بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-272-3
الصفحات: ٤٥٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

التي اعتبرتها الدولة العباسية منافية لقوانينها. والمعروف انّه توجه إلى « سلَمية » ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة ، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستراً بقية حياته.

مات في البصرة سنة ١٤٣ هـ ، وكان أخوه موسى بن جعفر « الكاظم » حجاباً عليه ، أمّا ولي عهده محمد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (١)

وعلى ما ذكره القائل ـ خلافاً لأكثر الإسماعيلية ـ فقد مات في حياة أبيه ، فكيف يكون إماماً بعد أبيه وهو رهين التراب ؟!

اسطورة حياته بعد رحيل أبيه

غير أنّ بعضهم يجازفون في القول ، ويدعون أمراً خارقاً للعادة ، ويقولون : والأمر الهام في قضية إسماعيل وإمامته ، هو أنّه عاش بعد أبيه ، وأثبت هذا الخبر كثيرون من المؤلفين المعاصرين له مما يدل على أنّ إسماعيل بقى بعد أبيه اثنتي عشرة سنة.

ولقد حكى أنّ إسماعيل حين ترك المدينة سرّاً ، رُئي ثانية في البصرة ، حيث بلغ رفعة ، بما أظهر من مقدرة نادرة بشفاء المرضى والمعلولين ، وخشية من اكتشاف الأمر ، ترك البصرة ورحل إلى سوريا واستقر فيها ، ولكن ليس بطمأنينة تامّة حيث حالما سمع الخليفة « المنصور » الذي كان يحكم الجزيرة العربية ، بوجود إسماعيل ، أمر واليه في دمشق بإرساله إسماعيل تحت الحراسة إلى بلاطه ، ولكنَّ الوالي لم يكن يحترم الإمام إسماعيل فحسب ، بل كان من أتباعه ، وبناء عليه ولينقذ الوالي سيده الروحي ، نصح الإمام أن يترك سوريا لعدّة أيّام ، وما أن ابتعد الإمام

______________________

١. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٨٠.

٨١
 &

عن سوريا ، حتى أعلن الوالي التفتيش الدقيق عنه ، وكتب للخليفة أنّه لم يجد لإسماعيل أثراً في أيّ مكان. (١)

أقول : ما ذكره انّ كثيراً من المؤلفين المعاصرين لإسماعيل أثبتوا حياته بعد وفاة أبيه ، شيء لم يدعمه بالدليل ، فَمَنْ هؤلاء المؤلّفون المعاصرون الذين أثبتوا حياته بعد الإمام الصادق ، وما هي كتبهم ؟! نعم أوعز الكاتب في الهامش إلى عمدة الطالب ، وتقدم نصُّهُ (٢) وليس فيه أيُّ إشارة إلى ذلك ، فضلاً عن إشارته إلى كثيرٍ من المؤلفين المعاصرين للإمام إسماعيل ، هكذا تحرّف الحقائق بيد العابثين اللاعبين بتاريخ أُمتنا المجيدة ، أو بيد سماسرة الأهواء فيبيحون الكذب لدعم المذهب.

وقد اعترف بهذه الحقيقة الكاتب الإسماعيلي عامر تامر حيث قال : هناك أقوال كثيرة لمؤرخين يؤكدون فيها أنّه مات في عهد والده ، وأنّ قصة ظهوره في البصرة أُسطورة لا تقوم على حقيقة ، ومهما يكن من أمر فالإسماعيليون اشتهروا بالتخفّي والاستتار ، والمحافظة على أئمّتهم. لذلك ليس بعيداً أن تكون الرواية الأولى صحيحة. (٣)

إنّ تفسير قصة وفاة إسماعيل بالتمويه والتغطية فكره ورثها الجُدُد من الإسماعيلين عن أسلافهم ، قال مصطفى غالب : « ولكن أغلب مؤرّخي الإسماعيلية يقولون : إنّ قصة وفاة إسماعيل في حياة أبيه كانت قصة أرادَ بها الإمام جعفر الصادق التمويه والتغطية على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ، الذي كان يُطارد أئمة الشيعة في كلّ مكان ، وتحت كلّ شمس ، فخاف جعفر الصادق على ابنه وخليفته إسماعيل ، فادّعى موته وأتى بشهود كتبوا المحضر إلى الخليفة

______________________

١. أ. س. بيكلي : مدخل إلى تاريخ الإسماعيلية : ٢٠.

٢. مرّ نصّه ص ٧٢.

٣. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٨٠ ـ ١٨١.

٨٢
 &

العباسي ، الذي أظهر سروراً وارتياحاً لوفاة إسماعيل الذي كان إليه أمر إمامة الشيعة ، ثمّ شُوهِد إسماعيل بعد ذلك في البصرة ، وفي بعض البلدان الفارسية. وعلى هذا الأساس لم تسقط الإمامة عن إسماعيل بالموت قبل أبيه لأنّه مات بعد أبيه. (١)

ويقول في موضع آخر : ورأينا الأخير في هذا الموضوع بعد أن اطّلعنا على جميع ما كتب حول إمامة إسماعيل ، نقول : بأنّ الإمام جعفر الصادق قد شعر بالأخطار التي تهدِّد حياة ابنه الإمام إسماعيل ، بعد أن نصّ عليه ، وأصبح وليّاً للعهد ، فأمره أن يستتر وكان ذلك عام ١٤٥ هـ ، خشية نقمة الخلفاء العباسيين وتدبّر الأمر بأن كتب محضراً بوفاته ، وشهد عليه عامل المنصور ، الذي كان بدوره من الإسماعيلين.

