ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

أ ـ الصدق والصراحة في التعامل

الصدق هو : من الصفات الكريمة ومن أشرفها ، والتي تؤدي إلى سمو الإنسان ورفعته وتكامل شخصيته ، وأساس ثقة الناس به ، وهو أحد الأركان التي عليها مدار نظام المجتمع الإنساني.

ولذا عنى الإسلام بهذه الصفة الكريمة وبالغ في التحلي بها ، وقد أثنىٰ علىٰ من تخلق بها ، قال تعالىٰ : ( مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) (١) كما أثنىٰ تعالىٰ علىٰ نبيه إسماعيل به وقال : ( إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا ) (٢).

ومما ورد عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام في مدح هذه الخصلة الشريفة والتحلي بها :

ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر (٣).

وروي عنه عليه‌السلام يوصي شيعته : كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع (٤).

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٢٣.

(٢) سورة مريم : الآية ٥٤.

(٣) أصول الكافي للكليني : ج ٢ ، ص ١٠٤ ، ح ١.

(٤) أصول الكافي للكليني : ج ٢ ، ص ١٠٥ ، ح ١٠.

١٤١

وكما لا يخفى أن هذه الخصلة الشريفة من خصال أهل بيت العصمة عليهم‌السلام ، والتي ظهرت بشكل واضح علىٰ أفعالهم وأقوالهم ، فهمُ الصديقون حقاً ، كما عناهم القرآن الكريم بذلك في قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (١) فهمُ الصادقونَ الذين أمر القرآنُ الكريم باتباعهم والسيرَ علىٰ منهجهم الشريف.

وقد استأثرت هذه الخصلة الشريفة بعناية بالغة عندَهم عليهم‌السلام مؤكدين عليها ، وملتزمينَ بها في حياتهم ، وفي تعاملهم مع سائر الناس ، بعيداً عن المداهنة والخداع والتضليل ، حتىٰ في وقت الشدائد ووقوع المكاره ، فقد اتسم طريقُهم بالصِدقِ والصراحة في جميع فترات حياتهم ، وإن أدىٰ ذلك إلى تفرُّق الناس عنهم ، ما داموا على الحق والذي لا يعدلون به إلىٰ غيره.

إذ ليسوا كغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ من أولئك الذين يصلون إلىٰ غاياتهم ، بكل وسيلة ما دام ذلك يُعزِّرُ موقفهم والتفاف الناس حولَهم ، ويُحقّق لَهمُ الفوزَ والغلبةَ علىٰ مُناوئيهم ولو بالمُداهنة والخُداع والتضليل.

إلا أن أهلَ البيت عليهم‌السلام المتميزين عن غيرهم بما خَصهُم اللهُ تعالىٰ ومنحهمُ به ، لا يتوصلونَ للحق إلا مِنْ طريق الحق ، فهذا أمير المؤمنين عليه‌السلام لما أشار عليه المُغيرة بن شعبة أن يبقيَ معاوية بن أبي سفيان أميراً على الشام ولا يعزله كيما يستتب له الأمر ، ثم بعد ذلك يعزله.

قال له عليه‌السلام : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا ،

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١١٩.

١٤٢

قال عليه‌السلام لا يسألني الله عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا ) (١) الخبر (٢).

ومما حدّث به بعضهم في فضائله عليه‌السلام قال : ثمّ ترك الخديعة والمكر والغدر ، إجتمع الناس عليه جميعاً فقالوا له : أكتب يا أمير المؤمنين إلى من خالفك بولايته ثمّ اعزله ، فقال : المكر والخديعة والغدر في النار (٣).

وكذا إذا لاحظنا موقفه عليه‌السلام يومَ الشورىٰ حينما بُويع بعد وفاة الخليفة الثاني علىٰ أن يعمل بسيرة الشيخين لم يُساومهم ولم يخادعهم ، بل كان صريحاً معهم في موقفه من ذلك وقال عليه‌السلام : بل علىٰ كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى الخليفة الثالث (٤) ولم يكن عليه‌السلام بوسعه أن يسلك طريقاً لا يراه ، بل أوضح لهم المنهج الذي يَسير عليه ، وإن ذهبت الخلافةُ إلىٰ غيره.

فهو عليه‌السلام يَبني أساس الحكم على الصدق والحق ، وعدم الالتواء مع الآخرين وإن كان ذلك يُحقق له انتصاراً وغلبةً على الآخرين.

وإلى غير ذلك من الشواهد الأخرىٰ في سيرتهم ، والتي أوضحوا فيها منهجَهم الصادق القائم العدل والحق.

ويتضح هذا الأمر أيضاً في مواقف الحسين عليه‌السلام وفي منهجه الشريف والذي اتسم بالصدق والصراحة ، بعيداً عن تلك الأساليب التي ينتهجها بعضهم في ساعة المحنة ،

__________________

(١) سورة الكهف الآية : ٥١.

(٢) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ١٩٥ ، وعنه بحار الأنوار : ج ٣٢ ، ص ٣٤ ، ح ٢٠ ـ ٢٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤٠ ، ص ١٠٥ ، ح ١١٧.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١ ، ص ١٨٨.

