ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وقوله تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) (١).

والجدير بالذكر انه جاء في زيارة على بن الحسين عليهما‌السلام : أشهد أنّك من ال‍ ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) ، وتلك منزلةُ كلّ شهيدٍ فكيف منزلة الحبيب إلى الله ، القريب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

فهذا ما كان عليه أهل بيت الحسين عليه‌السلام وأصحابه من الاستبشار والفرح بالشهادة في سبيل الله تعالى ، ولا غروان تتَنزّل عليهم الملائكة وتبشرهم وتطمئنهم ( أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ، وحسبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الليلة أن يكون هو المبشر بهذا لولده الحسين عليه‌السلام باستبشار الملائكة به.

فقد جاء في الرواية أن الحسين عليه‌السلام لما خفق خفقة في سحر ليلة العاشر رأىٰ جده صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له : يا بُني أنت شهيدُ آلِ محمدٍ ، وقد استبشرَ بكَ أهلُ السماوات وأهلُ الصفيح الأعلىٰ ، فليكن إفطارُك عندي الليلة عجل ولا تُؤخر ، هذا مَلكٌ قد نزل من السماءِ ليأخذ دَمَكَ في قارورة خضراء ..(٤).

الأمر الذي يدل علىٰ استبشار الملائكة وأهل الفصيح الأعلىٰ بلقاء

__________________

(١) سورة فصلت الآية : ٣٠.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٧٠.

(٣) بحار الأنوار : ج ٩٨ ص ٢٤٢.

(٤) بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٣ ، الفتوح لابن الأعثم : ج ٢ ، ص ١٥٣.

١٢١

الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، كما استبشر هو أيضاً بهذا اللقاء والذي ما فتىء يَحنو إليه واعتبر يوم يلقاه سعادة كما أشار إلى هذا في قوله عليه‌السلام : إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما (١).

وهو القائل عليه‌السلام :

وإن تكن الأبدان للموت اُنشئت

فَقتلُ امرئٍ بالسيف في الله أفضل (٢)

فالقتل في سبيل الله عنده سعادة ، والاستشهاد بالسيف أفضل ، إذا كان في ذلك نصرٌ لدينه ، وإحياءٌ لأمره ، وحفظٌ لشرعه ، فكان حقيقاً به عليه‌السلام أن يبتهج ويشرق وجهُهُ استبشاراً بلقاء الله بنفس مطمئنة غير وجلة ، وهو القائل : لست أخاف الموت ، إن نفسي لأبكر وهمتي لأعلىٰ من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت ، وهل تقدرون علىٰ أكثر من قتلي ، مرحباً بالقتل في سبيل الله (٣).

يقول السيد حيدر الحلي ـ عليه الرحمة ـ :

وسامته يركب إحدىٰ اثنتين

وقد صرَّت الحرب أسنانها

فأمّا يُرىٰ مذعناً أو تموت

نفسٌ أبى العزُّ اذعانها

فقال لها اعتصمي بالإبا

فنفس الأبيّ وما زانها

إذا لم تجد غير لبس الهوان

فبالموت تنزع جثمانها

رأى القتل صبراً شعار الكرام

وفخراً يُزين لها شأنها (٣)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٢٣ ، مقتل الحسين للمقرم : ص ١٨٠.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) ديوان السيد حيدر الحلي ج ١ ص ١٠٩ ، رياض المدح والرثاء : ص ٦١.

١٢٢

فكان عليه‌السلام أربط جأشاً مع كل ما جرى عليه غير مكترث بعدتهم وعديدهم وقد انعكس هذا الأمر على أصحابه فكانوا غير مكترثين بما يجري عليهم ، مع علمهم بمصيرهم المهول ، إذ استقبلوه بشجاعةٍ فائقة ، لا يوجد فيها تخاذل أو تردّد بل على العكس هُم في عَدّ السويعات القليلة ، مع رجاء انقضائها وبزوغ شمس الجهاد والتضحية ، وفلق هام رؤوس الأشرار ، مع السرور والحبور وملاقاة الحور بشراء النفس ابتغاء مرضات الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف لا يكونون أشد الناس فرحاً وهم يَبلغون مَبلغَ الفتح العظيم ، ويستقبلون اعظم شهادة مقدسة عرفها التاريخ ، كما أشار إلى هذا سيد شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ في كتابه إلىٰ بني هاشم : فإن من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلف عني لم يبلغُ مبلغ الفتح ... (١).

