ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

خيامهم وخصوصاً ساعة المعركة إذ ليس هناك ما يمنع الأعداء من اقتحامها والهجوم على النساء وأسرهن كرهينةٍ بأيديهم إذ لا رادع لهم عن ذلك.

ب ـ ليستقبلوا الأعداء من جهة واحدة ، ويمنع تعدد جبهات القتال عليهم ، وهذا ما يعزز موقفهم وترابطهم ولذا جاء في الرواية : ففعلوا وكان لهم نافعاً (١).

الأمر الخامس : تفقد التلاع والعقبات

وهذه واحدة من أعماله عليه‌السلام والتي لم يغفل عنها مع ما هو فيه ، إذ خرج في جوف الليل بنفسه إلىٰ خارج الخيام يتفقد التلاع والعقبات والروابي المحيطة بهم والمشرفة علىٰ بيوتهم مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل (٢).

الأمر الذي يدل علىٰ إحاطته وبصيرته وحنكته في ذلك ، وغيرته علىٰ عياله وأهل بيته ، وبهذا يكون ـ صلوات الله عليه ـ قد أنجز المهمات العسكرية الضرورية استعداداً للمواجهة.

كما أنه عليه‌السلام نظم أصحابه صباح عاشوراء استعداداً للقتال فجعل زهير بن القين في الميمنة ، وحبيب بن مظاهر في الميسرة ، وثبت هو عليه‌السلام وأهل بيته في القلب ، وأعطىٰ رايته أخاه العباس عليه‌السلام ، لأنه وجده أكفأ من معه لحملها ، واحفظهم لذمامه ، وأرأفهم به ، وأدعاهم إلىٰ مبدئه ، وأوصلهم لرحمه ، وأحماهم لجواره ، وأثبتهم للطعان ، وأربطهم جأشاً ، وأشدهم مراساً (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٢٠.

(٢) الدمعة الساكبة : ج ٤ ، ص ٢٧٣ ، معالي السبطين : ج ١ ، ص ٣٤٤.

(٣) مقتل الحسين للمقرم : ص ٢٢٥.

١٨١

١٨٢

١٨٣
١٨٤

(١)

من خصائص الأدب الشيعي وميزاته

مما لا شكّ فيه أن الشعر ـ بما له من مميزات ـ يُعتبر من العوامل المؤثرة إلى حدٍّ كبير في إحياء وحفظ الوقائع والأحداث ، وما ينبغي تخليده وتدوينه وخصوصاً القضايا التي لا غنى للمسلم عن معرفتها والوقوف على حقيقتها ، إذ أنَّ ما سجله الشعر تتلقاه الأجيال ، ويبقى في قلوب الناس.

وقد كان الشعر ـ خصوصاً في تلك الأيام ـ الوسيلة الوحيدة التي بها يُناط نقل الأخبار والأحداث ، إذ لم تكن في السابق وسائل إعلام كما هو عليه الحال في الزمان الحاضر ، ولذا دأب الشعراء على تسجيل ما هو مهم في نظرهم في الشعر ولذلك ترى الكثير من الوقائع والأحداث تلقيناها من طريق الشعر ، هذا مع ما مرّ عليه من ظروف وملابسات ، ولهذا اُعتبر الشعر مدرسة مهمة في حفظ التاريخ والحوادث بصورها الواقعية ، وقد يؤرخها بأجلى أبعادها وأصدق معانيها.

ومن مميزات الشعر التي لا تنكر كونه عاملاً مساعداً في تفجير العواطف النفسية واستمالة القلوب والضمائر ، والانشداد التام فيجعل من السامع كأنّما يعيش الواقعة تماماً وكأنه يراها أمام عينيه ، وما ذلك إلاّ لاشتماله على المؤثرات النفسية التي يتميز بها عن غيره.

