المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

الدكتور صائب عبد الحميد

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-06-4
الصفحات: ١٢٥

ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الاسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتي يومنا هذا غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوى جهداً تحقيقّياً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها...
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

مرتبته إلى المرتبة الرابعة (١).

وعلى هذا القول الأخير تكون « المرجئة » التسمية الأسبق لـ : « أهل السنّة والجماعة » وهو بهذا المعنى تعبير تامّ عن الواقع التاريخي للخلافة.

لكنّ الذي يثار هنا أنّ هذه التسمية سيكون مصدرها عندئذٍ القائلون بتقديم عليّ عليه‌السلام ، وهذه التسمية إن لم تظهر في أيّامه ، فقد كان بعده أهل بيته وأنصاره مضطهدين سياسياً وإعلامياً واجتماعياً ، فهل كان موقعهم ذاك يؤهّلهم لإطلاق هذه التسمية على خصمهم المتنفّذ القاهر حتّى تغلب عليه ؟!

ويكفي في الجواب على هذا الإيراد : التعريف الذي أورده الأشعري ، فهو مطابق لما قاله الشهرستاني في شمول لقب « المرجئة » للقائلين بتأخير الإمام عليّ ، لكن ليس التأخير هذا هو مصدر التسمية ، إنّما كان مصدرها « عقيدتهم في تولّي المختلفين جميعاً ، وزعمهم أنّ أهل القبلة كلّهم مؤمنون ، ورجوا لهم جميعاً المغفرة » (٢). إذن رجاؤهم المغفرة للجميع هو مصدر تسميتهم.

لكن أحمد بن حمدان الرازي قد نبّه إلى خطأ لم يتنبّه له سابقه ، فعدّ إرجاع

_____________

(١) الملل والنحل ١ : ١٢٥ ، ومن الغريب جدّاً أنّ الاستاذ محمّد عمارة ينسب هذا القول إلى كتاب (الكافي) للكليني ، فيقول : وفي الكافي نصّ هامٍّ يشهد لهذا التفسير يقول : « وقد تُطلق المرجئة على من أخّر أمير المؤمنين عليّاً عن مرتبته » والنصّ الهامّ هذا كما علم الأستاذ هو في هامش الكافي (١ : ١٦٩) وليس في الكافي والهامش ، كما لا يخفى على أحد هو ليس لصاحب الكافي بل هو للمحقّق ، وقد أخذه الأخير من كتب الفِرق ، فكيف ينسب إلى الكافي ؟! ولكن صنع الأستاذ هذا لغرض سيأتي ذكره.

(٢) المقالات والفِرق / الأشعري : ٥ ـ ٦ ـ ط ٣ ـ ١٩٨١ م.

٨١
 &

لفظ « المرجئة » إلى الرجاء من الكلام العامّي ! لأنّ الرجاء من رجا يرجو فهو راج ٍ، وأمّا المرجئ ، فهو من أرجأ يرجئ فهو مرجئ. فصوّب النسبة إلى التأخير بكلا وجهيه المذكورين ، إمّا من قولهم في أصحاب الذنوب « نرجئ أمرهم إلى الله » وإمّا من تأخير هم العمل عن الإيمان. قال : ولكن هذا صحيح من حيث اللغة فقط ، أمّا من حيث التأويل فالأمر مختلف.

وله هنا نقاش جميل ، خلاصته : أنّه إذا لزمهم لقب المرجئة لإرجاء أمرهم إلى الله ، فإنّ هذا القول قد قال به قوم من المعتزلة وقوم مالوا إلى التشيّع فإذن لزم هؤلاء جميعاً اسم الإرجاء.. لكن لا تعرف الأُمّة أحداً يقال له هذا شيعي مرجئ !

وأمّا القول بلزوم لقب الإرجاء لقولهم « الإيمان قول بلا عمل » فهو خطأ ، لأنّهم بقولهم هذا قد اسقطوا العمل ولم يؤخّروا رتبته عن الإيمان ، وإنّما يقال أرجأت الشيء : إذا أخّرته ، ولا يقال أرجأته بمعنى أسقطته.

ثمّ ينتهي إلى اختيار أنّ الإرجاء لقب لزم كلّ من فضّل أبا بكر وعمر على عليّ ، كما أنّ التشيّع قد لزم كلّ مَن فضّل عليّاً على أبي بكر وعمر.. قال : ويقال إنّ أوّل ما وضع اسم الارجاء وظهر وشاع لمّا افترق أصحاب عليّ بعد الحكمين فصار الناس ثلاث فرق : فرقة مع عليّ سُمّوا « الشيعة » فظهر اسم التشيّع ظهوراً شائعاً ، وفرقة خرجت عليه فسمّوا « المارقة » وظهر هذا اللقب عليهم ، وفرقة كانوا مع معاوية فسمّوا « المرجئة » وظهر اللقب عليهم واُعلن إعلاناً.

ثم قال : هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتّفقت عليه الأُمّة.. فكثيراً ما يقال : مرجئ قدري ، شيعي قدري.. لكن لم نرَ أحداً يقال له هذا مرجئ شيعي ، أو مرجئ رافضي ، هذا محال جدّاً.