١٤٣

والصراخة ، بعيداً عن تلك الأساليب التي ينتهجها بعضهم في ساعة المحنة ، فيخدعون الآخرين بكل وسيلة وحيلة من أجل البقاء علىٰ سلامة رؤوسِهم ، ولو كلف ذلك إبادتهم جميعاً !!.

( فكان ـ صلوات الله عليه ـ في جميع فترات حياته لم يوارب ولم يُخادع ، ولم يَسلك طريقاً فيه أيَ التواء ، وإنما يَسلك الطريق الواضح الذي يتجاوب مع ضميره الحي ، وابتَعد على المنعطفات التي لا يقرّها دينُه وخُلقُه ، وكان من ألوانِ ذلك السلوك النَيِّر أن الوليد حاكم يثربَ دعاه في غَلس الليل ، وأحاطهُ علماً بهلاك معاوية ، وطلب منه البيعةَ ليزيد مُكتفياً بها في جنح الظلام ، فامتنع عليه‌السلام وصارحَه بالواقع قائلاً : يا أمير إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب الخمر ، قاتلُ النفس المحرمة ، مُعلنٌ بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله (١) ، وكشفت هذه الكلمات عن مدىٰ صراحته ، وسمُو ذاته ، وقوة العارضة عنده في سبيل الحق.

ومن ألوان تلك الصراحة التي اعتادها وصارت من ذاتياته أنه لما خرج إلى العراق وافاه النبأُ المُؤلم وهو في أثناء الطريق بمقتل سفيره مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، وخُذلان أهل الكوفة له ، فقال للذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق : ... فَمَن أحبَّ مِنكُم الانصراف فلينصرفْ ، لَيْسَ عَليه منّا ذِمامٌ (٢) ، فتفرق عنه ذوو الأطماع ، وبَقىٰ معه الصفوةُ من أهل بيته.

لقد تجَنّب عليه‌السلام في تلك الساعات الحرجة التي يتطلب فيها إلى الناصر

__________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ، ص ١٨٤ ، اللهوف : ص ١٠ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٢٥.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٠٠ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٧٤.

١٤٤

والإغراء والخُداع ، مؤمناً أن ذلك لا يمكن أن تتصف به النفوس العظيمة المؤمنة بربها والمؤمنة بعدالة قضيتها ) (١).

ويتضحُ هذا الأمرُ جلياً في هذه الليلة التي خَلّدها التاريخ ، وذلك من خلال موقفه عليه‌السلام في ساعات هذه الليلة الأليمة مع أهل بيته وأصحابه ، وذلك حينما أوقف أصحابه علىٰ الأمر الواقع ولم يخفِ عليهم ليكونوا علىٰ بينة من أمرهم ومستقبلهم ، فوقف قائلاً لهم : إني غداً أُقتل وكلكُم تُقتلون معي ولا يبقىٰ منكم أحد (٢) حتى القاسم وعبد الله الرضيع (٣).

مؤكداً عليهم أن كلَ من يَبق معه منهم سوف يستشهد بين يديه ، فهو عليه‌السلام لا يُريد أن يتركَهُم في غَفلة من أمرهم ، ولئلا يتوهم أحدٌ منهم بأنه ربّما يُهادنُ القومَ فيما بَعد ، أو يقبل بخيار آخرَ غيرِ القتال ، ولكنه عليه‌السلام بَيّن لهم أنه يُقتل وهُم أيضاً يُقتلون إذا مَا بقُوا معه ! وبهذا يكون عليه‌السلام قد أوقفهم علىٰ حقيقة الأمر.

وقد أكد هذا الأمر مرةً أخرىٰ فيما قال لهم ، مشفقاً عليهم قائلاً : لهم أنتم جئتم معي لعلمِكم بأني أذهب إلىٰ جماعة بايعوني قلباً ولساناً ، والآن تجدونَهم قد استحوذَ عليهم الشيطانُ ونسوا الله ، والآن لم يكن لهم مقصدٌ سوىٰ قتلي ، وقتل من يجاهد بين يدي ، وسبي حريمي بعد سلبهم ، وأخاف أن لا تعلموا ذلك ، أو تعلموا ولا تتفرقوا للحياء مني ، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين (ع) للقرشي : ج ١ ، ص ١١٩ ـ ١٢٠.

(٢) نفس المهموم : ص ٢٣٠.

(٣) مقتل الحسين للمقرم : ص ٢١٥.

(٤) أسرار الشهادة للدربندي : ج ٢ ، ص ٢٢٢ ، الإيقاد : ص ٩٣.

١٤٥

فأحاطهم علماً بأنه يُقتل ومن معه أيضاً ، وأن حريمَه تُسبىٰ بعد قتله ، إذ لعل بعضهم يكره هذا ، خصوصاً من جاء بنسائه فيكون علىٰ علم بهذا الأمر. كما أنه عليه‌السلام عَدَّ إخفاءَ هذا الأمر عليهم خُدعةً ومكراً وأن ذلك محرمٌ عندهم لا يجوز بحال من الأحوال ، إذ كانوا عليهم‌السلام أبعد الناس عن مثل هذه الامور التي لا يقرونها لأحدٍ مهما كلف الأمر.