وفوراً توجه إسماعيل إلى سلمية ، ومنها إلى دمشق ، وعلم المنصور بذلك ، فكتب إلى عامله أن يلقي القبض على الإمام إسماعيل ، ولكن عامله المذكور كان قد اعتنق المذهب الإسماعيلي ، فعرض الكتاب على الإمام إسماعيل ، الذي ترك البلاد نحو العراق حيث شوهد بالبصرة عام ١٥١ هـ ، وقد مرّ على مقعد فشفاه بإذن الله ، ولبث الإمام إسماعيل عدّة سنوات يتنقل سرّاً بين أتباعه ، حتى توفي بالبصرة عام ١٥٨ هـ.

ويؤكد كتاب دستور المنجمين أنّ إسماعيل هو أوّل إمام مستور وكان بدء ستره سنة ١٤٥ هـ ولم يمت إلّا بعد سبع (٢) سنين ». (٣)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال ، ولم يكن الإمام الصادق عليه‌السلام ولا

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ١٦ ترى أنّ المؤرخ الأوّل الإسماعيلي يذكر موته في حياة أبيه وهذا يؤكد على موته بعده ، فما هو الحق ؟ وما هو المتوقع من مذهب حجر أساسه الريب والشك ؟!!

٢. فيكون وفاته على هذا عام ١٥١ ، لا عام ١٥٨ كما ذكره قبل سطر.

٣. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ١٤٢ ـ ١٤٣.

٨٣
 &

أصحابه الأجلّاء ، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السرية ، حتى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس ، وهو بعدُ حيّ يُرزق ، ولم يكن عامل الخليفة بالمدينة المنورة بليداً ، يكتفي بالتنويه ، حتى يتسلَّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العباسية.

والعجب أنّ الكاتب يذكر في كلامه الثاني أنّ عامل الخليفة في المدينة كان بدوره من الإسماعيليين ، مع أنّه لم يكن في ذلك اليوم أثر للإسماعيلية : « وكانت الإمامة لأبيه الإمام الصادق عليه‌السلام فكيف يكون في حياة الصادق عليه‌السلام من الإسماعيلية ؟! وأعجب منه أنّه يعتمد في إثبات معتقده بدستور المنجمين ، ثمّ يذكر له مصدراً في التعليقة بالشكل التالي « بلوشيه ٥٧ ـ ٥٨ دى خويه ٢٠٣ ».

إنّ عقيدة إسلامية مبنيّة على تنبّؤ المنجمين ـ وما أكثر أخطائهم ـ عقيدةٌ منهارةٌ وفاشلة.

ولو أنّ هؤلاء التجأوا في تصحيح إمامة ابنه ، محمد بن إسماعيل إلى القول بعدم بطلان إمامة إسماعيل بموته في حياة والده ، ولمّا توفي الإمام الصادق تسلّم عبد الله بن إسماعيل الإمامة من والده ، لكان أرجح من اللجوء إلى بعض الأساطير التي لا قيمة علمية لها في مجالات البحوث التاريخية والعقائدية المبتنية على أُسس علمية دقيقة.

والحقّ أنّه توفي أيام حياة أبيه ، بشهادة الأخبار المتضافرة التي تعرفت عليها ، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمالها ؟! وستر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يعلن بها موته فانّه منهج وأُسلوب السياسيين المخادعين ، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة ، ومن يريد تفسير فعلَ الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة « وكلّ إناء بالذي فيه ينضح » . وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه ؟!

٨٤
 &

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولده الإمام الثاني ، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولده ، بشهادة أنّ المهدي العباسي الذي تسلم عرش الخلافة بعد المنصور العباسي ١٥٨ ـ ١٦٩ هـ كان متشدداً على أصحاب الأهواء والفرق ، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس ، فقال يونس : قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة ، ومرّة أُخرى بمدينة الوضاح ، فقال : إنّ ابن المفضل صنف لهم صنوف الفرق فرقة فرقة حتىٰ قال في كتابه : وفرقة يقال لهم الزرارية ، وفرقة يقال لهم العمارية أصحاب عمار الساباطي ، وفرقة يقال لهم اليعفورية ، ومنهم فرقة أصحاب سليمان الأقطع ، وفرقة يقال لهم الجواليقية. قال يونس : ولم يذكر يومئذ هشام بن الحكم ولا أصحابه. (١)

ترى انّه يذكر جميع الفرق المزعومة للشيعة ، حتى يذكر العمارية المنسوبة إلى عمار الساباطي الذي لم يكن له يوم ذاك أيّ تابع إلّا كونه فطحياً مؤمناً بإمامة عبد الله الأفطح ، ولا يذكر الإسماعيلية ؟! فلو كانت لإسماعيل دعوة سرية أيّام المنصور ، ثمّ لابنه محمد ، حيث كانا ينتقلان من بلد إلى بلد ، كان من المحتّم مجيء اسمه في قائمة أصحاب الأهواء. كلّ ذلك يدلّ على أنّ المذهب قد نشأ بعد لأي من الدهر.

