ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

الشيخ جعفر الهلالي

خطاب منفتح على ليلة عاشوراء لتحديد أثرها العاطفي حرقةً في القلوب على مدى التاريخ ، وحكايا تثير الأحزان دموعاً ساكبات ، ثمّ يدور الخطاب ليصبح حواراً مع الليلة أو مطالبةً بالحديث من الليلة كي تسرد الحوادث والمآسي وهي طريقة يختصّ بها الخطباء الشعراء ضمن طرقهم لشرح ما يدور من وقائع حيث يستنطقون حالةً ما أو شخصيةً ما أو غيرها في سرد الحوادث التي جرت على الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء ، والشيخ الهلالي من الخطباء الذين يوظّفون معارفهم وعلومهم وأدبهم خدمة للمنبر الحسيني فلا يفوته فنٌّ شعري أو أسلوب أدبي أو طريقة خطابة إلاّ وجنّدها في صفّه ليغني منبره ويجوّد خطابته ، وكيف وهو شاعر أيضاً يختار لمقدّمات خطابته ما جوّدته القريحة الموالية وما أحسنت صنعه الشاعرية المتفاعلة مع قضية الإمام الحسين عليه‌السلام.

٢٤١

٨ ـ للشاعر الأستاذ جواد جميل (١)

(١)

ودعيني

ودّعيني ففي غدٍ يشرب السيفُ وريدي ويحفرُ القلبَ نصلُ

وغداً تذعرين حين ترين الخيلَ في وجهها جنونٌ وقتلُ

وغداً تحملين أشلائيَ الحمراء غِمداً لألف سيفٍ يُسلُّ

وغداً تُنهب الخيامُ وخلفَ النارِ تبكي النسا ويهربُ طفلُ

وغداً لا يَظلُّ من يوم عاشوراء إلاّ جراحنا ... والرملُ

هاهنا تصرخ الرؤوس الخضيبات ويبكي على صداها النخلُ

وترضُّ الخيولُ صدري فيبكي النهرُ في صمته وتبكي الخيلُ

آهِ يا زينبَ البطولةِ خلّي الصبرَ رمحاً على خيامكِ يعلو

ودعي الدمعَ جمرةً ولهيباً من كُوى الغيب كلُّ آنٍ يَطلُّ

فطريقُ الخلودِ صعبٌ وفيه يفتحُ المرءُ جُرحَهُ أو يذلُّ

جواد جميل

الأحد ٢٧ شوال ١٤١٦ ه‍ ق

__________________

(١) هو : الشاعر الأستاذ جواد جميل ، ولد سنة ١٣٧٣ ه‍ في سوق الشيوخ إحدى مدن العراق الجنوبية ، تخرج من كلية الهندسة سنة ١٣٩٥ ه‍ ، وحاز على البكالوريوس فيها ، ومن نتاجه الأدبي الحسين عليه‌السلام لغة ثانية وله مجاميع شعرية اُخرى ، وله مساهمة فعالة في النوادي الأدبية والثقافية.

٢٤٢

(٢)

ليلة الأسى والدموع

آهِ ، يا ليلة الأسى والدموعِ ، أطفئي في دمِ الطفوف شموعي

ودّعيني أعيش في ظلمة الحزن ، فعمري شمسٌ بغير طلوعِ

وانثري في عيوني الجمرَ وقّاداً ، وخلّي اللهيب بين ضلوعي

وامسحي بالسواد لون وجودي فلقد كفّنَ الرمادُ ربيعي

واحمليني لكربلاءَ خيالاً بجناحٍ من عبرةٍ .. وخشوعِ

حيث نحر الحسين ينتظر الماءَ ، ويهفو لرأسهِ المقطوعِ

وجراحاته تئنُّ ، فيبكي ألفُ كونٍ ، على الصدى الموجوعِ

والشفاهُ المخضّباتُ نجومٌ شاحباتٌ من الظما والجوعِ

وتمنّى « الفراتُ » لو طهّرتهُ قطرةٌ من دماءِ نحر الرضيعِ

يا عيوني أين البكاءُ ؟ ففيضي هذه كربلا وهذا شفيعي

هذه كربلا ... وهذي الخيولُ الجُرْدُ تعدو على التريبِ الصريعِ

هذه كربلا ... وهذا رسول الله يبكي في ساعة التوديعِ

جواد جميل

٢١ / ١١ / ١٤١٦ ه‍

٢٤٣

الأستاذ جواد جميل

شاعريّة الحيوية الإنسانية المتدفقة المنتصبة أمام الفناء والموت بكل شموخ الموقف الوجودي التفصيلي الذي يصون ويديم قيم الحياة ونقاءها الخلاّب ، شاعرية الرؤى والتأملات الهاربة خلف نزقٍ طفولي يمسك بطين الإبداع ليشكّله وفق أعين الكبار الذين يرون فيه توازناً وانسجاماً مفقوداً لديهم.