وقد حَذَّروا من هذا الأمر وذموا من يتصف به ، فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه قال : ليس منّا مَنْ ماكر مسلماً.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه كان كثيراً ما يتنفس الصُعداء ويقول : واويلاه يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة في النار ، فأصبرُ علىٰ مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا (١).

وهذا أيضاً مما تميز به منهجهم ـ صلوات الله عليهم ـ الذي حوىٰ كل صفات الأخلاق الرفيعة والمُثل العليا.

ولذا وقف سيدُ الشهداء عليه‌السلام في هذه الليلة العظيمة مُشفقاً علىٰ أصحابه ، ليطلعهم علىٰ ما خفي عليهم ما داموا قد وطنوا أنفسهم معه علىٰ ذلك الأمر الخطير ، فهو لا يُريد ناصراً قد منعه الحياء عن نصرته ، ما لم يكن عن علمه وبقناعته الشخصية في ذلك.

وهذا من أعظم الدروس الأخلاقية والتربوية المستفادة من ليلة الطف العظيمة ،

__________________

(١) جامع السعادات للنراقي : ج ١ ، ص ٢٣٩.

١٤٦

التي ينبغي الوقوف عليها والاستفادة منها.

وهنا لا ننسىٰ أيضاً ظهور هذا الجانب الأخلاقي العظيم في سلوك أنصار الحسين عليه‌السلام إذ ظهر الصدقُ علىٰ أقوالهم وأفعالهم ، حينما عاهدوه على الشهادة معه والدفاع عنه ، فكانت نياتُهم في ذلك صادقةً لا يشوبها أيُّ تَردّدٍ أو ميل ، فكانوا عازمين بالفعل علىٰ نصرته والذب عنه ، وخير شاهد علىٰ ذلك هو وفاؤهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتسابقهم إلى الشهادة بين يديه ، فلم تنحل عزيمتُهم وهم في أوج المحنة وشدتها ـ في ظهر عاشوراء ـ مع شدة العطش وحرارة الشمس ، وجراحات السنان ، وطعنات الرماح ، إذ أن النفس ساعتها ربما سَخت بالعزم وتناست الوعد ، وتعلقت بحب البقاء ، وحينها يتلاشىٰ ما التُزم به من وعود وعهود.

إلا أنهم ـ رضوان الله عليهم ـ ثبتوا أمام الأعداء بلا تراجع أو تردد وقاتلوا بجدارة فائقة منقطعة النظير ، وَوفَوا بما التزموا به ، فوافقت ظواهُرهم بواطَنهم ، وبهذا وصلوا إلىٰ أعلىٰ مراتب الإخلاص في صدقهم ، كما أن الوفاءَ بالعهد أفضل أنواع الصدق القولي فكانوا بحق مصداقاً لقوله تعالى : ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١).

والجديرُ بالذكر أن الحسين عليه‌السلام كان يُردّد هذه الآية الشريفة حين مقتل أصحابه (٢) ـ رضوان الله عليهم ـ ، الأمر الذي يدل علىٰ وفائهم وصدق موقفهم النبيل.

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٢٣.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٣١ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٢٠.

١٤٧

ب ـ الصبر وقوة التحمل

الصبر : هو حبس النفس عمّا تنازع إليه من ضد ما ينبغي أن يكون عليه ، وضده الجزع قال :

فَإنْ تَصبِرا فالصَّبْرُ خَيْرٌ مغبَّة

وإِن تجزَعا فالامرُ ماتَريانِ (١)

( ومما يدعو إلىٰ تماسك الشخصية وتوازنها الصبر علىٰ الأحداث وعدم الانهيار أمام محن الأيام وخطوبها ، وقد أكد الإسلام علىٰ هذه الظاهرة بصورة خاصة ، وحث المسلمين على التحلي بها وأن من يتخلق بها فإن الله يَمنحهُ الاجرَ بغير حساب ، قال تعالىٰ : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٣) ، وقال تعالى : ( وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) (٤) ، وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٥) ، وقال تعالىٰ في مدحه لنبيه أيوبَ عليه‌السلام : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (٦).

__________________

(١) مجمع البيان للطبرسي : ج ٤ ، ص ٨٥٥.

(٢) سورة النحل : الآية ٩٦.

(٣) سورة الزمر : الآية ١٠.

(٤) سورة الإنسان : الآية ١٢.

(٥) سورة السجدة : الآية ٢٤.

(٦) سورة ص : الآية ٤٤.

١٤٨

إنَّ الصبر نفحةٌ من نفحات الله ، يَعتصمُ به المؤمن فيتلقى المكارهَ والمصاعب بحزمٍ ثابت ونفسٍ مطمئنة ، ولولاهُ لانهارت نفسُه ، وتحطّمت قواه ، وأصبحَ عاجزاً عن السير في رَكب الحياة ، وقد دعا الإسلامُ إلى الاعتصام به لأنه من أهم الفضائل الخُلقية ، وقد ذكرهُ القرآنُ الكريم في سبعين آية ، ولم يذكر فضيلة أخرىٰ بهذا المقدار ، وما سببُ ذلك إلا لعظيم أمره ، ولأنه من مصادر النهوض الإجتماعي ، فالأمة التي لا صَبرَ لها لا يُمكن أن تصمُدَ في وجهِ الأعاصير ، مضافاً لذلك أنه يُربي ملكاتِ الخير في النفس فما فضيلة إلا وهي محتاجةٌ إليه.

