شرح أبيات سيبويه - ج ١

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي

شرح أبيات سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي


المحقق: الدكتور محمّد علي سلطاني
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العصماء
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٠
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه العون

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة على محمد نبيه وآله الطيبين (١) الطاهرين.

قال أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي :

[الصفة المشبهة ـ تنوين معمولها]

١ ـ قال سيبويه في الكتاب (١ / ١٠١) باب حسن الوجه (٢) قال : «ومما جاء منه منونا قول أبي زبيد (٣)» (٤) :

وأقفر الحنو إلّا من تواثبه

ومن فريسته جرّا وتسحابا

__________________

(١) ليست في المطبوع.

(٢) عبارة سيبويه ١ / ٩٩ «باب الصفة المشبهة بالفاعل فيما عملت فيه».

(٣) هو الطائي ، واسمه المنذر بن حرملة ، شاعر نديم معمّر من نصارى طيىء ، واستعمله عمر على صدقات قومه ، أكثر من وصف الأسد ، (ت بالرقة نحو ٦٢ ه‍) ترجمته في : طبقات الشعراء لابن سلام ٢ / ٥٩٣ وحاشيتها وفي كنى الشعراء ـ نوادر المخطوطات ٧ / ٢٨٧ والمعمرون ١٠٨ والشعر والشعراء ١ / ٣٠١ والأغاني ١٢ / ١٢٧ وسرح العيون ١٢٠ وخزانة البغدادي ٢ / ١٥٥

(٤) عبارة سيبويه «ومما جاء منونا قول أبي زبيد يصف الأسد».

١

(كأنّ أثواب نقّاد قدرن له

يعلو بخملتها كهباء هدّابا (١))

وصف أسدا ، والحنو : موضع بعينه في هذا البيت ، وتواثبه : وثبه على الناس وغيرهم وفريسته : ما يأخذ من الحيوان ، و (جرا) مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره : يجرها جرا ، يعني الفريسة ، و (تسحابا) مثله ، كأنه قال : ويسحبها سحبا. ويجوز أن يكون الفعل المقدر الناصب (جرا) والناصب (تسحابا) في موضع الحال من الهاء التي أضيف التواثب إليها ، فيكون موضعه نصبا لأنه في موضع الحال كأنه قال : ومن تواثبه جارا ساحبا (٢).

ويجوز أن يكون الفعل خبرا مستأنفا ، فلا يكون له موضع من الإعراب ، كأنه أخبر بأنه يجر فريسته ويسحبها. هذان فرع من الكلام المتقدم.

ثم وصف شعر الأسد ، وشبه لونه بلون ثياب النّقّاد. والنقاد صاحب الغنم ، والنّقد غنم (٣) صغار ، وثياب النقاد غبر شديدة الوسخ.

وقيل : إنه أراد أن النقاد عليه ثوب قد شمّره ، وشعر الأسد لا يكثر على قوائمه ، فكأنه بمنزلة نقاد قد شمر ثيابه.

وقوله (قدرن له) أي جعلن له قدرا ، وقدّرت عليه. ويقال : قدرت

__________________

(١) البيتان لأبي زبيد في : شرح الكوفي ٣٥ / أوروي ثانيهما لأبي زبيد في : اللسان (نقد) ٤ / ٤٣٧ وانظر شعراء النصرانية ٦٧

والشاهد فيه نصب (هدابا) بقوله (كهباء) لما فيه من نية التنوين. وعبارة سيبويه تشير إلى أن معمول الصفة المشبهة بالألف واللام أكثر وأحسن ، كما أن التنوين عربي مطرد. وقد ورد الشاهد في : الأعلم ١ / ١٠١ والكوفي ٣٥ / أ.

(٢) قلت : ويصح أن تكون (جرا وتسحابا) في موضع الحال من الفريسة ، بمعنى مجرورة مسحوبة. ولكن المعنى على هذا التأويل ليس في قوة غيره ، بينما يمور المشهد بالحياة والرهبة في جعله حالا من ضمير الأسد.

(٣) في اللسان (نقد) ٤ / ٤٣٧ غنم صغار حجازية. وفي أمثالهم : «أذل من النقد».

انظر الدرة الفاخرة ١ / ٢٠٥ ومجمع الأمثال (٢٣٨٤) ج ٢ / ٥

٢

الشيء من التقدير. وجعله لأجل طول شعره بمنزلة النّقّاد الذي قد لبس قطيفة ، وصيّر القطيفة أثوابه ، وما عليه (١) أثوابه ، وجعل خملها ظاهرا. وهدّاب القطيفة : ما تدلى منها ، وحواشيها أيضا أهدابها ، والكهباء : التي بين السوداء والبيضاء (٢). والكهبة : سواد يخلطه شيء من بياض.

وقوله : يعلو بخملتها ، يريد أنه قد لبس القطيفة ، وجعل الموضع الذي ليس فيه خمل مما يلي جسده ، وجعل الموضع الذي فيه خمل ظاهرا ، وإذ (٣) جعله ظاهرا فقد علا به. وفي (يعلو) ضمير يعود إلى النقاد ، وهو في معنى (٤) يعلي خملتها ، كقولك : ذهبت به وأذهبته.

و (كهباء) حال من الضمير الذي أضيفت الجملة إليه ، والضمير يعود إلى الأثواب. ويجوز أن يكون حالا من النون في (قدرن) التي هي ضمير الثياب. ويجوز أن تكون (كهباء) من نعت الأثواب.

وكان الأصل فيه قبل النقل أن يكون (أكهب هدّابها) (٥) لأن الهدّاب ذكر فلما نقل الضمير المؤنث الذي أضيف إليه الهدّاب عن موضعه وجعله في تقدير فاعل لأكهب ؛ احتاج أن يجعل مكانه اللفظ الذي للمؤنث ، لأنه جعل ضمير المؤنث فاعلا فصار كهباء في موضع أكهب. ومثله : مررت بامرأة أحمر غلامها ، فإذا نقلت الضمير وجعلته في تقدير فاعل لأحمر قلت : مررت بامرأة حمراء الغلام بالإضافة ،

__________________

(١) الضمير في (عليه) يعود على الأسد ، و (ما) موصولية.

(٢) في المطبوع : بين السواد والبياض.

(٣) في الأصل والمطبوع : وإذا.

(٤) في المطبوع : وهو الذي يعلي خملتها.

