ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

٣٧ ـ للسيد مهنّد جمال الدين (١)

الليل ورفيقه

في الليلة الأخيرة

« في آخر ليلة وقف الحسين بن علي عليه‌السلام بين يدي الله متهجِّداً كعادته ... غير أن الليل في هذه المرّة له حوار مع نفسه وهو انه يشعر بانقضائه إلى الأبد حينما يأتي الصباح ... »

الليلُ قد نثر الدموعَ رحيقا

وهوى يُقبّل في الظلامِ رفيقا

خمسُونَ ما رعِشَ الضميرُ لغيره

أبداً ... وما عَرفَ الفؤادُ عُقوقا

كانت لياليه الحسانُ وضيئةً

تزهو على كبد الزمان بروقا

وتصاعدت أنفاسُه في موكبٍ

قد زُفّ للأفلاك نوراً يوقا

وإذ ارتقى نحو السماءِ نشيجهُ

غفت الشجونُ وجُنّت الموسيقى

رقصت وقد سال النُهىٰ في كأسه

فالفجرُ جاءَ مُهرولاً ليذوقا

__________________

(١) هو : الفاضل الشاعر السيد مهند بن الشاعر الكبير المرحوم الدكتور السيد مصطفى جمال الدين ، ولد سنة ١٣٨٥ ه‍ في سوق الشيوخ إحدى مدن العراق الجنوبية ، تخرّج من معهد التكنولوجيا ببغداد سنة ١٤٠٧ ه‍ ، التحقَ بالحوزة العلمية في قم المقدسة ١٤١٢ ه‍ ، ومن نتاجه الأدبي ديوان شعر ( مخطوط ) وكتابات اُخرى ، وله مشاركاتٌ في النوادي الأدبية والثقافية.

٣٨١

حتى إذا اقتربت إليه غادةٌ

حسناءُ تضرمُ في الدِماءِ حَريقا

الصُبحُ في وَجناتَها مُتورّدٌ

ومن الفضاءِ النورُ يشكو ضيقا

فترنّحت بالوجد تَعتصرُ المُنى

لتصبَّ قلباً في الغرام أُريقا

قالتْ وقدْ فاحَ العبيرُ بصوتها

والثغرُ نثَّ أقاحياً وشقيقا :

« هلاّ نزلت إلى فؤادي مَرّةً

وهل ارتشفت رضابَهُ والريقا »

« إنّي أمدُّ يداً لقد ذابت لها

كلُّ القلوبِ ومُزّقتْ تمزيقا »

فهل ارتضيتَ بأن أكون عقيلةً

لأصونَ من غيظي الدّمَ المحروقا ؟!

فأجاب :مَنْ هذي التي دَوّت بنا

وَمَضَتْ إلى النجوى تَشقُّ طَريقا ؟!

قالت : أنا « الدُنيا » وهذي نِعمتي

تجني الثمارَ أساوراً وعقيقا

فأجابها والحلمُ يمتشق السنا

ويمدُّ صوتاً في الوجود طليقا :

« حَرُمَتْ على الأبناء من قد طُلّقَتْ

وأبوهُمُ مَنْ أَوقعَ التطليقا »

« وأبي لقد حَفِظَ الزّمانُ طَلاقهُ

لكِ في صَميمِ الخالداتِ بريقا »

* * *

الليلُ يسمعُ ما يدورُ بقلبه

فيعدُّ دقّاتٍ له وشهيقا

ويعدُّ ليلته ـ وقد ماست به ـ

أملاً يَموتُ وعالماً مَسروقا

هي آخرُ العنقودِ يدري أنها

تلِدُ الصباحَ وضوءَه المخنوقا

فلتستعدّي يا نجومُ وتخمدي

فجراً تخطّى نحونا وشروقا

طولي فقد شدَّ الرحيلُ رِكابَهُ

وبه تهجّى الضارعُ التفريقا

٣٨٢

فغداً يخرُّ الوهم من عليائه

« وأبو عليٍّ » يَرسمُ التصديقا

وغداً يُطهِّرُ من نزيف جراحه

ماءً على نهرِ الفراتِ غريقا

ويشيدُ نصراً للإباءِ مُنضِّراً

ويُنيرُ جُرحاً للسُراة عميقا

ويَخطُّ للثوّارِ درباً واضحاً

ويصونُ للمتطلّعين حقوقا

مهند جمال الدين

الأحد ٤ / ١١ / ١٤١٦ ه‍

٣٨٣

السيد مهند جمال الدين

في قصيدة ( الليل ورفيقه ) يبدو مهند جمال الدين وريثاً كفوءاً لتجربة أبيه الشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين إلى حد الإقتراب من التطابق رؤىً وتأملاً وأدوات .. جزالة لفظ .. وتصورات مشرقة وبناء منتظماً بكل مميّزات قصيدة مصطفى جمال الدين العاشقة الولهى التي تناغم إشراقات النَفَس العباسي الأصيل في استخدام معاصر للمفردات واستصحاب للتراكيب المتقدمة زمنياً وتفوق في إختيار موقعٍ مغاير للإطلالة المتأملة على جوّ القصيدة وحدودها وآفاقها وتحوّلاتها وتطلعاتها.