٨٢
 &

ويؤكّد اختياره بما رواه من شعر لشاعر قال إنّه مشهور ومن رواة الحديث اسمه محارب بن دثار ، يقول فيه :

يعيبُ عليَّ أقوامٌ شفاهاً

بأنْ اُرجي أبا حسنٍ عليّا

وإرجائي أبا حسنٍ صواب

عل القطرين برّاً أو شقيّا

وليس عليَّ في « الإرجاء » بأسٌ

ولا شينٌ ولست أخاف شيّا

ثمّ نقل بعد هذه الأبيات أبياتاً أخرى للسيد الحميري ، تثبت هذا المعنى ، يقول فيها :

خليليّ لا ترجيا واعلما

بأنَّ الهدى غير ما تزعمانِ

فإرجاء ذي الشك بعد اليقين

وضعف البصيرة بعد البيانِ

ضلال أزيلاهما عنكما

فبئست لعمركما الخصلتانِ

أيُرجى عليٌّ إمام الهدى

وعثمان ، ما اعتدل المرجيانِ

ويُرجى ابن هند وأحزابه

وهوج الخوارج بالنهروانِ

ويُرجى الأُلى نصروا نعثلاً

بأعلى الخريبةِ والسامرانِ

ثمّ قال : فهذا يصحّح أنّ الإرجاء هو تأخير عليّ وتقديم أبي بكر (١).

وهذا أجمل وأقوى ما أورده القدامى والمحدثون ، وله تأييد في قول أبي خلف الأشعري ، وقول الشهرستاني ، فهما يتّفقان على أنّ حقيقة الإرجاء الأولى إنّما هي تأخير رتبة عليّ عليه‌السلام عن حقّها وتقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه.. فالمرجئة ـ على هذا ـ هم الطائفة التي لقّبت نفسها فيما بعد بلقب « الجماعة »

_____________

(١) كتاب الزينة / أحمد بن حمدان الرازي ، أبو حاتم : ٢٦٣ ـ ٢٦٦ ـ ملحق بكتاب الغلو والفرق الغالية للدكتور عبد الله سلّوم السامرائي ـ دار واسط للنشر ـ بغداد ـ ١٩٨٢ م.

٨٣
 &

و « أهل السنّة »..

وممّا يدلّ على أسبقية اسم المرجئة لهم ما ذكره أبو حاتم الرازي نفسه بعد نقله لشعر السيد الحميري بقوله : « وسمعت من يذكر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انما شبّه المرجئة باليهود.. ». والراجح أنّه من الأحاديث التي ظهرت بعد ظهور هذه الفرق.

ثمّ لما صارت الغلبة لأهل الإرجاء بزعامة ابن أبي سفيان أطلق على المرجئة اسم « الجماعة » ! فيما احتلّ الإرجاء موقعاً آخر حين أصبح يعبّر فقط عن الموقف من مرتكب الكبيرة !

وهذا منسجم جداً مع قانون أثر الغلبة في اختيار الأسماء وترويجها.

فلمّا ظهر التفسير الثاني للإرجاء ، أصبح مقابلاً للوعيد وليس مقابلاً للتشيّع ! فأصبح الوعيدية ـ المعتزلة ـ يطلقونه على من خالفهم في الوعيد ولم يقطع بتخليد مرتكب الكبيرة بالنار ، كما نقله عنهم الشهرستاني وهذا هو الذي يفسّر لنا نسبة الإرجاء إلى الحسن بن محمّد بن الحنيفة ، إذ عدّه بعضهم أوّل من تكلّم بالإرجاء وكتب به إلى الأمصار. فهو إن صحّ عنه ذلك يكون قد تكلّم بالإرجاء الأخير في مرتكب الكبيرة ، وليس بالإرجاء بمعناه الحقيقي الأوّل. وهذا ما اختاره الشيخ أبو زهرة ، وفيه تفنيد للرأي الذي يستدل من نسبة الحسن إلى الإرجاء على أنّه كان يقول بتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على عليّ عليه‌السلام (١) !

ومن الناحية الجامعة للأثرين : السياسي والعقيدي ، يتمّ تقسيم المرجئة

_____________

(١) وهو اختيار الدكتور محمّد عمارة.

٨٤
 &

إلى طائفتين : الأولى هي طائفة السلطة الاُموية ، وهي التي عُرفت بالمرجئة الخالصة ، وأهل الإرجاء المحض.. والثانية بقيت على الإيمان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستوعبت باقي أقسام المرجئة من جبرية وقدرية وغيرهم.

مبدأ ظهور الإرجاء ؟

من تمحيص الآراء المتضاربة يتحقّق أنّ أقدم ظهور للإرجاء ، بمعناه المشهور في الفصل بين الإيمان والعمل ، إنّما كان عند معاوية بن أبي سفيان وأصحابه ، ذلك إذا فسّرت أقواله على أساس الإيمان باليوم الآخر ، ولم تفسّر بحسب الظاهر الموحي أحياناً والصريح أحياناً اُخرى بالاستخفاف بإليوم الآخر وبالحساب !