وكما لا يخفى أن من آثار الفتح الفرح والاستبشار عند الفاتح ، ولعل إلىٰ هذا أشار سلمان الفارسي ـ رضوان الله عليه ـ في حديثه مع زهير بن القين ، وقد حدث به أصحابه لما التحق الأخير بركب الحسين عليه‌السلام قائلاً لهم : من أحب منكم ان يَتْبعني وإلا فهو آخر العهد.

إني سأحدثكم حديثاً ، إنا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال سلمان الفارسي ـ رحمة الله عليه ـ : أفرحتم بما فتَح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟! قلنا : نعم ، فقال : إذا أدركتم سيدَ شباب آل محمد فكونوا أشدَ فرحاً بقتالكم معهم مما أصبتم اليوم من الغنائم ... (٢).

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس : ص ٢٨ ، المناقب لابن شهر آشوب : ج ٤ ، ص ٧٦ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٣٠ ، وج ٤٥ ص ٨٥.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢٢١ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ٣٧٢ ، تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٢٩٩.

١٢٣

وهذا ما كانوا عليه ـ صلوات الله عليهم ـ إذ أخذ كل منهم يداعب الآخر ويضاحكه استبشاراً منهم بالشهادة والتي سوف يحققونها عملياً على صعيد ذلك التراب الطاهر.

وهذا في الواقع يُمثل قمة الشجاعة والصمود حيث أنهم في ساعاتهم الأخيرة ، غير مكترثين بالأعداء ، ومواقفهم ليلة العاشر تَشهد علىٰ ذلك والتي منها : موقف برير مع عبد الرحمن لما أخذ يهازله ويضاحكه إقال له عبد الرحمن : دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل ؟ قال له برير : والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً ، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون ، والله إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ، ولو وددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم !! (١).

وموقف حبيب بن مظاهر مع يزيد بن الحصين الهمداني ، حينما رأى يزيدُ حبيبَ خارجاً يضحك !!

فقال له : ما هذه ساعة ضحك ؟!

فقال حبيب له : فأي موضع أحق مِنْ هذا السرور ؟ والله ما هو إلا أن يميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين (٢).

وكذلك أيضا موقف نافع بن هلال ـ رضي الله عليه ـ الذي قضىٰ شطرَ ليله في كتابة اسمه علىٰ سهام نبله إمعاناً في طلبه المثوبة والأجر ، وإمعاناً في السخرية من

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٢١ ، اللهوف : ص ٤١.

(٢) إختيار معرفة الرجال للطوسي : ج ١ ص ٢٩٣.

١٢٤

الخطر ، وإمعاناً في الترحيب بالموت (١).

فكانوا حقاً كما قال فيهم الحسين عليه‌السلام : فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس ، يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه (٢).

وهذا ما استأثر بعناية بالغة عند شعراء وأدباء الطف إذ صوّروا ما كان عليه أصحاب الحسين عليه‌السلام من التفوق والروح المعنوية العالية ، واستبشارهم وفرحهم بالشهادة ، يقول السيد رضا الهندي ـ عليه الرحمة ـ :

يتمايلون كأنما غنّىٰ لهم

وَقعُ الظّبىٰ وسقاهُمُ أكوابا

وكأنَّهم مستقتبلونَ كواعباً

مستقبلين أسنةً وكعابا

وجدوا الردىٰ من دون آل محمد

عَذباً وبعدَهُم الحياة عذاباً (٢)

وقال أيضاً :

أدركوا بالحسين أكبر عيد

فغدوا في منى الطفوف أضاحي (٤)

ويقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ـ نور الله ضريحه ـ :

وبأسرة من آل أحمد فتتية

صينت ببذل نفوسها فتياتها

يتضاحكون إلى المنون كأنَّ في

راحاتها قد أُترعت راحاتها

وترى الصَّهيل مع الصَّليل كأنَّه

فيهم قيانٌ رجِّعت نغماتها

وكأنَّما سمر الرماح معاطفٌ

فتمايلت لعناقها قاماتها

__________________

(١) الدوافع الذاتية لأنصار الحسين لعابدين : ص ٢٣١.

