بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-272-3
الصفحات: ٤٥٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

١٤١
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

١٤٢
 &

الإمام الأوّل

المستعلي بالله

( ٤٦٧ ـ ٤٩٥ هـ )

قد ذكرنا ـ فيما سبق ـ أنّ المستنصر قد عهد في حياته بالخلافة لابنه « نزار » وقد بويع بعد وفاة أبيه ، ولكن خلعه الأفضل وبايع المستعلي بالله ، وسبب خلعه أنّ الأفضل ركب مرّة أيّام المستنصر ، ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكباً ، و « نزار » خارج ، والمجاز مظلم ، فلم يره الأفضل ، فصاح به نزار : انزلْ ، يا أرمني ، كلب ، عن الفرس ، ما أقلَّ أدبَك. فحقدها عليه ، فلما مات المستنصر خلعه خوفاً منه علىٰ نفسه ، وبايع المستعلي ، فهرب نزار إلى الاسكندرية ، وبها ناصر الدّولة « افتكين » ، فبايعه أهل الاسكندرية ، وسمّوه المصطفي لدين الله ، فخطب بالناس ، ولعن الأفضل ، وأعانه أيضاً القاضي جلال الدّولة ابن عمار ، قاضي الاسكندرية ، فسار إليه الأفضل ، وحاصره بالاسكندرية ، وأخذ « افتكين » فقتله ، وتسلّم المستعلي نزاراً فبنى عليه حائطاً فمات ، وقتل القاضي جلال الدولة ابن عمار ومن أعانه. (١) وحيث إنّه لم يتم الاتّفاق علىٰ إمامة هؤلاء فقد عقدنا لهم فصلاً مستقلاً.

يقول ابن خلكان : وكانت ولادة المستعلي ( أحمد بن معد ) لعشر ليال بقين من محرم سنة تسع وستين وأربعمائة ، بالقاهرة وبويع في يوم عيد غدير خم ، وهو الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، وتوفي بمصر يوم الثلاثاء

______________________

١. ابن الأثير : الكامل في التاريخ : ١٠ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، دار صادر.

١٤٣
 &

لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة ، وله من العمر ثمان وعشرون سنة وأيام (١) ، فكانت مدّة ولايته سبع سنين وكسراً ، وتولّىٰ بعده ولدُه أبو علي المنصور ، الملقب بالآمر ، وله من العمر خمس سنين وشهر وأربعة أيام ، ولم يكن في من تسمىٰ بالخلافة قط أصغر منه ، ومن المستنصر ، وكان المستنصر أكبر من هذا ، ولم يقدر يركب وحده الفرس ، وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش ، أحسن قيام ، إلى أن قتل. (٢)

الإمام الثاني

الآمر بأحكام الله

( ٤٩٠ ـ ٥٢٤ هـ )

هو منصور بن أحمد ، ولد في القاهرة في الثالث عشر من محرم ، وبويع بالخلافة يوم وفاة والده في الثالث عشر من صفر سنة ٤٩٥ هـ ، وكان له من العمر خمس سنوات ، وفي عهده سقطت مدينة « صور » بأيدي الصليبيين ، وذلك بعد سقوط انطاكية وبيت المقدس وقيصارية وعكا وبانياس وطرابلس ، وأكثرها كانت فاطميّة.

من آثاره العمرانية الجامع الأقمر في القاهرة ، وتجديد قصر القرافة ، وفتح مكتبة دار العلوم للمطالعة والتدريس ، قتله النزاريون انتقاماً لإمامهم نزار ، وكان في هودج يقوم بالنزهة بين الجزيرة والقاهرة ، وقد حُمل إلى القصر ، ولكنّه لم يلبث أن

______________________

١. لو كان له من العمر ثمان وعشرون عاماً عند الوفاة لكانت ولادته عام ٤٦٧ ، لا ما ذكره من انّ ولادته ٤٦٩ هـ.

