المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

الدكتور صائب عبد الحميد

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-06-4
الصفحات: ١٢٥

ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الاسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتي يومنا هذا غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوى جهداً تحقيقّياً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها...
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وإلى دينه أو أخلاقه أو عقله.. خطب الوليد بن عبد الملك يوم بويع له بالخلافة ، فقال : « أيّها الناس ، عليكم بالطاعة ، ولزوم الجماعة ، فإنّ الشيطان مع الواحد ! أيّها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، ومن سكت مات بدائه » (١) !

هذه هي فلسفة الطاعة والجماعة عندهم ، والتي بقيت تميّز أهلها عن غيرهم ممّن لا يعتقد بالولاء لحكام الجور والفساد..

أمّا ما يدّعيه البعض من أنّ « الجماعة » مأخوذة من متابعة إجماع الصحابة وإجماع السَّلَف ، فإنّما هي دعوى لا يسندها الواقع بشيء ، فأي أمر هذا الذي أجمع عليه السَّلَف ثمّ تميّزت به هذه الطائفة عن غيرها من الطوائف ؟! لكنّ المشكلة تكمن في أنّهم اختزلوا مساحة « السَّلَف » لتشمل فقط القائلين بإمامة كلّ متغلّب وحرمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يراه « الأمير » فساداً ! فمن هنا كان السَّلَف في هذه القضية إنّما هو عبد الله بن عمر في رأيه الشاذ ! ومرّة اُخرى يكون ابن عمر هو السَّلَف حين يقول بالتفضيل بين الصحابة بحسب الترتيب الذي فرضه الواقع التاريخي وناصره الاُمويّون (٢) ! وهكذا مع سائر القضايا التي تميّزوا بها.. وهيهات أن تجد قضيّةً أجمع عليها علماء السلف وصالحيهم ثمّ تمسّكت بها هذه الفرقة دون غيرها ! أمّا العكس فأمثلته كثيرة ، في العقيدة وفي الفقه معاً : فحين كان إجماع الصحابة على أنّ الصحابي لا يُقطع

_____________

(١) البداية والنهاية ٩ : ٨٥.

(٢) اُنظر : مناقب الامام أحمد بن حنبل / أبو الفرج ابن الجوزي : ٢٢٨ ـ دار هجر ـ الجيزة ـ ١٩٨٨ م.

٤١
 &

بعدالته ، بل قد يُتّهم بالكذب والغش والخيانة والزنا ، ويعزّر ويقام عليه الحدّ ، وتردّ أحاديثه ، ويكذَّب عليها ، لا يختلفون في ذلك كلّه قيد شعرة وتاريخهم ثابت فيه ، وعليه سائر المسلمين.. خالف فيه أهل « الجماعة » وقالوا بعدالة الصحابي ، ذلك المبدأ الذي روج له الاُمويّون ، وكان من أحسن ما نفعهم من مبادئ ابتدعوها !

ولما كان إجماع الصحابة وعلماء الطبقة الاُولى من التابعين على تسطيح القبور ، وقال به كثير من المسلمين ، خالف فيه « أهل السنّة والجماعة » لحديث سفيان التّمار ، وهو من رجال العهد الاُموي ، لم يدرك أحداً من الصحابة بل حدّث عن التابعين من طبقة محمّد بن الحنفية وسعيد بن جبير وعكرمة (١) ، فهو أوّل من روى تسنيم القبور ، فقال البيهقي في التوفيق بين حديث سفيان والأحاديث المتقدّمة عليه الصريحة بالتسطيح ، ما نصّه : « فكأنّه ـ أي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ غُيّر عما كان عليه في القديم ! فقد سقط جداره في زمن الوليد بن عبد الملك وقيل في زمن عمر بن عبد العزيز ، ثمّ اُصلح » فالتسنيم إذن اُمويّ الميلاد ، أمّا علّته فهي في آخر كلام البيهقي إذ واصل يقول : « وحديث القاسم بن محمّد ـ في التسطيح ـ أصحّ وأولى أن يكون محفوظاً ، إلّا أنّ بعض أهل العلم من أصحابنا استحبّ التسنيم في هذا الزمان لكونه جائزاً بالإجماع ، وأنّ التسطيح صار شعاراً لأهل البدع » (٢) ! وأهل البدع هنا مصطلح جامع لمن لم يخضع للولاء

_____________

(١) اُنظر : تهذيب الكمال / المزّي : ١٤٣ ـ ١٤٤ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٩٨٥ م.

(٢) السنن الكبرى / البيهقي ٤ : ٣ ـ ٤ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٩١ م.

٤٢
 &

الاُموي معتقداً صحّته ، وفي طليعتهم الاُمّة المتمسّكة بالولاء لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذين تميّزوا باسم « الشيعة » وأطلق عليهم التاريخ لقب الرافضة ! تُرى كيف أصبحت السنّة الصحيحة شعاراً لأهل البدع دون « أهل السنّة والجماعة » ؟!

ومثل ذلك يقال مع صيغة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ذُكر ، فقد أصبحت الصلاة المسنونة شعاراً « لأهل البدع » !.. والصلاة البتراء التي حُذف منها « آل محمّد » شعار « لأهل الجماعة » تأثّراً بالنزعة الاُمويه.. وأمثلة هذا الباب كثيرة تصلح وحدها موضوعاً لدراسة مستقلّة.