لذلك فشاعرها يبكيهم لكن ليس من أجل البكاء ، فلا يصل بكاؤه إلى مناطق العويل لأنه سرعان ما ينتبه إلى التدفّق والنموّ والنضارة والطراوة التي تحيط الأشياء فيهرب اليها بلا وقار ولا تصنّع.

إن النزق العابث هو روح شاعرية جواد جميل الذي يلائم نصّه مع حاجاته الإتصالية بكل سلاسة فهو ذو رؤيا ملتفتة بشدّة إلى البدء الاول أو إلى الجوهري والصميمي من الأشياء ، وعلاقته بمادته علاقة حدسيّة متوقّدة يستشرف النهايات بعمقٍ منذ الوهلة الاولى ، وهو أكثر إخلاصاً لما لم يتشكّل بعد ، وما لم يأت بعد ، وما لم يخن الجذور الاولى ، فتأتي قصيدته دائماً مثل حلم اليقظة ، حلم وطفولة وبدائية منفتحة على كل الإحتمالات والإمكانات من جهة ، وفي الجهة الاخرى هي يقظةٌ ووعي وموقف واستشراف للأبعاد المستترة والخفية ، ومن معطيات هذا الوعي واليقظة محاولة جادة متسلطة على قصيدة العمود ذات الشطرين لتحديثها من خلال ضخّ الكريّات الأدونيسية في دمها بشكل يمكن أن نصطلح على تسميته ب‍ ( أدنسة العمود ) مع خشيةٍ حريصة على عدم تشتّت وتبعثر الأوليات إلى شظايا شعرية متناثرة ، فهذه المحاولة لا تزال في افق التجريب والإختبار ، مع كفاءتها في التوازي

٢٤٤

والتجاور وقدرتها على الإمتداد والثبوت والإنطلاق.

أما عن قصيدتيه ( ليلة الاسى والدموع ـ ودّعيني ) فهما صدى محاكي لتجربة الشاعر في ديوانه الأخير ( الحسين .. لغة ثانية ) ولم تستطيعا تجاوز الافق الشعري الذي افترضته تلك التجربة المجدّدة ، بل إن الشاعر لا يزال يناغي الرؤيا ذاتها ويشتغل على موضوعة ليلة عاشوراء بنفس الآليات ولكن بمخطّطٍ مبتور عن الوحدة العضوية التي نسجت شبكات التعبير والتوصيل في الديوان ، فنراه قد لجأ إلى تكنيك الحوار في كلتا القصيدتين ففي قصيدة ( ليلة الاسى والدموع ) كان الحوار يدور بين ذات الشاعر ـ كمحاوِرٍ نوعيّ ـ وبين الليلة ـ كمخاطَبٍ جماعي ـ له أن يردّ أو لا يردّ الخطاب ، مما جعل الحوار ذا بعد وطرف واحد فتقلّص إلى مونولوجٍ داخلي يسرد ما يحدث بإحاطة وشمولية العارف بكل شيء.

وفي قصيدة ( ودّعيني ) يرتدي الحوار حنجرة الإمام الحسين عليه‌السلام محاوراً الحوراء زينب عليها‌السلام في عرض بانورامي لما سيحدث بلغة التنبؤ وإستشراف المستقبل.

وعلى مستوى الألفاظ وطرق تركيبها فهو لا يتجاوز قاموسه الخاص ولا يتخطّى طرقه المعتادة في التركيب والبناء ، فلا يزال النسق الناري ينتظم بمفرداته ( إطفاء الشموع ، الشمس ، الجمر الوقّاد ، اللهيب ، النجوم الشاحبات ) وتدفّق مفردات النسق المائي ماثلة ( دم الطفوف ، انتظار الماء ، الظمأ ، الفرات ، قطرة من دماء ، فيضي ، يشرب السيف وريدي ، يبكي النهر ، الدمع ) إضافة للسيوف والأغماد والخيول والخيام والرماح والخضاب والرماد.

ومع انتظام الإيقاع وفق ما يؤثره الشاعر من أبحر الشعر فقد إختار تراكب الحركات الإيقاعية لبحر الخفيف لتنظيم هيكلية القصيدتين البنائية.