(٥) هدّابها : فاعل لأكهب. وعند أبي علي الفارسي بدل من الضمير المستتر في الصفة (أكهب). انظر الأشموني ٢ / ٣٥٧

٣

وحمراء الغلام بنصب الغلام ، فإن لم تدخل الألف واللام قلت : حمراء غلاما بالنصب ، أو حمراء غلام بالإضافة (١).

قال (١ / ١٠٢) ولأبي زبيد (٢) :

(هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

محطوطة جدلت شنباء أنيابا)

وصف امرأة في أول قصيدته فقال :

أصبحت قضّيت من حسناء آرابا

هجرتها ورحيق (٣) الكأس أحقابا

يريد أنه هجرها وهجر شرب (٤) الخمر. ثم مضى في ذكرها حتى انتهى إلى قوله : هيفاء مقبلة ، والهيف : ضمر / البطن ، والمجدولة : المفتولة الجسم ليست بمسترخية اللحم ، ولم يرد بوصفها بالجدل أنها صلبة الجسم ، إنما يراد أن لحمها ليس بمسترخ ولا متدلّ ، هي مستوية الأعضاء كالعنان والنّسع المجدول. والمحطوطة : قيل في معناها : إنها ليست بكثيرة لحم المتنين ، وعندي أنه يراد به أنها ملساء الجلد

__________________

(١) ذكر سيبويه أن الإضافة في معمول الصفة المشبهة أحسن وأكثر ، والتنوين عربي جيد. انظر ١ / ١٠٠ وقد أورد الأشموني لهذا المعمول نيفا وسبعين صورة ، قسمها إلى : ممتنع وفيه تسع صور ، وجائز وفيه بقية العدد ، والجائز إلى قبيح وضعيف وحسن ، والأخير إلى حسن وأحسن. ثم أشار إلى أن هذا المعمول بصوره كلها لا يخرج في إعرابه عن ثلاث : الرفع على الفاعلية ، والنصب على التشبيه بالمفعول به إن كان معرفة ، وعلى التمييز إن كان نكرة ، والخفض بالإضافة. والصفة مع كل من الثلاثة إما نكرة أو معرفة. انظر تفصيل ذلك في شرحه ٢ / ٣٥٥ وما بعدها.

(٢) عبارة سيبويه «وقال أيضا».

(٣) في المطبوع بالضم.

(٤) (شرب) ليست في المطبوع.

٤

براقته. وقيل : الشّنب حدّة في الأسنان. وقيل : الشنب برد في الأسنان (١).

وهيفاء ، خبر مبتدأ محذوف ومعناه : هي هيفاء ، ومقبلة ، نصب على الحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : هيفاء إذا كانت مقبلة ، و (كانت) في هذا الموضع هي كان التامة ، وفيها ضمير فاعل يعود إلى المبتدأ المحذوف. ومثله : شربك السّويق (٢) ملتوتا (٣) ، فمعناه : شربك السويق إذا كان ملتوتا ، وضربك زيدا إذا كان قائما (٤).

فإن قال قائل : فإذا جعلت كان ، تامة ، فهي بمعنى حدث ووقع ، والذي مثلت به ؛ فاعله لم يحدث في الحال التي أخبرت بها عنه ، لأنك إذا قلت : شربك السويق ملتوتا ، فمعناه : شربك السويق إذا كان السويق ملتوتا ، وضربك زيدا إذا كان زيد قائما. فالسويق وزيد ، لم يحدثا في الحال التي أخبرت بها ؛ فلم لم تجعل كان ـ في هذا وأشباهه ـ ناقصة ، وتجعل هذا المنصوب خبرا؟ قيل له :

__________________

(١) قال الجوهري (حطط) ٣ / ١١١٩ جارية محطوطة المتنين أي ممدودة مستوية.

قال الشاعر :

بيضاء محطوطة المتنين بهكنة

ريّا الروادف لم تمغل بأولاد

وعند الأعلم ١ / ١٠٢ هي الملساء الظهر غير متغضنة الجلد من كبر أو ترهل. وشنب الثغر بريقه وبرده. وفي اللسان (هلب) ٢ / ٢٨٦ المحطوطة المصقولة ، والمسحطّ خشبة يصقل بها الجلود ، والشنب برد في الأسنان وعذوبة في الريق.

(٢) يصنع من الطحين والسمن ، يقال جذذت الحنطة للسويق وطحنتها للخبز ، إن شئت كان شرابا ، وإن شئت كان طعاما ، وإن شئت كان ثريدا ، وإن شئت فخبيصا ، وسمي سويقا لانسياقه في الحلق. انظر المخصص ٥ / ٨ والمحكم (سوق) ٦ / ٣٢٦ واللسان (سوق) ١٢ / ٣٦

(٣) لت السويق بالسمن خاضه حتى يختلط ، والفعل لتّ بابه نصر. انظر (لتت) في : الصحاح ١ / ٢٦٤ وأساس البلاغة ٨٤٥

(٤) لم يتقدم مثال (زيد) كما توهم المؤلف.

٥

قولنا شربك السويق ملتوتا ، وضربك زيدا قائما ، معناه : شربك السويق إذا حدث لتّه ، وضربك زيدا إذا حدث قيامه ، فاللفظ لزيد والسّويق ، والمراد الإخبار عن حدوث أحوالهما (١).

فإن قال قائل : قولك : كان أخوك ظريفا ، وكان زيد ذاهبا ، هو إخبار عن حدوث ذهابه وحدوث ظرفه ، فاجعل (كان) تامة في مثل ذا الموضع وفي جميع أحوالها ؛ قيل له :

ليس معنى الكلام الإخبار عن حدوث الظّرف والذهاب ، وإنما معناه الإخبار عن استحقاق زيد لهذا الوصف فيما مضى من الزمان ، ولهذا كان الخبر يجوز أن يكون معرفة ونكرة. ومع هذا إنّا لم نعلق وقوع شيء من الأشياء بحدوث الظّرف والذهاب ، كما فعلنا في قولك : شربك السّويق ملتوتا ، وضربك زيدا قائما ، ونحن قد علّقنا وقوع الشرب والضرب بحدوث لتّ السّويق وقيام زيد.

و (هيفاء) عاملة في إذا المقدرة بعدها ، وكذلك عجزاء. وأصل الكلام : هي هيفاء إذا كانت مقبلة ، وعجزاء إذا كانت مدبرة.