إن هذه القصيدة تخيّرت الإصطفاف والإنضمام إلى طابور طويل يقف فيه شعراء العمود مدافعين بصرامة واستبسال عن ماء وجه القصيدة العربية الذي تأكّله جذام النظم الرديء والتنميط المسطّح لكل خواء روحي مصبوب في قالب الوزن ومجترّات القوافي المقحمة.

على أني رأيت أخيراً في نتاج السيد مهند جمال الدين تطلّعاً مختلفاً عن الإتّباعية والإحتذاء بالمثال في بواكيره على الرغم من إخلاصه ووفائه في هذه القصيدة لكي يكون صدى وترجيعاً حتى في إختياره لبحر الكامل دون البحور الاُخرى ( والذي يشكل ثلث شعر السيد مصطفى جمال الدين المنشور ) أو تطعيمه لقصيدته بصيغ بنائية تخصّ المرحوم والده كصيغة ( حتى إذا ) التي لا تكاد تخلو قصيدة من قصائد المرحوم الشاعر مصطفى جمال الدين منها فنرى عند مهند :

حتى إذا إقتربت إليه غادةٌ

حسناء تضرم في الدماء حريقا

٣٨٤

ويمكننا أن نرى البذور المستزرَعة القابلة للنمو والإنطلاق إلى آفاق جديدة في التعبير والتوصيل مثل هذه البذرة :

وإذا إرتقى نحو السماء نشيجه

غفت الشجون وجُنّت الموسيقى

فهو يقابل المحسوسات الصوتية المسموعة في نهاية الصدر ( نشيجه ) ونهاية العجز ( الموسيقى ) في حركة بنائية محدثة.

ونرى كذلك بذور الإنطلاق والتجدد في الحوارات المبثوثة في منتصف القصيدة بين ( قالت ـ وأجابها ) أو عندما يزاوج بين الخيالات والمحسوسات في :

فأجابها والحلم يمتشق السنا

ويمدّ صوتاً في الوجود طليقا

فالحلم خيالات تنطلق بلغة الضوء المرئيّ الحسيّ ( السنا ) إمتشاقاً أو تنطلق بلغة الصوت المسموع الحسيّ ( صوتاً ) إمتداداً في الوجود.

إنّ شاعرية مهند جمال الدين هنا تتبرزخ مشدودة إلى أصداء ما مضى وإلى نداءات ما سيأتي بدون إنحيازٍ واضح هذا على مستوى البناء ، أمّا على مستوى التأمل والتصوّر فهي منحازة بعض الشيء إلى السياقات والأنساق الحديثة أكثر.

٣٨٥

٣٨ ـ للشاعر الأستاذ ناجي الحرز (١)

الفتح المقدس

يُحيِّرُني مصابُكَ كلَّ عامِ

ويختطفُ الجسارةَ من كلامي

فأحشدُ في يدٍ ظماى القوافي

وأشعلُ في اليدِ الاُخرىٰ عُرامي

فتنطفئُ الحروفُ على رؤاهُ

الغريقةِ في السيوفِ وفي السِّهامِ

فأمتشقُ الدموعَ تذبُّ عني

وتؤنِسُ ركبَ حُبِّكَ في عِظامي

* * *

أُحبُّكَ يا حسينُ وأنت أدرى

لأيّ مَدى يُغامرُ بي هيامي

فَبعضُ الوجدِ أنشُرُه لِواءً

وَبعضُ الوجدِ أسرجُهُ أمامي

وأجترحُ الخُطى حتى إذا ما

وقفنَ بلهفتي بينَ الخيامِ

سمِعتُكَ ليلةَ التوديعِ تتلو

مواثيقَ المحبَّةِ والسّلامِ

__________________

(١) هو : الشاعر المبدع الأستاذ ناجي داود علي الحرز ، ولد سنة ١٣٧٩ ه‍ في المبرّز ـ الأحساء ، نظم الشعر في سنٍ مُبكّر في الثانية عشرة من عمره ، حصل على دبلوم في المعهد الثانوي التجاري في الأحساء ، وله مشاركاتٌ في النوادي الأدبية والدينية ، والكتابات النثرية والاجتماعية ، ومن نتاجه الأدبي المطبوع : ١ ـ ديوان نشيد ونشيج ( قصائد وجدانية ) ٢ ـ ديوان يا حبيبي يا محمد ( أناشيد إسلامية ) ٣ ـ ديوان الوسيلة ، ( قصائد ولائية ) ٤ ـ الإمام علي في وجدان الشاعر ( دراسة أدبية نقدية لملحمة الغدير ) ..