فبمَ يُفسَّر قوله للأنصار ، وقد قالوا له : لقد أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لقينا ، فقد قال لنا : « ستلقون بعدي أثَرة » قال معاوية : بماذا أوصاكم ؟ قالوا : قال لنا : « فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض » فقال لهم معاوية : فاصبروا إذن !! (١)

بمَ يفسَّر هذا الكلام إن لم يكن هو الاستخفاف بوعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباللقاء وبالحساب ؟! فلئن عدنا إلى حساب الإيمان ، فإنّ معاوية أول من أظهر الاعتقاد بأنّ الإيمان لا يضرّ معه ذنب ومعصية ، فتمادى في المعاصي غير مكترث بشيء ، فلمّا قيل له : حاربتَ من تَعلم ! وار تكبتَ ما تعلم !! قال : وثقت بقول الله : ( إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ). (٢) !!

_____________

(١) النصائح الكافية : ١٢٥ عن ابن عبد البرّ.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٦ : ٣٢٥ ـ دار إحياء الكتب العربية ـ مصر ، الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية / محمّد عمارة : ١٧٤ ، والآية من سورة الزمر : ٣٩ / ٥٣.

٨٥
 &

والإرجاء الذي قال به معاوية وعمرو بن العاص ومن ناصر الدولة الاُموية هو الذي عرّفوه بالإرجاء الخالص أو « المحض » رغم أنّ معاوية وأصحابه كانوا يعتقدون بالجبر أيضاً ، لكنّ هنا فريقين يقولان بالإرجاء والجبر معاً أحدهما فريق السلطة الاُموية ، والآخر فريق ثائر على السلطة ، فعرّفوا هذا بالجبري وذلك بالمحض تمييزاً بينهما (١).

إنما قال هؤلاء بالإرجاء ليبرّروا للسلطة عَبَثها بأحكام الدين ، ولعبها بكتاب الله وسنّة نبيّه ، واستباحتها لحرمات المؤمنين واستبدادها بحقوقهم ، فهم مع كلّ ذلك مؤمنون لا يضرّ بإيمانهم شيء ، ولا ينقص في إيمانهم عمل ، وليس أحد في هذه الاُمّة بأزيد منهم إيماناً !

وأصبح هذا القول في ظلّ السلطان ـ عقيدةً ، يُنظّر لها رجال تبنّوها ودافعوا عنها ، كان أبرزهم : يونس بن عون النميري ، وعبيد المكتئب ، وغسّان الكوفي ، وأبو ثوبان المرجئ ، وبشر المَريسي (٢).

وهؤلاء ـ القائلون بأنّه لا يضرّ مع الإيمان ذنب ، والذين قالوا بإرجاء أمر مرتكب الكبيرة إلى الله تعالى ـ « هؤلاء يتلاقون إلى حدٍّ كبير مع طائفة كبيرة من جمهور العلماء السنّيين ، بل إنّه عند التمحيص يتبيّن أنّ آراءَهم هي آراء الجمهور » (٣) ! « وكانت آراؤهم تتّفق تماماً مع رجال البلاط الاُمويّ ومن يلوذ به ، بحيث لا يستطيع أحد من الشيعيّين أو الخوارج أن يعيش بينهم ، في الوقت الذي تمكّن فيه المسيحيون وغيرهم من غير المسلمين أن ينالوا الحظوة لديهم

_____________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية / محمّد عمارة : ١٧٤.

(٢) اُنظر : الفرق بين الفِرق : ١٥١ ـ ١٥٣ ، الملل والنحل ١ : ١٢٥ ـ ١٢٨.

(٣) المذاهب الإسلامية / محمّد أبو زهرة : ١٩٩ ، واُنظر : تاريخ الإسلام / حسن إبراهيم حسن ١ : ٤١٧.

٨٦
 &

ويشغلوا المناصب العالية » (١) وربّما كان أوّلهم سرجون النصراني ، كاتب معاوية وأمين سرّه !

ـ الإرجاء الثوري (٢) : لما كان ذلك الإرجاء قد صيغ لحماية السلطة والدفع عنها ، فمن الطبيعي أن يضيق نطاقه ويتّسع وفقاً لمصلحة السلطة ، فالسلطة حين تتعامل مع خصومها لا يمكن أن تتعامل معهم وفق عقيدتي الإرجاء والجبر اللتين أظهرتهما ، لأنّ خصومها ـ وفق العقيدة الجبرية ـ سيكونون معذورين لأنّهم لم يصنعوا شيئاً من الخلاف إلّا بقضاء وقدر لا يملكون إزاءه خياراً !!

ووفق عقيدة الإرجاء ليس للسلطة أن تقيم عليهم حدّ العاصي الخارج عن الإسلام لأن الإيمان لا تضرّ معه معصية !! وهنا ستقع السلطة بالتناقض الفاضح..

هذا التناقض قد خلق لها أعداءً من شركائها في الإرجاء أو في الجبر والإرجاء معاً ، حين وقف هؤلاء الشركاء مع عقائدهم لا مع مصلحة السلطة وسخريتها بالناس.