٢٤٥

٩ ـ للشيخ الخليعي رحمه‌الله

الصبر الجميل

ها هنا تُنحر النحور ولم يبقَ

لنا في الحياة غير القليلِ

ها هنا يصبح العزيزُ من الأشراف

في قبضة الحقير الذليلِ

ها هنا تُهتك الكرائم من آلِ

عليٍّ بذلةٍ وخمولِ

من دمي يُبلَل الثرى ها هنا

واحرّ قلبي على الثرى المبلولِ

ورقى فوق منبرٍ حامد الله

يُثني على العزيز الجليل

ثم قال أربعوا فقتلي شفاءٌ

لصدورٍ مملوءةٍ بالذحولِ

فأجابوه حاشَ لله بل يُفديك

كلٌّ بالنفس يا بن البتولِ

فجزاهمُ خيراً وقال لقد

فُزتم ونلتم نهاية المأمولِ

ومضى يقصدُ الخيامَ ويدعو

ودّعيني يا أخت قبل الرحيلِ

ودّعيني فما إلى جمع شملٍ

بكم بعد فرقةٍ من سبيلِ

ودّعيني واستعملي الصبر إنّا

من قبيلٍ يفوقُ كلّ قبيلِ

شأنُنا إن طغت علينا خطوبٌ

نتلقّى الأذى بصبرٍ جميلِ

لا تشقي جيباً ولا تلطمي خداً

فإنّا أهل الرضا والقبولِ

واخلفيني على بناتي وكوني

خير مستخلفٍ لأكرم جيلِ

وأطيعي إمامك السيد السجّاد

ربّ التحريم والتحليلِ

فاذا ما قضيت نحبي فقولي

في الإله ( الجليل ) خير سبيلِ

واذكريني أذا تنفلتِ بالليلِ

عقيب التكبير والتهليلِ (١)

__________________

(١) المنتخب للطريحي : ص ٤٨٩ ـ ٤٩٠.

٢٤٦

١٠ ـ للشاعر الأستاذ سعيد العسيلي

(١)

فديتك يا أخي

هلاّ علمتَ بيوم عاشوراءِ

ماذا جرى من كربةٍ وبلاءِ

فيه الحرائر قد بكين من الأسى

وجفونهنّ نأت عن الإغفاء

وصغارهنّ تعجّ من فرط الظّما

والأرض تغرق حولهم بالماء

وتلفّ أنوار اليقين ضلالةً

كاللّيل لفّ البدر بالدّهماء

وصهيل خيل الظلم قد بلغ المدى

حتى تجاوز قمة الجوزاء

والشمس تحتضن الرماح كأنها

ترمي عليها ألفَ ألفِ غطاء

والحزن ضمّ جفون آل محمدٍ

وقلوبهم بنوازل البلواءِ

وبدا الحسين يسنُّ شفرة صارمٍ

فيه يواجه كثرة الأعداء

ويعاتب الدهرَ الخؤون بحسرةٍ

منها يقاسي شدة الأرزاء

سمَعتُه حاميةُ العيال فأسرعت

تَرنو اليه بمقلةٍ حوراء

قالت فديتُكَ يا أخيّ بمهجتي

وحشاشتي ومحاجري ودمائي

ليت المنيّة أعدمتني والفنا

رقصت مصائبه على أشلائي

تشكو زمانك هل يئست من البقا

وجماله يا فلذة الزهراء

يا غاسلاً بالدمع لون محاجري

حتى غدت كالشمعة البيضاء

سيطول بعدك يا أُخيّ تنهّدي

وتلوّعي وتأسّفي وبكائي

٢٤٧

فأجابها اعتصمي بحبل محمدٍ

وتصبري فالصبر خير عزاء

قالت أتغتصب الهدوء وأنت في

همٍّ لتؤنس وحشتي وشقائي

فبكى وقال لها فلو ترك القطا

ليلاً لنام بمهمه الصحراء

آن الوداع وإنما هي ليلةٌ

فتودّعي من رؤيتي ولقائي

وأطلّ نور الفجر بعد أن انقضى

ليلٌ مريرٌ فيه كل شقاء

فمضى إلى صون العيال بخندقٍ

ترتدّ عنه غارة النذلاء

والنار فيه أوقدت ولهيبها

خلف الخيام يذيب عين الرائي

نادى على أصحابه مستبشراً

كالنور يضحك في دجى الظلماء

اليوم عرس شهادةٍ نرجو بها

رضوان خالقنا وفيض هناء

ودماؤنا تروي الفلاة وتكتسي

منها الرمال بحلّةٍ حمراء

والصّبر ليس لنا سواه إذا جرت

خيل الردى خبباً على البيداء

ورنت إلى خيل العدى أنظاره

فرأى بها بحراً على الصحراء

والموج يزخر بالضلالة والعمى

وبه تموت ضمائر السفهاء

فتوجّهت أبصاره نحو السما

ودعا بكل تضرعٍ وثناء

ربّاه أنت من المصائب منقذي

يا عدتي في شدتي ورخائي

أنت الكريم عليك حُسن توكلي

حمداً وأنت مُعَوّلي ورجائي

فاجعل خواتيم الفعال محجّة

بيضاء واكتبني مع الشهداء (١)