وقد أثر عنهم في ذلك الشيء الكثير من الأخبار ، فقد قال الإمام أبو جعفرعليه‌السلام : الجنة محفوفةٌ بالمكاره والصبر ، فمن صَبَر على المكاره في الدُنيا دخل الجنة (١) ، وقال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : الصبرُ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبرَ له (٢).

إن الصبر بلسمٌ للقلوب المكلومة التي أثكلها الخطب وجار عليها الزمانُ ، وهو عزاءٌ للنفوس الحزينة التي هامت بتيار الهواجس والهموم ، وهو تسليةٌ للمعذبين يجدون فيه الاطمئنان ، وتحت كنفه ينعَمون بالراحة والاستقرار ) (٣).

وفي ليلة عاشوراء التي حَفلت بعظيمِ المكاره والمصائب والأرزاء ، والتي لا يُعهد لها مثيل في تاريخ البشرية ، نرىٰ وقد برزَ الصبرُ فيها ، وصار أحدَ سِماتها ، وصفةً قد تحلىٰ بها أصحابُها ، حتىٰ أصبحَ كلُ واحد منهم كالجبل الأصم لا تهزه

__________________

(١) أصول الكافي للكليني : ج ٢ ، ص ٨٩ ، ح ٧ ، بحار الأنوار : ج ٦٨ ، ص ٧٢ ، ح ٤.

(٢) أصول الكافي للكليني : ج ٢ ، ص ٨٩ ، ح ٤ ، بحار الأنوار : ج ٦٨ ، ص ٨١ ، ح ١٧.

(٣) النظام التربوي في الإسلام : للقرشي ص ٢٨٣.

١٤٩

العواصف ومِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ الذي كُلما ازداد الموقف شدةً ازداد صبراً وإشراقةً.

يقول الأربلي : شجاعةُ الحسين عليه‌السلام يُضربُ بها المثل ، وَصبرُه في مأقط الحرب أعجزَ والاواخر الأوائلَ والأواخر(١).

وكما قيل : إن في بشاشة وَجه الرئيس أثراً كبيراً في قوُة آمال الأتباع ونشاط أعصابهم ، فكان أصحابه كلما نظروا إليه عليه‌السلام ازدادوا نَشاطاً وصمُوداً ، هَذا مع ما هو فيه ـ صلوات الله عليه ـ من البلاء العظيم والخطب الجسيم في ليلة لم تمر عليه بأعَظمَ منها ، حيث يرَى الأعداءَ قد اجتمعوا لقتاله وقتال أهل بيته ، وهو يَرىٰ أهلهَ يرقبونَ نزولَ البلاء العظيم مع ما هُم فيه من العطش الشديد ، بلا زادٍ ولا ماء حتىٰ ذَبُلت شِفاهُهُم وغارت عيونُهم ، وبُحّت أصواتهم ، وذعُرتْ أطفالهم ، وارتاعت قلوبهم ، في وَجَل شديد علىٰ فراق الأحبة وفقد الأعزة ، ومَنْ يرىٰ ذلك كيف لا ينهار ولا يضعُف ولا تقل عزيمته وهو يرىٰ ما يَبعثُ على الالم ويُحطِّم القُوىٰ !!

إلا أن الحسين عليه‌السلام الذي كان يَلحظ ذلك بعينه ، لا تجد أثراً من ذلك في نفسه بل كان يزدادُ صبراً وعزيمةً ، وتحمل تلك الأعباء الثقيلة ، وتسلح بالصبر على الأذىٰ في سبيل الله تعالىٰ وهو القائل : ومَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبرُ حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين (٢) فكان عليه‌السلام نعم الصابر المحتسب عند الله تعالىٰ.

وقد جاء في الزيارة عن الإمام الصادق عليه‌السلام : وصَبرتَ على الأذىٰ في جنبه

__________________

(١) كشف الغمة للإربلي : ج ٢ ص ٢٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٣٠.

١٥٠

محتسباً حتىٰ أتاك اليقين (١).

وناهيك تعجب ملائكة السماء من صبره كما جاء في الزيارة : وقد عجبت من صبرك ملائكةُ السموات (٢).

وكان يقول عليه‌السلام في أوقاتِ الشدة يوم عاشواء وهو متشحّط بدمه : صَبراً علىٰ قضائك يا رب لا إلهَ سِواكَ ، يا غِياثَ المستغيثين (٣) ما لي ربٌّ سواك ولا معبود غيرك صبراً علىٰ حكمك (٤) وناهيك عن موقفه المرير وهو يُشاهد مقتلَ رضيعه الصغير وهو يقول : اللهم صبراً واحتساباً فيك (٥).

وكيف لا يكونُ صابراً محتسباً وهو من الذين عناهم الله تعالىٰ في قوله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) (٦) وقوله : ( وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) (٧).