فحصل بسبب ذلك التناقض أن قامت الحروب بين شركاء العقيدة.. فأظهر غيلان الدمشقي عقيدته بفساد بني اُمية ، وقد يكون ذلك بباعث من اعتقاده بالقَدَر ، الذي يُلقي عليهم بكامل تبعات أفعالهم ، فكان أيّام عمر بن عبد العزيز ،

_____________

(١) تاريخ الإسلام / حسن إبراهيم حسن ١ : ٤١٧ و ٤١٨ ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ ١٩٦٤ م.

(٢) للدكتور محمد عمارة بحث مهم في هذا القسم لكنّ الأدلّة التي اعتمدها لا تعينه على ما أراد لو اُخضعت للتحقيق. اُنظر : الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية : ١٦٩ ـ ١٧٢.

٨٧
 &

وبعد أن أظهر تراجعاً عن القول بالقدر ـ كما تقدّم ـ استعان به عمر بن عبد العزيز ، فقال له : اجعلني على بيع الخزائن ـ خزائن ملوك بني اُميّة الماضين ـ وردّ المظالم ، فكان يبيع تلك الخزائن وهو ينادي عليها : تعالوا إلى متاع الظلمة ، تعالوا إلى من خَلَفَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في اُمّته بغير سنّته وسيرته (١) !

أمّا زعيم « المرجئة الجبرية » الجهم بن صفوان ، فقد خاض حرباً على ولاة الاُمويين ، فكان داعية الحارث بن سُريج في خراسان سنة ١٢٨ هـ حتّى اُسِر وقُتل (٢).

وإذا صحّت نسبة سعيد بن جبير وأبي حنيفة إلى المرجئة ، فهما من هذا الصنف الثوري ، فقد كان سعيد بن جبير في طليعة القرّاء الذين ثاروا على بني اُميّة أيّام عبد الملك ، وأبو حنيفة قد أفتى بنصرة زيد الشهيد وجعل خروجه على هشام كخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المشركين يوم بدر ، ثمّ ناصر محمّد النفس الزكية وأخاه إبراهيم على العباسيّين.

أعلام نُسِبوا إلى الإرجاء :

١ ـ الحسن بن محمّد بن الحنفية : عدّه البعض أوّل من وضع الإرجاء ، وعنه أخذه الناس ، ثمّ صاروا بعد إلى تلك الأقسام.. لكن الإرجاء الذي نسبوه إليه ليس كإرجاء هذه المرجئة التي أخّرت العمل وقالت إنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية ، فهو لم يؤخّر العمل عن الإيمان ، لكنّه حكم بأنّ صاحب الكبيرة لا يكفّر ، إذ الطاعات ليس من الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها.. وكان يكتب

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ٣٣٠.

٨٨
 &

بذلك إلى الأمصار (١).

ولقد حمّل الاُستاذ محمّد عمارة هذا القدر فوق ما يحتمل وفق منهجه الذي تشخّصَ في ثوابته اقتناص كلّ ما يمكن تسخيره ولو قسراً في مهاجمة أنصار عليّ عليه‌السلام ! فأراد أن يستفيد من هذا أنّ الحفيد قد أراد بهذا القول تفضيل أبي بكر وعمر على عليّ والدفاع عن خلافتهما !! وأمّا برهانه الوحيد على هذا التفسير فهو أغرب بكثير من التفسير نفسه ، فهو يقول : « وفي الكافي نصّ هامّ يشهد لهذا التفسير ، يقول : وقد تطلق المرجئة على من أخّر عليّاً عن مرتبته » (٢). قاله بهذا الحماس الظاهر وهو يعلم أنّ هذا الكلام إنّما هو في هامش الكافي ، وقد أشار بنفسه إلى هامش الكافي ، فهل غاب عنه أنّ هوامش الكافي ليست من الكافي ولا تصحّ نسبتها إليه ، وإنّما هي من وضع محقّقه المعاصر الشيخ الغفاري الذي أعدّها باعتماد مصادر اُخرى ؟!

أما حقيقة القول في نسبة الإرجاء إلى الحسن بن محمّد ، فقد تقدّمت آنفاً ، وسيأتي ذكرها ثانية في هذه الفقرة الآتية..

٢ ـ أبو حنيفة : هو الآخر منسوب إلى الإرجاء ، لكن ليس هو الإرجاء الاُموي ، لأنّ أبا حنيفة قد أفتى بوجوب محاربة الاُمويين مع زيد الشهيد وأمدّه بالأموال ، كما أفتى بوجوب محاربة العباسيين مع محمّد النفس الزكية وأخيه إبراهيم.. إنّما نُسب إليه مثل ما نُسب إلى الحسن بن محمّد بن الحنفية ، قال : الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص.. واستنكر الشهرستاني أن يُنسب

_____________

(١) الملل والنحل ١ : ١٢٨ ، الخطط ٢ : ٣٥٠.

(٢) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية : ١٦٨ ـ ١٦٩.

٨٩
 &

إلى أبي حنيفة القول بتأخير العمل.