__________________

(١) كربلاء ( ملحمة ) للعسيلي : ص ٣٠٢ ـ ٣٠٤.

٢٤٨

(٢)

رهبان الليل والنجم

سَلْ كربلاء ويومها المشهودا

وسَلِ السهول وَسلْ هناك البيدا

وسل الرّبى عمّا رأته من الأسى

والدمع أغرقَ سهلهَا وجرودا

وسل النجومَ البيض تعلم أنها

صارت على هول المصائب سودا

هذي الفواطم من بنات محمدٍ

يلبَسن من خوف المصير برودا

والجوّ مربدّ الجوانب قاتمٌ

والريح تبعث في الرمال وقيدا

ما كان يسمع غير وَلْوَلَة النسا

وصياحهن يفجّر الجلمودا

وبكاءُ أطفالٍ ونهدةُ مرضعٍ

لم تستطع أن ترضع المولودا

وبرغم قرب الماء ليس ينالُه

أحدٌ وباتَ على الحسين بَعيدا

من دونه خيلُ العدى وصوارمٌ

بيضٌ أقامت بالفرات سدودا

والظالمون تنكّروا لمحمدٍ

علناً وأمسوا للضلال عبيدا

وتبادرت للذبّ عنه عصبةٌ

عقدتْ على هام الزمان عقودا

تستقبل الموتَ الزّؤامَ كأنها

تلقى بمعترك النزال الغيدا

كانوا ضراغمةً يرون أمامَهم

جَيشاً كثيفاً أنكرَ التوحيدا

وبرغم ذلك يضحكونَ كأنهُمْ

فوقَ المعالي يرتقونَ صعودا

يتهازلون وهزلهم لا ينطوي

إلاّ على تقوى تصافح جودا

هذا بُرَير ضاحكٌ مستبشرٌ

وحبيبُ يَعزفُ للمنونِ نشيدا

٢٤٩

رهبانُ ليلٍ والعبادةُ دأبُهم

أما الضحى فَيُرى الجميع أسودا

والليلُ يطربه نشيد صلاتهم

والنجمُ يرعى للأُبَاة سجودا

خطبوا الردى بدمائهم فكأنما

قد أمهروه ذمةً وعهودا

يفدون بالمُهج الحسينِ لأنهم

عرفوا ومُذ كان الحسينُ وليدا

أنّ الوصية لم تكن في غيره

والناس ما برحوا لذاك شهودا

وبرغم قِلتِهمْ ونَقصِ عديدِهم

كانت لهم غُرُب السيوف جنودا

هي ليلةٌ كانت برغم سوادها

بيضاء تبعث في الهدى تغريدا

راح الحسين السبط يُصلح سَيفَهُ

فيها ليهزم بالشفار حشودا

ويذيق أعناق الطغاة بحده

ضرباً يثير زلازلاً ورعودا

وبدا يعاتب دهره وكأنه

قد كان منه مُثقلاً مجهودا

ويقول أفٍّ يا زمان حملت لي

همّاً وكيداً حالف التنكيدا

عُميت بصائر هؤلاء عن الهدى

ولقيت منهم ضلةً وجحودا

والأمر للرحمن جلّ جلاله

كتبَ المهيمِنُ أن أموت شهيدا

سمعت عقيلة هاشمٍ إنشادَه