ـ أما لفظ « السنّة » فلم يظهر مقروناً بلفظ « الجماعة » في بادئ الأمر ، وإن كان ظهوره بمفرده أولاً في العهد الاُموي أيضاً للتمييز بين المنتظمين في سلك « الجماعة » وبين الآخرين الذين ما زالوا يؤمنون بقداسة الدين التي تأبى أن يكون رجال بني اُمية هؤلاء زعماء له ناطقين باسمه ، فإذا قيل « أهل السنّة » فإنّما يراد بهم أهل الطاعة و « الجماعة » أنفسهم ، وأما الآخرون فهم أهل البدَع.. ولعلّ أوّل ظهور لهذا التقسيم هو الذي جاء في حديث ابن سيرين ـ المتوفّى سنة ١١٠ هـ ـ القائل : « كانوا لا يسألون عن الإسناد حتّى وقعت الفتنة ، فلمّا وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد ، ليُحدَّث حديث أهل السنّة ويُترك حديث أهل البدعة » (١).

وابن سيرين هذا لم يكن له ذكر في القرّاء الذين نهضوا على الحجّاج سنة

_____________

(١) صحيح مسلم ـ المقدّمة ـ باب ٥ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٧٨ م ، الكفاية في علم الرواية / الخطيب البغدادي : ١٢٢ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م ، واُنظر : أهل السنّة والجماعة معالم الانطلاقة الكبري : ٥٩.

٤٣
 &

٨٢ هـ (١).. وقد ذكروا في ترجمته بأنه كان لا يعيب على السلاطين شيئاً رغم ابتعاده عنهم (٢).. فمن هم أهل البدع عنده ؟

لقد وجدناه يقول في معاوية بن أبي سفيان : « كان معاوية لا يُتَّهم في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣). فهل كان معاوية في من يُستثني من أهل البدع ، أم أنّه عنده من أهل السنّة ؟

إنّ الميزان الذي وضعوه لتمييز البدعة من السنّة هو الواقع التاريخي للخلافة والثقافة التي أفرزها ، فلم يكن لعنُ عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام والبراءة منهم بدعة ، لكن تفضيل عليّ على عثمان وحده بدعةً !!

فليس معاوية وحده مستثنى ، بل عقيدته هذه كلّها ليست ممّا يخدش في السنّة ! وغداً سوف يأتي « خليفة » آخر أشدّ عداءً لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من معاوية فلا يمنع ذلك من أن يسمّى « ناصر السنّة » ذلك هو المتوكّل العباسي.. قيل فيه ذلك لأنّه وضع حدّاً للمعتزلة الذين كانوا يمتحنون الناس على القول بخلق القرآن ، ونَصر الإمام أحمد بن حنبل وأفرج عنه وانتصر لعقيدته ، فكان أحمد قد سُمّي « إمام السنة » لصبره على تلك المحنة (٤) ، وقالوا في المتوكّل : أظهر السنّة وتكلّم بها في مجلسه وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنّة ونصر أهلها.. (٥)

_____________

(١) اُنظر : تاريخ خليفة بن خياط : ٢٢١ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٩٣ م.

(٢) سير أعلام النبلاء / الذهبي ٤ : ٦١٥ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٩٨٥ م.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ : ٦١٢.

(٤) أهل السنّة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى : ٥٧ عن ابن تيمية في ( منهاج السنّة ).

(٥) تاريخ خليفة بن خياط : ٤٧٨ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣١.

٤٤
 &

وهو الذي أحيا السنّة وأمات التجهّم (١).. وذلك رغم قولهم فيه : كان فيه نَصبٌ ظاهر وانهماك على اللذات والمكاره (٢) !!

وكان شديد البغض لعليّ عليه‌السلام ولأهل بيته ، يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولّاهم بأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث ، يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه ، وهو أصلع ، ويرقص بين يدي المتوكّل ، والمغنّون يغنّون : « قد أقبل الأصلع البطين ـ خليفة المسلمين » يحكي بذلك عليّاً عليه‌السلام ، والمتوكّل يشرب ويضحك..

وكان يُبغض من تقدّمه من الخلفاء ـ المأمون ، والمعتصم ، والواثق ـ في محبة عليّ وأهل بيته ، وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنّصب والبغض لعلي ، منهم : علي بن الجهم الشاعر الشامي ، وأبو السِّمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالى بني اُميّة وبان اُترجّة العباسي الهاشمي (٣).. وهدم قبر الحسين عليه‌السلام وهدم ما حوله من المنازل وأمر أن تُحرث وتزرع ، ومنع الناس من إتيانها (٤) ! صحيح أنّ هذا الفعل لم يكن مرضياً لديهم ، بل وصفه بعضهم بأنّه السيئة التي غطّت على جميع حسنات المتوكّل (٥) ، لكن هذا الصنع كلّه لم يُخرج

_____________

(١) شذرات الذهب / ابن العماد الحنبلي م ١ ـ ج ٢ : ١١٤ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م.

(٢) شذرات الذهب م ١ ـ ج ٢ : ١١٤ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٧ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٤) المنتظم / ابن الجوزي ١١ : ٢٣٧ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٩٢ م ، الكامل في التاريخ ٧ : ٥٥ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٧.

(٥) الكامل في التاريخ ٧ : ٥٦.

٤٥
 &

المتوكّل من أهل السنّة إلى أهل البدعة !!

تاريخ التمييز بين « أهل السنّة » و « أهل البدعة ».

ـ سئل « إمام السنّة » أحمد بن حنبل في من قدّم عليّاً على عثمان في الفضل ، فأجاب : « هذا أهلٌ أن يُبدَّع » (١).