قال الشهرستاني : هناك وجه آخر لنسبته إلى الإرجاء ، وهو أنّه كان يخالف القدرية والمعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأوّل ، وكانوا يُلقِّبون كلّ من خالفهم في القدر مرجئاً (١).. فهذا بعينه منطبق على الحسن بن محمّد بن الحنفية ، وعلى آخرين ، مثل : سعيد بن جبير ، وحماد بن أبي سليمان ، ومقاتل بن سليمان وغيرهم ، لأنّهم لم يكفّروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار (٢).

_____________

(١) الملل والنحل ١ : ١٢٧ ؛ واُنظر : تعليق على (مقالات الإسلاميين) للأشعري / محمّد محيي الدين عبد الحميد ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) اُنظر : المذاهب الإسلامية : ٢٠٥.

٩٠
 &

الفصل الثالث :

أثر الكلام والفلسفة في نشأة المذاهب

الكلام : هو العلم المعني بإثبات العقائد الدينية عن طريق الحجج والبراهين ، والعقلية والنقلية ، كما عرّفه غير واحد من أهل العلم (١).. وهو عند المسلمين من حيث النسبة إلى مصدره يمكن تقسيمه إلى الأقسام الآتية :

١ ـ كلام يدور في حدود المعارف القرآنية : ينطلق منها ويعود إليها.. وهذا لا ينبغي النزاع في أصالته ، ولا نزاع أيضاً في أنّ رائده وأميره هو الإمام عليّ عليه‌السلام في العديد من خطبه المحفوظة في التوحيد وفي الصفات وفي النبوّة ، والمعاد ، والإمامة.

٢ ـ كلام مصدره العقلية الإسلامية المتأثّرة : سلباً أو إيجاباً بالعوامل المؤثّرة في تشكيل الموقف العقيدي وصياغة المتبنّيات العقيدية.. ومن أمثلته ؛ الكلام في الجبر الناشئ في ظلال نظام الغَلَبة ، الذي أدّى إلى ظهور الكلام في التفويض المناقض له ، ومثله الكلام في الإرجاء والتكفير ، الذي كان سبباً في ظهور عقيدة « المنزلة بين المنزلتين » التي تقول إنّ مرتكب الكبيرة ، لا هو مؤمن كما تقول المرجئة ، ولا هو كافر كما تقول المارقة ، وإنّما هو في منزلة بين المنزلتين..

_____________

(١) اُنظر : الإمامة في أهمّ الكتب الكلامية / السيّد علي الحسيني الميلاني : ١٧ و ١٨ ـ منشورات الشريف الرضي ـ ط ١ ـ ١٤١٣ هـ.

٩١
 &

هذه المقولة التي كانت أساساً في ولادة فرقة جديدة عُرفت بـ :

المعتزلة :

وذلك أنّ أوّل من قال بهذه المقولة ، وهو واصل بن عطاء ، ثمّ تابعه عمرو بن عبيد ، إذ كانا في مجلس الحسن البصري ، فكلّماه في قولهما هذا ، فأمرهما باعتزال حلقة درسه فاعتزلا عند اُسطوانة في المسجد وانضمّ إليهما جماعة فسمُّوا المعتزلة (١).

فكانت هذه هي النواة الاُولى لتكوين فرقة « المعتزلة »..

وترقّى بهم الكلام في صعيد تقرير هذه المقولة إلى قضية « العدال الإلهي » وأكثروا الكلام في تدعيمها وإبطال كلّ ما يقدح ولو ظاهراً بالعدل الإلهي ، حتّى لُقِّبوا بـ « العدلية ».. وكان العدل الإلهي عندهم يدور حول صدق الوعد والوعيد ، فالله تعالى العادل لا يعذّب المحسن ولا يكافئ المسيء ، ولا يخلف وعده في ثواب المحسن وعقوبة المسيء وقبول التوبة ، ولا عفو بلا توبة لأن ذلك إخلاف للوعيد ، ولأجل ذلك أيضاً نفوا الشفاعة.

وفي خضمّ النزاع الدائر بين الجبريّة والمفوّضة اختار المعتزلة القول بالتفويض وجعلوه من أهم أركان العدل الإلهي ، فسمّوا لأجله بالقدَرية.

هذه الدائرة الواسعة من الكلام ، والتي شكّلت أركاناً أساسية في عقيدة المعتزلة ، كان مصدرها الواقع الإسلامي والصراع (الفكري ـ السياسي) الدائر فيه.

_____________

(١) الفرق بين الفِرق : ١٥.

٩٢
 &

وهذه المبادئ كلّها ، مع ملاحظة العوامل المؤثرة في نشأتها تؤكّد أنّ « المعتزلة » لم تكن في يوم ما امتداداً لاُولئك النفر الذين اعتزلوا الصراع أيّام عثمان وأيام الإمام عليّ عليه‌السلام كسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر ، بل الذي تفيده هذه المبادئ هو أنّ اعتزال واصل وأصحابه كان موقفاً تحرّرياً معارضاً لجماعة الحكم ومدرسته الثقافية ، وهذا هو السرّ في رواج هذا اللقب عليهم ، ولم يكن مصدره اختيارهم تجنّب جميع الفرق وتجنّب الدخول في النزاع ! لم يكن هذا من مواقفهم أبداً ، بل هو أبعد شيء عنهم ، يؤكّد ذلك نضالهم الفكري العنيد ضد الإرجاء والجبر اللذين تدعمهما مدرسة السلطة ، ويؤكّده أكثر وأكثر الأصل الخامس من اُصول عقيدة « المعتزلة » التي لا يسمّى المرء معتزلياً إلّا بالإيمان بها جميعاً ، وهذه الأركان هي : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١)..