و (جدلت) وصف لمحطوطة ، وعجزاء خبر مبتدأ مثل هيفاء ، وكذلك شنباء. وأصله : شنب أنيابها. وشنب جمع أشنب ، والناب مذكر (٢) ولكنه

__________________

(١) فالأقرب أن نقول في إعراب كل من : (ملتوتا وقائما) بأنها : حال أغنت عن خبر المبتدأ.

(٢) كذا قال : المفضل بن سلمة في : (مختصر المذكر والمؤنث ص ٥٤) وأبو موسى الحامض في : (ما يذكر ويؤنث من الإنسان ومن اللباس ص ٢٦٦ ـ فصلة) وأحمد بن فارس في : (المذكر والمؤنث ص ٥٦) وكلها بتحقيق الدكتور رمضان عبد التواب. أما الفيروزابادي في القاموس (الناب) ١ / ١٣٥ فيذكر أن الناب مؤنث.

٦

نقل الفعل إليها فجعله على وصف الواحدة المؤنثة ، ونصب (أنيابا) شبّهه بالمفعول كما تقدم من الباب (١).

[الصفة المشبهة ـ إضافة معمولها إلى ضمير صاحبها]

٢ ـ قال سيبويه (١ / ١٠٢) : «وقد جاء في الشعر حسنة وجهها ، شبهوه بحسنة الوجه ، وذلك رديء (٢). قال الشماخ (٣) :

أمن دمنتين عرّج الرّكب فيهما

بحقل الرّخامى قد عفا طللاهما

(أقامت على ربعيهما جارتا صفا

كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما (٤))

ويروى : «عرّس الركب فيهما» ، ويروى : «قد أنى لبلاهما».

الشاهد (٥) في البيت على أن الشاعر أضاف (جونتا) إلى (مصطلاهما).

__________________

(١) ذكر ابن النحاس ٢٢ / أ: أن «الوجه شنباء أنياب ولكنه نوى التنوين» وزاد صاحب اللسان (هلب) ٢ / ٢٨٦ جواز نصب (أنيابا) على التمييز. والمعلوم أن الشّنب لا يوصف به غير الأسنان. كما ورد الشاهد في : النحاس ٢٤ / أوالأعلم ١ / ١٠٢ والكوفي ٣ / ب.

(٢) تتمة الكلام في الكتاب «لأنه بالهاء معرفة كما كان بالألف واللام». وعقّب السيرافي (على هامش الكتاب) «وذلك رديء من قبل أن في (حسن) ضميرا يرتفع به يعود إلى زيد ، فلا حاجة بنا إلى الضمير الذي في (الوجه).

(٣) وقيل : اسمه معقل ، والشماخ لقبه. وهو ابن ضرار الذبياني الغطفاني ، شاعر أدرك الجاهلية والإسلام ، وله صحبة ، اشتهر بالوصف والقدرة على الرجزت سنة ٢٢ ه‍ انظر : الشعر والشعراء ١ / ٣١٥ والأغاني ٩ / ١٥٨ والإصابة ٢ / ١٥١ تر ٣٩١٨ والخزانة ١ / ٥٢٦

(٤) ديوان الشماخ ق ١٧ / ١ ـ ٢ ص ٣٠٩ ، وجاء في عجز الأول «قد أنى لبلاهما» ورجح المحقق هذه الرواية ، لأن قوله «قد عفا طللاهما» سينتهي به البيت الرابع في كل النسخ ، كما أورد للبغدادي قوله في الخزانة ٢ / ١٩٨ «وقد روى كثير : (قد عفا طللاهما) ، وهذا غير صواب لأنه يتكرر مع ما بعده». والبيتان مطلع لقصيدة قالها يمدح يزيد بن مربع الأنصاري ورواية الكتاب (عرّس).

(٥) ورد الشاهد في : الأعلم ١ / ١٠٢ والكوفي ٢ / ب والعيني ٣ / ٥٨٧ والأشموني ٢ / ٣٥٩ والخزانة ٢ / ١٩٨

٧

وجونتا صفة ل (١) (جارتا صفا) و (المصطلى) مضاف إلى (الجارتين) والإضافة لا تقع في باب حسن الوجه إلا بعد أن تجعل الذي كان فاعلا مفعولا من طريق اللفظ ، وتنقل ضميره المجرور إلى أن يجعل فاعلا للصفة التي تجري عليه. فإن لم ينقل الضمير عن موضعه ، لم يكن للصفة فاعل ، وإذا لم يكن لها فاعل ، لم يجز أن يكون السبب إلا فاعلا.

ونظير ما ذكرته لك أنك (٢) تقول : جاءتني امرأتان قائم غلاماهما ، الفعل للغلامين ، وجعلت اسم الفاعل ل (المرأتان) وهما من سببهما ، (فلذلك جاز أن توصفا بشيء لم تفعلاه لأنه من فعل سببهما (٣)). وليس يجوز في الغلامين إلا الرفع لأن قائما لا بد له من فاعل ، وليس فاعل سوى الغلامين / فإذا أرادوا أن يجعلوا القيام فعلا للمرأتين من طريق اللفظ ؛ والمعنى (٤) باق على ما كان عليه ، جاءوا إلى الضمير المجرور الذي هو ضمير المرأتين وقد أضيف الغلامان إليه ؛ فجعلوه فاعلا للقيام على طريق الاتساع ، ونصبوا الغلامين بقائم على طريق التشبيه باسم الفاعل الذي يعمل في المفعول فقالوا : جاءتني امرأتان قائمتان الغلامين ، وغلامين ، بغير ألف ولام ، كما تقول : جاءتني امرأتان ضاربتان الرجلين ، ويجوز فيها الإضافة فتقول : جاءتني امرأتان قائمتا غلامين ، وقائمتا الغلامين.

والإضافة إنما تسوغ بعد أن ينقل الفعل إلى الأول الموصوف ، ويجعل ضميره الذي كان مجرورا فاعلا ، ويجعل سبب الموصوف الذي كان فاعلا مفعولا ثم يضاف ، فالإضافة داخلة عليه بعد دخول النصب فيه ، والنصب لا يجوز فيه إلا بعد أن ينقل الضمير الذي كان يرجع إلى الموصوف فيجعل فاعلا.

__________________

(١) في المطبوع : إلى.

(٢) في المطبوع : أن.

(٣) ما بين القوسين ساقط في المطبوع.

(٤) في الأصل والمطبوع : فالمعنى.