إلى هنا تمّ البحث في الإمام الأوّل ، وكانت حصيلته هي :

أنّ الرجل كان رجلاً ثقة ، محبوباً للوالد ، وتُوفي في حياة والده وهو عنه راض ، ولم تكن له أيُّ دعوةٍ للإمامة ، ولم تظْهر أيَّ دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العباسي الذي تُوفي عام ١٦٩ هـ ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق عليه‌السلام إحدى وعشرون سنة.

______________________

١. الكشي : الرجال : ٢٢٧.

٨٥
 &

الإمام الثاني

محمد بن إسماعيل

( ١٣٢ ـ ١٩٣ هـ )

محمد بن إسماعيل ، هو الإمام الثاني للإسماعيلية ، قال ابن عنبة : أعقب إسماعيل من محمد وعلي ابني إسماعيل ، أمّا محمد بن إسماعيل فقال شيخ الشرف العبيدلي : هو إمام الميمونية وقبره ببغداد.

ويصفه الكاتب الإسماعيلي أنّه ولد سنة ١٤١ في المدينة عندما توفي والده الإمام إسماعيل ، اضطر لترك المدينة خوفاً من مراقبة الرشيد العباسي ، الذي استطاع بنشاطه من إخماد كافة الثورات والدعوات الإمامية ، فذهب إلى الكوفة ، ومنها إلى فرغانة ، ثمّ إلى نيسابور ، عمل على نشر دعوته بنشاط في الجزيرة العربية ، وفي كافة البلدان الإسلامية ، وقد استطاع التموية على الخلفاء العباسيين والإفلات من قبضتهم ، وهم المهدي والهادي والرشيد.

إزداد تستراً بعد أن أعطى الرشيدُ أمراً بالقبض عليه ، ثمّ إنّه رَحَل إلى الريّ ومنها إلى نهاوند ، وفيها عقد زواجه على ابنة أميرها أبي المنصور بن جوشن ، وبعد ذلك توجه إلى « تدْمُر » في سوريا حيث جعلها مركزاً لإقامته ونشر دعوته ، وجّه الرشيد جيشاً لإلقاء القبض عليه عندما كان في نهاوند ، ولكن أتباعه تمكنوا من الانتصار على الجيش المذكور وردّوه خائباً.

يقال أنّه هو الذي أرسل الداعيين : الحلواني وأبا سفيان إلى المغرب ، تُوفِي في

٨٦
 &

مدينة « تَدْمر » و دفن في جبل واقع إلى الشمال الغربي منها ، ويعرف حتى الآن بضريح محمد بن علي ، وفاته سنة ١٩٣ هـ.

يقال إنّ حجته هو ميمون القداح ، والحقيقة أنّ الإمام محمد بن إسماعيل هو نفسه كان يحمل لقبي ميمون والقداح.

ترك عدداً من الأولاد ومنهم عبد الله الذي كان وليّاً للعهد. (١)

أقول : للقارئ الكريم أن ينظر إلى كلمات ذلك الكاتب بنظر الشك والريبة ، ويتفحّص عن مآخذ كلامه ومصادر نقله ، فإنّ ما وقفنا عليه في السير والآثار لا يدعم كلامه ، وذلك للأسباب التالية :

١. إنّ شيخ الشرف العبيدلي قال : إنّه توفي ببغداد ، وقبره هناك ، والكاتب يذكر أنّه توفي بـ « تدمر » بسوريا ، وقبره هناك ، وله ضريح معروف بضريح « محمد بن علي » ولكن من أينَ علم انّه ضريح محمد بن إسماعيل ؟! وأنّه حُرِّفَ اسم والده.

٢. الروايات المتضافرة من الفريقين تشهد على أنّه كانت بينه وبين الرشيد صلة وكان موقفه منه ، موقف العين ، وقد أخبره بما يجري في أوساط العلويين ، من جمع الأموال للثورة ، والدعوة إلى الإمامة. ومن هذه الروايات التي وقفنا عليها :

روى ابن عنبة ، عن أبي القاسم بن إسماعيل نسابة المصريين ، أنّ موسى الكاظم عليه‌السلام كان يخاف ابن أخيه محمد بن إسماعيل ، ويبرّه ، وهو لا يترك السعي به إلى السلطان من بني العباس.

وقال أبو نصر البخاري : كان محمد بن إسماعيل بن الصادق عليه‌السلام مع موسى الكاظم عليه‌السلام يكتب له السر إلى شيعته في الآفاق. فلما ورد الرشيد الحجاز ، سعى (٢) محمد بن إسماعيل بعمه إلى الرشيد. فقال : أعلمتَ أنّ في الأرض خليفتين

______________________

١. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٨١.

٢. ذكر الشيخ المفيد أنّ الساعي بعمه الكاظم عليه‌السلام إلى الرشيد هو علي بن إسماعيل لا أخوه محمد. وذكر قصة السعاية أُنظر ( الإرشاد ) باب ذكر السبب في وفاته عليه‌السلام.