ومثل هذا المبدأ الأخير لا تتبنّاه فرقة أصلاً من اُصولها ثمّ يقال إنّها تعتزل السياسة والخوض في النزاعات الدائرة بين الفرق ، أو أن سَلَفها هم اُولئك الذين اعتزلوا علياً والحسن عليهما‌السلام.

إذن كان مصدر تسميتهم بالمعتزلة هو خصومهم بلا شك ، سواء كان الحسن البصري ، أو قتادة كما في رواية (٢). فلمّا غَلَب عليهم ولم يستطيعوا دفعه بتسمية ينتخبونها هم ، صاروا إلى الدفاع عنه والرضا به ، وفسّروه بأنّه

_____________

(١) الانتصار / الخياط : ١٨٨ و ١٨٩ ـ مكتبة الثقافة الدينية ـ القاهرة.

(٢) وفيات الأعيان / ابن خلكان ٤ : ٨٥ ـ تحقيق : الدكتور إحسان عباس ، ترجمة قتادة.

٩٣
 &

اعتزال الباطل وأهله ، وبالغ القاضي عبد الجبار في مدّ جذور هذه التسمية إلى القرآن الكريم ، فقال : إنّ كلّ ما ورد في القرآن من ذكر الاعتزال فإنّ المراد منه الاعتزال عن الباطل ! لكن الرازي فنّد هذا الكلام حين أورد عليه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام في خطابه لقوم فرعون : ( وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) (١) !

الأشاعرة :

في الفترة التي ضعف فيها دور المعتزلة وقوي موقع أصحاب الحديث ظهر في البصرة أبو الحسن الأشعري بمذهب جديد يعارض فيه المعتزلة وينتصر لأصحاب الحديث. والأشعري المولود سنة ٢٦٠ هـ والمتوفى سنة ثلاثمئة ونيّف وثلاثين للهجرة ، قد كان أول أمره معتزلياً ، تلميذاً لشيخ المعتزلة في عصره أبي علي الجُبّائي ، وقد كان أحياناً ينوب عن شيخه في الجدل. ثمّ طلع على الناس بعد عزلة قصيرة ، قيل خمسة عشر يوماً فأعلن توبته عن مقالة المعتزلة في القدر وقال بقول الجبرية إلّا أنّه أدخل عليه مفهوم الكسب ، ليكون الإنسان مسؤولاً عن فعله بالكسب.. كما ردّ على المعتزلة عقيدتهم في الصفات وتبنّى قول أحمد بن حنبل باتّباع الظاهر بدون تأويل.. لكنّه تراجع بعد ذلك إلى التأويل في كلّ ما يوهم التشبيه ، إلّا الاعتقاد برؤية الله تعالى في الآخرة.

وناقض المعتزلة في منزلة العقل ودوره في الشرع ، وخالفهم في مسألة الحُسن

_____________

(١) اُنظر : اُصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الإمامية / د. عائشة يوسف المناعي : ٢٦ ـ دار الثقافة ـ الدوحة ـ ط ١ ـ ١٤١٢ هـ ، والآية من سورة الدخان : ٤٤ / ٢١.

٩٤
 &

والقُبح العقليين ، فجعل الحَسَن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع وليس للعقل دور في معرفة ذلك.

ولم يفرّق في العقيدة بين السنّة المتواترة وأحاديث الآحاد.

وجعل الصفات الثبوتية ـ العلم ، والقدرة ، والحياة ، والإرادة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ـ صفات قديمة قائمة بذاته ، لا يقال : هي هو ، ولا هي غيره ، ولا لا هو ، ولا غيره.

وجوّز تكليف ما لا يطاق ، وتعذيب المحسن ، ثواب المسيء.. أمّا مصدر عقيدته في الإمامة والتفضيل فإنّما هو الواقع التاريخي لا غير (١).

الماتريدية :

نسبة إلى مؤسّسها أبي منصور الماتريدي الذي توفي سنة ٣٣٣ هـ وكان معاصراً للأشعري ، غير أنّه كان بعيداً عنه ، في ماتريد من ولاية سمرقند ، وهو حنفي المذهب ، درس فقه أبي حنيفة ورسائله الصغيرة في الكلام وقد قرّر بعض العلماء أنّ آراء أبي حنيفة في العقائد هي الأصل الذي تفرّعت منه آراء الماتريدي.. ولما كان أبو حنيفة يمنح العقل دوراً كبيراً في الفقه والمعرفة ، خلافاً لأصحاب الحديث ، فقد ظهرت آثار ذلك في المذهب الماتريدي وميّزته كثيراً عن المذهب الأشعري..

فالأشعري قال : إنّ معرفة الله واجبة بالشرع.. أمّا الماتريدي فقال : يمكن للعقل إدراك وجوبها..