٢. ابن خلكان : وفيات الأعيان : دار صادر : ١ / ١٨٠.

١٤٤
 &

فارق الحياة في الرابع عشر من ذي القعدة سنة ٥٢٤ هـ ، وكان عمره ٣٤ عاماً وتسعة أشهر وعشرين يوماً. (١)

قال ابن خلكان : ولما انقضت أيّامه ، خرج من القاهرة صبيحة يوم الثلاثاء في الثالث من ذي القعدة سنة ٥٢٤ هـ ونزل إلى مصر ، وعدىٰ على الجسر إلى الجزيرة التي قبالة مصر ، فكمُن له قوم بالأسلحة وتواعدوا على قتله في السّكة التي يمر فيها ، فلمّا مرّ بهم وثبوا عليه فلعبوا عليه بأسيافهم ، وكان قد جاوز الجسر وحده مع عدّة قليلة من غلمانه وبطانته وخاصته وشيعته ، فحُمل في النيل في زورق ولم يمت ، وأُدخل القاهرة وهو حيٌّ ، وجيء به إلى القصر من ليلته ، فمات ولم يعقب ، وهو العاشر من أولاد المهدي عبيد الله القائم بسجلماسة ، إلى أن يقول : وكان ربعة ، شديدَ الأدمة ، جاحظ العينين ، حسن الخط والمعرفة والعقل. (٢)

ومع هذا فيصفه بكونه « قبيح السيرة ، ظلم الناس وأخذ أموالهم وسفك دماءهم ، وارتكب المحذورات واستحسن القبائح المحظورات ، فابتهج الناس بقتله ». (٣)

ولا يخفى وجود التضاد بين الوصفين ، فلو كان حسن المعرفة والعقل لما قبحت سيرته وما أخذ أموالَ الناس ولا أراق دماءهم. والله العالم.

وكان يطمع إلى عرش العباسيين في العراق ، ولكنَّ الأحداث الداخليّة حالت بينه وبين أُمنيته .

يقول المقريزي : وكانت نفسه تحدّثه بالسفر والغارة علىٰ بغداد ، ومن شعره في ذلك :

______________________

١. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٩٠ ـ ١٩١.

٢. ابن خلكان : وفيات الأعيان : ٥ / ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، ولاحظ الخطط المقريزية : ١ / ٣٥٧ و ٢ / ٢٩٠.

٣. وفيات الأعيان : ٥ / ٣٠٢.

١٤٥
 &

دع اللوم عني لست مني بموثق

فلابدّ لي من صدمة المتحقق

وأسقى جيادي من فرات ودجلة

وأجمع شمل الدين بعد التفرق

وقال :

أما والذي حجّت إلى ركن بيته

جراثيم ركبان مقلّدة شهبا

لاقتحمن الحرب حتى يقال لي

ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا

وينزل روح الله عيسى ابن مريم

فيرضى بنا صحباً ونرضى به صحبا (١)

والمهم في تاريخه ، أنّه قتل الأفضل الذي مَهّدَ الطريقَ لأبيه المستعلي في زمانه ، ويقال أنّه قتل بأشارة أو مؤامرة الآمر بأحكام الله.

يقول المقريزي : وفي يوم الثلاثاء ، السابع عشر من صفر ، سنة خمس وتسعين ، أحضره الأفضل بن أمير الجيوش ، وبايع له ونصبه مكان أبيه ، ونعته بالآمر بأحكام الله ، وركب الأفضل فرساً ، وجعل في السّرج شيئاً ، وأركبه عليه لينمو شخص الآمر ، وصار ظهره في حجر الأفضل ، فلم يَزلْ تحت حجره حتّى قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة. (٢)

وقد مرّ آنفاً قول ابن خلكان بأنّ الآمر بأحكام الله مات ولم يعقب ، وربَّما يقال أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطّيب ، وربّما يقال بأنّ امرأته ولدت أُنثىٰ ، فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ ، الظافر ، الفائز ، ثمّ إلى العاضد.

