيها من كل زوجيْن إثنين ومعه القلّة من المؤمنين ، وأخبرهم بمصيرهم ، وهذا الأسلاك كما هو ظاهر القرآن ينبىء أن الطوفان شامل للكرة الأرضية آنذاك ، فأراد الله إستمرارية الحياة للكائنات ومسيرة الحضارة في الحياة ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحياة باقية في جزء من الأرض ، كما هي فانية في جزء آخر ، لهذا فذهب بأن الطوفان كان عالمياً ، وصدر الأمر الالهي الصّارم : ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) ) (٥).

__________________

(١) نوح : ٢٢.

(٢) القمر : ١٠.

(٣) المؤمنون : ٢٧.

(٤) هود : ٣٨.

(٥) القمر : ١١ ـ ١٢.

١١٥

ودلالة السماء ظاهرة في السماء الدنيا ، ودلالة الأرض ظاهرة على هذه الأرض جميعاً ، ولا دليل من القرآن على غير هذا ، ولا يدفع الظاهر بالمؤوّل دون أمارة ، ودعاء نوح يوحي بهذا بل يصرح بعموم الطوفان : ( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) (١). وكون رسالة نوح عالمية تؤكد ذلك : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا ) (٢) ، مؤيداً بقوله تعالى : ( فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ) (٣). والكتاب إنما ينزل على أصحاب الرسالات العالمية ونوح أولهم بإعتباره من أولي العزم الخمسة وهو الأول منهم. قال الطباطبائي : « فالحق أن ظاهر القرآن ـ ظهوراً لا ينكر ـ يدل أن الطوفان كان عاماً للأرض ، وأن من كان عليها من البشر قد أغرقوا جميعاً ، ولم يقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور » (٤).

وغرق الملأ ، وانتهىٰ الأمر ونجا نوح والمؤمنون ، ( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (١٥) ) (٥). وحصر الله ذرية البشر في نوح وحده ، وهو أيضاً مما يدلل صراحة على هلاك البشرية إلا نوح والذين معه : ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (٨٢) ) (٦).

وتغلبت القرون الأخرى في العالم ، وتعاقبت الأجيال على الكرة الأرضية حتى قوم هود عليه‌السلام ، وهو من أنبياء العرب فبعثه الله إليهم : ( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ) (٧). الدعوة نفسها ، والغرض واحد ، وهو التوحيد ، فكفروا به بعد أن

__________________

(١) نوح : ٢٦.

(٢) الشورى : ١٣.

(٣) البقرة : ١٣.

(٤) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ١٠ / ٢٦٦.

(٥) العنكبوت : ١٥.

(٦) الصافات : ٧٦ ـ ٨٢.

(٧) الأعراف : ٦٥.

١١٦

أبلى هود بلاءً حسناً ، حتى قالوا عنه كما حكى القرآن ذلك : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) (١). وجادلهم هود في الله ، وأبلغ في الدعوة والدعاء ، وذكّرهم بآلاء الله : ( لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٢).

وحذرهم هود ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً ، ولكنهم ركبوا رؤوسهم ، واتبعوا أهواءهم ، وتركوا العقل جانباً ، واستعجلوا العذاب ، فأنبئهم بما حكاه سبحانه وتعالى : ( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) (٣). فقطع دابرهم ، واستئصلت شأفتهم ، ونجا هود والمؤمنون : ( فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) ) (٤).

وأرسل الله صالحاً بالرسالة إلى ثمود وهم من العرب البائدة في معجزة بينّة ـ بناء على طلبهم ـ وهي الناقة آية لهم من الله ، قال تعالى : ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ) (٥). فكذبوه بعد أن أعذر إليهم ، وأقدموا على عقر الناقة ، وقد كانت لهم غذاء ورواءً ، ولكنه الطغيان الكامن في نفوس القوم الظالمين ، ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) ) (٦).

وهكذا تتوالى الرسالات بالتوحيد ، ويتوالى الاستكبار والتكذيب ، ولم تكن للناس على الله الحجة ، فقد تابع الرسل والنبيين ، يوقظون الغافل ، ويحركون روح الحياة في النفوس ، فأرسل لوطاً وشعيباً ، فكذبوا ذلك ، وكان عذاب الاستئصال يسوّي آثارهم ، وينسف ديارهم ، فبالنسبة

__________________

(١) الأعراف : ٦٦.

(٢) الأعراف : ٦٩.

(٣) الأعراف : ٧١.

(٤) الأعراف : ٧٢.

(٥) الأعراف : ٧٣.

(٦) الأعراف : ٧٨.

١١٧

لقوم لوط قال تعالى : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ (٨٤) ) (١). وكان العبد الصالح شعيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويذكرهم بأنعم الله المتواترة عليهم ، وبما منّ عليهم من خيرات فكذبوه : ( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ (٩٢) ) (٢).

هؤلاء الأنبياء قصصت عليك نبأهم مع أقوامهم من خلال مرور سريع في سورة الأعراف وحدها ، لأن البحث مبنيٌّ على سبيل الاشارة والنموذج والمثال ، والاطالة تعني الخروج من أصول البحث.