(٢) الدمعة الساكبة : ج ٤ ، ص ٢٧٣ ، مقتل الحسين للمقرم : ص ٢١٩.

(٣) رياض المدح والرثاء : ص ٩٥.

(٤) رياض المدح والرثاء : ص ٩٧.

١٢٥

وكأنما بيض الظّبي بيض الدّمىٰ

ضمنت لمى رشفاتها شفراتها

وكأنَّما حمر النصول أنامل

قد خضَّبتها عَنْدَماً كاساتها (١)

ويقول السيد محمد حسين الكيشوان : عليه الرحمة ـ في وصفه لهم عليهما‌السلام :

تجري الطَّلاقة في بهاء وجوهِهم

إن قطَّبت فَرَقاً وجوهُ كُماتها

وتطلَّعت بدجى القتام أهلَّة

لكن ظهور الخيل من هالاتها

فتدافعت مشي النزيف إلى الردىٰ

حتّىٰ كأنَّ الموت من نشواتها

وتعانقت هي والسّيوف وبعدذا

ملكت عناق الحور في جناتها

وقال شاعر آخر :

ومُذ أخذت في نينوىٰ منهم النوىٰ

ولاح بها للغدر بعض العلائم

غداً ضاحكاً هذا وذا مُتبسّماً

سروراً وما ثغرُ المنون بباسم (١)

وبهذه الروح المعنوية العالية انتصروا وحققوا ما كانوا يصبون إليه وما يهدفونه ، مع قلتهم وكثرةِ عدوهم الذي كان يفقد الروح المعنوية في مواجهة الحرب إذ كانوا مدفوعين بالقوة لا هدف لهم سوى الباطل. فأخذوا يرقبون الحربَ وهم علىٰ خوف ووجل ، بخلاف ما كان عليه أصحاب الحسين عليه‌السلام الذين باتوا في أبهج حالة وأربط جأش مطمئنّين بما يجري عليهم ، فكانوا كلما اشتد الموقف حراجة أعقب فيهم انشراحاً وسروراً.

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم : ص ٣٨١.

(٢) نفس المصدر : ص ٢١٦.

١٢٦

١٢٧
١٢٨

قيل إن من آثار المحبة ولوازمها الشوق والاُنس في الخلوة مع المحبوب ، ولذة مناجاته ، كما أن من شأن المُحب أن يؤثر مراد محبوبه علىٰ مراده.

ولذا كان من شأن المُحب (١) للخالق تعالىٰ عدم الغفلة عن عبادته وذكره في كل أحواله ( إذ من أحب شيئاً أكثر ضرورةً ذكرَه وذكر ما يتعلق به ، فمحب الله لا يخلو عن ذكر الله وذكر رسوله وذكر القرآن وتلاوته ، لأنه كلامه ، ويكون محباً للخلوة ليتفرد بذكره وبمناجاته ، ويكون له كمالُ الأنس والالتذاذ بمناجاته ، وفي أخبار داوود : كَذبَ من ادعىٰ محبتي وإذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب لقاءَ حبيبه ، فها أنا ذا موجود لمن طلبني ) (٢).

وكذا أيضاً من آثار المحبة للخالق عزوجل عدم الصبر على فراقه والبعد عنه ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في دعاء كميل : فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت علىٰ عذابك ، فكيف أصبرُ علىٰ فراقك ، وكما جاء أيضاً في مناجاة الإمام زين العابدين عليه‌السلام : وغلتي لا يُبردها إلا وصلُك ، ولوعتي لا يطفيها إلا لقاؤُك ، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلىٰ وجهك ، وقراري لا يقر دون دنوي منك (٣).

ومن شأن العبد المُحب أيضاً الإحساس والشعور دائماً بالتقصير نحو الخالق تعالىٰ مهما كثرت عبادته وطالت مناجاته ، جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

__________________

(١) كما لا يخفى أن محبة الله تعالىٰ تتفاوت من شخص لآخر حسب الإيمان ! وان كانوا مشتركين جميعهم في أصل المحبة باعتبارهم مؤمنين به تعالىٰ ، فعلىٰ هذا يترتب على المحبة شدةً أو ضعفاً آثار ولوازم.