فأتتهُ تلطمُ بالأكفّ خدودا

وتقول واثكلاه ليت منيتي

جاءت وشقت لي فداك لحودا

اليوم ماتت يا ابن أميَ فاطمٌ

واليوم أصبح والدي ملحودا

واليوم مات أخي الزكّي المجتبى

والحزن سَهّد مقلتي تسهيدا

فأجابها كلُ الوجود إلى الفنا

إلا الذي وهب الحياة وجودا

لا تجزعي أختاه صَبراً واعلمي

أني سَالقى في الجنان خلودا

مهما تمردت الطغاة فإنما

جنح البعوضة أهلك النمرودا

٢٥٠

وبكت حرائر آل بيت محمدٍ

وندبنَ بحراً للهدى مورودا

قال الحسين برقّةٍ نبويةٍ

حملت لهنّ من الفؤاد ورودا

لا تخمشنّ عليّ وجهاً إن أتى

حتفي وصرتُ على الثرى ممدودا

شدّوا العزائمَ واستعدّوا للعنا

ودعوا الرسالة تبلغ المقصودا

لا يستقيم الدّين إلا في دمٍ

من منحري إن سال يخضب جيدا

والخيل تمشي في حوافرها على

ظهري وتحتز السيوفُ وريدا

وبذاك أعتبرُ المنيةَ فرحةً

كبرى وأعتبرُ الشهادة عيدا (١)

__________________

(١) كربلاء ( ملحمة ) للعسيلي : ص ٢٩٥ ـ ٢٩٨.

٢٥١

(٣)

البدر بين النجوم

وكفاه فخراً أنّه للمرتضى

شبلٌ وللهادي العظيم سليلُ

والنورُ أدنى من ضياء محمدٍ

وكأنهُ بإزائه قنديلُ

وقفَ الحسينُ وحولَهُ أصحابُه

كالبدرِ ما بينَ النجوم يقولُ

هذا سوادُ الليل مَدّ ظلامَه

وجناحه من فوقكم مسدولُ

هَيّا إذهبوا إنّ الفَلاةَ وسيعةٌ

وجبالُها حصنٌ لكم ومقيلُ

ولقد وقفتُ إلى الوداع كأنما

يدعو إلى هذا الوداع رحيلُ

فالقومُ لا يبغونَ غير مقاتلي

فيها تجولُ بواترٌ ونصولُ

وغداً سألقى الظالمين بصارمٍ

منه الجبالُ على السهول تميلُ

فأدقُّ أصلاباً ثوى فيها الخنا

وأشقُّ أكباداً بها التضليلُ

ثابوا إليه كالأسود عوابسٌ

بعزائمٍ منها يغيضُ النيلُ

قالوا وقد زار اليقينُ قلوبَهُم

تفدّيك منّا أنفسٌ وعقولُ

فغداً ترانا بين معترك القنا

كالنار بين الظالمينَ نجولُ

وسيُوفُنا تشوي الوجوهَ كأنها

لهبٌ لها فوقَ الرقابِ صليلُ

لله يا تلك النفوس وقد أبت

إلاّ نزالاً ليس عنه بديلُ

فمضت لخالقها بعزّ شهادةٍ

طابت وقاتِلُها هو المقتول (١)

__________________

(١) كربلاء ( ملحمة ) للعسيلي : ص ٢٩٣.

٢٥٢

(٤)