٨٧
 &

يجبى إليهما الخراج ؟ فقال الرشيد : ويلك أنا ومن ؟ قال : موسى بن جعفر. وأظهر أسرارَه فقبض الرشيد على موسى الكاظم عليه‌السلام وحبسه ، وكان سبب هلاكه ، وحظى محمد بن إسماعيل عند الرشيد ، وخرج معه إلى العراق ، ومات ببغداد ، ودعا عليه موسى بن جعفر عليهما‌السلام بدعاء استجابه الله تعالى فيه وفي أولاده ، ولمّا لِيْمَ (١) موسى بن جعفر عليهما‌السلام في صلة محمد بن إسماعيل والاتصال مع سعيه به. قال : إنّي حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الرحم إذا قُطِعتَ فوَصَلْتَ ثمّ قُطِعَتْ فَوصلت ثمّ قُطِعْتَ فوصلتَ ثمُ قُطِعَت قطعها الله تعالى ، وإنّما أردتُ أن يقطع الله رحمه من رحمي. (٢)

هذا ما رواه ابن عنبة من طرق أهل السنّة ، كما رواه محدّثوا الشيعة ونأتي بنصّ أفضلهم وأوسعهم اطلاعاً ، أعني : الشيخ الكليني المتوفى عام ٣٢٩ هـ في الكافي.

روى الكليني بسند صحيح (٣) عن علي بن جعفر قال : جاءني محمد بن إسماعيل وقد اعتمرنا عمرة رجب ، ونحن يومئذ بمكة ، فقال : يا عمُّ إنّي أُريد بغداد ، وقد أحببتُ أن أُودِّعَ عمي أبا الحسن ـ يعني موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ وأحببت أن تذهبَ معي إليه ، فخرجتُ معه نحو أخي ، وهو في داره التي بالحوبة ، وذلك بعد المغرب بقليل ، فضربت البابَ فأجابني أخي ، فقال : مَنْ هذا ؟ فقلت : علي ، فقال : هو ذا أُخرِجُ ـ وكان بطيء الوضوء ـ فقلت : العجل ، قال : واعجل فخرج وعليه ازار ممشّق (٤) قد عقده في عنقه حتى قعد تحت عتبة الباب ، فقال عليّ بن جعفر : فانكببتُ عليه فقبّلتُ رأسه ، وقلت : قد جئتك في أمر إن تره صواباً

______________________

١. فعل ماضي مجهول من اللوم.

٢. ابن عنبة : عمدة الطالب : ٢٣٣.

٣. رواه عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى العبيدي ، عن موسى بن القاسم البجلي وهو نجل معاوية بن وهب البجلي ، عن علي بن جعفر ، والرواة ثقات والرواية صحيحة.

٤. أي مصبوغ بالمشق وهو الطين الأحمر.

٨٨
 &

فالله وفق له ، وإن يكن غير ذلك ، فما أكثر ما نخطئ ، قال : وما هو ؟ قلتُ : هذا ابن أخيك يريد أن يودعك ويخرجَ إلى بغداد ، فقال لي : أُدعه ، فدعوتُه وكان متنحيّاً ، فدنا منه فقبّل رأسه.

وقال : جعلت فداك أوصني فقال : أُوصيك أن تتقي الله في دمي ، فقال مجيباً له : من أرادك بسوء فعل الله به ، وجعل يدعو على من يريده بسوء ، ثمّ عاد فقبّل رأسه ، فقال : يا عمُّ أوصني ، فقال : أُوصيك أن تتقي الله في دمي ، فقال : من أرادك بسوء فَعَلَ الله به وفعل ، ثمّ عاد فقبّل رأسه ، ثمّ قال : يا عم أوصني ، فقال : أُوصيك أن تتقي الله في دمي ، فدعا على من أراده بسوء ، ثمّ تنحّى عنه ، ومضيت معه ، فقال لي أخي : يا عليّ مكانَك فقمتُ مكاني فدخل منزله ، ثمّ دعاني فدخلتُ إليه ، فتناول صرّة فيها مائة دينار فأعطانيها. وقال : قل لابن أخيك يستعين بها على سفره ، قال عليّ : فأخذتها فأدرجتها في حاشية ردائي ، ثمّ ناولني مائة أُخرى وقال : أعطه أيضاً ، ثمّ ناولني صرة أُخرى وقال : أعطه أيضاً.

فقلت : جعلت فداك ، إذا كنتَ تخاف منه مثلَ الذي ذكرتَ ، فلِمَ تعينه على نفسك ؟ فقال : إذا وصلتُه وقطعني قطع الله أجله ، ثمّ تناول مخدَّه أدم ، فيها ثلاثة آلاف درهم وضح (١) وقال : أعطه هذه أيضاً قال : فخرجت إليه فأعطيته المائة الأُولى ففرح بها فرحاً شديداً ودعا لعمِّه ، ثمّ أعطيته الثانية والثالثة ففرح بها حتى ظننت انّه سيرجع ولا يخرج ، ثمّ أعطيته الثلاثة آلاف درهم فمضى على وجهه حتى دخل على هارون فسلّم عليه بالخلافة ، وقال : ما ظننتُ أنّ في الأرض خليفتين ، حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يُسلَّم عليه بالخلافة ، فأرسل هارون إليه بمائة ألف درهم فرماه الله بالذبحة (٢) فما نظر منها إلى درهم ولا مسّه. (٣)

______________________

١. الوضح : الدرهم الصحيح. لسان العرب : ٢ / ٦٣٥ ، مادة « وضح ».

٢. الذبحة : وجع في الحلق ، أو دم يخنق فيقتل . لسان العرب : ٢ / ٤٣٨ ، مادة « ذبح ».

٣. الكليني : الكافي : ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.