(٢) جامع السعادات للنراقي : ج ٣ ، ص ١٧٦.

(٣) جامع السعادات : ج ٣ ، ص ١٥٤.

١٢٩

إلهي قد تقشّع الظلامُ ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حياض مُناجاتك صدراً (١).

الأمر الذي يدل على الشوق والأنس بمناجاة الخالق ، والرغبة الأكيدة في الاستمرار في عبادته بلا انقطاع بدون ملل ولا سأم عند اوليائه ، كل ذلك حُباً فيه (٢) وتعظيماً له واعترافاً له بالعبودية والتي سمتها الخشوع والخضوع ، جاء في دعاء الحسين عليه‌السلام يوم عرفة : وَأقمني بصدق العُبوديَّة بين يدَيكَ.

إنه الموقف الصادق في سلوك أهل بيت العصمة عليهم‌السلام والذي يُمثل أعلىٰ مراتب الانقياد والطاعة والخشوع بين يدي المولىٰ ، والإقرار بمقام العبودية والإذعان له تعالىٰ ، فلا يأنسون إلا بذكره ، ولا تبرد غلتهم إلا بوصله ، ولا تنطفئ لوعتهم الا بلقائه ، فإذا ما سدل الليلُ ستَره ، ونامت العيون ، أخذوا في مناجاة الخالق بالعبادة في بُكاءٍ وخشوعٍ لا يشغلهم شاغلٌ عمّاهُم عليه من التوجه إلى الباري تعالىٰ ، فكانوا كما قال عنهم تعالى : ( كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (٣) وقال تعالى : ( تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٦ ، ص ٤٠.

(٢) وهذه العبادة أفضل العبادات ، وهي التي تسمى بعبادة الأحرار ، روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنَّ العبادة ثلاثة : قومٌ عبدوا الله ( عزّوجل ) خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالىٰ طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقومٌ عبدوا الله ( عزّوجلّ ) حبّاً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة. بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص ٢٥٥.

(٣) سورة الذاريات : الآية ١٧ و ١٨.

(٤) سورة السجدة : الآية ١٦.

١٣٠

وإذا ما راجعنا سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام في خصوص هذا الأمر ، وجدناه عليه‌السلام إذا ما جنّ عليه الليل خرج يبحث عن مكان يخلو فيه مع ربه ، كما شهدت له بُعيلاتُ النخيلِ بذلك ، وليلةُ الهرير ، وهو بين السهام والرماح ، ولم يثنه ذلك عن مناجاة الخالق تعالى.

وعلىٰ هذا المنهج سار أولادُه الطاهرون عليهم‌السلام وإنك لتجد ذلك واضحاً في سيرتهم كجزء من حياتهم لا ينفك عنهم ولا يبتغون غيره ولا يأنسون إلا به ، فهذا سيدُ شباب أهل الجنة الحسين عليه‌السلام يَحكي سيرةَ أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام وَما كان عليه حالهُ في العبادة كَماً وكيفاً.

أما كمّاً ، فناهيك عمّا حَدّثَ به من هو أعرف الناس به والمُطلع علىٰ شؤونه وأسرار حياته ، ولدُه زينُ العابدين وسيدُ الساجدين عليه‌السلام لمَّا قيل له : ما أقلَ ولد أبيك ؟!

قال عليه‌السلام : العجبُ كيف ولدتُ له !! كان يصلي في اليوم والليلة ألفَ ركعة ، فمتىٰ كان يتفرغ للنساء (١).

وأما كيفاً ، فناهيك عمّا يعتريه إذا حضرته الصلاةُ من شدة الخوف ، فيتغير لونُه وترتعد مفاصلهُ ، فقيلَ له في ذلك ؟! فقال عليه‌السلام حقٌ لمؤمن يقف بين يدي المَلكِ القهار أن يَصفّرَ لونُه وترتعدُ مفاصلُه (٢).

وقد تعجب الناسُ الذين شاهدوا حالتَه من شدة خوفه فقالوا له : ما أعظم

__________________

(١) العقد الفريد للأندلسي : ج ٤ ، ص ٣٨٤.