ولهذا كلّه تعرف سبب اهتمام أهل البيت عليهم‌السلام وإلحاحهم الشديد في تخليد شهادة الحسين عليه‌السلام وما جرى على أهل بيته ـ في الشعر خاصة ـ فقد تواتر عنهم

١٨٥

أنهم ركَّزوا تركيزاً بالغ الاهتمام في نظم الشعر في فضائلهم ومصائبهم عليهم‌السلام وخصوصاً في الحسين عليه‌السلام ، ولم يقتصروا على ذلك بل تحدَّثوا أيضاً عن فضله وثوابه العظيم عند الله ـ تعالى ـ ترغيباً لهم في ذلك ، ولا شك في أن إنشاد الشعر فيهم عليهم‌السلام هو مصداق من مصاديق إحياء أمرهم ، وإليك بعض ما ورد في ذلك :

١ ـ ما روي عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال : دخل الكميت بن زيد على أبي جعفر عليه‌السلام وأنا عنده ، فأنشده : « من لقلب مُتيّم مستهام » ، فلما فرغ قال عليه‌السلام للكميت : لا تزال مؤيداً بروح القُدُس ما دمت تقول فينا (١).

٢ ـ ما روي عن علي بن سالم عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما قال فينا قائلٌ بيتاً من شعر حتى يؤيّد بروح القُدُس (٢).

٣ ـ ما روي عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من قال فينا بيت شعر ، بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة (٣).

٤ ـ وروي أن جعفر بن عفان دخل على الإمام الصادق عليه‌السلام فقال له : أنك تقول الشعر في الحسين عليه‌السلام وتجيده قال : نعم ، فاستنشده فلما قرأ عليه بكى حتى جرت دموعه على خديه ولحيته وقال له : لقد شهدت ملائكة الله المقرّبون قولك في الحسين عليه‌السلام وإنهم بكوا كما بكينا ولقد أوجب الله لك الجنة ثم قال عليه‌السلام : من قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى غفر الله له ووجبت له الجنة (٤).

__________________

(١) إختيار معرفة الرجال للطوسي : ج ٢ ، ص ٤٦٧ / ٣٦٦ ، وعنه بحار الأنوار : ج ٤٧ ، ص ٣٢٤ ، ح ٢٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام للصدوق : ج ٢ ص ١٥ ،ح ٢ ،وعنه بحار الأنوار : ج ٢٦ ، ص ٢٣١ ،ح ٤.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام للصدوق : ج ٢ ص ١٥ ، ح ١ ، بحار الأنوار : ج ٢٦ ص ٢٣١ ح ٣.

(٤) إختيار معرفة الرجال للطوسي : ج ٢ ، ص ٥٧٤ / ٥٠٨ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٢٨٢ ، ح ١٦.

١٨٦

٥ ـ ما روي عن الحسن بن الجهم قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا به ، إلاّ بنى الله له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرّات يزوره فيها كل ملك مقرّب وكل نبي مرسل (١).

وغير ذلك من الأخبار التي أكدوا فيها عليهم‌السلام ورغبوا شيعتهم في ذلك مع بيان فضل الإنشاد وما له من الثواب والجزاء عند الله ـ تعالى ـ ، وما ذلك كلّه إلاّ لأهمية الشعر وأثره الكبير في إحياء ذكرهم.

وامتثالاً لأمرهم عليهم‌السلام هبّ الاُدباء والشعراء ـ قديماً وحديثاً ـ لهذا النداء فأخذوا يبثّون فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ويُظهرون مظلوميتهم وما جرى عليهم من قتل وتشريد وتعذيب في السجون ونفي عن الأوطان ، وخصوصاً واقعة الطف الدامية وما جرى فيها على ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكتفوا بذلك إذ ضمّنوا أشعارهم الاحتجاجات الصارخة المدوية والاستنكار الشديد على قاتليهم وظالميهم ، ولذلك كان الشعر الحسيني ولا يزال يُدوي في ضمير التاريخ ، ويلهب النفوس ويوقظ النائمين وينبه الغافلين والذين عُتمت عليهم الحقيقة ولتصحو كلُ نفس من سباتها العميق.

فالادب الشيعي الحسيني هو من قوام وأساس التعبير الصادق الذي يُظهر لنا المأساة بأجلى أبعادها وصورها وأصدق معانيها الواقعية.

قال أحد الأعلام : أنا لا أنكر ما للأدب الشيعي من الروعة ، وما فيه من الجمال ، لأنّ هذه الظاهرة في الأدب الشيعي واضحة يجدها كل قارئ تذوّق

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام للصدوق : ج ٢ ، ص ١٥ ، ح ٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٦ ، ص ٢٣١ ،ح ٥.