فالحسين عليه‌السلام شخصيةٌ منفردةٌ بجميع صفات الكمال ، وتجسدت فيه كلُ صور الأخلاق ، وقد أراد عليه‌السلام أن يضفي من كماله علىٰ أصحابه وأهل بيته بوصاياه لهم بالصبر الجميل ، وتوطين النفس ، واحتمال المكاره ، ليستعينوا بذلك في تحمُّل الأعباء ومكابدة الآلام ، وليحوزوا علىٰ منازل الصابرين وما أعَد اللهُ لهم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٨ ، ص ٢٩٣ و ج ٩٨ ، ص ٢٥٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٨ ، ص ٢٤٠.

(٣) أسرار الشهادة : ج ٣ ، ص ٦٨.

(٤) مقتل الحسين للمقرم : ص ٢٨٣.

(٥) معالي السبطين : ج ١ ، ص ٣٤٣.

(٦) سورة السجدة : الآية ٢٤.

(٧) سورة الإنسان : الآية ١٢.

١٥١

فأما أصحابه فقد أوصاهم عليه‌السلام مراراً بالصبر والتسلُّح به في مواجهة النوائب والمحن ، والصبر علىٰ حدِّ السيف وطعن الأسنَّة وعلىٰ أهوال الحرب.

وكما لا يخفىٰ أن هذا ليس بالأمر السهل إذ أن مواجهة ذلك يحتاج إلى التدرُّع بالصبر والحزم ، وعدم الجزع من أهوال المعركة والثبات عند القتال ، وعدم الاستسلام أو الانهزام ، فإذا ما تسلح المقاتل بالصبر كان في قمة المواجهة ، لا يبالي بما يلاقيه وما يتعرَّض إليه من ألم السنان وجرح الطعان.

ولذا نادى ـ صلوات الله عليه ـ فيمن تبعه من الناس ـ في بعض المنازل ـ قائلاً لهم : أيها الناسُ فمَنْ كان منكم يصبر على حدِّ السيف وطعن الأسنة فليقُمْ معنا وإلا فلينصرف عنَّا (١).

فإذا كان المقاتل لا صبر له علىٰ ذلك كيف يثبت في ساحة القتال حينما يرى أهوال المعركة إنّ هذا وأمثاله لا يؤمن منه الجزع ، فإما أن ينهزمَ أو يستسلم للأعداء.

وهنا لا ننسى تأكيد القرآنُ الكريم في هذا الجانب إذ حثّ المجاهدين في سبيل الله تعالى علىٰ التحلَّي بالصبر والثبات في ساحة القتال قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ) (٢) ، وقال تعالىٰ : ( إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (٣) ، وقال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

__________________

(١) ينابيع المودة : ص ٣٣٨ ، كلمات الإمام الحسين : ص ٣٤٨.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٢٠٠.

(٣) سورة الأنفال : الآية ٦٥.

١٥٢

لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١).

ومن الواضح أن نجد الحسين عليه‌السلام في هذه الليلة ـ استعداداً للمواجهة ـ أن يوصي أصحابه بذلك ويرغبهم في احتمال المكاره قائلاً لهم : فإن كنتُم قد وطأتم أنفسكم علىٰ قد وطّأتُ عليه نفسي ، فاعلمُوا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفةَ لعبادة باحتمال المكاره ، وإن الله وإن كان قد خَصَّني مع مَنْ مضىٰ من أهلي الذين أنا آخِرهُم بَقاءً في الدُنيا من الكرامات ، بما سَهّل معها علىٰ احتمال الكريهات ، فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدُنيا حُلوها مرٌ ، ومرُّها حُلوٌ ، والانتباه في الاخرة ، والفائزُ من فاز فيها والشقي من يشقىٰ فيها (٢).

الأمر الذي أثَّر في نفُوسهم وزاد في تَحمُّلهم ، حتىٰ أوقفهم علىٰ غامض القضاء ، وكَشف عن أبصارهم فرأوا منازلهم من الجنة وما حباهُم الله تعالىٰ من النعيم.

كما أوصاهم عليه‌السلام بهذا أيضاً ونحوه بعد ما صلَّىٰ بهم الغداةً قائلاً لهم : إن الله تعالىٰ أذنَ في قتلكم وقتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال (٣).

وكذلك لما رآهم وقد تناوشتهم السيوف وقف عليه‌السلام قائلاً لهم : صَبراً يا بَني عُمومتي صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتُم هَواناً بعد هذا اليوم أبداً (٤).

وكذا يوصي غلاماً له وقد قُطعت يده ، فضَمّهُ إليه قائلاً له : يا بن أخي اصبر

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٤٥.

(٢) أسرار الشهادة للدربندي : ج ٢ ، ص ٢٢٣.

(٣) كامل الزيارات لابن قولويه : ص ٧٣ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٨٦.

(٤) مقتل الحسين للخوارزمي : ج ٢ ، ص ٢٧ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٣٦.

١٥٣

علىٰ ما نَزلَ بك واحتسب في ذلك الخير (١).

وفي رواية أنه يقول عليه‌السلام بعد ما يُقتل طفله الرضيع ويضع كفيه تحتَ نحره : يا نفس اصبري ، واحتسبي فيما أصابَكِ (٢).