(٢) العوالم ( الأمام الحسين ) للبحراني : ج ١٧ ، ص ٦١ ، الخصائص الحسينية للتستري : ص ٤٥.

١٣١

خوفك من ربك ؟! فقال عليه‌السلام : لا يأمن يومَ القيامة إلا من خاف الله في الدنيا (١).

فهكذا كان حاله عليه‌السلام إذا حضرته الصلاة ، وقام بين يدي الله تعالىٰ وكأنه انتقل إلىٰ عالم آخر ، فلا يشعر بمن حوله ، وناهيك عن صلاته يوم العاشر وهو بين الأسنة والرماح وقد أحاط به الأعداء فلم يكترث بهم ولم يشغله ذلك عن مُناجاة الله تعالى ، الأمر الذي يدل علىٰ ارتباطه الشديد الوثيق بالخالق تعالىٰ ، والذي ما انفك عنه مذ خلقه الله تعالىٰ نوراً في الأنوار

ومهلِّلين مكبرين وآدم

من مائه والطين لن يتركبا

وقد كان عليه‌السلام في بطن أُمه ـ صلوات الله عليها ـ وكانت تسمع منه الذكر والتسبيح (٢).

وأما التلاوة فكان يتلو كتاب الله آناءَ الليل وأطراف النهار وقد رُفع رأسُه على الرمح وسُمع منه الذكر وقراءة القرآن فقد روي عن زيد بن أرقم انه قال : مُرَّ به عليَّ وهو علىٰ رمح ، وأنا في غرفة لي فلما حاذاني سمعته يقرأ : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) (٣) فوقف والله شعري وناديت رأسك والله يا بن رسول الله أعجب وأعجب (٤).

وأما الدعاء فلم يبارح شفتيه وناهيك عن أدعيته في السراء والضراء وفي الأماكن المقدسة كدعاء عرفة وغيره وكأدعيته في ليلة عاشوراء ويومها إلىٰ أن

__________________

(١) مناقب آل ابي طالب : ج ٤ ، ص ٦٩ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ١٩٢.

(٢) الخرائج والجرائح للراوندي : ج ٢ ، ص ٨٤٤ ، بحار الأنوار : ج ٤٣ ، ص ٢٧٣.

(٣) سور الكهف : الآية ٩.

(٤) الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢٤٥.

١٣٢

غمضت عينه ولسانه لهجٌ بذكره تعالىٰ.

هذا ما كان عليه عليه‌السلام في العبادة والذكر والمناجاة ولأجل هذا استمهل عليه‌السلام القومَ ليلة عاشوراء التي هي آخر ليلة من عمره الشريف فأراد أن تكون كسائر لياليه الماضية ، وليتزوّد فيها من العبادة بالصلاة والاستغفار والدعاءِ وقراءة القرآن.

وقد أفصح عليه‌السلام بهذا حين قال لأخيه العباس عليه‌السلام عصر تاسوعاء : فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عند العشية ، لعلنا نصلي لربِّنا الليلة وندعوه ونستغفر له ، فهو يعلم أني قد كنت أُحب الصلاة له ، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار (١).

فجعل هذه الليلة العظيمة ليلة توديع وتزود من العبادة والمناجاة ، فبات ـ صلوات الله عليه ـ وأصحابه ولهم دوي كدويِّ النحل ، ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، حتى الصباح فكانت ليلة عبادة ومناجاة كما أرادها عليه‌السلام.

قال أحد الشعراء :

قال امهلونا يا طغاة إلىٰ غدٍ

وغداً سَيحكُم بيننا الصمصامُ

ودعوا سواد الليل أن يَلقىٰ بنا

قوماً بحبُ صلاتِهم قد هاموا

والله يعلم أن سبط محمدٍ

ما راعهُ كرُّ ولا إقدامُ

لكنه يهوى الصلاةَ لربه

ولهُ بها رَغم الخطوب غرامُ (٢)

وقال آخر :

خَيّمَ الليلُ فالعبادة وهجٌ

يتمنىٰ ألا يضيءَ الصديعُ

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٦ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٩٢.

(٢) كربلاء ( ملحمة أدبية ) : للعسيلي ص ٢٨٩.