٣٨٦

وتُقسِمُ أن يظلَّ الدينُ حياً

بفيضِ جراحِكَ الحُمْرِ الدَّوامي

رأيتكَ ليلةَ التوديعِ فجراً

كأنّكَ أحمدٌ خيرُ الأنامِ

وعباساً يكادُ يشبُّ نارَ ال‍

‍عزيمةِ في السِّنانِ وفي الحُسامِ

وزينبَ تستعدُّ لخطبِ يومٍ

يَشيبُ لهوله رأسُ الغُلامِ

ويَرجعُ جانبُ الدُنيا فتيّاً

ترفُّ عليه أسرابُ الحَمَامِ

* * *

أليلةَ يومِ عاشوراءَ عودي

لكونٍ ساغبٍ للعدلِ ظامِ

لأكبادٍ مُروَّعةٍ تُساقى

كؤوسُ المُرِّ من صابٍ وجامِ

لأعيُننا التي في الذُلِّ شاختْ

ولا تَنفكُّ تَحلُمُ بالفِطامِ

أليلةَ يومِ عاشوراءَ عودي

بكُلِّ الصحو والهمَمِ العظامِ

أعيدي فتحَكِ القُدْسيَّ زهواً

حُسينيَّاً على الداءِ العُقامِ

وصُبِّي النورَ في شرقٍ وغربٍ

وليسَ على عراقٍ أو شآمِ

فقد عَمَّ الظلامُ وعادَ حَيَّاً

أبو سُفيانُ ينفخُ في الظلامِ

ناجي الحرز

الأربعاء ١٩ / ٤ / ١٣١٧ ه‍

الهفّوف ـ الأحساء

٣٨٧

الأستاذ ناجي الحرز

إمتازت قصيدة الحرز برشاقة القفز على الموضوع عندما ترك الشاعر المداخل التقليدية المثبّتة للولوج فدخل من النوافذ لا من الأبواب بل تسلّق أسوار الموضوع من الواجهات الخلفية فاختار زاوية نظر ذاتية بعيداً عن التسجيل المباشر والتوثيق المطابق والإيغال في التفاصيل.

تبدأ القصيدة بإعلان الحيرة المتكررة كل عام مع حلول الذكرى التي تختطف فروسية الكلام وشجاعته ، فمع وقوف الشاعر بأدواته الفنية وتأملاته الجمالية لكن الحروف تنطفئ عندما تكشف الرؤيا الشعرية أمام الشاعر صورة الإمام الحسين عليه‌السلام غريقاً بين السيوف والسهام ، فيترك الشاعر القصيدة ويرفع لافتة الدموع المقابلة لحالة الوجد المرتعش في عظامه والمصوَّرة ـ ببراعة ـ بهيئة ركب أو موكب موالات محتاج للاُنس الذي يجده في الدموع ولا يجده في القصيدة.

فالحرز يُعلف هيامه ووجده في مسيرته نحو الجرح الخالد وهو يجترح ـ بشاعريته ـ خطاه التي تحمل لهفته وشوقه للقاء فيسمع ثم يرى ويتخلص إلى نداء الليلة ومطالبتها بالعودة إلى زمنه الحاضر في شكل إسقاط تأريخي يقارن فيه بين زمنين ويُعلن عن حاجة زمانه إلى طفٍ جديد وفتح قدسي يمتد على كل الأرض :

أليلةَ يومِ عاشوراءَ عودي

بكلِّ الصحوِ والهممِ العظامِ

وصبّي النورَ في شرقٍ وغربٍ

وليس على عراقٍ أو شآمِ

٣٨٨

٣٩ ـ للشيخ نزار سنبل (١)

حوار في دائرة الضوء

يجلس أصحاب الحسين عليه‌السلام يتحدّثون فيما بينهم :