٨٩
 &

روى الكشي في رجاله ، عن أبي جعفر محمد بن قولويه القمي ، قال : حدثني بعض المشايخ ، عن علي بن جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، قال : جاءني محمد بن إسماعيل ابن جعفر يسألني أن أسأل أبا لحسن موسى عليه‌السلام ، أن يأذن له في الخروج إلى العراق ، وأن يرضى عنه ويوصيه بوصيّة ، قال : فتجنّبت حتى دخل المتوضّى ... فلمّا خرج قلت له : إنّ ابن أخيك محمد بن إسماعيل ، يسألك أن تأذن له في الخروج إلى العراق ، وأن توصيه. فأذن له عليه‌السلام ، فلمّا رجع إلى مجلسه قام محمد بن إسماعيل ، وقال : يا عم أحبَّ أن توصيني. فقال : « أُوصيك أن تتقي الله في دمي » . فقال : لعن الله من يسعى في دمك. ثمّ قال : يا عم أوصني ، فقال : « أُوصيك أن تتقي الله في دمي » . قال : ثمّ ناوله أبو الحسن عليه‌السلام صرة فيها مائة وخمسون ديناراً ، فقبضها محمد ، ثمّ ناوله أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً ، فقبضها ، ثمّ أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً ، فقبضها ثمّ أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده. فقلتُ له في ذلك : استكثرته ؟ فقال : « هذا ليكون أوكد لحجّتي إذا قطعني ووصلتُه » . قال : فخرج إلى العراق ، فلمّا ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثياب طريقه قبل أن ينزل ، واستأذن على هارون وقال للحاجب : قل لأمير المؤمنين إنّ محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب. فقال الحاجب : انزل أوّلاً وغيّر ثياب طريقك وَعُدْ لأدخلك إليه بغير إذن فقد نام أمير المؤمنين في هذا الوقت. فقال : أعلم أمير المؤمنين انّي حضرتُ ولم تأذن لي ، فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن إسماعيل ، فأمر بدخوله ، فدخل قال : يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج وأنت بالعراق يجبى لك الخراج. فقال : والله ؟! فقال : والله . فقال : والله ؟! قال : فأمر له بمائة ألف درهم ، فلمّا قبضها وحمل إلى منزله أخذته الريحة في جوف ليلته ، فمات ، وحول من الغد المال الذي حمل إليه. (١)

______________________

١. الكشي : الرجال : ٢٢٦ ، في ترجمة هشام بن الحكم.

٩٠
 &

ورواه ابن شهر آشوب في مناقبه. (١)

فلو صحّ ما ذكراه فكيف تكون له ثورة أيام الرشيد وهو يتعامل معه ، معاملة العيون والجواسيس ، أو السعاة والوشاة.

نعم نقل أبو الفرج الاصفهاني نفس القصة وتبعه الشيخ المفيد (٢) ولكن الساعي في كليهما هو علي بن إسماعيل أخو محمد بن إسماعيل ، لكن السند قاصر ، لأنّ الاصفهاني يرويه عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة المتوفى عام ٣٣٢ هـ ، عن شيخه : يحيى بن الحسن العلوي (٣) والرواية مرسلة إذ لا يتمكن ابن عقدة من نقل القصة بواسطة واحدة ، كيف والإمام الكاظم قد أُخذ في آخر السبعينات بعد المائة ، وتوفي عام ١٨٣ هـ (٤) ولأجل الإيماء إلى الإرسال أضاف المفيد بعد إنهاء السند قولَه عن مشايخهم : فما نقله الكليني بسند صحيح هو المعتبر.

* * *

وما ذكره : « وجّه الرشيد جيشاً لإلقاء القبض عليه عندما كان في نهاوند ... » لم أقف على مصدره ولقد تصفّحت حياة الرشيد ( ١٧٠ ـ ١٩٣ هـ ) في تاريخ الطبري ، ومروج الذهب للمسعودي ، وكامل الجزري ، فلم أجد فيها شيئاً من الحرب المزعومة وانتصار محمد بن إسماعيل على جيش الرشيد.

نعم نقل الجزري في حوادث سنة ٣١٢ هـ : انه ظهر في الكوفة رجل ادّعى انّه « محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو رئيس الإسماعيلية ، وجمع جمعاً عظيماً من الأعراب وأهل السواد واستفحل أمره في شوال ، فسيّر إليه جيش من بغداد ، فقاتلوه وظفروا به وانهزم ،

______________________

١. ابن شهر آشوب : المناقب : ٤ / ٣٢٦ ، قريباً مما نقله الكليني والكشي.

٢. المفيد : الإرشاد : ٢٩٨.

٣. في إرشاد المفيد : أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى عن مشايخهم.

٤. الجزري : الكامل : ٦ / ١٦٤ ، لاحظ حوادث سنة ١٨٣ هـ.