١٣٣

لا لأنّ الرحيل صعبٌ ولكن

عشقَ النسكَ فالفراق مروعُ

حيث لو خيروه بين جنانٍ

أو رجوع لها لقال : الرجوعُ

الأمر الذي يدل علىٰ تفانيه في العبادة ، وعشقه وتعلقه بالصلاة ، والمحافظة عليها ، والاهتمام بها مهما بلغ به الحال وكانت الظروف فلا يشغله شيءٌ عن ذلك حتى لو اجتمعت عليه الإنس والجن (١).

مع أنه مَنْ كان في مثل موقفه الرهيب كيف يتسنىٰ له أن يفرغ نفسه للعبادة ، وهو في ليلة حرب وقتال مع علمه بما يجري عليه وعلىٰ أهل بيته ؟ وأيُّ قلب يحمل مثل هذه الهموم يكون فارغاً للعبادة ويتعلق بالخالق مع تراكم الأحداث الأليمة وتعرضه للقتل والتشريد ، مع أن العبادة تحتاج إلى فراغ القلب وعدم الانشغال وراحة البال لتصفو له المناجاة مع الخالق.

ومع هذا كله نجد سيد شباب أهل الجنة عليه‌السلام وبما اعتراه من المصائب والآلام يتوجه للعبادة ويفرغ نفسه لها وكأنه لم يحدث شيء من ذلك ، وهذا غاية التفاني في الله تعالىٰ والتعلق به والإخلاص إليه !.

ويذكرنا ـ صلوات الله عليه ـ بهذا أن الصلاة لا تُترك بحال من الأحوال ، لأنها الصلة والرابطة بين الخالق تعالىٰ والمخلوق فهي ربيع القلوب ، وشرف المؤمن ، وعمود الدين ، وروح العبادة ، وأول ما يُسأل عنها العبد يوم القيامة ، وهذا بعض ما يُستفاد من دروس ليلة الطف الخالدة.

__________________

(١) روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عُسرٍ أم على يُسرٍ. سفينة البحار : ج ٦ ، ٢٧١.

١٣٤

والجدير بالذكر أنّ هذه الليلة العظيمة من الليالي التي ينبغي إحياؤها بالعبادة وعدم إغفالها ، فقد جاء في الحديث المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عبد الله عبادة جميع الملائكة ، وأجر العامل فيها كأجر سبعين سنة (١).

وروي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إن استطعت أن تحافظ علىٰ ليلة الفطر ، وليلة النحر ، وأول ليلة من المحرم ، وليلة عاشوراء ، وأول ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، فافعل وأكثر فيهن من الدعاء والصلاة وتلاوة القرآن (٢).

فعلىٰ هذا تُعدُّ ليلةُ عاشوراء من الليالي العبادية والتي ينبغي إحياؤها ، وهذا بلا شك يلحظه أهلُ البيت ـ صلوات الله عليهم ـ.

فكانت هذه الليلة الشريفة ـ ليلةُ الدعاء والعبادة ـ مع موعد لتتزامن فيه مع السبط الشهيد عليه‌السلام في مواقفه البطولية الرائدة ، لتكتنف في طياتها ما يمليه عليها ، وما يتركه من بصمات فيها ، ولتشهد الحدث والموقف ـ على تراب كربلاء الطاهر الذي شهد بعضاً منهما في السابق من مواقف بعض الأنبياء (٣) عليهم‌السلام لتمليهما على الأجيال في كل زمان ومكان ، وتزيل بهما الحجب والأستار عن وجه الحق.

__________________

(١) الإقبال لابن طاووس : ج ٣ ، ص ٤٥.

(٢) مصباح المتهجد للطوسي : ص ٧٨٣.

(٣) روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : خرج علي عليه‌السلام يسير بالناس حتى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتى طاف بمكان يقال له المقذفان ، فقال قُتل فيها مائتا نبي ومائتا سبط كلّهم شهداء ، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من جاء بعدهم.

بحار الأنوار : ج ٤١ ، ص ٢٩٥ ،ح ١٨.