في هُدوء الظلامِ يَفترش الر

مل كماةٌ من الهُدى أمناءُ

قد اُديرت حكايةُ الزمنِ الما

ضي وما قد تفوّهَ الأنبياءُ

خيرةُ الناس في الزمان رجالٌ

حضَنتْهُم في تُربها كربلاءُ

في غدٍ تُفرشُ الجنانُ الروابي

ويلمُّ السعادةَ الشهداءُ

فعَلتْ في ثغورهم بسماتٌ

إيهِ يا قوم إنّنا السعداءُ

يأتي الإمام الحسين عليه‌السلام فيجمع أصحابه ويخاطبهم :

لفَّ جنحُ الظلام أودية الأر

ض فأَغفت عيونها الأعداء

__________________

(١) هو : الفاضل والشاعر الشيخ نزار بن محمد شوقي بن عبد الرزاق بن الشيخ بدر آل سنبل ، ولد سنة ١٣٨٥ ه‍ في الجش إحدى بلاد القطيف ، التحق بالحوزة العلمية بعد إنهائه شطراً من الدراسة الأكاديمية سنة ١٤٠١ ه‍ ودرس في القطيف والنجف الأشرف وأخيراً في قم المقدسة حيث يحضر الآن البحث الخارج ، ومن نتاجه الأدبي : ١ ـ ديوان شعر ٢ ـ أهل البيت في الشعر القطيفي المعاصر ٣ ـ رواية ـ عندما يُرفع الستار ( عقائدية ) ، كما نُشرت له بعض القصائد في مجلتي الموسم والتوحيد ، ومن نتاجه العلمي ٤ ـ تقرير بحث الخارج فقهاً واُصولاً لبعض الأساتذة الأعلام ، وله أيضاً مشاركة في النوادي الأدبية والثقافية.

٣٨٩

والدروبُ السمراءُ تعتنق اللي‍

ل بشوقٍ فتختفي الأشياء

قد وَفيتُم وليس غيريَّ مطلو

باً لدى القوم أيّها الأوفياء

ارتدوا الدربَ في الخفاء سراعاً

واركبوا الليل أيّها الأزكياء

فيقوم أخوه العباس عليه‌السلام ويتبعه بنو هاشم فيقولون :

أفنمضي وأنت وحدكَ تبقى ؟

ليس هذا من شيمة النبلاءِ

أفنمضي لكي نعيش فنشقى ؟

قد أبينا الحياة في الظلماءِ

ثم يتوجه الإمام عليه‌السلام نحو بني عقيل ويقول :

حسبكُم مسلم العظيمُ شهيدا

فاذرعوا الليل خلسةً والبيدا

ولكنّهم يجيبونه :

نحن ... نحن ... الفداء والقربانٌ

إنما أنت بالقلوب تُصانُ

كيف نمضي وما تعرَّت ذراعٌ

واكتوى خافِقٌ وبُحَّ لسانُ

ثم يقوم مسلم بن عوسجة الأسدي ويُشير إلى معسكر الأعداء فيقول :

السياجُ الذي تلوَّثَ بالحق‍

دِ ذئابٌ ممسوخةُ الألوانِ

أيّ عذرٍ إذا التحم القومُ

فأقعت عن نَصركُم ساعدانِ

لا يراني الإلهُ أهربُ خوفاً

سوف أمشي للحرب والميدانِ

إنّ سهمي مرماه صدرُ الأعادي

ورماحي مشتاقةٌ للطعان

ويقوم سعيد بن عبد الله الحنفي فيقول :

لو قُتلنا سبعين قتلة عزٍّ

ما تركناك للسيوف طعاما

وسنبقى ليعلم الله أنّا

قد حفظنا فيك العهود ذماما

ويقوم زهير بن القين ويقول :

٣٩٠

قد وددت الممات ألفاً وكانت

لغةُ القتل للحسين وقاءا

إنّ روحي على يديَّ وأمشي ؟

حاشَ لله أن أروم بقاءا

إنها النعمة الكبيرة تنصبُّ

لأُلقي لها الفؤاد إناءا

فرحةُ النفس أن تروح فداءا

لحسينٍ فترتدي الأضواءا

ويتكلّم جماعة أصحاب الإمام عليه‌السلام بكلام يشبه بعضه بعضاً فيقولون :

قد أبت أنفسُ الكرام انهزاما

وأحطناك سيّداً وإماما

في غدٍ نُطعمُ المواضي قلوباً

ونهزّ الرماحَ والأعلاما

شرفٌ أن نموت دون حسينٍ

ونفوسٌ نفدي بها الأسلاما

وهنا يشكرهم الإمام عليه‌السلام على موقفهم هذا :