٨

ونظيره من المسألة التي ذكرتها ، أنه لا يجوز أن تقول : جاءتني امرأتان قائمان غلاميهما ، لأن القيام للغلامين ، ولا طريق إلى أن تجعل في قائمين ضميرا للمرأتين وهما لم تفعلا القيام ، ولم تنقل ضميرهما المجرور الذي أضيف الغلامان إليه ، فتجعله في تقدير فاعل للقيام. وإذا (١) امتنع أن تقول : جاءتني امرأتان قائمان غلامين أو الغلامين بالنصب ؛ امتنع الجر ، لأن الجر إنما يدخل على النصب ، لأن الفاعل إذا نصب مفعوله ، جازت فيه الإضافة إلى المفعول ، لأن الإضافة أخف فإذا امتنع من النصب فهو من الجر أبعد.

فلذلك لا يجوز : مررت بامرأة حسنة وجهها إلا في ضرورة ، لأنك جئت بضميرها بعد أن نقلت الضمير الذي كان (الوجه) مضافا إليه فجعلته فاعلا ل (حسن) ، ثم جئت بضمير آخر فأضفت الوجه إليه. والإضافة لا تكون إلا بعد النقل ، وإذا كان السبب مضافا إلى ضمير الأول ، لم يحسن أن يجعل ـ وهو فاعل في الأصل ـ مفعولا ، ويجري (٢) هذا في كلامهم مجرى التكرير للشيء بعد ذكره (٣).

والدمنة : الموضع الذي أثّر فيه الناس بنزولهم وإقامتهم ، والرّكب : جمع راكب ، وهم أصحاب الإبل ، والرّخامى (٤) : شجر بعينه ، والحقل (٥) : الموضع

__________________

(١) في المطبوع : إذا.

(٢) في الأصل والمطبوع : ومجرى هذا ..

(٣) انظر ما أورده السيرافي حول هذا في الحاشية الثانية على الصفحة ٧

(٤) وقد أخذ البغدادي (٢ / ١٩٨) بهذا المعنى ، فهو عنده شجر مثل الضال وهو السدر البري. وفي القاموس (رخم) ٤ / ١١٨ ـ الرّخامى نبت. وهذا يتفق مع بقية المعنى.

(٥) هو عند الأعلم ١ / ١٠٢ موضع بعينه ، وفي القاموس (حقل) ٣ / ٣٥٨ الحقل : قراح طيب يزرع فيه ، كالحقلة ، ومنه قولهم : لا ينبت البقلة إلا الحقلة.

٩

الذي نبت فيه الرّخامىّ ، والحقل : القراح (١) ، والتعريج : أن يعطفوا إلى الموضع ويقفوا فيه ، وأنى : حان ، أي قد حان لهما أن يبليا (٢) ، والطلل : ما شخص من آثار الدار ، وعفا : درس ، ومعنى عرّس : نزل ليلا في المكان بعد ما سار أكثر الليل.

وقوله : أمن دمنتين ، يريد : أمن أجل دمنتين؟ و (من) في صلة فعل محذوف كأنه قال : أتحزن أو أتجزع من أجل دمنتين رأيتهما فتذكرت من كان يحل بهما؟! والضمير المجرور في (ربعيهما) يعود إلى الدمنتين ، والصفا ، الجبل في هذا الموضع ، وجارتاه : حجران يجعلان تحت القدر وهما الأثفبّتان ، وتسند القدر إلى الجبل ، فيقوم الجبل (٣) مقام حجر ثالث فيكون تحت القدر ، والربع : الدار.

يريد : أقامت الأثفيّتان اللتان تقربان من الجبل في ربع الدمنة. والذي يوجبه معنى الشعر ، أنه ليس يعني أثفيّتين اثنتين ، لأنه ذكر دمنتين ثم قال : أقامت على ربعيهما ، وليس أنّ في الربعين أثفيّتين في كل ربع أثفيّة ؛ وإنما يريد أن في كل ربع (٤) من هذين أثفيّتين.

والأعالي : أعالي الأثافي (٥). يريد : أن أعالي الأثافي أقمن شديدة الحمرة ،

__________________

(١) هو المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر ، كذا فسر البغدادي أيضا. ومنه الماء القراح الذي لا يشوبه شيء. انظر الصحاح (قرح) ١ / ٣٩٦

(٢) جاء في الخزانة (٢ / ١٩٨) أن اللام في «لبلاهما» زائدة. أي قد حان بلاهما.

(٣) والجبل هو المقصود بثالثة الأثافي في أساليبهم.

(٤) ساقطة في المطبوع.

(٥) بتشديد الياء وتخفيفها.

١٠

قد اكماتّت (١) من ارتفاع النار إليها ، والجون : الأسود ، والجونة : السوداء (٢) يريد أن أسافل الأثافي قد اسودت من انقاد النار بينها ، وأعاليها قد احمرت من ارتفاع النار إليها (٣). والمصطلى. موضع اتقاد النار ، و (كميتا) وصف للجارتين ، (وجونتا) وصف للجارتين أيضا.

وقد ردّ هذا الاستشهاد على سيبويه ، وزعم الرادّ أن الضمير الذي أضيف المصطلى إليه ليس بعائد إلى الموصوف ، بل هو عائد إلى غيره ، ومثلوا ذلك بجاءتني امرأتان حسنتا الغلامين كريمتاهما / فالضمير المضاف (كريمتا) إليه هو ضمير الغلامين ليس بضمير المرأتين ، وهذا لا يشبه : مررت بامرأة حسنة وجهها. وعندهم أن الضمير الذي أضيف المصطلى إليه يعود إلى الأعالي.

فقيل لهم : ينبغي على ادعائكم أن يقال : كميتا الأعالي جونتا مصطلاها ، لأن الأعالي جمع. فأجابوا عن هذا بأن قالوا : الأعالي في معنى الأعليين (٤) ، كما قال الله (٥) عز وجل : (فقد صغت قلوبكما (٦) وهو يريد قلبين (٧).

__________________

(١) في المطبوع : اكمأتت ، بالهمز. وليس كذلك في : الصحاح (كمت) ١ / ٢٦٣ والقاموس (الكميت) ١ / ١٥٦ ويبدو أن الشعر قد دعاهم إلى مثل هذا الهمز فيه. انظر (صيغة افعألّ في العربية) للدكتور رمضان عبد التواب في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق الجزء الثالث من المجلد الثامن والأربعين.

(٢) هي من الأضداد. وتطلق على : الأحمر والأبيض والأسود والنهار. انظر الأضداد لابن الدهان ص ٨ والقاموس (الجون) ٤ / ٢١١.