١٣٥

فكان مما شهدته هذه الليلة العظيمة ، هو ذلك العروج الملكوتي والارتباط الروحي مع عالمَ الغيب ، وذلك حينما قام سيد شباب أهل الجنة عليه‌السلام مع أصحابه بين يدي الخالق منقطعين إليه تعالىٰ بين راكع وساجدٍ ، وقارئ للقرآن ، ولهم دويٌ كدوي النحل ، فتراهم خُشعاً أبصارهم ، وقد كَستهم العبادة أنواراً إلهية ، فكان لها الأثر الكبير في تهذيب نفوسهم وشَحذ قلوبِهم وصقلها فتسلحوا بها علىٰ أعدائهم ، وحققوا بها أكبرَ انتصارٍ عرفهُ التاريخ.

يقول الشاعر :

ودويٌ كالنحل في صلوات

لو أتوها على الوجود لزالا

يَشحذون الفؤاد كي لا يهالا

حين ترتجُّ أرضُها زلزالا

وما أحقهم بوصف من قال :

لله قومٌ إذا ما الليلُ جنّهمُ

قاموا مِنَ الفُرش للرحمٰن عُبّادا

ويركبون مطايا لا تملّهمُ

إذا هُم بمنادي الصّبح قد نادى

همُ إذا ما بياض الصبح لاح لهمْ

قالوا من الشوق ليت الليل قد عادا

همُ المُطيعون في الدنيا لسيّدهم

وفي القيامة سادوا كلّ مَنْ سادا

الأرضُ تبكي عليهم حين تفقدهم

لأنّهم جُعلِوا للأرضِ أوتادا (١)

وقد كان لعبادتهم أيضاً أثر كبير في نفوس آخرين ، فقد اهتدىٰ بهم ـ كما في الرواية (٢) ـ اثنان وثلاثون رجلاً من معسكر بن زياد إذ عبروا إليهم ، وقد كانوا بالقُرب من خيامِهم ، وذلك لمَّا استوقفتهم تلك الأصوات الرخيمة التي كانت تعلو

__________________

(١) سفينة البحار للقمي : ج ٥ ، ص ٤٥.

(٢) اللهوف : ص ٤١.

١٣٦

خيام الحسين عليه‌السلام بهمهمة التسبيح وتلاوة القرآن ، فجذبت قلوبَهم ورأوا أنفسهم يتحركون نحوهم حتىٰ انضموا إلىٰ ركبهم ، وهذا خيرُ دليل علىٰ صِدق عبادتِهم وطهارة نفوسِهم وإخلاصهم لله تعالىٰ.

هذا وقد أمضوا ليلتهم هذه حتى الصباح في عبادة وخشوع ، ومِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ وهو يرتّلُ القرآنَ ترتيلاً ، وقد أحدقوا به يَستمدون من إشعاعاتهِ النورانية ما يهيئهم للقاء الله تعالىٰ ، وقد انعكس حاله وما كان عليه من المناجاة على حالهم ، فأقبلوا معه يتضرعون إلى الله تعالىٰ ويستغفرونه ويتلون كتابه ، فكانت عبادة بحق خالصة لوجهه الكريم ، ولهذا زادتهم صموداً واستعداداً في مواجهة الطغيان والتحدي.

ليس في القارئين مثلُ حسينٍ

عالماً بالجواهر الغاليات

فهو يدري خلف السطور سطوراً

ليس كلُ الاعجاز في الكلمات

للبيان العُلويّ في أنفس الأطهار

مسرى يفوقُ مسرى اللُغات

وهو وقفٌ على البصيرة ، فالأبصار

تَعشو ، في الأنجم الباهرات

يَقذفُ البحرُ للشواطئ رَملاً

واللآلي تغوصُ في اللُّجات

والمصلون في التلاوة أشباهٌ

وإن الفروقَ بالنيات

فالمناجاةُ شعلةٌ من فؤادٍ

صادقِ الحسّ مرهف الخلجات

فإذا لم تكن سوىٰ رجع قول

فهي لهوُ الشفاه بالتمتمات

إنما الساجد المصلي حسينٌ

طاهرُ الذيلِ طَيّبُ النفحات (١)

__________________

(١) عيد الغدير لبولس سلامه : ص ٢٦٢.

١٣٧
١٣٨

١٣٩
١٤٠