١٨٧

الأدب ، أدب الشيعة صدى لعواطف ملتهبة ، أخمد الزمان لهيبها أن يظهر ، وأطلق الأدب دخانها أن يثور ، ففاح كما يفوح النَّدُ حين يحترق ، وماء الورد حين يتصعد.

وفي الأدب الشيعي رقة الدمع ورهبة الدم ،والحزن للقلوب الكئيبة ، كالنار حين تنفي خبث الحديد وتنقي الذهب الأبريز ، ويستطيع الأديب الشيعي أن يبكي في ثورته وأن يثور في بُكائه وأن يُسيطر على الموقف في كلتا الحالتين ، لأنه يُلقي من شظايا فؤاده.

لم تستطع الشيعة أن تعمل ولكنها استطاعت أن تقول ، والكبت حين يشتد يتصل بأعماق النفس ليمزج العقيدة بالعاطفة ، ثم يتصعد مع الزفرات أدباً يُلهب ويتلهب ويبكي ويستبكي ، وفي أنّة الحزين معاني لا تستطيع أن تعبر عنها أنةُ المعافى وإن تشابهتا في التوقيع.

هذا ما يجعل أدب الشيعة في القمة من أدب المسلمين وفي الذروة من أدب العروبة وهذا بعض ما استفادته من يوم الحسين عليه‌السلام وأيام العترة في التاريخ ، وأيامهم في التاريخ دموعاً ودماً (١).

ولما كانت هذه بعض خصائص ومميزات الأدب الشيعي ، وقف المناوئون ـ لأهل البيت عليهم‌السلام وخصوصاً بنو اُمية وأتباعهم ومن نحا نحوهم لاتخاذ المواقف الحازمة ، والتدابير اللازمة ضد شعراء أهل البيت عليهم‌السلام والذين جعلوا على عاتقهم إظهار مظلوميتهم انتصاراً للحق مهما كلفهم ذلك ما دام أنه يرضي الله ورسوله ، إذ أن الأمويين واتباعهم يُدركون تماماً مدى خطورة التفاعل الشعري على نواياهم وافعالهم.

__________________

(١) كتاب مع الدكتور أحمد أمين في حديث المهدي والمهدوية لزين الدين : ص ٨٨.

١٨٨

ومع ذلك كلّه نجد بعضاً من ذلك الشعر مدحاً ورثاءً قد وصل إلينا على امتداد العصور مع ما لابسه من محن ومتاعب ، ناهيك عمّا ضمّته موسوعات الشعر الحسيني في ذلك والذي يمثل ثروة أدبية لا غنى للمكتبة الإسلامية عنها.

ولأهمية هذا الأدب الثري يضم هذا القسم ما جاء في ليلة عاشوراء ـ قديماً وحديثاً ـ من قصائد الولاء والتي ارسلت أضوأها على أحداث ومواقف هذه الليلة العظيمة تخليداً لذكراها الأليمة.

١٨٩

(٢)

أهمية النقد الأدبي الموضوعي

إنّ من أهم الدراسات الأدبية هي الدراسات النقدية الموضوعية ، والتي تستأثر بأهمية بالغة عند الدارسين والباحثين في الأدب ، وموضع عناية الأديب والناقد والشاعر ، وحتى القارئ النبيه الذي تستهويه مثل هذه الدراسات.

وكما لا يخفى أنّ للنقد الأدبي قيمته الذاتية ، إذ هو يُقوّم النص الأدبي ، ويُميّز جيده من غيره ، ويحلله ويدرسه على ضوء أدوات النقد الأدبي ومعادلاته الخاصة ، والتي منها ـ كما قيل ـ :

الذوق السليم ، والتجربة الشخصية ، والقواعد العقلية ، والمعرفة اللغة العربية وقواعدها ، والإحاطة بأساليب البيان ، بعيداً عن كلّ نزعة وتعصب أو ميول نفسية ، ومَنْ ثَمَّ الحكم على النص من خلال قراءته وملاحظة عناصره الأخرى.