(٣) ساقطة في المطبوع.

(٤) في المطبوع : الأعلين.

(٥) ليست في المطبوع.

(٦) سورة التحريم ٦٦ / ٤

(٧) أورد البغدادي حول هذه المسألة جملة من آراء النحويين كالسيرافي والفارسي وابن السراج .. وكلها تردّ قول من جعل ضمير (مصطلاهما) يعود إلى الأعالي لفساد المعنى ، دون أن يذكر اسم الرادّ على سيبويه. وزعم بعضهم أنه المبرد ، ورد أبو علي بأنه : لا يعرف قائله وليس المبرد. وقال البغدادي : «والشارح المحقق قال : هو المبرد». قصد به الاستراباذي. انظر الخزانة ١ / ١٢ قلت : ولم أجد هذا الشاهد فيما مررت به من كتب المبرد. انظر الخزانة ٢ / ١٩٩ وما بعدها.

١١

وهذا الذي تأولوه يضعف في المعنى ، لأنّ الأعالي هي أعلى هاتين (١) الأثفيّتين ، والمصطلى : الموضع الذي تصيبه النار من الأثفيّتين ، والأثفيّتان لهما مصطلى وأعال ، والأعالي لا مصطلى لها ، ومثل هذا أنّا نقول : أسفل الأثفيتين ، وأعلى الأثفيتين ، وأوسط الأثفيتين ، وهذه مواضع الأثفيتين يضاف لكل (٢) كل واحد منها إليها. ولو قلنا : أوسط الأعلى وأسفل الأعلى وأوسط الأسفل ، لم يحسن كحسن ما ذكرنا وإن كان على وجه المجاز (٣).

[الفصل بالظرف بين اسم الفاعل ومعموله]

٣ ـ قال سيبويه (١ / ٨٩) : «هذا باب ما جرى مجرى الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين ، في اللفظ لا في المعنى. وذلك قولك :

يا سارق الليلة أهل الدار (٤)»

ثم ساق الكلام إلى أن قال : «ولا يجوز أن تقول : يا سارق الليلة أهل الدار إلا في شعر ، كراهية أن يفصلوا بين الجارّ والمجرور (٥)». قال جبار (٦) بن جزء ابن ضرار ابن أخي الشماخ :

__________________

(١) في الأصل «هذا» ، وهي ساقطة في المطبوع.

(٢) ليست في المطبوع.

(٣) أكد الأعلم ذلك بقوله : «لأن الشاعر لم يرد أن يقسم الأعالي فيجعل بعضها كميتا وبعضها جونا مسودّا ، وإنما قسم الأثفيتين ، فجعل أعلاهما كميتا لبعده عن النار ، وأسفلهما جونا لمباشرته النار» انظر ١ / ١٠٢

(٤) عبارة الكتاب : «هذا باب جرى مجرى الفاعل الذي يتعدى فعله ...».

(٥) نص الكتاب بخلاف لفظي طفيف.

(٦) في الأصل والمطبوع (حيّان) وتبعه في هذه النسبة الكوفي ٦ / أوكذا في أساس البلاغة (عضد) ص ٦٣٦ ، أما في أراجيز العرب ص ١٣٢ فقد نسبها إلى الجميح وهو توهم ، ولكنه الجليح وليس بصاحب هذا الشعر ، بل هو أحد رفاق الرحلة الذي قيل هذا الرجز بسببه وردّا عليه.

ونسبت إلى الشماخ في كل من : الكتاب ١ / ٩٠ وتبعه الأعلم وكذا المبرد في الكامل ١ / ١٩٩ والصواب أنه لجبار بن جزء بن ضرار ابن أخي الشماخ ، كما في الديوان ص ٣٨٩ والخزانة ٢ / ١٧٤ ورغبة الآمل ٢ / ٢٤٩ وانظر مناسبة هذا الرجز وقصته مفصلة في ديوان الشماخ ص ٣٥٣ وما بعدها.

١٢

قالت سليمى لست بالحادي المدلّ

ما لك لا تملك أعضاد الإبل

ربّ ابن عم لسليمى مشمعلّ

أروع في السّفر وفي الحيّ غزل

 (طباخ ساعات الكرى زاد الكسل) (١)

الشاهد (٢) على أنه أضاف (طباخ) إلى (ساعات) ونصب (زاد الكسل) مثل : يا سارق الليلة أهل الدار (٣).

__________________

(١) الأبيات مطلع الأرجوزة. وجاء رابعها في كل من : أراجيز العرب ص ١٣٢ وديوان الشماخ ٣٨٩ (في الشّول وشواش وفي الحي رفل) غير أن محقق الديوان مال إلى الرواية كما وردت عند ابن السيرافي ، وهي كذلك في الكامل للمبرد ١ / ١٩٩ والمراد على الروايتين : أنه يخدم أصحابه في السفر عند فتورهم تكرما وشهامة ، وهو في الحي سيد متجمل بثيابه.

وروي البيت الثالث بلا نسبة في : المخصص ٣ / ٣٧ والثالث والخامس في : اللسان (عسقل) ١٣ / ٤٧٤

(٢) ورد الشاهد في : النحاس ١٦ / أوالإيضاح العضدي ١٨٦ والأعلم ١ / ٩٠ والكوفي ٦ / أو ٤٠ / ب والخزانة ٢ / ١٧٢

(٣) وذلك عند الأعلم : «على تشبيه الساعات بالمفعول به لا على الظرف ، لأن الظرف يقدر فيه حرف الوعاء (في) والإضافة إلى الحرف غير جائزة ، ثم تعدّى إلى الزاد لأنه المفعول به في الحقيقة. ثم قال : ويجوز إضافة (طباخ) إلى (الزاد) والفصل بالظرف ضرورة. والأول أجود».

قلت : أي أنه يؤكد على أن تبقى (ساعات) ظرفا على أية حال. وهو أقرب إلى الأداء السليم ، في إبراز ظرفية الكلمة ما أمكن. وقد ذكر البغدادي أنه روي بجر (زاد) أيضا بإضافة (طباخ) إليه ، وفصل بينهما الظرف ، وهو ـ أي الظرف ـ منصوب لا مجرور. كما أورد لابن خلف رأيا مغايرا يقول فيه «ويجوز أن يكون (زاد الكسل) بدل اشتمال

١٣

المدلّ : القوي النشيط. وقوله : لا تملك أعضاد الإبل (١) أي لا تقوى على أن تكون معها ، وتسير إلى جنبها تحدوها. والمشمعلّ : الخفيف فيما أخذ فيه من عمل (٢) ، والأروع : الذكي الحديد الفؤاد. والغزل : الذي يحدّث النساء ويضاحكهن ويمزح معهن. والكرى (٣) : النعاس ، والكسل : الكسلان.