ـ وسأله المتوكّل عن أشخاص من أهل العلم ، مَن منهم يصلح للقضاء ؟ فكتب إليه فيهم فرداً فرداً ، ثمّ ختم كتابه بقوله : « إنّ أهل البدع والأهواء لا ينبغي أن يُستعان بهم في شيء من اُمور المسلمين ، فإنّ في ذلك أعظم الضرر على الدين ، مع ما عليه رأي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من التمسّك بالسنّة والمخالفة لأهل البدع » (٢) ! فما زال المتوكّل مع ما عليه من النصب ومجالس السخرية بالإمام علي عليه‌السلام ، ما زال متمسّكاً بالسنّة ، مخالفاً لأهل البدع !

ـ وما زال أحمد بن حنبل يوثّق أشدّ الناس نصباً وتمادياً في شتم عليّ وأهل البيت ، ويطريهم أحسن الإطراء ، ولنا في « حريز بن عثمان » وحده دلالة كافية ، هذا الذي كان يستعيض عن ذكر الله بشتم الإمام عليّ ، يقول فيه أحمد بن حنبل « ثقة ، ثقة ، ثقة » وهو في الوقت نفسه يقول : « كان يحمل على عليّ » (٣) !!

ـ أمّا القسم الآخر من « أهل البدعة » فهم « الجهمية » المعطّلة الذين عطّلوا الصفات وقالوا بخلق القرآن.

_____________

(١) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢١٨.

(٢) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢٥٢.

(٣) اُنظر : تهذيب الكمال ٥ : ٥٦٨ / ١١٧٥ ترجمة حريز بن عثمان.

٤٦
 &

كيف أظهر المتوكّل السنّة ونَشَرَ الحديث ؟

تحت مثل هذا العنوان كتب ابن الجوزي : أنّ المتوكّل أشخص الفقهاء والمحدّثين ، وكان فيهم : مصعب الزبيري ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، وعبد الله وعثمان ابنا محمّد بن أبي شيبة وكانا من حفّاظ الناس ، فقُسمت بينهم الجوائز ، واُجريت عليهم الأرزاق ، وأمرهم المتوكّل أن يجلسوا للناس وأن يحدّثوا بالأحاديث التي فيها الرّد على المعتزلة والجهمية ، وأن يُحدّثوا بالأحاديث في الرؤية (١)..

ومثل هذه الأجواء سوف تفتح باباً فسيحاً للكذب ووضع الحديث ، كالذي حدث في فضائل الصحابة زمن معاوية ، فوضعت أحاديث كثيرة في الصفات تفيد التجسيم ، وفي الرؤية ، وفي قِدَم القرآن ممّا ليس له أصل في الإسلام ، ولم يُعرَف قبل هذا التاريخ (٢).

وفي هذه الأجواء نشطت عقيدتا « التشبيه » و « التجسيم » المنحرفتان ، إفراطاً في ردّ عقيدة « التعطيل » المنحرفة الاُخرى التي تعزّزت في عهودِ ثلاثة من الحكام العباسيين تعاقبوا على الحكم ؛ المأمون ، والمعتصم ، والواثق ، وكان لهذه العقائد المنحرفة ظهور قبل هذا التاريخ.

ـ إلى هنا يبدو أنّ لقب « أهل السنّة » كان له ظهور فعلي في هذه المرحلة بالذات ، مرحلة أحمد بن حنبل والمتوكّل ، في خضمّ الصراع الفكري حول

_____________

(١) المنتظم ١١ : ٢٠٧.

(٢) اُنظر : العلل المتناهية ١ : ٢٠ ـ ٤١ ، اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة / السيوطي ١ : ٣ ـ ٣٣ ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ ١٩٨٣ م.

٤٧
 &

العقيدة في الصفات وقضية القرآن ؛ أهو قديم أم حادث مخلوق لله تعالى ! ذلك الصراع الذي كان مصحوباً بالعنف في أكثر مراحله.

وفي الوقت ذاته كان له ظهور أكثر من قبل في الصراع الدائر حول قضية الإمامة والخلافة والتفاضل بين الصحابة والموقف من النزاعات الواقعة بينهم ، وتعود الزيادة في الظهور إزاء هذا الموضوع لتطّور حركة التنظير فيه ، وتراكم الآراء المتلاحقة ، دون أن يحدث تغيير في المتبنّيات الأساسية.

وقد تقدّم الحديث عن لقب « الجماعة ».. أمّا اجتماع الشطرين في التسمية بـ : « أهل السنّة والجماعة » فلم يثبت بالتحديد أول ظهور له ، لكنّه على الأقل لم يكن ظاهراً حتى هذه المرحلة التي نحن بصددها.

متى اعترف « أهل السنّة » بخلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ؟

لا شكّ أنّه ليس كلّ من صوّب خلافة أبي بكر وعمر وعثمان قد أسلم دينه لمعاوية ، يُثبت منه ما يشاء كيف يشاء ويمحو ما يشاء ! بل كثير منهم لعنوه ، وكثير منهم قد تبرّأوا منه ، وما أكثر من خطّأه وأدرك حجم الفساد الذي أدخله على هذا الدين وألقاه على كاهل هذه الاُمّة.