ومن الضرورة بمكان أن يتناول النقدُ القصيدة من جهاتها المُهمّة والتي تنصب على مستوى اللفظ وسلامته والمعنى وصحته ، واستقامة الغرض ، وملاحظة الوزن والقافية ، وائتلاف كل منهما مع الآخر ، ويتناولها أيضاً من الناحية الفنية والجمالية والإشارة إلى مفاهيمها ، واستخراج معانيها النفيسة التي يرمي اليها الشاعر والأغراض التي إعتمدها الشاعر في بناء قصيدته ، ومقدار عمقها وسعة خيالها ومزاياها الأدبية الاُخرى ، كما يبحث أيضاً عن خلل القصيدة واضطرابها وعيوبها إن وجد ذلك.

١٩٠

فعلى هذا أصبح من الضروري أن يقف الشاعر على نقاط الضعف في قصيدته ، الأمر الذي يجعله أكثر دقة وتلافياً لأخطائه في محاولاته الاُخرى اللاحقة.

وهذا هو شأن الدراسات النقدية الأدبية البنّاءة الهادفة والتي تُعد ثروة فكرية لا غنى عنها في عالم الأدب.

وانطلاقاً من ذلك وللأهمية المتوخاة نقدّم دراسة نقدية موضوعية بقلم الأستاذ ثامر الوندي حول ما جاء في ليلة عاشوراء من قصائد وتقويم مستواها وذكر بعض مزاياها وأغراضها والإشارة أيضاً إلى خللها واضطرابها إن وجد ذلك ،كما تناول دراسة عامة لبعض السمات المشتركة فيما يخص ليلة عاشوراء ، فلم يألُ جهداً في هذه الدراسة القيّمة والتي إستغرقت منه وقتاً ليس بالقصير فجزاه الله خيراً.

وكما لا يخفى أنّ الأستاذ الناقد لا تخفى قدرته النقدية وعمقه في معاني الشعر ، وإني أخاله يستنطق القصيدة بلا عناء فتُفصح له عن أسرارها الكامنة فتُخرج له ماخبأه الشاعر في أعماقها بما في ذلك أسرار شاعرية صاحبها ، ليقف الشاعر على ما تركه من لمسات في نصّه الشعري ليكون له حافزاً في تطوره مستقبلا.

وآمل أن تكون مثل هذه الدراسات مستوعبة أدب الجيل بالشكل المناسب وتعطيه أهميةً بالغةً لما في ذلك من تقدم أدبي على صعيد أفضل مما يجعله أكثر تطوراً من ذي قبل.

١٩١
١٩٢

(٣)

مرايا ليلة عاشوراء

بقلم الأستاذ الوندي (١)

داخل هذا التخصيص والحصر ، لا يمكن للإستقصاء الباحث عن النصوص الشعرية أن يصل إلى أقصى مما وصل إليه الباحث في الحصول على نصوص تخصّ ليلة العاشر من المحرم وحدها ، وهذا الجهد الظاهر والعناء الواضح من لدن الباحث في تضاعيف المنشور والمطبوع من النصوص المختصة يصاحبه جهد وعناء آخر تحمّله الإخوة الشعراء المعاصرون الذين طاردتهم رغبة الباحث وملاحقاته الجادة وحتى توسلاته ـ جزاه الله كل خير ـ ولا أرى فيه إلا معرفته الحقّة بما يعتري الشعراء من نزقٍ منطلقٍ بلا قيودٍ ونزوعٍ طفوليّ إلى التحرر والإنعتاق من كل فكرة ضاغطة ومشروع يفرض على الشاعرية ما يريده لا ما تريده هي ، وإذ نحيّي سعي الباحث الدؤوب نكبر كذلك الروح الولائية الوثّابة والاستجابة الكريمة التي أولاها الإخوة الشعراء لهذا المشروع الرائد.

لنقرّر إبتداءً بعض نقاط الإنطلاق كفرضيات قابلة للإمتداد التطبيقي في

__________________

(١) هو : الأديب الناقد الأستاذ ثامر محمد الوندي ، شاعر ناقد ، مضطلع في الثقافة والفنون ولد سنة ١٣٧٧ ه‍ في البصرة ـ العراق ، يحمل شهادة الدبلوم في صحة البيئة ، له بعض المقالات النقدية المنشورة ، والنصوص المسرحية والقصصية والموشحات الإسلامية ، وله مشاركات شعرية في الملتقيات الأدبية والدينية.