وأما أهل بيته وعياله فقد أوصاهم ـ صلوات الله عليه ـ غير مرة بالصبر والتقوىٰ وعدم الجزع ، وتحمل المتاعب في سبيل الله تعالىٰ والتوكل عليه ، والقيام بالمسئولية علىٰ أحسن حال.

ومن وصاياه لهم : ولا بدّ أن تروني على الثرىٰ جديلاً ، ولكن أُوصيكم بالصبر والتقوىٰ ، وذلك أخبر به جدكم ولا خُلف لوعده ، وأسلمُكم علىٰ من لو هتك الستر لم يستره أحد (٣).

ومن وصاياه أيضاً عليه‌السلام لأخته زينب عليها‌السلام وذلك حينما رآها وقد أثّر عليها ألمُ المُصاب وحرارةُ الفراق ، أوصاها قائلاً :

يا أختاه تعزي بعزاء الله وارضي بقضاء الله (٤).

يا أخية لا يذهبنَّ حلمَك الشيطان ...

يا أُخية اتقّي اللهَ وتعزّي بعزاءِ الله ، واعلمي أن أهل الأرض يَموتون وأن أهل السماء لا يبقون ، وأن كلَ شيء هالكٌ إلا وجْهَ اللهِ الذي خلقَ الأرض بقُدرتهِ ، ويبعث الخلقَ فيعودون وهو فردٌ وحدَه ، أبي خيرٌ مني وأمي خيرٌ مني وأخي خيرٌ مني ولي وَلهُم ولكل مُسلمٍ برسولِ الله أسوةٌ.

__________________

(١) وقعة الطف : ص ٢٥٤ ، الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢٤١.

(٢) تظلم الزهراء : ص ٢٠٣ ، معالي السبطين : ج ١ ، ص ٤٢٣.

(٣) أسرار الشهادة : ج ٢ ، ص ٢٢٢.

(٤) مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٣٨.

١٥٤

قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ ، وقال لها : يا أخيّةُ إني أقسمُ عليك فأبرِّي قسمي ، لا تشُقي عليَّ جَيباً ولا تخمشي عليَّ وَجهاً وَلا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت (١).

وفي رواية ثم قال عليه‌السلام : يا اُختاه يا أمَّ كلثوم وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب إذا أنا قُتلت فلا تَشققنَّ عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً (٢).

وقد أخذ عليه‌السلام في وصاياه يؤكد عليهنَّ بالصبر على الاحداث الأليمة ، والتجلد في المواقف الرهيبة والكوارث الأليمة ، وأن يتمالكن أنفسَهُنّ حين يَرينهُ صريعاً مُجدلاً.

وخصوصاً أخته زينب عليها‌السلام والتي حَمّلها مسؤليةَ حفظ الحرم والأطفال ، وقد أكّدَ عليها كثيراً بالصبر والتجلد لكي تقوم بالمسؤلية ، ولتؤدي وظيفتها علىٰ أحسن حال في حفظ ورعاية العيال والأطفال ، الذين ليس لهم مُحامٍ ومدافع سواها ، ولكي تُشاطرَهُ في مهمته ، ولئلا يَغلب عليها الأسىٰ في إبلاغ حجته ، وإتمام دعوته ، خصوصاً في المواقف الحرجة الأليمة في الكوفة والشام.

وَكلُّ هذا التأكيد عليها في وصاياه لها ( إعلامٌ لها بتحمُّل المسؤولية وأن تكون أمام الكوارث المقبلة كالجبل الأشم ، والصخرة الصماء ، تتكسر عليها كل عوامل الذلة والانكسار ، ولا تستولي عليها دوافع الضعف ، وعوامل الانهيار ، وأن تتأسّىٰ بجدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتتعزىٰ بعزاء الله.

إنه عبءٌ ثقيل في تحمُّل مسؤولية الكفاح المتواصل لربط الثورة بأهدافها

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٩ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٣٢.

(٢) اللهوف : ص ٣٦.

١٥٥

المتوقعة وعواملها المنتظرة ، وقد تجسّدت لها الحوادث بعد أن أطلعها الحسين علىٰ كثير من مهماتِها ، وَفتحَ أمامَها نوافذَ مهمة مَهّدَ لها طُرقَ التسلية عمّا تلاقيه فيها من بلاءٍ وما تصطدم بها من نكبات.

ولقد كانت علىٰ موعد مع هذا الحدث العظيم ، حدثتها اُمها فاطمة الزهراء عليها‌السلام وسمعت من أبيها علي عليه‌السلام ، ما يدل علىٰ وقوع ذلك ، وكما لمّح لها أخوها الحسن عليه‌السلام بآثار الفاجعة ، وصرّح لها الحسين عليه‌السلام بدنو ما كانت تخشاه ، وحلول ما كانت تتوقعه.