واستمرّ هذا الوعي فيهم في جميع الأعصار ، ولعلّه في عصرنا الحاضر أشدّ تألّقاً وأكثر أنصاراً.. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ أعصار الصراع الطائفي تغذّي العصبية ، فتذهب بكلّ قولٍ أو موقفٍ تبدو عليه بصمات الاعتدال والموضوعية ، ليظهر فقط ما يغذّي العصبية وهي في أوج حاجتها إليه ، فتبرز المواقف الشاذّة ، وغير المسؤولة ، وحتّى الجبانة والذليلة ، ليشتدّ التمسك بها ، ويُتّخذ أصحابها « سَلفاً » أولى أن يُقتدى به دون غيره.. وفي مزدحم العصبيات تغلّب على « أهل

٤٨
 &

السنّة والجماعة » الرأي الشاذّ الذي لا يعترف بخلافة الإمام عليّ عليه‌السلام ، ودان به حتّى أهل العلم والفقه والحديث منهم ، حتّى ثبّتها أحمد بن حنبل ، لكن بقيت في زمنه محلّ نزاع إلى أن استقرّت كما ثبّتها ، وفق الترتيب التاريخي ، الذي جعله مقياساً للتفاضل بينهم أيضاً !

ـ قيل لسفينة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هؤلاء يزعمون أنّ علياً عليه‌السلام لم يكن بخليفة ! قال : كذبتْ أستاه بني الزرقاء ! يعني بني مروان (١).

ـ وأوّل من حذف اسم علي من الخلفاء هو معاوية حين كان يخطب فيذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثمّ يتحدّث عن نفسه وسياسته ولا يذكر عليّاً عليه‌السلام ، بل يذكره في آخر خطبته بالشتم والسبّ واللعن !

ومضى بنو اُميّة على ذلك في جميع أحوالهم ، في السرّ والعلن ، حتّى رُوي عن سليمان بن عبد الملك أنّه نظر في المرآة أيّام خلافته فأعجبه شبابه ، فقال : « كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّاً ، وكان أبو بكر صدّيقاً ، وكان عمر فاروقاً وكان عثمان حييّاً ، وكان معاوية حليماً وكان يزيد صبوراً » فيقفز من عثمان إلى معاوية فيزيد حتّى يبلغ ذكر نفسه فيقول : وأنا الملك الشابّ (٢). فحتّى في مثل هذه الأحاديث لا يذكرون عليّاً عليه‌السلام بالخلافة !

ـ ودخلت رؤيتهم هذه في الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله !! كحديث رؤيا الميزان الذي يزن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر فيرجح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويزن أبو بكر وعمر فيرجح أبو بكر ، ويزن عمر وعثمان فيرجح عثمان ، ثمّ يرتفع الميزان !!

_____________

(١) سنن أبي داود ح / ٤٦٤٦.

(٢) اُنظر الحديث في مسند أحمد ٥ : ٤٤ ، ٥٠ ـ عالم الفكر ـ بيروت.

٤٩
 &

وعزّز ذلك كلّه الحديث الموقوف على ابن عمر في التفضيل الذي يقول إنّهم كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفاضلون فيقولون : أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ يسكتون فلا يذكرون أحداً بعدهم !! والعلّة كلّها أنّ الذي جاء بعد عثمان في الخلافة عليّ ، ولو كان الزبير أو سعداً أو طلحة لما سكت ابن عمر ولا سكتوا.

فترسّخت تلك الرؤية ، حتّى أصبحت من الثوابت التي تُميّز « الجماعة » ثمّ « أهل السنّة » حتّى جاء أحمد بن حنبل ، فأظهر التربيع في الخلافة ! وكتب ذلك في جوابه إلى مسدّد بن مسرهد يصف له السنّة ، فذكر الأربعة بحسب الترتيب الواقع في الخلافة ، فقال : « هم والله الخلفاء الراشدون المهديّون » (١).

فأثار كلامه جدلاً ونزاعاً بين « أهل السنّة » :

ـ قال وريزة الحمصي : دخلتُ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعليّ عليه‌السلام ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، إنّ هذا طعنُ على طلحة والزبير !

قال : بئسما قلت ! وما نحن وحرب القوم وذكرها ؟

فقلتُ : أصلحك الله ، إنّما ذكرناها حين ربّعتَ بعليٍّ وأوجبتَ له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله ! فقال لي : وما يمنعني من ذلك ؟! قلتُ : حديث ابن عمر.. فقال لي : عمر خير من ابنه ، وقد رضي عليّاً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى ، وعلي بن أبي طالب قد سمّى نفسه أمير المؤمنين ، أفأقول أنا : ليس للمؤمنين بأمير ؟! قال : فانصرفتُ عنه (٢) !

_____________

(١) طبقات الحنابلة / القاضي ابن أبي يعلى ١ : ٣٤٤ ترجمة مسدّد بن مسرهد بن مسربل البصري ـ دار المعرفة ـ بيروت.

(٢) طبقات الحنابلة ١ : ٣٩٣ ترجمة وريزة بن محمّد الحمصي.

٥٠
 &

ـ ولقد حاول أحمد بن حنبل أن يذكّر بأشياء من حقّ عليّ عليه‌السلام الذي غيّبته مدارس ثقافية كافحت في هذا السبيل نحو قرنين من الزمن..

قال أحمد بن حنبل : ما لأحدٍ من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعليّ رضي‌الله‌عنه (١).