لكم الجنّة الموشّاةُ بالنور

وفائي وعينُ كلّ وسامِ

أنتمُ الهالة المضيئة سرٌّ

غرقت فيه قصة الأيامِ

في غدٍ تنطوي الحياة ولكن

سوف تحيونَ في نفوس الكرامِ

كلُّ فردٍ يلقى المنيّة دوني

دمه الماءُ في عروق النوامي

صوت يجيء من وراء الغيب :

بارك الله في النفوس نفوسا

عانقت في الوغى السيوف عروسا

نزار سنبل

الخميس ١ / ١١ / ١٤١٦

٣٩١

الشيخ نزار سنبل

ما نفّذه العسيلي في ملحمته من وحدة البحر واختلاف القوافي نفذه الشيخ نزار سنبل في (٣٢) بيتاً من ملحمة مصغرة من بحر الخفيف ومن قوافٍ متعددة تحت عنوان يشعّ شعراً ـ أيضاً ـ هو ( حوار في دائرة الضوء ).

ويبدو الشيخ نزار سنبل هنا وهو يدور حول الحادثة بعينيّ فنانٍ تشكيلي تقتنصان ما يجري لتوصلاه إلىٰ مخزن التأمل والرؤيا عند الشاعر فمثلاً :

الدروب السمراء تعتنق الليل

بشوقٍ فتختفي الاشياء

أو :

السياج الذي تلوث بالحقد

ذئابٌ ممسوخة الألوانِ

لكم الجنة الموشاة بالنور

وفائي وعين كل وسامِ

أنتم الهالة المضيئة سرٌ

غرقت فيه قصة الايامِ

وتتم عملية تحويل الصور الملتقطة ألواناً وخطوطاً وظلالاً إلى لغة مركّزة وتراكيب كثيفة تبتدئ المقطعين الاولين من الظلام لتدخل إلى المكان بطريقة سرديّةٍ مستقاة من تقنيات القصة القصيرة أو الأدب الروائي في الاستهلال المكاني فنرى المقطع الاول يبتدئ هكذا :

فى هدوء الظلام يفترش الرمل

كماةٌ من الهدى أمناءُ

وفي المقطع الثانى :

لفّ جنح الظلام أودية الارض

فأغفت عيونها الاعداء

٣٩٢

ثم تبتدئ الحوارات في تقابلها من جميع الأطراف يصعّدها الايجاز والإختصار في درامية شفّافة تسجل لنزار سنبل تمكناً واضحاً في إستخدام لغة المسرح وأدواته فنرى مثلاً حوار زهير بن القين مع الإمام عليه‌السلام :

قد وددت الممات الفاً وكانت

لغة القتل للحسين وقاءا

إنّ روحي على يديَّ وأمشي

حاش لله أن أروم بقاءا

إنها النعمة الكبيرة تنصبّ

لأُلقي لها الفؤاد إناءا

فرحة النفس أن تروح فداءا

لحسين فترتدي الاضواءا

ولا تسلم تقنيات فن السينما من توق الشاعر إلى إستخدام كل الطرق والوسائل التعبيرية الفنية الممكنة ليوصل القارئ إلى ما يريد فمقاطع قصيدته لقطاتٌ سينمائيّة قريبة ومتوسطةٌ وبعيدة يلمّها مونتاج متتابع في تشابكٍ من خارج بناء القصيدة يمنحها إيقاعاً صورياً يقطعه ( صوت يجي من وراء الغيب ) ليعلن نهاية المشاهد وانغلاق دائرة الضوء.

إن قصيدة الشيخ نزار قصيدة ذاهبة إلى المستقبل والتجدّد بكفاءة أدواتها وكثافة رؤاها وأشكالها المتحركة على محاور تعبيرية متعدّدة ناقلةً ولاءها وإخلاصها عبر تقاطع أبعاد الزمان وهي من نصوص المجموعة المتفوقة في عطائها.