١٩٣

قراءتنا للنصوص الشعرية وهي :

١ ـ إن الأحداث التي جرت في ليلة عاشوراء هي مادة أولية خام سيتناولها الشاعر أو الأديب في نصّه فيعمل كلّ على شاكلته ، بمعنى الإختلاف في طرق وأساليب التناول مما يفرز نتاجات مختلفة أو حتى متقاطعة متباينة لكنها مؤطّرة بالإطار الكلي العام.

٢ ـ تباين الرؤيا الشعرية عن الرؤية التأريخية حيث تُعنى الثانية بالتطابق مع المقطع الزمني للحادثة بتفاصيلها في شكل الصدق الواقعي ، أما الاُولى فتُعنى بالعلاقة الضمنية أو حتى التلازمية مع الحادثة في شكل الصدق الفني الجمالي.

٣ ـ إن الشاعرية عمل إنساني كباقي الأعمال الإنسانية الاُخرى ، ففيها عرض عريض بين القوة والضعف ، وبين الإجادة والكبوة ، والإتقان والرداءة ، فربما نواجه شاعراً مُجيداً لم تتوفر في نصّه هنا عوامل الإجادة والإتقان والتوفيق ، فلن تمنعنا إجادته في نصوصه الاُخرى عن مُساءلته نقديّاً والإشارة إلى مواطن الضعف في نصّه مع جليل إحترامنا لتجربته ورصيده.

٤ ـ هناك نصوص شعرية مكتوبة للقراءة الشعرية سيكون انحياز الإهتمام والرعاية النقدية لها مبرّراً ، لقابلية مثل هذه النصوص على إعطاء الفحص والاستقصاء النقدي أكثر من مفتاح لذلك ، مع الاشارة المستعجلة لثلاثة أنواع من النصوص المنظومة الاُخرى : ـ أوّلها منظوم للتوثيق ، والثاني للخطابة ، والثالث للإنشاد.

٥ ـ في غمرة هذا الخليط لم نجد ما يشترك به الشعراء والناظمون ليؤلّف سمة مشتركة يمكن تحديدها وإبرازها لذا آثرنا أن نتعامل مع النصوص بشكل مفرد

١٩٤

وقد أهملنا بعض النصوص إما لخلوّها من القيم الجمالية الفنية ، أو اختصاراً لوجود تجارب مشابهه مع الاعتذار من كل الاخوة.

٦ ـ رأيت أن أتوسع مع الشاعر بولس سلامة لمقتضيات عقائدية ، لانّه كتب عن أهل البيت عليهم‌السلام وهو مسيحي الديانة ، ولمقتضيات فنية لانّ شعره نموذج للتجربة الشعرية الناضجة فنيّاً ، ولمقتضيات تأريخية لانّه كتب ملحمته شعراً عمودياً في سنين الخروج على هذا الشكل من النظم بالشكل الجديد المسمى ( الشعر الحر ) أعوام ١٩٤٧ ـ ١٩٤٨ م.

٧ ـ سأبدأ بدراسة عامة لبعض السمات المشتركة عند شعراء المجموعة فأتناول أولاً الخطاب الشعري الخاص بالشعراء لليلة عاشوراء على المستوى المضموني ثم أدرس ثانياً وعلى المستوى الشكلي البنائي ظاهرة الإستحضار الحسي أو الشعوري في شعر بعض الشعراء الذين وثّقوا لحالتين أسميتهما على التوالي ( إتخاذ الليل جملا ... ودويّ النحل ) وهذه هي السمات المشتركة التي وجدتها في النصوص وإن لم يشترك فيها معظم الشعراء.

فنرجو أن تروق لكم هذه المحاولة ونسأل الله السداد والتوفيق.

١٩٥

القسم الأول : الخطاب الشعري لليلة عاشوراء

عندما نمتلك وعياً نقدياً مبسّطاً ونقرأ من خلاله المشهد الشعري المجاور لحركة بثّ المنظومة المعرفية الحسينية على إختلاف وسائطها ، لا نرى هناك إلا الشعر محرّكاً للوجدان والضمير الموالي ، ولا نجد سواه وَقوداً ملتهباً متأججاً بانفعالاته المتولدة من صوره وتراكيب ألفاظه وجمله.