_____________

(١) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٨٥ ـ ٩٤ ، المذاهب الإسلامية : ٢٦٥ ـ ٢٧٩.

٩٥
 &

ونفى الأشعري الحُسن والقُبح العقليين فيما أثبتهما الماتريدي.

والماتريدي خالف أصحاب الحديث منذ البداية في الصفات ، وقال بوجوب حمل المتشابه على المحكم وتأويل كلّ ما يوهم التشبيه.

والأشعري يرى أنّ أفعال الله لا تعلّل لأنّه لا يُسأل عمّا يفعل ، وهم يُسألون.. ويرى الماتريدي أن أفعال الله لا تكون إلّا على مقتضى الحكمة ، دون أن يقال إنّ ذلك واجب على الله تعالى لأنّه مختار مريد.

وجوّز الأشعري على الله أن يعاقب الطائع ويثيب العاصي.. ومنع من ذلك الماتريدي لأنّ ثواب الطائع وعقاب العاصي إنّما هو لحكمةٍ قَصَدَها وإرادةٍ أرادها.

وأجاز الأشاعرة أن يُخلِفَ الله وعده ، ومنع الماتريدية ذلك.

وكان الأشعري قد فارق المعتزلة في الجبر والاختيار ، وميّز قوله عن قول الجبرية الخالصة بإضافة عنصر الكسب ، والكسب عنده هو الاقتران بين الفعل الذي هو مخلوق لله تعالى وبين اختيار العبد ، من غير أن يكون للعبد تأثير في الكسب ! هذا القول الذي وصفه العلماء بأنّه يؤدّي إلى الجبر لا محالة ، لأنّ هذا الكسب مخلوق لله تعالى كالفعل نفسه ! فبعضهم وصفه بأنّه الجبر المتوسط ، وبعضهم وصفه بأنّه الجبر الكامل.

أما الماتريدي فقد قال بالكسب أيضاً ولكنّ الكسب عنده من فعل الإنسان بقدرة أودعها الله سبحانه وتعالى فيه.

وفي جميع هذه الأقوال ترى الماتريدي يقترب من المعتزلة أحياناً ويوافقهم أحياناً اُخرى ، لذا وضع الكوثري تخطيطاً لأربعة مذاهب جعل الطرفين : أصحاب الحديث ، والمعتزلة ، وبينهما الأشاعرة أقرب إلى أصحاب الحديث ،

٩٦
 &

والماتريدية أقرب إلى المعتزلة.

ومن الأمور التي تقارب فيها الماتريدي والأشعري : القول في الرؤية ، وفي مرتكب الكبيرة ، وفي الإمامة (١).

ج ـ مصادر الكلام الأجنبية على الواقع الإسلامي : وهي على قسمين :

أوّلهما : ما اضطرّ إليه العلماء الذين وجدوا أنفسهم معنيّين في الدفاع عن العقيدة الإسلامية أمام متكلّمي الأمم الاُخرى الوافدة على الإسلام أو المجاورة لحدوده ، والتي ترجع إلى تراث كلامي عريق.. فوجد بعض العلماء المسلمين أنفسهم أمام غزو فكري مدجّج بالسلاح ، ولا بدّ لأجل محاربته أن يواجهوه بسلاح من جنس سلاحه ، خاصّةً وأنّ المنهج الحديثي الغالب على العلماء آنذاك لم يكن وافياً في متابعة كلّ شاردة وواردة تقذف بها المدارس الكلامية تلك.

فكان هذا دافعاً نحو ولوج علم الكلام وسلوك سُبله ودخول مداخله واستخدام أساليبه في الحجاج والبراهين والتفريعات ونحو ذلك.

وهذا في نفسه غير مستنكَر ، بل هو حَسَن ومحبّذ جدّاً حين يكون أصحابه من أهل العلم والمعرفة واليقين. ولقد أفلح كثير منهم في الردّ على شبهات متكلّمي الاُمم الاُخرى من صابئة ونصارى ومجوس وهنود وغيرهم ، في كتب ومناظرات ، ودحضوا حجج كثير من الزنادقة المتأثرين بهم.

وثانيهما : ما وقع عليه طلبة العلوم ، من مختلف المستويات ، من كتب الكلام والفلسفة الأجنبية في عصر الترجمة وبعده.. فهذا وإن كان يمثّل ظاهرةً

_____________

(١) اُنظر : المذاهب الإسلامية : ٢٨٧.

٩٧
 &

حضارية هامّة ، إلّا أنّه قد خلّف أثراً سلبياً ، تمثّل في تسرّب الكثير من المقولات الفلسفية الواردة إلى الثقافة الإسلامية ، ودخوله في اُمّهات المسائل العقيدية التي تناولها المتكلّمون.

وأسوأ الآثار إلى تركها هي تلك التي دخلت في بحوث « الصفات » صفات الخالق البارئ ذي الجلال والإكرام..

والحقّ أنّ مباحث الصفات كانت قبل عصر الترجمة مصدراً للنزاع والانقسامات ، ثمّ زادها ذلك تعقيداً وتعميقاً.