٣٩٣

٤٠ ـ إرجوزةُ للشيخ هادي آل كاشف الغطاء (١)

من الارجوزة الحسينية

الإمام عليه‌السلام ينعىٰ نفسه

واعتزلَ الحسينُ وَهو يُنْشِدُ

وَسيفُهُ أمامَهُ مُجرّدُ

يا دَهرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَليلِ

كمْ لك بالإشْراقِ وَالأصيلِ

مِنْ صاحبٍ أو طِالبٍ قتيلِ

والدّهرُ لا يَقْنَعُ بالبَديلِ

وَكلُّ حيّ سالكٌ سبيلي

ما أقَربَ الوَعْدَ من الرّحِيلِ

وقدْ وَعَتْ هذا النشيدَ زَينبُ

وَكادَ قَلْبُها له ينْشعبُ

قالت أُخيَّ يا عزيزَ أهلي

هذا كلامُ موقنٍ بالقتلِ

قال لها نعم أيا أختاهُ

قالت له بعدك واثكلاهُ

يَنْعىٰ إليَّ نفسَهُ الحسينُ

يقولُ قدْ دنا إِليَّ الحينُ

وَشقّقَتْ جيُوبَها النساءُ

وَقدْ عَلا العَويلُ وَالبُكاءُ

__________________

(١) هو : العلامة الحجة الشيخ هادي بن الشيخ عباس بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء النجفي قدس‌سره ، ولد في النجف الأشرف سنة ١٢٨٩ ه‍ ، وتوفي سنة ١٣٦١ ه‍ ، وقد نشأ في ظلال أسرة كريمة معروفة بالعلم ، تتلمذ ـ عليه الرحمة ـ على يد الآخوند وشيخ الشريعة واليزدي ـ عليهم الرحمة ـ ، ومن مؤلفاته ١ ـ مستدرك نهج البلاغة ٢ ـ مدارك نهج البلاغة ٣ ـ شرح شرائع الإسلام ٤ ـ هدى المتقين ( رسالة عملية ) ٥ ـ المقبولة الحسينية ( ملحمة ) راجع : أدب الطف للسيد جواد شبر : ج ٩ ، ص ٢٢٤ ، الملحمة الكبرى ( أو المقبولة الحسينية ).

٣٩٤

وأمُّ كلثومٍ غَدَتْ تنادي

تندبُ بالآباءِ والأجدادِ

وا أبتاهُ وا محمّداهُ

وَوا عليّاهُ وَوا أخاهُ

تَقُولُ واضَيْعَتَنا جميعا

بعدكَ إذْ تَغْدوا لقىٰ صريعا

قالَ تَعَزَّيْ بعزاءِ اللهِ

وَفوّضي الأمرَ إلىٰ الإلٰهِ

فكلُّ مَنْ فوق الثرىٰ لا يبقىٰ

وَإنّ سكّانَ السماءِ تفنىٰ

صبراً إذا أنا قُتلتُ صبراً

فلا تَقُلْنَ بعد قتلي هَجراً

وَلا تَشُقّنّ عَليَّ جَزَعا

جَيْباً وإنْ جَلَّ المُصابُ مَوقعا

وقد روىٰ المفيدُ في الإرشادِ (١)