على أعتاب ليلة عاشوراء

رَكبٌ يحلُ بكربلا وخيامُ

نُصبتْ وقد غَدرَتْ به الأيامُ

فيه حرائرُ آلِ بيتِ محمدٍ

تحت الهجيرِ على الرمالِ تنامُ

لا ظلَّ إلا الشمسُ حرَّ لهيبها

نارٌ بها تتقلّب الأجسامُ

تهفو إلى ماء الفُراتِ ولا ترى

إلا الأسنّةَ حَولهنَّ تُقامُ

والخيلُ تصهلُ والسيوفُ لوامعٌ

والجوّ فيه غِبرةٌ وقتامُ

والرعبُ خَيَّمَ والجفونُ دوامعٌ

والخوفُ بين ضلوعهنَّ سهامُ

عَجباً وأبناءُ الرسالة في عنا

ويزيدُ مِنْ فوقِ الحرير ينامُ

عجباً وسبطُ محمدٍ يشكو الظما

ويحيطُ فيه على الفُرات لئامُ

والشمرُ يَنعُمُ في الظلال وَيرتوي

من مائه ويلفُه الإنعامُ

لم لا تغيبـي يا نجومُ من السما

أسفاً ويحَتلُّ الوجودَ ظلامُ

والبدرُ يُخسفُ فى علاه وينتهي

عمرُ الكواكبِ والمعادُ يُقامُ

والناسُ تُنشرُ للحساب لكي ترىٰ

قوماً بأحضانِ الضلالةِ ناموا

واستكبرُوا وعتوا وضلّوا وانطوى

هَديٌ وعاشت فِيهُمُ الأصنامُ

منعوا الحسينَ من الورودِ كأنّما

هذا الورودُ على الحُسين حرامُ

أطفالهُ عَطشى تعجُّ من الأسى

ونساؤه طافتْ بها الآلامُ

فَكأنهُم حَرموا النبيَّ محمداً

من ماءِ زمزمَ والنبيُّ يُضامُ

٢٥٣

باعَ ابنُ سعدٍ جنةً أزليةً

بجهنَّمٍ فيها يُشبُّ ضرامُ

أغراه مُلكُ الرّيّ فاختارَ الشقا

وتحكّمت بمصيرهِ الأزلامُ

نادى الخبيثُ إلى الوغى فتحرّكت

خيلٌ عليها سيطر الإجرامُ

ورأت تحرُّكَهَا العقيلةُ زينبٌ

فأصابها مما رأت أسقامُ

وتلفّتتْ نحوَ الحُسينِ وإذ به

غافٍ تُراود جفنَهُ الأحلامُ

قالتْ أُخيَّ شقيقَ روحي جانِحي

أَغَفَوتَ ؟ إنَّ الحادثاتِ جسامُ

هذا العدو أتاك يزحف وهو في

حقدٍ عليكَ تَقُودُه الظلاّمُ

فصحا وقال رأيتُ جدي المصطفى

حينَ اعترني بالغفاء منامُ

هو زفَّ لِي بُشرى نهاية مصرعي

بشهادةٍ يعلو بها الإسلامُ

ذُعرَتْ لما سمعت وجرّح قلبها

خبرٌ يهونُ لهولهِ الإعدامُ

راحت تنادي ويلتاهُ وحُزنُها

منه تذوبُ مفاصلٌ وعظامُ

وتحرّكَ العباسُ نحو من اعتدى

كالليثِ إنْ خَطُرَتْ به الأقدامُ

قال امهلونا يا طغاةُ إلى غدٍ

وغداً سيحكم بيننا الصمصام

ودعوا سوادَ الليلِ أنْ يلقي بنا

قوماً بُحبِّ صلاتِهم قد هاموا

واللهُ يعلم أنَّ سبطَ محمدٍ

ما راعَهُ كرٌّ ولا إقدامُ

لكنهُ يهوى الصلاةَ لربهِ

وله بها رغمُ الخطوبِ غرامُ (١)

__________________

(١) كربلاء ( ملحمة ) للعسيلي : ص ٢٨٨ ـ ٢٩٠.

٢٥٤

(٥)

الجفونُ المُسّهَدة

فرَّ التقىٰ وتبرّأ القرأنُ

ممَّن بهِم تتحكّمُ الأوثانُ

إسلامُهُم ما كان إلا خدعةً

فيها تجلّى الزورُ والبهتانُ

باعوا الضمائرَ بالضلالِ وآثروا

دنُيا بها يتعطّلُ الوجدانُ

وعدوا الحسينَ بنصره وتخلّفوا

عنه وعهدُ محمّدٍ قد خانوا

والبغيُ أنهضهم إليه وأعلنوا

حَرباً عِواناً قادها الطغيانُ

وتجمّعوا حولَ الفُراتِ بخسةٍ

ما ردَهُم شَرفٌ ولا إيمانُ

أطفالُه مثلُ الورودِ بِلا ندى

والماءُ ـ جارٍ قُربُهم ـ غِدرانُ

والرعبُ حولَ نسائِهِ بعثَ الأسىٰ

فيهنَّ وهو محاصَرٌ ظمآنُ

سامُوهُ أن يَردَ الهوانَ أو الردىٰ

وهل الصقورُ تُخيفُها الغُربانُ ؟

فأبى الهوانَ لأنَّ فيه مذلةً

وبه لربّ محمدٍ عِصيانُ

أنَّى لشبلِ المرتضى أن يرتضي

عاراً حَوتهُ مذلَّةٌ وهوانُ

فاختارَ حرباً كاللهيبِ غمارُها

حمراء منها تفزعُ الأزمانُ

وتبادرت نحو المنيةِ عصبةٌ

معَهُ بها يستبشرُ الميدانُ

وسمتْ أماجدُها إليه كأنّهُ

مَلِكٌ سَمَتْ لجلالِه التيجانُ

ومَشتْ إلى الغمراتِ لا ترجو سوى

رضوانِه فتباركَ الرضوانُ

يمشي الهوينا نحو خيمةِ زينبٍ

أُمّ العيالِ وكلّهُ اطمينانُ

٢٥٥

أصحابُهُ مثل الصقور ، كواسرٌ

عند اللقاء وكلهم إخوانُ

قالت هل استعلمتَ عن نيَّاتِهمْ

وثباتِهم إنْ جالت الفُرسانُ

فلعلَّهمْ قد يُسلموكَ إلى الردى

بالخوفِ أو يُغريهِمُ السلطانُ (١)