وقال : عليٌّ من أهل بيتٍ لا يقاسُ بهم أحد ! (٢)

وسُئل يوماً : ما تقول في هذا الحديث الذي يروي ، أنّ عليّاً قال : « أنا قسيم النار » ؟ فقال : وما تُنكرون من ذا ؟ أليس روينا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ : « لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق » ؟.. قالوا : بلى.. قال : فأين المؤمن ؟.. قالوا : في الجنّة.. قال : فأين الكافر ؟.. قالوا : في النار.. قال : فعليٌّ قسيم النار (٣).

ـ ويصحّح انحرافاً منهجياً وقع فيه أحد « أئمّة » الجرح والتعديل ، يحيى بن معين ، إذ نسب الشافعي إلى « بدعة » التشيّع ، ودليله في ذلك أنّه نظر في كتاب للشافعي في قتال أهل البغي ، فوجده قد احتجّ فيه من أوّله إلى آخره بعليّ بن أبي طالب !!

فقال له أحمد : عجباً لك ! فبمن كان يحتجّ الشافعي في هذا ، وأوّل من ابتلي به علي بن أبي طالب ؟ وهو الذي سنّ قتالهم وأحكامهم ، وليس عن النبي ولا عن الخلفاء غيره فيه سنّة ، فبمن كان يستنّ ؟! فخجل يحيى ! (٤)

فانظر إلى حجم الانحراف الفكري الذي أصاب الكبار ، وحتّى أئمّة الجرح

_____________

(١) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢٢٠.

(٢) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢١٩.

(٣) طبقات الحنابلة ١ : ٣٢٠ ت / ٤٤٨ ترجمة محمّد بن منصور.

(٤) مناقب الشافعي / البيهقي ١ : ٤٥١ ـ مكتبة دار التراث ـ القاهرة.

٥١
 &

والتعديل ! علماً أنّ يحيى بن معين يعدُّ معتدلاً جدّاً قياساً بالجوزجاني ـ وهو أيضاً من أئمّة الجرح والتعديل ـ الذي لم يكن يُخفِ بغضه لعليّ وأهل البيت عليهم‌السلام !

لكن يبقى العجب من أحمد بن حنبل كيف مع هذا كلّه بقي يعتمد أحاديث النواصب ويوثّقهم ولا يعدّهم في المبتدعين ، وهو يعلم أنّهم منافقون بحكم الحديث الصحيح الذي احتجّ به آنفاً « لا يبغضك إلّا منافق » !!

من وقع في دائرة الظل التام ودائرة شبه الظل :

هناك دائرة تقع خلف الحجاب المواجه للنور وتقابل مركزه ، تسمّى دائرة الظلّ التامّ ، تحيط بها على تماس بينهما دائرة أقلّ خضوعاً لتأثير الحجاب ، تسمّى دائرة شبه الظلّ.. وفي دائرة شبه الظلّ وقع الكثير من الأعلام وسواد الناس الذين نظروا إلى الخلافة الاُولى نظرة تقديس ، فاعتقدوا بتأخير أهل البيت عليهم‌السلام عن منزلتهم الحقّ ، وقدّموا عليهم آخرين بتفاضل موهوم صنعه الواقع التاريخي للخلافة لا غير ، دون أن يحملوا في قلوبهم سوءاً وغيضاً وحسداً أو حقداً على أحد من أهل البيت عليهم‌السلام بل أظهروا حبّهم والدفاع عنهم بالكلمة أو بالإشارة ولو إلى خاصّة أصحابهم ، فلم يقعوا تحت دائرة التأثير التامّ لنظام الغَلَبة ، والمنهج الثقافي الذي تبنّاه..

فالشافعى لا يتحفّظ من المجتمع في إظهار حبّه لأهل البيت عليهم‌السلام ، حتّى يصفوه بـ (الرفض) وليس التشيّع فقط !! فأنشد في ذلك شعراً كثيراً يؤكّد ما هو عليه من حبّ ، وأنّ ما يقال فيه لا يزيده إلّا إصراراً عليه :

٥٢
 &

ان كان حبُّ الوليّ رفضاً

فإنّني أَرفَضُ العبادِ (١)

ويقول :

إذا في مجلس نذكُرْ عليّاً

وسبطيهِ وفاطمة الزكيهْ

يقال : تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث الرافضيهْ

برئتُ إلى الميهمن من اُناسٍ

يرونَ الرفضَ حُبَّ الفاطميهْ (٢)

أمّا أبو حنيفة فقد خرج من ولاء الاُمويين إلى ولاء الثورات العلويّة منذ ثورة زيد الشهيد ، وبعده محمّد وإبراهيم أولاد عبد الله بن الحسن ، حتّى مات على ذلك في سجن أبي جعفر المنصور (٣).

وحتّى من كان فيه مداراة وتقيّة ، كالحسن البصري ، فقد أظهر في متنفّساته ما يبعده عن تلك الدائرة ، وكلمته في معاوية هي من أشهر ما قيل فيه : « أربع خصال كنّ في معاوية ، لو لم يكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسيف.. واستخدامه بعده ابنه سكّيراً خمّيراً.. وادّعاؤه زياداً.. وقتله حُجراً وأصحاب حُجر ، فيا ويلاً له من حُجر ! ويا ويلاً له من حُجر » !! (٤)

_____________

(١) ديوان الشافعي : ٣٨ ـ دار كرم ـ دمشق ، وعجزه في الديوان مضطرب المعنى لم يبذل المصحّح جهداً في تقويمه ، ففيه « فإنّ رَفضي إلى العباد » علماً أن مصادر اُخرى روت في صدره « حبّ الوصي » بدل « حبّ الولي ».