وما زالت البشرية تتمتع بنعم الله الطائلة ، وتتقلب في ألطافه العميمة ، وهي تكذب بآيات الله ، وتجحد آلاء الله فيمسهم العذاب الأليم ، حتى أنعم الله على الانسانية بالرسالة الحنيفية الغراء على يد إبراهيم الخليل وكان الكلدانيون وسواهم عبدة أصنام وسدنة أوثان وحضنة تماثيل ، فدعاهم إلى عبادة الله وتوحيده ، فأبوا واستكبروا ، وظلوا على أوثانهم عاكفين ، فأقسم إبراهيم أن سيكيدها : ( وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) ) (٣) ، وهكذا كان فقد هجم عليها وهم في منأى عنه وعنها : ( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) ) (٤). وأحيطوا به خبراً ، وجاء يهرعون إليه ، بعد أن نذروا به : ( قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (٦٣) ) (٥).

وسقط في أيديهم ، وألزمهم الحجة ، وأحرجهم بداهة ، فلا نطق ولا جواب ولا تفكير للأصنام ، ولجأوا إلى منطق القوة والجبروت والطغيان :

__________________

(١) الأعراف : ٨٤.

(٢) الأعراف : ٩٢.

(٣) الأنبياء : ٥٧.

(٤) الأنبياء : ٥٨.

(٥) الأنبياء : ٥٩ ـ ٦٣.

١١٨

( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١) ) (١) ، وغادر إبراهيم العراق إلى فلسطين ، وبلي هناك بالهجرة إلى مصر ، وأخرى إلى حيث وضع ولده وزوجته عند بيت الله الحرام ، وهنا فوجىء بالامتحان القاسي بذبح ولده ـ وهو اسماعيل في أشهر الروايات ـ على سبيل الايحاء الالهي في المنام : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلاءُ المُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) ) (٢).

فكان من الأب أن امتثل الأمر المولوي ، وكان من الابن أن استجاب لهذا الأمر بطلب فعله ، وتدارك الله عبديه ، وشكر لهما صنعهما ، ونوّه بذكرهما ، وإعتبرهما من المحسنين المستحقين للجزاء والثواب ، على هذا البلاء والامتحان ، وفداه بذبح عظيم.

ولم يزل إبراهيم عليه‌السلام مناراً في الاختبار السرمدي ، وهو في أواخر حياته ، وقد منّ الله عليه بالذريّة ، فذكر الله على ذلك وحمده : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ (٤١) ) (٣).

وكان إبراهيم عبداً منيباً ، ورجلاً كريماً سمحاً ، وممتثلاً لأوامر الله تعالى ينفّذها حرفياً ، فأقام القواعد من البيت يساعده عليه اسماعيل ، واستقبل الأضياف ، وحاجج الملائكة في قضية قوم لوط ، ودعا إلى الله بكل ما استطاع ، وقابل الهجرتين وسواهما بقلب سليم ، ودعا الله وأناب إليه ، كل ذلك مما لا شك فيه ، وعليه ظواهر الكتاب ، والذي يبدو أنه أختبر من قبل الله تعالى أواخر أيامه بكلمات فأتمهن : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ

__________________

(١) الأنبياء : ٦٨ ـ ٧١.

(٢) الصافات : ١٠٢ ـ ١٠٧.

(٣) إبراهيم : ٣٩.

١١٩

بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) ) (١) ، فقد جعله الله للناس إماماً لا ريب في ذلك ، إلا أنه طلب الامامة لذريته بعد تواجد هذه الذرية ، فما هو هذا الابتلاء العسير الذي ستظهر به قابلياته النفسية ، وملكاته الكامنة بالعمل والجد والسعي دون القول وحده ، هذا الابتلاء كان متعلقاً بالكلمات ، والكلمات جمع كلمة ، والكلمة قد يراد بها الشخص في القرآن ، الشخص بذاته ، والانسان المعهود نفسه ، أي أنها قد تطلق على الوجود العيني كما في قوله تعالى بالنسبة لعيسى عليه‌السلام : ( إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ (٤٥) ) (٢). وبهذا يتجلىٰ أن كلمة الله هنا هي فعله ، كما هي في غيرها قوله ، قال تعالى : ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) (٣).

وقد ابتلى ابراهيم عليه‌السلام قبلها بأوامر إلهية صارمة كالهجرة وذبح الولد ، وبناء البيت وإبعاد الأهل وسواها ، وهنا لم يذكر شيئاً منها لعدم تعلق المقام فيها ، إلا أن الغرض قد يكون واضحاً في هذه الكلمات بمقارنة قوله تعالىٰ : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، فهو حديث خاص يتعلق باقتداء الناس به ، يستضيئون بنور علمه ، ويهتدون بما يفيض عليهم من كمالات الائتمام إستكمالاً للفيض الالهي عليه بعد أن كان نبياً ورسولاً وخليلاً ، فأضاف إليها الإمامة وهي الولاية العامة على الناس ، ويبدو أنه قبلها ، بل وطلبها إلى ذريته ، فكان الجواب ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) تعبيراً عن إبعاد الظالمين عن ولاية العهد الالهي ؛ وبهذا يتجلّىٰ أن الظالم لا يصلح للإمامة لأنه لا يكون هادياً إلى الحق ، وأن الامام يجب أن يكون معصوماً لأنه ليس بظالم ، وجميع الذنوب من الظلم النفسي أو الغيري أو كلاهما معاً ، ومن لم يذنب لا يعدّ ظالماً ، فاقتضى القول بالعصمة ، وهذا ما تؤيده النظرية العلمية الدقيقة في شؤون القرآن بعيداً عن المذهب الكلامي

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) آل عمران : ٤٥.

(٣) الأنعام : ٣٤.

١٢٠