ولقد تحملت مسؤولية إتمام الرسالة التي قام بها الحسين عليه‌السلام فأوضحت للعالم عواملَ الثورة ، فنبّهت الغافل ، وفضحت تلك الدعايات المُضلِلة ، لقد مَثّلت زينب عليها‌السلام دورَ البطولة في ميدان الجهاد ، وثبتت أمام المحن والمكاره ، ثبوتَ الجبلِ أمامَ العواصف ، واحتسبت ما أصابها من بلاءٍ في جنب الله ، طلباً لمرضاته وجهاداً في سبيله ، وإعلاءً لكلمته ، لقد أدّت واجبها في ساعة المحنة ، فهي تسلي الثاكل وتُصبر الطفل ، وتُهدّئُ روعَ العائلة.

وانظر إلى موقفها كيف وقفت أمام مجتمع الكوفة فحملتهم مسؤولِيةَ هذه الجريمة الكبرىٰ ، ووسمتهُم بالذُلِ وألبستهم العار ، وكيف قابلت يزيد الماجن المستتر الطائش ، فأوضحت للملأ الحادَه وكفرَه ، وسلبتهُ مواهب التفكير ، فوقف أمام قوة الإيمان موقف ذلةٍ وانكسار ، فكان النصرُ حليفَها ولا زال إلى الأبد ) (١).

وتشاطرت هي والحسينُ بدعوةٍ

حتمَ القضاءُ عليهما أن يُندبا

هذا بمشتبك النصولِ وهذه

في حيث مُعترك المكاره في السبا (٢)

__________________

(١) مع الحسين في نهضته لأسد حيدر : ص ٢٠٢ بتصرف.

(٢) للعلامة المرحوم ميرزا محمد علي الأوردبادي نور الله ضريحه.

١٥٦

ج ـ لا إكراه علىٰ المناصرة

ومما اتّسمت به أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام في تعاملهم مع الآخرين أنهم لا يفرضون أنفسهم عليهم بالغلبة والقوة ، بل يتركون لهم حرية اتخاذ القرار بأنفسهم.

كما نجد هذا واضحاً في سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام مع أصحابه ومَنْ حوله ، فلم يقسر أحداً علىٰ موالاته ، أو علىٰ صحبته أو بيعته ، فإن هناك من تخلّف عن بيعته ، ولم يجبر أحداً منهم علىٰ ذلك ، ولم يمنعهم عطاءهم.

ناهيك عن موقف الزبير وطلحة تجاهه ـ وذلك حينما أرادا الانصرافَ عنهُ ، استأذناه في الذهاب إلى العُمرة ، مع علمه عليه‌السلام بما يضمراه له من سوءٍ ، فلم يمنعهما من الانصراف بل أذن لهما ، مع علمه أيضاً أنهما سوف يؤلّبان الناس عليه.

ولما خرجا قال عليه‌السلام لأصحابه : والله ما يريدان العمرة وإنما يريدان الغدرة (١) فتركهما وشأنهما فكانت مكافأتهما له عداوته وجر الناس إلى حربه.

وغيرهما ممن تركه وانصرف عنه كالذين انصرفوا عنه إلىٰ معاوية بن أبي سفيان في جنح الليل ، وقد كان قادراً علىٰ منعهم وردهم إلا أنه ترك لهم حرية الرأي وتحديد المصير ، وإن كان علىٰ خلاف ما يريد ويهوىٰ ما لم يستلزم من ذلك محذوراً آخر يقتضي خلاف ذلك.

نعم لا ينافي هذا أنهم عليهم‌السلام يُرشدون أمثال هؤلاء إلىٰ طريق الحق ، كما لا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٢ ، ص ٢٥ ، ح ٨ ، ب ١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١ ، ص ٢٣٢.

١٥٧

يدّخرون وسعاً في إيقاظهم وتوعيتهم وهدايتهم ، إن كان هؤلاء أهلاً لذلك ، وإلاّ خلوا بينهم وبين أنفسهم ، وهذا علىٰ خلاف ما جرت به سيرة الكثير من الذين يرغَموا الآخرين ـ وإن لم يقتنعوا بهم ـ على الانضواء في صفوفهم وفي حمايتهم ، بالقَسر والغلبة مما يؤدي بهم إلى الانخراط قهراً تحت سيطرتهم والدفاع عنهم خوفاً من بطشهم وجبروتهم ، وإذا ما دافعوا عنهم تعَرضوا حتماً للأذىٰ والبطش ، وإذا ما واجهوا الحرب فلا خيار لهم غيرها ، ولذا غالباً أمثالُ هؤلاء يقاتلون بالجبر والأكراه وليس عن قناعة من أنفسهم.

وأما إذا جئت تستوحي عظمة الأخلاق وسمو الرفعة والنبل في موقف الحسين عليه‌السلام مع أصحابه وأتباعه تجده مثالاً فريداً من نوعه في كيفية التعامل معهم ، فقد التحق بركبه كثيرٌ من الناس وهو في مسيره إلىٰ كربلاء إلا أنه كان يطلعهم علىٰ حقيقة الأمر فمن شاء التحق به ومن شاء انصرف عنه غير مُكرهٍ لأحد منهم علىٰ مناصرته واللحوق به.

كما أكَّد بهذا ونحوه علىٰ أصحاب الإبل حينما مَر عليهم بالتنعيم (١) قائلاً لهم : لا أكرِهُكُم ، مَنْ أحبَّ أنْ يمضي معنا إلى العراق أو فينا كراءَهُ وأحسنّا صحبتَهُ ، ومَنْ أحَبَّ أن يُفارقنا من مكاننا هذا أعطيناهُ من الكراءِ علىٰ قَدْر ما قطع من الأرض (٢).