فلو تأملنا مجلساً حسينياً بلا شعر ، فهل يستطيع خطيب أن يقرّب سامعيه من الأبعاد المأساوية بِقِطَعٍ نثرية ؟ وكيف سيتمكّن من تصوير المصاب بإغفال الجذوة الجيّاشة بالعواطف والأحاسيس والمشاعر التي يحملها الشعراء في حبات قلوبهم ؟ لابد من تأشير ذلك لئلا يُهمّش دور الشعر في الحمّى التبخيسية التي تتعرض لها كلّ الأنشطة الإنسانية الحقة والتي تملأ الفراغات الحساسة في حيات البشر ، بعد غَلَبة الأفكار المُسلّطة التي تحمل طابع السطو على المجالات والحقول المؤثّرة والفاعلة في الإنسان الفرد والمجتمعات.

ولعلّي أجد أكثر من مبرّر أحتمي تحت ظلاله في محاولتي قراءة نصوص المجموعة إنطلاقاً من النصوص نحو ليلة عاشوراء وليس العكس ، أي من ليلة عاشوراء نحو النصوص.

فليلة عاشوراء لا تحتاج الأدب إلا كحلّة لها ، وصورة تتجلّى بها ، ووتر يرنّم انشودة العطاء والفداء والتضحية.

ربّ سائل يطرح هذه الإثارة ( ما علاقة النقد الأدبي بليلة عاشوراء ؟ ) ونحن

١٩٦

بدورنا نجيب :

أنها علاقة أي نشاط إنساني حيوي بمبادئه وثوابته ومرتكزاته العقائدية والدينية من خلال الواقع والتاريخ الذي يعيشه ، فمادام هناك أدب يُكتب عن المأساة الحسينية ( شعراً كان أو غيره من الأجناس الأدبية والفنية ) فلابد من وجود نقد يختبر ويفحص ويؤشّر ويقوّم ويثمّن ويوجّه ويفتتح طرق التلقي السليم ويُشذّب أساليب القراءة الصحيحة.

فالنقد يُفعّل عملية الإلتفاف حول الأدب ( مؤلفين وقراء ) وكذلك هو يرفع من درجات الإهتمام بالنشاط الأدبي كنشاط إنساني ضروري يكتسب مشروعيته من حاجة الناس اليه لإيجاد حالة التوازن في الجانب الشعوري الوجداني لبني البشر.

وبعد .. فالشاعر الولائي بحاجة إلى الإحتضان والرعاية والإحتفاء ، لأنه المعادِل العاطفي الوجداني للعالِم والمفكّر والفيلسوف ، وهو حنجرة الأماني المستترة ، وصوت الضمير النابع من أعماق الذات المتفاعلة مع النداء الإلهي المتجلي ، دائماً وأبداً على صفحات الولاء الحق لحملة النور الرباني المتوهّج ، بسيد الأكوان والمخلوقات الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلِ بيته المعصومين عليهم‌السلام.

ليلة عاشوراء ما هي إلا محطة من محطات المسيرة العظيمة ، وهي موقف يمتد وأفق إنتظار لما سيحدث ، فلا غرو أن تُثير عند الشعراء كوامن الإبداع وينابيع العطاء ليقفوا أمام جلالها وعظمتها وقفة حيرة ووجل.

ما الذي يفعله كائن سينتهي في يوم ما من أيام الزمن مع واقعة تشمخ على قوانين الزمن الصارمة ؟.

إن لليلة عاشوراء من الخصائص ما يجعلها تحقق إمتدادات متنائية النهايات ،

١٩٧

ومساحات مترامية الأبعاد ، وحجوماً غائرة الأعماق في الوجود الإنساني عبر أزمانه المتعددة.

تُرسل الواقعة رسالتها ـ إلى هدا الكائن الحساس في زمنه المحصور المهشّم ـ عبر سياق يحفظ للرسالة هويتها وصفاتها ، وهذا السياق هو ـ عملية نقل الوقائع التاريخية المهمة ـ وسيكون هناك نظام إتصال مادّي يؤمّن وصول الواقعة بطزاجتها ونضارتها وحيويتها من المرسل ( ليلة عاشوراء ) إلى المستلم ( وهو الشاعر هنا ) وستنبري شيفرة محددة خاصة ـ يعرف الشاعر المستلم مفاتيحها ـ لإعادة حدوث الواقعة في ذهن المستلم.