(٢) ديوان الشافعي : ٩٢ ، واُنظر له في الديوان أيضاً : ٥٨ ، ٧٤.

(٣) الملل والنحل ١ : ١٤٠ ، تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٩٨ ـ مطبعة السعادة ـ ١٩٣١ م.

(٤) الأخبار الموفّقيات / الزبير بن بكّار : ٥٧٤ ت / ٣٧٢ ، وقد سقطت منه الخصلة الرابعة دون أن يتنبّه محقّقه الدكتور سامي مكّي العاني إلى ذلك رغم أنّه أثبت في

٥٣
 &

وكان من تقيّته أنّه إذا حدّث عن عليّ عليه‌السلام لم يذكر اسمه ، بل يرسله فيقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقيل له : إنّك تقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّك لم تدركه ؟!

فقال للسائل : يا بن أخي قد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، ولو لا منزلتك منّي ما أخبرتك ؛ إنّي في زمانٍ كما ترى ، فكلّ شيءٍ سمعتني أقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو عن عليّ بن أبي طالب غير أنّي في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً ! (١)

وكان الأعمش ، وأبو إسحاق السبيعي ، والنسائي ، والحاكم النيسابوري أظهر حبّاً لأهل البيت عليهم‌السلام من الحسن البصري.

وهذا الاتجاه هو الذي غلب في ما بعد على ثقافة الجمهور من « أهل السنّة والجماعة » وظهر بشكل أكثر وضوحاً وتركيزاً لدى أصحاب الاتّجاه الصوفي.

لكنّ الذين وقعوا في دائرة الظلّ التام من أهل الأثر العلمي ، بعد عصر الهيمنة الاُموية والعباسية ، كانوا أفراداً أصبح لهم بعد ذلك أتباع أخذوا بمناهجهم واقتفوا آثارهم ، وأهم هؤلاء الأفراد ثمّ الجماعات :

١ ـ ابن حزم : الفارسي الأصل ، الاُموي الولاء ، كان جدّه مولى يزيد بن أبي سفيان الاُموي أمير دمشق قبل أخيه معاوية.. الظاهري المذهب ، القُرطبي المولد ، المولود سنة ٣٨٤ هـ ، والمتوفّى سنة ٤٥٦ هـ ، الذي قُرِن لسانه بسيف الحجّاج ، فقيل : « كان لسانُ ابن حزم وسيفُ الحجّاج شقيقين » ! وقيل في لسانه

_____________

أوّل الحديث « أربع خصال كنّ في معاوية... » ! والحديث بنصّه الكامل مشهور جدّاً اُنظر ، : المنتظم ٥ : ٢٤٣ الكامل في التاريخ ٣ : ٤٨٧ ، تهذيب تاريخ دمشق / عبد القادر بدران ٢ : ٣٨٤ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٩٨٧ م.

(١) تهذيب الكمال ٦ : ١٢٤.

٥٤
 &

أيضاً : « لم يتأدّب مع الأئمّة في الخطاب ، بل فجَّجَ العبارة ، وسبَّ وجدَّع ، فكان جزاؤه من جنس فعله » ! (١)

٢ ـ أبو بكر ابن العربي : العربيّ الأصل ، الأندلسي الإشبيليّ المولد ، المالكي المذهب ، المولود سنة ٤٦٨ هـ والمتوفّى سنة ٥٤٣ هـ ، الذي عمل قاضياً بإشبيلية فحُمدت سيرته أوّلاً ، ثمّ عُزل لأجل شدّته وسطوته !

ومع ما كان عليه من شدّة وسطوة فقد « تعلّق بأذيال المُلك ، ولم يجرِ مجرى العلماء في مجاهرة السلاطين وحزبهم ، بل داهن » ! وكان منافراً لابن حزم ، متحاملاً عليه ، سلّط عليه لسانه وقلمه ، فممّا قاله فيه ممهّداً بذكر الظاهرية ، فيصفهم بأنّهم « اُمّة سخيفة » وأن مبدأهم إنّما هو من سنخ مبدأ « الخوارج » حين قالوا : لا حكم إلّا لله.. لينتقل إلى ابن حزم ، فيقول : « وجدتُ القول بالظاهر قد ملأ به المغربَ سخيفٌ كان من بادية إشبيلية يُعرَف بابن حزم... وقد جاءني رجل بجزء لابن حزم سمّاه (نكت الاسلام) فيه دواهي ، فجرّدت عليه نواهي ! وجاءني آخر برسالة في الاعتقاد (٢) ، فنقضتها برسالة (الغُرّة) والأمر أفحش من أن يُنقض » (٣).

٣ ـ ابن تيمية : غير المعروف الأصل ، الشامي الحرّاني المولد ، الحنبليّ المذاهب ، المولود سنة ٦٦١ هـ ، والمتوفى سنة ٧٢٨ هـ ، الفقيه المعروف بالحدّة والتطرّف ، والذي واخا الشقيقين : سيف الحجّاج ، ولسان ابن حزم ! والذي شذّ

_____________

(١) اُنظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٨ : ١٨٤ ـ ١٨٦ ، ١٩٩.

(٢) وهي رسالة (الدرّة في الاعتقاد).

(٣) اُنظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ٢٠ : ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٠٢ ، وترجمة ابن حزم في المصدر نفسه ١٨ : ١٨٨ـ ١٩٠.