فأجابَها إني اختبرتُ ثباتَهم

فوجدتُهُم وكأنَّهمْ عُقبانُ

يستأنسونَ إذا المنيةُ أقبلتْ

والحربُ إن صَرَّتْ لها أسنانُ

كالطفلِ يأنسُ في محالبِ أمّه

ويضُمُهُ عندَ البُكاءِ حنانُ

وبكتْ حناناً والدموعُ تَسيلُ من

جفنٍ به تتوقدُ الأحزانُ

قال الحسينُ وقد تهدّجَ صوتُه

لا تحزني فلنا الجنانُ أمانُ

أُختاهُ إنَّ الصبرَ خيرُ وسيلةٍ

لا يَذهبَنَّ بحلمِكِ الشيطانُ

ومضت من الليلِ المُعذّبِ فترةٌ

سوداءَ لم تَغفُ بها الأجفانُ (٢)

لكن أبيُّ الضيمِ مالَ لغفوةٍ

أذكت جواهُ ، وطرفُهُ وسِنانُ

وصحا فقالَ : رأيتُ كلباً أبقعاً

قُربي يلوحُ بوجهِهِ الكُفرانُ

أنيابُهُ حمراء تَنهشُ مهجتي

ويبينُ في قسماتِهِ الخزيانُ

ثم استعدوا للردى فتحنّطوا

والكلُّ منهُم ضاحكٌ جذلانُ

والطيبُ راحَ يُشمُّ مِنْ أجسادهم

طيباً به يستأنسُ الغُفرانُ (٣)

__________________

(١) لا نعرف سبباً لجزم ( يسلموك ).

(٢) جاءت ( تغفُ بها ) على ( مفتعلن ) في حشو البيت وهي من العيوب العروضية الواضحة.

(٣) كربلاء ( ملحمة ) للعسيلي : ص ٢٩٩ ـ ٣٠١.

٢٥٦

الأستاذ سعيد العسيلي

مع وحدة البحر ( بحر الكامل ) واختلاف القوافي ينفتح سعيد العسيلي في ملحمته علىٰ آفاق تعبيرية أرحب تعينه شاعرية تدور علىٰ الوثائقية التسجيلية بريشة متوثبة تهرب من أسار التأريخية لتتأمل فتُصور ظلالاً ذاتية تتخطى النظم المدرسي وجفافه لتنثر عبير الشعر وعطوره في فضاء النص ولكن بتحرج وتردد سرعان ما يعود إلىٰ قفص التأريخ ليسجل حوادث الليلة بلغة التقرير والخطاب الإخباري لكن نزوعه الشعري ومثابرته لتحديد موقف جمالي تُداخل بين اللغتين وتوازن بين المنحيين فنراه مصوراً بارعاً تارة

في :

والشمس تحتضن الرماح كأنها

ترمي عليها الف الف غطاءِ

أو :

يا غاسلاً بالدمع لون محاجري

حتىٰ غدت كالشمعة البيضاءِ

ونراه يزاوج التسحيل الوثائقي بالفن الشعري في :

ليت المنية اعدمتني والفنا

رقصت مصائبه علىٰ أشلائي

أو :

قالت اتغتصب الهدوء وأنت في

همٍّ لتؤنس وحشتي وشقائي

فلاحظ في ( والفنا رقصت مصائبه على أشلائي ) تداخل الوثيقة بالفن وكذلك ( أتغتصب الهدوء ) فحوارات الحوراء زينب عليها‌السلام تُقال عند العسيلي بلغةٍ فنيّة

٢٥٧

جمالية تناسب عصرنا الحاضر مع عدم فقدانها للدلالة الأصلية التي قيلت من أجلها ، لكنه يخفق أحياناً في إضافاته عندما يتقابل نصه مع نص مثبّت من تلك الليلة العظيمة كما في المثال التالي :

ويقول افٍّ يا زمان حملت لي

هماً وكيداً حالف التنكيدا

عميت بصائر هؤلاء عن الهدى

ولقيت منهم ضلةً وجحودا

والأمر للرحمن جلّ جلاله

كتب المهيمن أن أموت شهيداً

فأعادة صياغة النصّ الاصلي جاءت مهلهلة ومترهلة ونستطيع أن نعزو ذلك إلى أن التقابل هنا تم مع نص شعري للإمام الحسين عليه‌السلام وهو إرجوزة وجدانية تفجّعية قالها الإمام عليه‌السلام من صفاء روحه الطاهرة وهي عصية على الترجمة واعادة الإنتاج بألفاظها الرقيقة وجرسها المنغّم الدافق ولا نراها تحمل سمة زمانية محددة بل هي لا تعبر عن لحظتها التأريخية فقط لكنها جاءت بلغة طافحة فوق كلّ زمان كنشيد أبديّ خالد ولذا ظهر عجز العسيلي عن التواشج معها والمقابسة وأخفق قبله الشيخ الفرطوسي عندما حاول محاذاتها في :