__________________

(١) التنعيم : موضعٌ بمكة خارج الحرم ، هو أدنى الحلّ إليها ، على طريق المدينة ، منه يحرم المكيُّون بالعُمْرة ، به مساجدُ مبنية بين سرف ومكة. مراصد الأطلاع : ج ١ ، ص ٢٧٧.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٢٩٠ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢١٩ ، اللهوف : ص ٣٠ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٦٧.

١٥٨

وفي ليلة عاشوراء بعد ما خَيّمَ الليلُ وأرخىٰ سترَهُ ، حيثُ إن الليل ستير ، والسبيل غير خطير ، يقف عليه‌السلام خاطباً في أصحابه آذنا لهم بالتفرق والأنصراف عنه ، في وقت يتطلب الناصر والمُعين ، قائلاً لهم : ألا وإني قد أذنت لكم ، فانطلِقُوا جميعاً في حِلٍّ ليسَ عليكُم حرجٌ مني ولا ذِمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي ، وتفرقوا في سوادكم ، ومدائنكم حتىٰ يُفرّج الله فإِن القومَ إنما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري (١) وفي رواية أخرى قال لهم : وأنتم في حلٍّ وسعةٍ من بيعتي وعهدي الَّذي عاهدتموني(٢).

الأمر الذي يدل علىٰ عدم إكراهه عليه‌السلام لأحدٍ منهم علىٰ مناصرته.

وقد أكد هذا الأمر أيضاً للحضرمي حينما سمعَ أن ابنه اُسر في ثغر الري قال له عليه‌السلام رحمك الله ، أنت في حل من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك (٣) ؟!

هذا ولم يُبدِ عليه‌السلام لهم وحشتَه وانكساره فيما لو تفرقوا عنه ، بل أكد عليهم أن انصرافهم عنه ليلاً أسهل منه نهاراً ، وذلك للاختفاء عن الأنظار بعكس النهار الذي قد لا يأمن فيه الهارب من الطلب.

ولذا قال عليه‌السلام كما في بعض الروايات : فالليل ستير والسبيلُ غير خطير ، والوقت ليس بهجير ... (٤).

والحسين عليه‌السلام على الرغم من إبلاغ أصحابه بذلك وتركه الأمر لهم ، إلا أنه أخذ يؤكد عليهم في ذلك مِراراً ، كما حصل هذا مع نافع بن هلال ، وذلك حينما تبع

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٧ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٣١.

(٢) موسوعة كلمات الإمام الحسين : ص ٤٠١.

(٣) أسرار الشهادة : ج ٢ ، ص ٢١٩ ، اللهوف : ص ٤٠ بحار الأنوار : ج ٤ ، ص ٣٩٢.

(٤) الدمعة الساكبة : ج ٤ ، ص ٢٧١.

١٥٩

الحسين عليه‌السلام لما خرج في جوف الليل يتفقد التلاع والعقبات ، فلما رآهُ قال له عليه‌السلام : ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ... (١).

الأمر الذي يدل علىٰ تأكيده لهم وعدم خصه أحداً بالبقاء معه ، بل خاطبهم جميعاً بما فيهم الصغير والكبير والعبد والحر حتىٰ نساءهم.

وقد وجدناه عليه‌السلام يومَ العاشر عند اشتداد الأمر ، وهو يطلق العنان لواحد منهم ، وقد أحلّه من بيعته وهو : الضحاك المشرقي الذي تعهد للحسين عليه‌السلام بالدفاع عنه ما رأىٰ معه مقاتلاً ، ولما بقي عليه‌السلام وحده ، قال للإمام : يا بن رسول الله قد علمت أني ما كان بيني وبينك ، قلتُ لك أقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حلّ من الانصراف ؟ فقلتَ لي نعم.

فقال له عليه‌السلام : صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت علىٰ ذلك فأنت في حلٍّ.

فأخرج فرسه من الفسطاط وركبه وهرب ونجا بنفسه (٢).

وهذا الموقف النبيل في تعامل الحسين عليه‌السلام مع أصحابه لا تجده في سائر المعسكرات الأخرىٰ والتي قد يُتناسىٰ فيها العهود والمواثيق.

فلم يجبر الحسين عليه‌السلام أحداً من أصحابه علىٰ نصرته والدفاع عنه ، بل ترك الأمر لهم وباختيارهم ، وهذا في الواقع ما زاد في عزيمتهم وجعلهم يقاتلون بمحض إرادتهم عن عزيمة صادقة.

وكم هو فرق بين أن يقاتل المقاتل في المعركة عن رغبة وشوقٍ وبين أن يقاتل مُكرَهاً علىٰ ذلك ، أو من أجل المطامع الدنيوية التي هي منتهى الزوال والاضمحلال.

__________________

(١) معالي السبطين : ج ١ ، ص ٣٤٤ ، الدمعة الساكبة : ج ٤ ، ص ٢٧٣.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٣٩.

١٦٠