٥٥
 &

في مسائل كثيرة في الفقه وفي العقيدة ، فوصفه كثير من العلماء بالنفاق وبالضلال والزندقة بسبب ذلك (١) ! فيما اتّخذه بعض المتأخّرين إماماً في الفقه والفكر والعقيدة !!

٤ ـ « السلفية » و « الوهابية » : إنّ هذا المنهج الخاطئ قد أصبح في ما بعد مذهباً لفرقة ، بعد أن كان موقفاً لأفراد.. لقد اتخذت منه الفرقة الوهّابيّة ـ الحادثة في القرن الثاني عشر الهجري على يد محمّد بن عبد الوهّاب النجدي ، المولود سنة ١١١١ هـ والذي ابتدأ دعوته سنة ١١٤٣ هـ ، وتوفي سنة ١٢٠٦ ـ اتّخذت منه ، جملةً وتفصيلاً ، مذهباً تدين به في تحديد الرؤية إزاء نظرية الخلافة ونظام الحكم في الإسلام ، وإزاء الموقف من الصحابة ومجمل الاعتقاد فيهم ، وإزاء التاريخ قراءةً ونقداً وتقويماً.. ذلك حين اتّخذت من تراث ابن تيمية وكتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي مصدراً معرفياً أساسياً تستلهم منه الفكر والمعتقد والمنهج.

وغير (الوهّابية) كثير من دعاة (السلفية) أيضاً قد تبنّوا هذا المنهج حين منحوا تلك المصادر ذاتها الموقع ذاته.

ويبقى الفارق بين الفريقين أكبر من مجرّد الانتساب إلى دعوة محمّد بن عبد الوهاب أو عدمه ، فدعاة (السلفية) ما زالوا أقرب إلى تلك المصادر مادّةً وروحاً ، وربّما تغافلوا عن بعض صفحاتها المنكرة فلم يردّدوا أصداءها ، بل ربّما

_____________

(١) اُنظر ترجمته في : الدرر الكامنة / ابن حجر ١ : ١٥٥ ـ دار إحياء التراث العربي ، الفتاوى الحديثية / الهيتمي : ٨٦ ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ط ٣ ـ ١٤٠٩ هـ.

٥٦
 &

مسّوا ببعضها مسّاً خفيفاً أو غمزوها غمزاً لطيفاً (١) ، فيما يعدّ هذا في نظر (الوهابية) أمراً منكراً في غاية النكارة.. ولقد جاوز الوهابيون الحدّ في التطرّف حتّى أكفروا كافّة المسلمين ولم يستثنوا أحداً وراء دائرتهم الضيّقة دائرة الظلّ التامّ ، واستباحوا الدماء والأعراض والأموال ، وجاوزوا في ذلك القولَ إلى العمل في سلسلة من الحروب خاضوها مع المدائن الإسلامية المحيطة بهم في الحجاز وجنوب العراق (٢).

والاتجاهان معاً : السلفية ، ابتداءً من القاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفّى سنة ٤٥٨ هـ ، وابن الزاغوني المتوفّى سنة ٥٢٧ هـ ، مروراً بابن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨ هـ ، وابن قيم الجوزية المتوفى سنة ٧٥١ هـ ، وانتهاءً برجالهم المعاصرين.. والوهابية ، ابتداءً بمؤسسها محمّد بن عبد الوهاب المتوفّى سنة ١٢٠٦ هـ ، وانتهاءً برجالهم المعاصرين ، امتازوا جميعاً بعقائد مشتركة نسبوها إلى السَلَف مجازفةً ، ولم يكن لهم فيها سَلَف صدق ، حتّى كثر النقد عليهم في ذلك ، ويكفي ما قاله ابن التميم الحنبلي في أول رجالهم أبي يعلى : وعقيدته في الصفات « لقد خَرَّى أبو يعلى الفرّاء على الحنابلة خَرْيَةً لا يغسلها الماء » ! (٣).

قال ذلك فقهاء الحنابلة أنفسهم ، وفي ابن الزاغوني قالوا : « إنّ في قوله من

_____________

(١) اُنظر مثلاً : سلسلة الأحاديث الصحيحة / ناصر الدين الألباني ٤ : ٣٤٤ ، ٤٠٠ ـ المكتب الإسلامي ـ ١٩٨٥ م.

(٢) اُنظر : صفحات من تاريخ الجزيرة العربية / محمد عوض الخطيب : ١٦٧ ـ ٢٠٣ ط ١ ، مركز الغدير ، بيروت / ١٩٩٥ م.

(٣) تاريخ أبي الفداء الدمشقي ١ : ٥٤٤ في حوادث سنة / ٤٥٨ هـ ، وهذه العبارة حرّفها أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية : ٣٢٤ ، فأوردها بلفظ : « لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحر » !

٥٧
 &

غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه» ! (١) وقولهم وقول غيرهم في ابن تيمية أكثر وأشهر ! (٢) أمّا محمّد بن عبد الوهاب فهو الأوفر حظّاً في الطعن والتجريح من فقهاء الحنابلة أنفسهم ، وأولهم أخوه الفقيه سليمان بن عبد الوهاب (٣) ، ومن غيرهم ، لأنّه كان مفتقراً إلى الكثير مما توفّر عليه سابقوه من مادة العلم وأسباب الاجتهاد.

كان هذا هو الأثر الأول من آثار نظرية الخلافة ونظام الغَلَبة ، وقد أصبح المحور الأساس الذي تتمحور من حوله أكبر فرق المسلمين وأولها نشوءاً ، ثمّ يتفاوت أتباع هذه الفرقة في ما بينهم في درجة القرب أو البعد من هذا المحور.