[حذف الضمير العائد إلى المبتدأ]

٤ ـ قال سيبويه (١ / ٤٤) قال أبو النجم (٤) :

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

(عليّ ذنبا كلّه لم أصنع) (٥)

أم الخيار امرأته ، وأراد بقوله (ذنبا) أي ذنوبا ، فجعل الواحد في موضع الجميع. وقوله : كلّه لم أصنع ، يحتمل أمرين :

__________________

من موضع (ساعات) ، ألا ترى أن الزاد تبيين لما يطبخ في الساعات ، وهي مشتملة على الزاد وغيره» ثم ذكر له رأيا آخر يقول «ويجوز أيضا نصب (زاد) بفعل دل عليه طباخ ، أي يطبخ زاد الكسل». قلت : وقد أشار سيبويه إلى مثل هذا الأخير بقوله «فإذا كان منونا فهو بمنزلة الفعل الناصب ، فإن قلت (طباخ) صار بمنزلة (طبخت). انظر تفصيل ذلك في : الخزانة ٢ / ١٧٢ والكتاب ١ / ٩٠

(١) وكل شيء ضبطته فقد ملكته. (معاني الشعر ٢٦).

(٢) وقال المبرد (الكامل ١ / ١٩٩) اشمعلّت الحرب : ثارت فأسرعت. قال الشاعر :

بني أسد إن تقتلوني تحاربوا

تميما إذا الحرب العوان اشمعلّت

(٣) في المطبوع بدون واو.

(٤) اسمه الفضل بن قدامة العجلي ، راجز مقدم في العصر الأموي ، كان يحضر مجالس الخلفاء ت ١٣٠ ه‍ ترجمته في : الشعر والشعراء ٢ / ٦٠٣ والأغاني ١٠ / ١٥٠ والموشح ٢١٣ ومعجم الشعراء ٣١٠ والخزانة ١ / ٤٩

(٥) البيتان مطلع أرجوزة لأبي النجم وردت في الأغاني ١٠ / ١٥٩ وشرح شواهد المغني للسيوطي ص ٥٤٤ وغيرهما.

١٤

أحدهما : أنه أراد لم يصنع جميعها ولا شيئا منها. والوجه الآخر : أنه صنع بعضها ولم يصنع جميعها ، كما تقول لمن يدّعي عليك أشياء لم تفعل (١) جميعها : ما فعلت جميع ما ذكرت بل فعلت بعضه (٢).

والشاهد (٣) منه أنه حذف الضمير العائد إلى المبتدأ الذي هو «كلّه».

[إعمال صيغة : فعول]

٥ ـ قال سيبويه (١ / ٥٦) قال الراعي (٤) :

ليالي سعدى لو تراءت لراهب

بدومة تجر عنده وحجيج

__________________

(١) في الأصل والمطبوع : يفعل ، بالياء.

(٢) ذكر ابن السيرافي الوجهين دون ترجيح الفاضل اليمني من ترجيح الرفع خدمة للمعنى بأنه «لو نصبه مع تقدمه على ناصبه لأفاد تخصيص النفي ب. وقد أورد البغدادي جملة أقوال النحويين وغيرهم ، رأيت أصوبها وأرضاها للحس اللغوي ما قاله الكل ، ويعود دليلا على أنه فعل بعض ذلك الذنب ، ومراده تنزيه نفسه عن كل جزء منه ، فلذلك رفعه إيذانا منه بأنه لم يصنع شيئا منه قط ، بل كله بجميع أجزائه غير مصنوع». انظر الخزانة ١ / ١٧٥

(٣) ورد الشاهد في الكتاب أيضا ١ / ٦٩ ، ٧٣ وفي معاني القرآن للفراء ٢ / ٩٥ وعند النحاس ١٤ / أو ٣٥ / ب ، والأعلم ١ / ٤٤ وشرح الأبيات المشكلة للفارقي ١٣٠ وإملاء ما منّ به الرحمن للعكبري ١٢٦ وعند الكوفي ٦ / ب و ٤٥ / ب وشرح السيوطي ش ٣٢١ ص ٥٤٤ وفي الخزانة ١ / ١٧٣ ، ومالوا جميعا إلى رفع (كل) على نية الإضمار في الخبر (لم أصنعه). قلت : وعلى هذا فالضرورة حذف الهاء لا رفع (كل). وقد ضعّف سيبويه (١ / ٤٤) هذا الرفع وجعله بمنزلته في غير الشعر لأن النصب لا يكسر البيت.

(٤) اسمه حصين ، ويقال عبيد بن حصين بن معاوية ، أبو جندل النميري ، شاعر إسلامي مقدم ، لقب بالراعي لكثرة وصفه الإبل والرعاء. أثار جريرا فهجاه بقصيدته (الفاضحة) التي منها البيت المشهور : فغض الطرف .. (ت سنة ٩٠ ه‍).

ترجمته في : ألقاب الشعراء (نوادر المخطوطات) ٧ / ٣١٤ والشعر والشعراء ١ / ٤١٥ والأغاني ٢٠ / ١٦٨ والمؤتلف ١٢٢ والعيني ٣ / ٥٣٧ والمزهر ٢ / ٤٤٢ والخزانة ١ / ٥٠٤ ورغبة الآمل ١ / ١٤٦

١٥

(قلى دينه واهتاج للشّوق إنّها (١)

على الشّوق إخوان العزاء هيوج (٢))

تراءت : تعرضت لأن يراها ، ودومة : موضع معروف وهي دومة (٣) الجندل ، والتّجر : جمع تاجر ، والحجيج : الحجاج ، وقوله : تجر عنده ؛ يريد أن الموضع الذي هو فيه ينزله التجار والحجاج ، قلى دينه : أبغضه.

وأراد أن الراهب من شأنه في دينه (٤) أن النساء حرام عليه ، فلو رأى هذه المرأة لأبغض الترهب ، وأحب مواصلتها ، واشتاق إلى الغزل وإلى محادثة النساء واللعب معهن. و (على الشوق) في صلة هيوج ، وهيوج : تهيّج (٥) الشوق عليهم. يقال : هيّجته على كذا ، إذا بعثته على فعله. يعني أن رؤيتها تدعو من رآها إلى الاشتياق إليها.