مُذْ سمعتْ زينبُ بالإنشادِ

قامتْ تجرُّ الثوبَ وهيَ حَسْرىٰ

الىٰ أخيها لا تُطيقُ صَبْرا

قالتْ لَهُ يا ليتَ إنَّ موتي

أعدمَني الحياةَ قَبلَ الفوتِ

اليومَ ماتتْ أُميَ الزَهّراءُ

وَماتْت الاخوةُ وَالأبناءُ

الإمام عليه‌السلام يُهدّئ خواطرَ العقيلات ويأمرهن بالصبر

والتسليم والرضا بقضاء الله

قالَ لَها وَشأنُهُ الكِتْمانُ

لا يُذْهِبَنَّ حِلْمَكِ الشّيْطانُ

وَهوَ الذيّ لَمْ يكُ بالجزَوعِ

ترَقرَقتْ عيناهُ بالدّموعِ

ثمَّ هَوَتْ مَغْشِيّةً عَلَيْها

فقامَ ـ جلَّ صبرُه ـ إليها

عنْ نفسِهِ بنفسه عَزَّاها

وبَالرّضا وَالصبرِ قَدْ أوْصاها

__________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢٣٢.

٣٩٥

مجيء الجيوش والتضييق علىٰ الحسين عليه‌السلام

وَاقبلتْ جيوُش آلِ حرْبِ

حتّى بهم قدْ ضاقَ كلُّ رَحْبِ

جاءَتْ لهُ بخيلها وَالرّجْلِ

كأنّها تطِلبُهُ بِذَحْلِ

عشرون ألف فارسٍ بَلْ زادوا

وَالرّاجلونَ ما لَهم عِدادُ

فضيّقوا علىٰ الحسينِ السّبُلا

وَمَنَعوهُ سَهْلَها وَالجبَلا

وَشَمّروا ثِيابَهمْ للحَرْبِ

واسْتَسهَلوا لذاك كلَّ صَعْبِ

تأجيل الحرب إلىٰ الصبح

فقالَ للعباسِ سِرْ للقَوْمِ

واصْرِفْهُمُ بياضَ هذا اليومِ

لَعَلَّنا لرَبّنا نُصلّي

في هذه الليلة ذاتِ الفضلِ

وَقدْ توقَّفَ ابنُ سعد عُمَرُ

والخيرُ مِن أَمثالِه لا يَظْهرُ

لكنَّ بعضَ القومِ من أتباعِهِ

أبدىٰ لَهُ المَلامَ في امتناعِهِ

قال : لو انّ غيرَهُم إِلينا

جاؤوا وَرامُوا ذاك ما أبينا

كيفَ وَهُمْ اَجلُّ ساداتِ العَرَبْ

وَهُمْ سُلالَةُ النبيِّ المُنْتَجَبْ

فقالَ ذلكَ الظَّلومُ المعتدي

إنّي قد أجّلْتُهُم إلىٰ غَدِ

٣٩٦

الإمام عليه‌السلام يأذن للأصحابه بالتفرق

والسِّبْطُ لَيلاً قد دعا أصحابَهُ

مُوَجِّهاً إليْهِمُ خِطَابَهُ

فقالَ بعدَ الحمدِ والثناءِ

والشكرِ للمُنعمِ ذى الآلاءِ

إنّي لا أعلمُ فيما أعلمُ

أوفى ولا أصلحَ صَحباً منكُمُ

وَلست أَدري أَهل بيتٍ أَفضلا

من أَهلِ بيتي نَجْدَةً وأَوْصلا

جزاكُم اللهُ جميعاً خَيْرا

وَلا رَأَيْتُم ما حَييتُم ضَيْرا

ألا وإنّي قَدْ أَذنْتُ لَكُمُ

فانطلقوا لا عَهْدَ لي عليكُمُ

والليلُ قَدْ أَجَنَّكُمْ وأَقْبَلا

فاتخذوهُ للنجاةِ جَمَلا

والقومُ لا يبغونَ غيري أَحَدا

فارتحِلوا لِتَسْلَموا مِنَ الرَّدَىٰ

جواب أهل بيته عليهم‌السلام

فَابتدأ العبّاسُ في مقالِهِ

وَقدْ جرىٰ الصَّحْبُ علىٰ منْوالِهِ

قالوا جميعاً : وَلماذا نفعلُ

نَظَلُّ أَحياءً وَأَنت تُقْتَلُ

فَلا اَرانا اللهُ ذاكَ أَبَدَا

وَليتَ أنّا لَكَ قَدْ صِرْنا فِدا

قالَ مُخاطباً بني عقيلِ

حَسْبُكُمُ مُسلم مِنْ قتيلِ

وَعندَ ذا تكلّموا جَميعا

وَقدْ أَبَوْا عنْ عَزْمِهمْ رُجُوعا

وَأَقسموا أَنْ لا يفارُقوهُ

يَوماً وَبالأَنْفُسِ أَنْ يَقوهُ

فالعيشُ من بعدِ الحسينِ يَقْبُحُ

وبَعدَه الحياةُ ليست تَصْلُحُ

٣٩٧

جواب أصحابه عليهم‌السلام

ثُمّ تلاهم مسلمُ بنُ عَوْسَجَهْ

قالَ مَقالاً صادقاً ما أَبْهَجَهْ

نحنُ نُخَلّيكَ كذا وَنسري

وَقدْ أَحاطَ فيكَ أهلُ الغَدْرِ

ما العُذرُ عندَ اللهِ في أداءِ