٩١
 &

وقتل كثير من أصحابه. (١)

قال مصطفى غالب : ويعتبر الإمام محمد بن إسماعيل أوّل الأئمة المستورين ، والناطق السابع ومتم الدور ، لأنّ إمامته كانت بداية دور جديد في تاريخ الدعوة الإسماعيلية ، فقام بنسخ الشريعة التي سبقته ، وبذلك جمع بين النطق والإمامة ، ورفع التكاليف الظاهرة للشريعة ، ونادى بالتأويل ، واهتم بالباطن ، ولذلك قال فيه الداعي إدريس : « وإنّما خص محمد بن إسماعيل بذلك لانتظامه في سلك مقامات دور الستر ، لأنّك إذا عددت آدم ووصيه وأئمّة دوره ، كان خاتمهم الناطق ، وهو نوح عليه‌السلام وإذا عددت عيسى ووصيه قائمة دوره ، كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متسلماً لمراتبهم ، وهو الناطق خاتم للنطقاء ، وكان وصيّه عليه‌السلام بالفضل منفرداً به ، وإذا عددت الأئمّة في دوره كان محمد بن إسماعيل سابعهم ، وللسابع قوّة على من تقدّمه ، فلذلك صار ناطقاً وخاتماً للأُسبوع ، وقائماً وهو ناسخ شريعة صاحب الدور السادس ، ببيان معانيها وإظهار باطنها المبطن فيها. (٢)

ولولا انّه فسّر نسخ الشريعة ببيان معانيها وإظهار باطنها المبطن فيها ، كان المتبادر منه أنّه كان صاحب شريعة ودين حديث وهو كما ترى.

ثمّ إنّ ظاهر كلامه انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان خاتماً للدور الثاني ، وانّ الدور الثالث يبتدأ بوصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي أمير المؤمنين عليه‌السلام وبما انّهم لا يعدّون الحسن بن علي في أئمتهم ، يكون محمد بن إسماعيل هو سابع الأئمّة وأفضلهم.

إنّ ما ذكره اعتبارات وتخيّلات لم يقم عليها دليل ، فما هو الدليل القاطع العقلي أو النقلي على هذا الدور ، وإنّ كلّ سابع ، خاتم له.

______________________

١. الجزري : الكامل : ٨ / ١٥٧.

٢. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ١٤٨.

٩٢
 &

الإمام الثالث

عبد الله بن محمد بن إسماعيل

( ١٧٩ ـ ٢١٢ هـ )

ولد في بلدة نيسابور عام ١٧٩ هـ من ألقابه : المستور ، والرضي ، والناصر ، والعطار ، وعبد الله الأكبر ، كان كثير التنقل بين نهاوند والأهواز وطبرستان.

عرف أنّه كان معاصراً للرشيد ، وقد أدرك عصر المأمون. سمّى جميع دعاته باسمه حتى لا يعرف . عندما خرج من فرغانة إلى الديلم ، وكان يصحبه أخوه حسين. وفي الديلم تزوّج فتاة علوية وولد له منها أحمد.

وألّف في سلمية رسائل « إخوان الصفاء وخلّان الوفاء » .

توفي سنة ٢١٢ هـ ، ودفن في سلمية (١) وضريحه يعرف بالإمام إسماعيل. (٢)

إنّ من يدرس كتاب رسائل « إخوان الصفاء وخلّان الوفاء » يقف على أنّه أثر لجنة علمية لا تأليف شاب لم يتجاوز عمره الثلاثين إلّا قليلاً.

إنّ هذا الكتاب أُلّف في القرن الرابع الهجري ، وقد قامت بتأليفه جماعة ، وكان أبو حيان التوحيدي على معرفة بأحوال أحد أفرادها ، وقد وصفه لصمصام الدولة الذي ولي الأمر في سنة ٣٧٢ هـ. (٣)

______________________

١. بليدة بالشام من أعمال حمص.

٢. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٨٢.

٣. ابن الأثير : الكامل في التاريخ : ٩ / ٢٢.

٩٣
 &

ففي مقدمة المحقّق : تألّفتْ هذه الجماعة في القرن الرابع الهجري ، وكان موطنها البصرة ، ولها فرع في بغداد ، ولم يعرف من أشخاصها سوى خمسة يتغشاهم الغموض والشك ... فقيل إنّ أحدهم هو أبو سليمان محمد بن معشر البستي المعروف بالمقدسي ، والآخر أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني ، ثمّ أبو أحمد المهرجاني ، فأبو الحسن العوفي ، فزيد بن رفاعة ، ويؤخذ من كلام لأبي حيّان التوحيدي أثبته أحمد زكي باشا في مقدمته لرسائل الإخوان انّ زيد بن رفاعة كان متهماً بمذهبه ، وانّ الوزير صمصام الدولة بن عضد الدولة سأله عنه. (١)

______________________

١. رسائل إخوان الصفا وخلّان الوفاء : ٥ ، المقدمة.

٩٤
 &

الإمام الرابع

أحمد بن عبد الله

( ١٩٨ ـ ٢٦٥ هـ )

عرّفه الكاتب عارف تامر بقوله : ولد في سلمية سنة ١٩٨ هـ ، واتخذ من هذه المدينة مقراً له ومركزاً لتوزيع الدعاة ونشر التعاليم في المناطق الأُخرى. كان على جانب كبير من العلم ، وإليه تنسب رسالة الجامعة لإخوان الصفاء وخلّان الوفاء.

ولد له ولدان هما : الحسن وسعيد.

كان يتنقل بين الديلم والكوفة ، وغيرهما في سبيل التجارة. والحقيقة أنّ ذلك لم يكن إلّا في سبيل نشر الدعاية والأفكار الإسماعيلية. لقبه الوفي.