الصحيح في معنى السنّة والجماعة :

الإسلام لم يقل يوماً إن السنّة هي سنّة الحاكم وإرادته ، ولا قال يوماً إنّ الجماعة جماعته ومن دان بالطاعة والولاء له ، وحاشا أن يقول ذلك فيتحوّل من رسالة إلهية هادية للبشر جميعاً وفي كلّ زمان ، إلى سلّم يركبه الطامحون للحكم !

سُئل الإمام عليّ عليه‌السلام : ما السنّة ؟ وما البدعة ؟ وما الجماعة ؟ وما الفِرقة ؟

فقال عليه‌السلام : « أمّا السنّة ، فسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.. وأمّا البدعة ، فما خالفها..

وأمّا الفرقة ، فأهل الباطل وإن كثروا.. وأمّا الجماعة ، فأهل الحقّ وإن قلّوا » (٤). وفي جواب طويل له عليه‌السلام على مثل هذا السؤال أيضاً ، قال : « أمّا إذا

_____________

(١) المذاهب الإسلامية / محمّد أبو زهرة : ٣٢٤.

(٢) اُنظر : ترجمته في الدرر الكامنة ١ : ١٥٥ ، الفتاوى الحديثية : ٨٦.

(٣) راجع كتابه / الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية ، وكتابه الآخر / فصل الخطاب في الرّد على محمّد بن عبد الوهاب.

(٤) تُحف العقول / ابن شعبة الحرّاني : ٢١١ ـ منشورات الشريف الرضي.

٥٨
 &

سألتني فافهم عنّي ولا عليك أن لا تسأل عنها أحداً بعدي :

فأمّا أهل الجماعة ؛ فأنا ومن اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر الله وأمر رسوله (١).. وأمّا أهل الفرقة ، فالمخالفون لي ومن اتّبعني ، وإن كثروا..

وأمّا أهل السنّة ، فالمتمسّكون بما سنّه الله لهم ورسوله ، وإن قلّوا ، وإن قلّوا.. وأمّا أهل البدعة ؛ فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا ، وقد مضى منهم الفوج الأوّل وبقيت أفواج.. » (٢).

ونقل ابن القيم عن أبي شامة في (الحوادث والبدع) ، قوله : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحقّ واتّباعه وإن كان المتمسّك به قليلاً والمخالف له كثيراً (٣).

وعن عبد الله بن مسعود : إنّ جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة ! الجماعة ما وافق الحقّ وإن كنت وحدك ! (٤).

وسئل إسحاق بن راهويه عن السواد الأعظم الذي جاء في الحديث « إذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم » فأجاب قائلاً : « محمّد بن أسلم الطوسي وأصحابه ومن تبعه هو السواد الأعظم» ثمّ فسّر ذلك : « لم أسمع عالماً منذ خمسين سنة كان أشدّ تمسّكاً بأثر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من محمّد بن أسلم » (٥) ! وذكر

_____________

(١) هذا تعليل لكون الجماعة هو عليه‌السلام ومن اتّبعه ، فلأن ذلك هو الحقّ الذي أمر الله به ورسوله.

(٢) كنز العمّال / المتقي الهندي ١٦ : ١٨٤ / ٤٤٢١٦ ـ مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٥ هـ.

(٣) و (٤) النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية / محمّد بن عقيل : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ـ دار الثقافة ـ قم ـ ١٤١٢ هـ.

(٥) حلية الأولياء / أبو نعيم الأصفهاني ٩ : ٢٣٨ ، ٢٣٩ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ١٩٦ ـ ١٩٧.

٥٩
 &

البيهقي حديث إسحاق بن راهويه هذا ، فقال : صدق والله ، فإنّ العصر إذا كان فيه عارفٌ بالسنّة داع إليها فهو الحجّة ، وهو الإجماع ، وهو السواد الأعظم ، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتّبع سواها ولّاه الله ما تولّى وأصلاه جهنّم وساءت مصيراً (١) !

فإذا قرأت عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّهم قالوا : « نحن حزب الله الغالبون » (٢) فإنّما ذلك المعنى أرادوا ، فهم الجماعة ، وهم أهل السنّة ، ومن خالفهم فأولئك أهل الفرقة والبدعة من ذلك لأنّ هذا هو الحقّ الذي به أمر الله تعالى الذي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، واصطفاهم ، وبه أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا » لن تكونوا من أصحاب الفرقة والبدعة ، إنّما أنتم الجماعة وأهل السنّة وسبيل المؤمنين ، ذينك : « كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ».

المارقون :

هم أيضاً من افرازات الواقع التاريخي للخلافة وتقلّباته.. وكان ظهورهم الأوّل في قصّة التحكيم أيّام صفّين ، ولم يكن لهم في دور تكوينهم الأوّل مقولة يتميّزون بها إلّا « لا حكم إلا لله » في معارضة التحكيم.. فلمّا تميّزوا عن جماعة المسلمين بحكم تطرّفهم المنقطع النظير ابتدأوا يصوغون مقولاتهم ويبنون كيانهم العقيدي ، فكان الهيكل العام لهذا الكيان من صياغة الواقع التاريخي

_____________

(١) النصائح الكافية : ٢٢٠.

(٢) مجمع البيان / الطبرسي ٣ : ٣٤٣ عند تفسير الآية (٧٦) من سورة الحجر ـ دار المعرفة ـ بيروت.

٦٠