وهو يتلو يا دهر كم لك غدراً

من قتيل مضرّج بالدماءِ

لك اُفّ على مرور الليالي

من خليل مولّعٍ بالجفاءِ

علىٰ إننا نثني علىٰ شجاعة المحاولة وجرأة التجريب فتجربة العسيلي فيها الكثير الكثير من التجاوز على عادية الطريقة التسجيلية ومألوف الاسلوب التوثيقي مما يمتع المتلقي الباحث عن الفن والجمال.

٢٥٨

١١ ـ للشاعر الأستاذ سلمان الربيعي (١)

المساء الأخير

زينب عليها‌السلام تخاطب ليلة العاشر

طُلْ يا مساءُ فلا أروم صباحا

إن كان صبحُك للأسى مفتاحا

لو دَرّ ضرع الصبح خيراً لإمرىءٍ

فأنا سأُسقى ضيمَهُ أقداحا

وإذا تلألأ نورُهُ متبّسماً

ألقى عليَّ من الهموم وشاحا

يا ليلُ لم أسأم ظلامكَ طالما

عيناي تُبصرُ كوكباً لمّاحا

فمتى انجليت فسوف أُفجع بالذي

عنّي يزيل الغمَّ والأتراحا

لو كنت تعلمُ ما يحلُّ بنا غداً

لم تَطْوِ عن أفق الطفوف جناحا

يا ليلُ انَّ الأمّ تَسعدُ بابنها

وبه ترى صفو الحياةِ مُتاحا

ومتى توارى شخصُه عن عينها

قَضَت الحياةَ تأوّهاً ونواحا

فَلَكَمْ قلوبٍ سوفَ تذرفُ مِنْ دمٍ

دمعاً يفوقُ العارضَ السَّحّاحا

فغداً جميعُ الطاهرات بكربلا

كلٌّ ستثكل سيداً جِحجاحا

يا ليلُ صُبحك متخمٌ بفجائعٍ

دمها سيغمرُ أنجداً وبطاحا

__________________

(١) هو : الشاعر الأستاذ سلمان عاصي الربيعي ، ولد سنة ١٩٥١ م في الحلّة ـ العراق ، له مشاركات في النوادي الأدبية والدينية ، صدر له ثلاثة دواوين شعرية : ١ ـ على أعتاب الديار ٢ ـ الديار المحجوبة ٣ ـ طيف الوطن.

٢٥٩

فغداً بأرض الطفِّ طُهْرُ دمِ الهدى

يغدو بشرع الظالمين مُباحا

حيث الطغاةُ على ابن بنت نبيِّهم

جيشاً أراهم حشَّدوا وسلاحا

وأراه قلباً ظامئاً ما بينهُمْ

وسيوفُهم قد أثخنتْهُ جراحا

وأرى أخي العباس من طعن القنا

نسراً له جذَّ الطغاةُ جناحا

وعلى رمال الطفِّ أجساداً أرى

زُحلاً شأت بعلوّها وضُراحا

وجليلُ ما تبكي له عينُ الهدى

ويزلزل الأبدانَ والأرواحا

نحرُ الرضيعِ غداةَ يُرسَلُ نَحوَهُ

سَهمُ ( ابن كاهل ) خارقاً ذبّاحا

وأرى عيالَ محمدٍ أسرى العدى

مَنْ ذا سَيُطلِقُ للأسير سراحا

يا ليلُ إذ يقعُ الذي يُدمي الحشا

أتوَدُّ عيني أن ترى الإصباحا

إنّا إلى حكم الدعيِّ ورهطه

هيهات نَركنُ أو نلين جماحا

فليقتفِ الأحرارُ نهجَ زعيمِهِم

ليرَوْهُ في آفاقهم مصباحا

وليقصد الظمآنُ ماءَ غديرنا

ليذوقَ من فيض الجنان قراحا

لو لا دمانا ما استقامَ لمسلمٍ

دينٌ ولا بدرُ الكرامةِ لاحا

ما سال من نحر الحسين بكربلا

للمجد خَطَّ المنهجَ الوضاحا

أبو أمل الربيعي

٢٤ شوال ١٤١٧ ه‍

٢٦٠