__________________

(١) في المطبوع : أنها ، بالفتح.

(٢) أورد سيبويه ثانيهما وقد نسبه إلى أبي ذؤيب الهذلي. والبيتان للراعي النميري ، وردا منفردين في ديوانه ص ٢٩ وجاء في صدر الأول : (عشية سعدى) وفي عجز الثاني (إنما على الشوق إخوان) برفع إخوان. قلت : ولم أجده هكذا عند أحد ، ولو رحنا نؤول للرفع لكان ذلك على حساب المعنى وقوته. وفي الكتاب (أنها على الشوق) بفتح الهمزة وكذا عند النحاس ٣٠ / أ، وفي ذلك معنى التعليل ، كما أنه يربط آخر البيت بأوله ولكنه يضعف من إشعارنا بطاقة فتنتها على التأثير.

والغريب أن ابن السيرافي أسند نسبتهما إلى الراعي إلى سيبويه ، وهما في الكتاب لأبي ذؤيب ، ويبدو أن سيبويه توهم ذلك ؛ لقربهما من قصيدة لأبي ذؤيب من البحر والقافية. مطلعها :

صبا صبوة بل لجّ وهو لجوج

وزالت لها بالأنعمين حدوج

انظر ديوان الهذليين ص ٥٠. وروي البيت الثاني للراعي في : اللسان (هيج) ٣ / ٨٣ و (أخا) ١٨ / ٢١

(٣) موضع بين الحجاز والشام على عشر مراحل من المدينة وثمان من دمشق. انظر الجبال والأمكنة ٩٠ والبكري ٣٥٣

(٤) (في دينه) ساقط في المطبوع.

(٥) في الأصل والمطبوع : يهيج ، بالياء.

١٦

والشاهد (١) في البيت أنه نصب (إخوان) العزاء ب (هيوج). وإخوان العزاء : الذين / قد تعزّوا عن الدنيا وملاذّها ، وعزفت نفوسهم عنها (٢) ، فإذا رأوا هذه المرأة ذهب عزاؤهم عن الدنيا وأحبّوا مواصلتها.

[حذف عامل المنصوب لدلالة بعض الكلام عليه]

٦ ـ قال سيبويه (١ / ١٤٣) بعد ذكره في الباب (٣) أشياء من المنصوبات قد حذفت عواملها ، لدلالة بعض الكلام عليها : «انته يا فلان أمرا قاصدا. كأنك قلت : انته وائت أمرا قاصدا». ثم قال : «فحذف هذا كحذفهم : ما رأيت كاليوم رجلا. ومثل ذلك قول القطاميّ (٤)» (٥).

كأنّ نسوع رحلي حين ضمّت

حوالب غرّزا ومعى جياعا

على وحشيّة خذلت خلوج

وكان لها طلا طفل فضاعا

__________________

(١) ورد الشاهد عند : النحاس ٣٠ / أوشرح الكتاب للسيرافي (خ) ١ / ٥٥٥ والأعلم ١ / ٥٦ والكوفي ٧ / ب وابن عقيل ش ٣٧ ، ٢ / ٦٣ والعيني ٣ / ٥٣٦ والأشموني ٢ / ٣٤٢ وقال الأعلم : «أعمل هيوج لأنه تكثير هائج ، وعمل فيه مؤخرا كعمله فيه مقدما لقوته وجريه مجرى الفعل». وكان ورد عند سيبويه (١ / ٥٧) قولهم في الاختيار : أما العسل فأنا شرّاب.

(٢) ذكر النحاس شرحا طريفا لهذا المعنى فقال : إنها تهيّج من تعزى عنها حين يطرب إليها. قلت : ويبعد الصواب عن هذا الشرح أن هذا الراهب لا عهد له بها من قبل بدليل استعمال لو وتنكير راهب. وفي اللسان (أخا) ١٨ / ٢١ جعل إخوان العزاء : الذين يصبرون فلا يجزعون ولا يخشعون. وبقي أبو سعيد السيرافي أنفذهم بصرا في فهم مرامي الأداء إذ قال في شرحه «فإذا كانت تهيج ذوي البصائر والصبر ، فهي لغيرهم أهيج».

(٣) وعنوانه لديه : «هذا باب يحذف منه الفعل لكثرته في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل». الكتاب ١ / ١٤١

(٤) اسمه عمير بن شييم بن عمرو ، أبو سعيد التغلبي ، من الطبقة الثانية في الإسلاميين عند ابن سلام : (ت نحو ١٣٠ ه‍). انظر : الشعر والشعراء ٢ / ٧٢٣ ، والمؤتلف (تر ٥٥١) ص ١٦٦ ومعجم الشعراء ص ٢٢٨ و ٢٤٤ وجمهرة الأنساب ص ٣٠٥ وفي القاموس المحيط (قطم) ٤ / ١٦٦ وفيه : القطاميّ ـ بفتح القاف ويضم ـ بمعنى الصقر.

(٥) وعبارة سيبويه «إنما اردت ..» بدل «كأنك قلت».

١٧

(فكرّت تبتغيه فوافقته

على دمه ومصرعه السّباعا (١))

هذا إنشاد سيبويه (٢) ، والشاهد (٣) فيه أنه نصب (السباع) بإضمار : وافقت السباع على مصرعه ، وإنما حذفه لدلالة (٤) (وافقته) على ما تقدّم من البيت. وأنشد غير سيبويه :

فكرّت عند فيقتها إليه

فألفت عند مصرعه السّباعا

النّوع : حبال من أدم ، وقوله حين ضمّت يريد : حين شدت على حوالب ناقتي ، والحوالب : عروق الضرع ، والغرّز : جمع غارز وهي التي

__________________

(١) ديوان القطامي ق ٢ / ٦٣ ـ ٦٤ ـ ٦٥ ص ٤١ من قصيدة قالها يمدح زفر بن الحارث الكلابي. مطلعها :

قفي قبل التفرق يا ضباعا

ولا يك موقف منك الوداعا

وجاءت رواية الثالث موافقة للرواية الأخرى عند ابن السيرافي ، فلا شاهد فيها.

وروي الأول للقطامي في : اللسان (غرز) ٧ / ٢٥٤ و (معى) ٢٠ / ١٥٦ وبلا نسبة في : المخصص ١٥ / ١٧٦ وعجزه في ١٧ / ١٣ والثالث بلا نسبة في ٨ / ٣٨

(٢) أورد سيبويه البيت الثالث فقط ، حيث الاستشهاد.