بعد هذا ما الذي سيحدث ؟

هل يصح أن نعدّ المفردات التاريخية لليلة عاشوراء كمواد أولية خام للعملية التحويلية الشعرية التي ستتناولها أم لا ؟

إن مفردات ليلة عاشوراء ـ أحداثاً وشخصيات وحوارات وخِطباً ـ لحظات زمنية خاصة تجاوزة خصوصيتها المشخصة ، وتخطة إثباتها في السجلّ التاريخي لتستمرّ في نفض أغبرة النسيان عنها بنبض حيوي متصاعد لتتواصل ، مع كل اللحظات والأزمان الخاصة التي ستعقبها وتليها ، بنداء حيّ متدفق فتخاطب عقولاً وقلوباً لم تعش معها تلك اللحظة التاريخية ولم تعاصرها ولم تتزامن معها.

فهي مواد أوليّة لعملية الكتابة تشعّ إمكانات وقدرة وطاقة هائلة لا يمكن أن يحيط بكلياتها متأمل ، ولا يستطيع أن يستوعب جزئياتها متفكر ، فنرى الشعراء حيارى بين من يقارب الوثيقة التاريخية بنظمه موثّقاً ، وبين من يستبطن مفرداتها ويدور حولها متصوّراً.

١٩٨

سنقف عند أحد المداخل المتفاعلة مع الليلة ، وهذا المدخل هو الخطاب الذاتي الخاص بالشاعر عندما ينادي ليلة عاشوراء لنرى سمات وصفات وأبعاداً سنحددها تباعاً من مجمل خطابات شعراء المجموعة كالآتي :

أ ـ البعد المأساوي المجرّد :

لابدّ لظاهرة الألم والتوجّع أن تطفو على السطح في الغليان الإنساني المنفعل بالقضية الحسينية على وجه العموم ، لكني أقصد هنا حصر الخطاب الشعري لليلة عاشوراء بالصورة العامة للألم والمأساة بدون تفاصيل فنرى الشيخ النصيراوي يخاطبها :

ياليلة الحزن خطّي للنهى علما

فقد كتبناك في أعماقنا ألما

ب ـ البعد المأساوي المتجسّد :

وهو بعد يوضح أثر الليلة على حزن الشاعر ، حيث يتجسد هذا الحزن بصورة دمع يسيل دماً عند الشيخ المنصوري في خطابه لها :

بك يا ليلة الوداع الرهيب

سال دمعي دماً لرزء الغريب

أو أن يتجسد جمراً وحرقة في الأكباد عند السيد القزويني :

ليلة العاشر قد خلّفت حتى الحشر في الأكباد جمراً

ج ـ البعد الحركي :

وهو بعد يخاطب فيه الشاعر الليلة كحق مضيّع ، فيسقطها تاريخياً على

١٩٩

الحاضر والمستقبل ليتم التحرك نحو ثارات الإمام الحسين عليه‌السلام كما عند السيد مدين الموسوي :

لا تتركي حجراً على حجرِ

يا ليلة الأرزاء والكدر

صبّي على الدنيا وما حملت

من نار غيضك حارق الشرر

يا ليلة وقف الزمان بها

وجِلاً يُدوّن أروع الصور

ونهج الشاعر ناجي الحرز المنهج نفسه لكن بتفصيل بالمطالبة للثارات ليقول :

أليلة يوم عاشوراء عودي

بكلّ الصحوّ والهمم العظام

أعيدي فتحك القدسيّ زهواً

حسينياً على الداء العقام

وصبي النور في شرق وغرب

وليس على عراق أو شآم

لقد عمّ الظلام وعاد حياً

أبو سفيان ينفخ في الظلام

أو أن يتوجه الشاعر لكشف حركية الليلة وما تولّده في الحركة العامة للانسان والكون والحياة كما عند الشيخ مهدي المصلي :

ليلة أسهرت عيون الليالي

لترينا عزائم الأبطال

وترينا الشموس تفترس الليل

لتمحو عصر الليالي الطوال

وترينا التاريخ أشرق فيه

عِقد نور مُرصّع باللآلي

وترينا الإنسان يسمو على النجم

مناراً ورجله في الرمال

وترينا الليل الذي يلد الفجر

فيهوي ظلامه للزوال

أو هي حركيّة قيم ومُثُل وتجاوز على ثبات التاريخ في نداء أخلاقي سلوكي كما عند يقين البصري :

٢٠٠