الصفات محور لفرق جديدة :

انقسم المسلمون في تفسير صفات الله تعالى إلى ثلاث طوائف ولكلّ طائفة فريقان (١) :

الطائفة الاولى :

ذهبت الى أنّ آيات وأحاديث الصفات يجب أن تجري على ظواهرها.. ثمّ انقسموا في معنى هذا الكلام إلى فرقتين :

الفرقة الأولى : ذهبت إلى أنّ المستفاد ممّا جاء في القرآن والحديث في الصفات ، من قبيل « يد الله » و « عين الله » و « وجه الله » ونحوها ، أنّها جوارح (أعضاء) كجوارح المخلوقين ! ووصفوه تعالى شأنه بالجسمية ، فقالوا هم جسم ، وهؤلاء هم « المشبّهة » و « المجسّمة ».. والذي ثبت على هذا الاعتقاد فرقتان ،

_____________

(١) هذا التقسيم الشامل تجده في مجموع الفتاوى / ابن تيمية ٥ : ١١٣.

٩٨
 &

هما : « الظاهرية » و « الكرّامية ».

الفرقة الثانية : أجروا هذه الألفاظ على ظاهرها ، ولكن خالفوا المجسّمة بالتصريح بالتجسيم والتشبيه ، فقالوا : نقول إنّ له تعالى يداً ووجهاً وعيناً وجارحة يسمع بها وأنّه مستقرّ على العرش استقراراً ، وأنّه ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة وأنّه يغضب ويفرح ، ولكن من دون أن نُشبّه ذلك بشيء من المخلوقات ، بل نقول إنها بالمعنى اللائق به تعالى !

وهؤلاء هم « الحشوية » من « أصحاب الحديث » و « السلفية » وهم لا يختلفون في النتيجة عن الفرقة الاُولى إلّا بالألفاظ ، فأولئك وصفوا جسماً مركّباً منفعلاً متغيّراً وصرّحوا بأنّه جسم ، وهؤلاء وصفوا الأوصاف ذاتها ثمّ قالوا : بلا كيف (١) !

والفريقان معاً يتّفقان على خبر غريب ، يرويه واحد عن واحد ؛ تفرّد به إسرائيل عن أبي اسحاق ، وتفرّد به أبو إسحاق عن عبد الله بن خليفة ، وتفرّد به عبد الله بن خليفة عن عمر ، وتفرّد به عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعبد الله بن خليفة الذي عُرفت الرواية باسمه مختَلَف فيه (٢) تقول روايته هذه : « إنّ كرسيّه ـ تعالى ـ وسع السماوات والأرض ، وإنّه ليقعد عليه فما يفضُل منه مقدار أربع

_____________

(١) اُنظر : مجموع الفتاوى / ابن تيمية ٥ : ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) اُنظر : ميزان الاعتدال ٢ / ت ٤٢٩٠ ، تقريب التهذيب ١ : ٤١٢. ولأجل هذا ولعلل اُخر في سند الحديث ومتنه عدّه ابن الجوزي من الموضوعات ، وقال : هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. اُنظر : العلل المتناهية ١ : ٢١ باب ذكر الاستواء على العرش.

٩٩
 &

أصابع ، وإنّ له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا رُكب من ثقله ! » (١) وفي رواية اُخرى لهذا الخبر « وما يفضل منه إلّا أربع أصابع » ! واعتقد الحشوية والسلفية بهذه الراوية ليشاركوا بها المجسّمة (٢).

والفريقان يتّفقان على امتناع التأويل ولزوم الأخذ بالمعنى المستفاد من الظاهر ، وهم لأجل ذلك أنكروا وجود المجاز في اللغة العربية ، وجعلوا هذه الألفاظ كلّها على الحقيقة ! وهذا كلام غريب جداً على لغة العرب ، دعت إليه العصبية المذهبية ! وعلى هذا تعاملوا مع المتشابه كتعاملهم مع المحكم ! يقول ابن الجوزي : إعلم أنّ عموم المحدّثين حملوا ظاهر ما تعلّق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحِسّ ، فشبَّهوا ، لأنّهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم.. فوجود المتشابه في القرآن والسنّة أمر مسلّم (٣).

وهذه الطائفة اتُهمت بالمشابهة باليهود ، وبالقرّائين منهم خاصّة ، إذ وقف هؤلاء على ظواهر تفيد التجسيم في التوراة ! (٤) ولقد استدل ابن تيمية لهذه العقيدة بنصوص من الإنجيل أيضاً ! (٥)

لكنّ هذا أيضاً لا يدلّ على الاقتباس المباشر ، وإنّما يدلّ على أنّه قد وقع في اُمّة الإسلام كالذي وقع في الاُمم السابقة لا سيمّا اليهود والنصارى... وإنّما يأتي دليل التأثّر من ملاحظة اهتمام بعض أصحاب تلك الديانات الذين دخلوا في

_____________

(١) تفسر الطبري ٣ : ١٠ آية الكرسي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م.

(٢) اُنظر : منهاج السنّة ١ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٣) تلبيس إبليس : ١٣٤.

(٤) الملل والنحل ١ : ٨٤ ، ٩٧.

(٥) اُنظر : مجموع الفتاوى ٥ : ٤٠٦.

١٠٠