(٣) ورد الشاهد في : النحاس ٤٣ / ب والأعلم ١ / ١٤٣ وشرح الأبيات المشكلة ١٨٨ والكوفي ١٣ / ب و ١١٦ / أ.

(٤) أورد الأعلم ما اعترض به على سيبويه في نصبه (السباع) بإضمار (وافقت) لدلالة الفعل المتقدم ، لأن الحمل على المعاني إنما يكون بعد تمام الكلام. وردّ الأعلم عن سيبويه ، بأن الشعر موضع ضرورة ، ويحتمل فيه ما لا يحتمل في غيره ، فإذا جاز الحمل في الكلام على المعنى مع التمام ؛ جاز في الشعر ضرورة مع النقصان. ثم يستطرد فيقول : مع أخذه هذا عن العرب وروايته له عنهم.

وفي شرح الأبيات المشكلة ص ١٨٨ مخرج للاستغناء عن التأويل بقوله : «فجعل السباع بدلا من الهاء في وافقته» وتبعه الكوفي مشيرا إلى هذا الوجه في شرحه ١٣ / ب. قلت : ولكن الظاهر يعيد الهاء إلى ولد الناقة لا إلى السباع.

١٨

لا لبن (١) لها ، ومعى جياعا : أراد بالمعى الأمعاء ، ولذلك (٢) وصفها بالجمع ، وقوله : (على وحشية) خبر كأنّ ، والوحشية : بقرة ، أراد على بقرة وحشية. يقول : كأن نسوع رحلي حين شددت بها راحلتي قد شددتها على بقرة وحشية ، يعني أن راحلته تسرع في سيرها كما تسرع البقرة الوحشية في عدوها.

ومعنى خذلت : تأخرت عن جماعة البقر ، والخلوج : التي اختلج منها ولدها ، أخذ منها ، فهي تعدو تبتغي ولدها فصادفت السباع قد أكلته ، وإنما ذكر أنها خذلت وأنها تبتغي ولدها ؛ ليعظّم أمر عدوها واجتهادها في شدته ، لأنها تعدو حتى تدرك ولدها. والطّلا ولد الظببة والبقرة ، والفيقة اجتماع اللبن. يريد أنه (٣) لما اجتمع اللبن ؛ طلبت ولدها لترضعه بما اجتمع منه.

[المصدر المعرّف بال ـ وقوعه حالا]

٧ ـ قال سيبويه (١ / ١٨٧) «وهذا ما جاء منه في الألف واللام» يريد ما جاء من هذا الباب ، يعني باب المصادر التي تقع أحوالا «وذلك قولك : أرسلها العراك. قال لبيد (٤)» :

رفعن سرادقا في يوم ريح (٥)

يصفّق بين ميل واعتدال

__________________

(١) وهي القليلة اللبن. انظر اللسان (غرز) ٧ / ٢٥٤

(٢) في المطبوع : فلذلك.

(٣) في المطبوع : أنها.

(٤) لبيد بن ربيعة بن مالك العامري ، أبو عقيل ، مخضرم معمر من أصحاب المعلقات ، سكن الكوفة في الإسلام (ت ٤١ ه‍).

ترجمته في : الشعر والشعراء ١ / ٢٧٤ والمعارف ص ٣٣٢ والأغاني ١٤ / ٩٠ والمؤتلف (تر ٥٨٨) ص ١٧٤ والإصابة (تر ٧٩٤٣) ج ٣ / ٣٠٧ والخزانة ١ / ٣٣٧ وفي حسن الصحابة ص ٣٥٠ ومقدمة ديوانه.

(٥) في المطبوع : في يوم عيد ، و (يصفق) بكسر الفاء.

١٩

(فأوردها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدخال) (١)

وصف حمير وحش تعدو إلى الماء ، فقد أثارت غبارا كأنه سرادق ، ويصفّق : يردّد ، كأن الغبار يرتفع مرة في الهواء مستويا ، ومرة يميل في جانب ، على حسب ما تميله الريح.

فأوردها (٢) : يعني العير أورد الأتن إلى الماء ، والأتن تتبع العير إذا مضت إلى الماء ، فإذا وردت تقدّم العير ، فإذا أدخل قوائمه في الماء اتّبعته. فأوردها : يعني العير أورد الأتن العراك ، كأنه قال : أوردها عراكا. و (عراكا) في موضع معتركة (٣) ، والمعتركة التي يزحم بعضها بعضا. يريد أن العير أرسل الأتن مرة واحدة ، ولم يطردها عن الماء يخاف القصّاص ، ولم يذدها : لم يطردها. وأراد أن العير يورد الأتن دفعة وليس كالرعاء الذين يدبرون أمر الإبل ، فإذا وردت الماء جعلوها قطعا ، وأوردوها قطعة قطعة إلى الماء حتى تروى ، ولو

__________________

(١) ديوانه ق ١١ / ٤٠ ـ ٤١ ص ٨٦ وفيه «يصفّق» بكسر الفاء. وعندي أن الفتح أقرب إلى الدقة ، لأن الريح هي التي تميل بهذا السرادق الترابي في هبوبها. وروي الأول للبيد في : اللسان (سفسق) ١٢ / ٢٤ وصدره بلا نسبة في : المخصص ١٠ / ٦٦ والثاني للشاعر في : المخصص ١٤ / ٢٢٧ واللسان (نغص) ٨ / ٣٦٨ و (عرك) ١٢ / ٣٥٢ و (دخل) ١٣ / ٢٥٨ وبلا نسبة في المخصص ٧ / ٩٩

(٢) ساقطة في المطبوع.

(٣) ورد الشاهد في : المقتضب ٣ / ٢٣٧ والنحاس ٥٤ / أوالأعلم ١ / ١٨٧ وشرح الأبيات المشكلة ٢٢٣ والإنصاف ٢ / ٤٤٢ والكوفي ١٤ / أوابن عقيل ش ١٨٠ ج ١ / ٤٤٧ وفي الخزانة ١ / ٥٢٤ ذكر البغدادي للشاهد عدة مذاهب يغلب عليها التكلف ، منها ما ذهب إليه الكوفيون من جعلهم (العراك) مفعولا ثانيا ل (أرسلها) وهي بمعنى أوردها ، فكأنه أوردها لتعترك. وقد أشار المبرد في المقتضب إلى أن المعنى : أرسلها وهي تعترك لا لتعترك.

٢٠