حَقِّك وَهْوَ أوجبُ الأشياءِ

لأحْفَظَنَّ غَيْبَةَ الرسولِ

بالنفسِ والكثيرِ والقليلِ

لوْ لَمْ يَكُنْ معي سلاحٌ أبدا

قَذَفْتُهُمْ بالصَّخْرِ حتّىٰ يَنْفَدا

سبعين مرّةً لَو انّي اُقتلُ

أُحْرَقُ مثلَها بنارٍ تشعلُ

ثم أُذَرّىٰ بعدُ في الهواءِ

ما ملْتُ عنْ نصري وَلا وَلائي

فكيفَ وَهي قتلةٌ وَبعدَها

كرامَة خالقُها أَعدَّها

وَقامَ بعدَ مسلمٍ زهيرُ

وَكلُّهُمْ يُؤْمَلُ فيه الخيرُ

قالَ وَدَدْتُ لَو قُتلْتُ ألفا

وَيدفعُ اللهُ بذاكَ الحَتْفَا

عنكَ وَعنْ فتْيانِك الأبرارِ

ذوي الإبا وَالعزِّ وَالفِخارِ

تَكلّم الباقونَ منْ أَصحابِهِ

والكلُّ قدْ أَجادَ في جوابهِ

قالوا لَهُ أَنْفُسُنا لَكَ الفِدا

نقيك بالأَرواح مِنْ بَأسِ العِدىٰ

فإنْ قُتِلْنا فلقدْ وَفينا

وقدْ قَضَيْنا لكَ ما علينا

٣٩٨

الحضرمي يعلن عن تصميمه الصادق علىٰ

ملازمة الإمام عليه‌السلام وفدائه

وَقدْ أتَىٰ للحَضْرَمِيِّ الخبرُ

أنّ الأعادي لابنه قدْ أَسروا

قالَ قَدْ احْتَسَبتُهُ وَنفسي

عندَ إلهي إذ أحلّ رَمْسي

ما كنتُ أهوىٰ بَعْدَهُ بقائي

وَهوَ أسيرٌ في يدِ الاعداءِ

دعا لَهُ سِبْطُ الهُدىٰ بالرّحمهْ

لمّا رأىٰ أمرَ ابنِهِ أهمّهْ

قال لَهُ من بيعتي في حِلٍّ

أنت فَسِرْ وَلا تُقِمْ من أجلي

واطلُب نجاةَ ابنكَ من هلاكِهِ

وَاعملْ بما يُجْديك في فَكَاكِهِ

قالَ السِّباعُ أكلتني حَيّاً

إنْ رُمتُ عنكَ مَوْضَعاً قَصَيّا

فانظرْ رَعاكَ اللهُ ما أوْفاهُ

وَما أَبرَّهُ وَما أتقاهُ

وَهكذا فَلْيَكُنِ الإيمانُ

والحبُّ وَالوفاءُ وَالعرْفانُ

لَمْ يَعْتذرْ وَعُذْرُهُ مَقبوُلُ

وَما انثنىٰ وَرزْؤهُ جَليلُ

مضىٰ مَضاءَ الصارمِ الصقيلِ

في طاعةِ المهيمنِ الجليلِ

عنْ ابنهِ وَهو أسيرٌ أعْرَضا

وفَوّضَ الأمرَ لمالكِ القضا

لَمْ يَفْتَتنْ قَطُّ بِتلكَ المِحنهْ

والولْدُ للأبِ العطوفِ فتنهْ

حقٌّ بأنْ نرْثي لمِثلِ حالِهِ

وَحَقَّ انْ نبكي علىٰ أمثالِه

٣٩٩

إحياء ليلة عاشوراء بالعبادة

والسِّبْطُ والصَّحْبُ اُولو الوفاءِ

باتُوا بِتلْكَ اللَّيْلةِ اللَّيْلاء

لَهُمْ دَويٌّ كَدَويِّ النَّحلِ

من ذاكرٍ للهِ أو مُصَلِّ

صلاةَ عبدٍ خاشعٍ مُوَدّعِ

يدعوه بالخضوعِ وَالتضرّعِ

أحْيَوا جميعَ الليلِ بالعباده

فأدركوا سعادةَ الشهاده

وَأَصبحوا مثلَ الليوثِ الضاريه

قد أَرْخَصوا النفوسَ وهي غاليه

لَذَّ لَهُمْ طَعمُ المنايا وَحلا

في طاعةِ الرّحمنِ جلَّ وَعلا

طابَ وَراقَ لهُمُ المماةُ

والموتُ في نصر الهدىٰ حياةُ

فاستقبلوا الموتَ بجأْشٍ ثابتِ

وعَزمِ شهمٍ للحياةِ ماقتِ

استبشار أصحاب الإمام عليه‌السلام

قالَ بريرٌ لابنِ عبد رَبِّهِ

لّما رأىٰ تأنيبَهُ بِعَتْبِهِ

قدْ عَلِمَ القومُ جميعاً أنّني

ما مِلْتُ للباطلِ طولَ زَمَني

وإنّما أفعلُ ذا استبشارا

بما إليْه أمرُنا قدْ صارا

ما هوَ إلاّ أنْ نخوضَ الحَرْبا

بالسُّمْرِ طَعْناً وَالسيوفِ ضَرْبا

وَبَعْدَها لا نَصَبٌ وَلا عَنا

نُعانِقُ الحُورَ وَنحظىٰ بالمُنىٰ (١)

__________________

(١) الملحمة الكبرى لواقعة الطف : للشيخ هادي كاشف الغطاء : ص ٦٣ـ ٧٥.

٤٠٠