عاصر المأمون واشترك في إثارة الناس عليه ، إلى أن يقول : كان يقضي فصل الشتاء في سلَمية ، والصيف في مصياف. نشاط الدعاة في عصره بلغ الأوج خاصة في المجال العلمي.

مات في مصياف سنة ٢٦٥ هـ عن ٦٧ عاماً ، ودفن فيها في جبل مشهد. (١)

ويقول المؤرّخ المعاصر : ولقد تعرض الإمام أثناء وجوده في السلَمية لمضايقات الخلفاء العباسيين المستمرة ، لذلك وجد بأنّ السلَمية لم تعد مكاناً صالحاً له ، فغادرها سرّاً إلى الري حيث استقر فيها مدّة طويلة عمل خلالها لنشر دعوته على نطاق واسع ، فاعتنقها أكثر الملوك والأُمراء ، وقدّموا جميع إمكانياتهم

______________________

١. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٨٢.

٩٥
 &

لمساعدة الدعاة في سبيل نشرها وتعميمها في جميع الأقطار الشرقية ، والجدير بالذكر انّ أكثر الحكام والولاة في العهد العباسي كانوا يتظاهرون بنقمتهم على الإسماعيلية ، بينما كانوا يدينون بعقائدها في الباطن وينصرون الدعاة ، ويعملون سراً على تقوية الدعوة وإنجاحها. (١)

وقد ذكر عارف تامر انّ لقبه هو الوفي في حين أنّ مصطفى غالب قد لقبه بمحمد التقي ، والظاهر انّهما لقبين لشخص واحد.

ولا يذهب عليك ما في كلامه من المبالغة من اعتناق أكثر الحكام والولاة لعقائد الإسماعيلية ، فإنّ المؤرّخين المعاصرين (٢) ، قد اعتادا على المبالغة في الثناء وانتشار الدعوة من دون أن يذكرا لكلامهما مصدراً.

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ١٦٧.

٢. عارف تامر ، مصطفى غالب ، والثاني أكثر مبالغة.

٩٦
 &

الإمام الخامس

الحسين بن أحمد

( ٢١٩ ـ ٢٨٩ هـ )

ولد في مصياف سنة ٢١٩ هـ ، كان مركز إقامته في سلمية. اشتهر بثروته المالية الطائلة.

من ألقابه : المرتضىٰ ، والمقتدىٰ ، والزكي ، والهادي ، والتقي.

لخص رسالة الجامعة برسالة موجزة سمّاها جامعة الجامعة.

كان علىٰ علاقات طيبة مع الهاشميين القاطنين في سلمية ، التقىٰ بالنجف الأشرف بالداعي أبي قاسم حسن بن فرح بن حوشب ( منصور اليمن ) وعلي بن الفضل حيث كانا يدعوان للحسن العسكري الاثني عشري فأثّر فيهما وأحضرهما إلى سلمية ، ثمّ جهزهما بعد ذلك إلى اليمن.

وفي عهده تم إرسال أبي عبد الله الشيعي (١) (٢) إلى المغرب.

في عصره دبَّ الوهن إلى الدولة العباسية وأحدقت بها الثورات والاضطرابات ، تولى ابن طولون في عهده شؤون مصر وأوكل إليه تنظيم بلاد الشام أيضاً. كانت الأموال الطائلة تحمل إليه من كافة الجهات حتى من آذربيجان.

______________________

١. والقرائن تشهد انّ المراد منه ، هو عبد الله بن ميمون القداح.

٢. وصار بعد ذلك داعية عبيد الله المهدي الإمام السادس ، وسيوافيك تفصيله في ترجمة « عبيد الله ».

٩٧
 &

مات في سلمية ودفن في مقام جده عبد الله بن محمد وكان ذلك سنة ٢٦٥. (١)

ما ذكره من أنّه توفي عام ٢٦٥ هـ غير صحيح ، لأنّه عام وفاة والده ولعلّه تصحيف سنة ٢٨٩ هـ. وقد أرّخ ميلاده ووفاته مؤلف تاريخ الدعوة الإسماعيلية كما ذكرنا وقال : وعهد بالإمامة من بعده لابنه محمد المهدي (٢) وقال له : إنّك ستهاجر بعدي هجرة وتلقىٰ محناً شديدة. (٣)

قد سبق وأن ذكرنا أنّ محمد بن إسماعيل ـ أي الإمام الثاني ـ أرسل الداعيين : الحلواني وأبا سفيان إلى المغرب ، ولكن لم يحددا تاريخ البعث ، فبما انّ محمد بن إسماعيل استلم الإمامة ـ حسب رأي الإسماعيلية ـ عام ١٥٨ هـ وتوفي عام ١٩٣ هـ ، فيكون إرسالهما بين الحدين.

كان الداعيان مهتمين بالتبليغ والدعوة في أيام الأئمّة الثلاثة إلى أن استلم الإمام الحسين بن أحمد زمام الإمامة ، ووقف بأنّ الدعوة في المغرب تتقدم باستمرار ، فحينئذٍ طلب من الداعية الكبير أبي عبد الله الحسين أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي ـ الذي كان يدعو الناس إلى المذهب الإسماعيلي في البصرة ـ الذهاب إلى اليمن ويدرس هناك علىٰ ابن حوشب ويطيعه ويقتدي به ، ثمّ يذهب بعد فراغه من الدراسة ، إلى المغرب قاصداً بلدة « كتامة ».

توجه أبو عبد الله إلى اليمن حيث شهد مجالس ابن حوشب وأصبح من كبار أصحابه ، فلمّا أتى خبر وفاة الحلواني وأبي سفيان دعاة المغرب إلى ابن حوشب قال لأبي عبد الله الشيعي : إنّ أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك ، فبادر فانّها موطّأة ممهّدة لك.

______________________

١. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٨٣.

٢. عبيد الله المهدي.

٣. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ١٧١. ولم يذكر مصدراً لكلامه.

٩٨
 &

فخرج أبو عبد الله إلى مكة وأعطاه ابن حوشب مالاً وسيّر معه عبد الله بن أبي ملاحف ، فلمّا قدم أبو عبد الله مكة سأل عن حجاج كتامة ، فأرشِد إليهم ، فاجتمع بهم ، ولم يُعرِّفهم قصدَه ، وجلس قريباً منهم ، فسمعهم يتحدثون بفضائل أهل البيت ، فأظهر استحسان ذلك ، وحدّثهم بما لم يعلموه ، فلمّا أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته والانبساط معه ، فأذن لهم في ذلك ، فسألوه أين مقصده ، فقال : أُريد مصر ، ففرِحوا بصحبته.

وكان من رؤساء الكتاميين بمكة رجل اسمه « حُريث الجُميلي » ، وآخر اسمه موسى بن مكاد فرحلوا وهو لا يخبرهم بغرضه ، وأظهر لهم العبادة والزهد ، فازدادوا فيه رغبة وخدموه ، وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم وعن طاعتهم لسلطان إفريقية ، فقالوا : ما له علينا طاعة ، وبيننا وبينه عشرة أيام ، قال : أفتحملون السلاح ؟ قالوا : هو شغلنا ، ولم يزل يتعرّف أحوالهم حتى وصلوا إلى مصر ، فلمّا أراد وداعهم قالوا له : أي شيء تطلب بمصر ؟ قال : أطلب التعليم بها (١) قالوا : إذا كنت تقصد هذا فبلادنا أنفع لك ، ونحن أعرف بحقك ، ولم يزالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم بعد الخضوع والسؤال ، فسار معهم.

فلما قاربوا بلادَهم لقيهم رجال من الشيعة فأخبروهم بخبره ، فرغبُوا في نزوله عندهم واقترعوا فيمن يضيِّفه منهم ، ثمّ رحلوا حتى وصلوا إلى أرض كتامة منتصف شهر ربيع الأوّل سنة ثمانين ومائتين ، فسأله قوم منهم أن ينزل عندهم حتى يقاتلوا دونه ، فقال لهم : أين يكون فج الأخيار ؟ فتعجبوا من ذلك ولم يكونوا ذكروه له ، فقالوا له : عند بني سليان ، فقال : إليه نقصد ، ثمّ نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم ، فأرضى بذلك الجميع.

وسار إلى جبل يقال له إنكجان ، وفيه فج الأخيار ، فقال : هذا فج الأخيار ، وما سمي إلّا بكم ولقد جاء في الآثار : انّ للمهدي هجرة تنبو عن الأوطان ، ينصره

______________________

١. يريد تعليم مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

٩٩
 &

فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان ، قوم مشتق اسمهم من الكتمان ، فإنّهم كتامة وبخروجكم من هذا الفج يسمّى فجُ الأخيار.

ثمّ إنّه قال للكتاميين : أنا صاحب البدر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني ، فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره. ثمّ إنّ الحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة ، فأخذ أبا عبد الله إليه ، ودافع عنه ، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكان وعظم شأنه ، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون ، فاستقام له أمر البربر وعامة كتامة. ثمّ كان الأمر على ذلك حتى توفي الإمام الحسين بن أحمد عام ٢٨٩ هـ وعهد بالإمامة من بعده لابنه محمد المهدي ، وقال له : إنّك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة ، وتلقىٰ محناً شديدة ، فلمّا قام عبيد الله بعد أبيه انتشرت دعوته ، وأرسل إليه أبو عبد الله الشيعي رجالاً من كتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه وانّهم ينتظرونه. وهذا ما سنذكره في سيرة الإمام التالي الإمام عبيد الله المهدي. (١)

*  *  *

هؤلاء هم الأئمّة المستورون عند الإسماعيلية ، والذي يدلّ على ذلك أنّ القاضي النعمان وصفهم بالاستتار ، وجعل مبدأ الظهور قيام عبد الله الإمام المهدي بالله ، وإليك أبياته في أُرجوزته يقول :

واشتدت المحنة بعد جعفرٍ

فانصرف الأمر إلى التستر

وكان قد أقام بعضَ ولده

مقامَه لمّا رأى من جَلدِه

فجعل الأمر له في ستر

فلم يكن قالوا بذاك يدري

لخوفه عليه من أعدائه

إلّا ثقاتُ محضِ أوليائِه

______________________

١. الجزري : الكامل : ٨ / ٣١ ـ ٣٧ ؛ تاريخ ابن خلدون : ٤ / ٤٠ ـ ٤٤ ، وأيضاً ص ٢٦١ . وقد لخصنا القصة وحذفنا ما ليس له صلة بالموضوع كالحروب التي خاضها أبو عبد الله الشيعي.

١٠٠