وسنتطرق إلى حياة الأئمة الأربعة الذين لم يكونوا من صُلب الإمام السابق ، بل كانوا من أبناء عمّه ، ولأجل ذلك لا تصح تسميتهم بالأئمة ، وإنّما

______________________

١. المقريزي : الخطط : ٢ / ١٩١.

٢. المقريزي : الخطط : ٢ / ٢٩٠.

١٤٦
 &

هم دعاة ، حيث لم يكن في الساحة إمام ، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيِّب بالستر ، وما تزال تنتظر دعوته ، وتوقفت عن السير وراء الركب الإمامي ، واتبعت نظام الدعاة المطلقين. (١)

الإمام الثالث

الحافظ لدين الله

( ٤٦٧ ـ ٥٤٤ هـ )

ولد بعسقلان سنة ٤٦٧ هـ ، عندما مات الآمر ، وتوفي في الخامس من جمادى الأُولى سنة ٥٤٤ هـ ، فدامت دولته عشرين سنة سوى خمسة أشهر ، وعاش سبع وسبعين سنة ، وقام بعده ولده الظاهر. (٢)

عبد المجيد الملقب بالحافظ ، ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر ، بويع بالقاهرة يوم مقتل ابن عمّه الآمر ، بولاية العهد وتدبير المملكة ، حتى يظهر الحمل المخلف عن الآمر ، فغلب عليه أبو علي أحمد بن الأفضل ، في صبيحة يوم مبايعته ، وكان الآمر لمّا قتل الأفضل اعتقل جميع أولاده وفيهم أبو علي المذكور ، فأخرجه الجند من الاعتقال لما قُتل الآمر ، وبايعوه فسار إلى القصر ، وقبض على الحافظ المذكور ، واستقلّ بالأمر وقام به أحسن قيام ، وردّ على المصادرين أموالهم ، وأظهر مذهب الإماميّة وتمسك بالأئمّة الاثني عشر ، ورفض الحافظ وأهل بيته ، ودعا على المنابر للقائم في آخر الزمان المعروف بالإمام المنتظر علىٰ زعمهم ، وكتب اسمه على السّكة ، ونهى أن يؤذن ( حي على خير العمل ) وأقام كذلك ، إلى أن وثب عليه

______________________

١. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٩١.

٢. ابن خلكان ، وفيات الأعيان : ٣ / ٢٣٦ ، دار صادر.

١٤٧
 &

رجل من الخاصّة بالبستان الكبير بظاهر القاهرة ، في النصف من المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة فقتله ، وكان ذلك بتدبير الحافظ ، فبادر الأجناد بإخراج الحافظ ، وبايعوه ولقبوه الحافظ ، ودعي له على المنابر. (١)

الإمام الرابع

الظافر بأمر الله

( ٥٢٧ ـ ٥٤٩ هـ )

هو إسماعيل بن عبد المجيد ولد في القاهرة يوم الأحد منتصف شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة ، واغتيل في منتصف محرم سنة ٥٤٩ هـ ، بويع الظافر يوم مات أبوه ، بوصيّة أبيه ، وكان أصغر أولاد أبيه سناً ، ولي الأمر بعد أبيه وكان شاباً جميلاً.

وهو الذي انشأ الجامع المعروف بجامع الفاكهيين ، قتله نصر بن عباس أحد أبناء وزرائه ، وقد ذكر المؤرخون سبب قتله وتفصيله ، فمن أراد فليراجع. (٢)

وعاش الظافر ٢٢ سنة.

______________________

١. وفيات الأعيان : ٣ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، وسير أعلام النبلاء : ١٥ / ١٩٩.

٢. المقريزي : الخطط : ٢ / ٣٠ وذكره بايجاز ابن خلكان في وفيات الأعيان : ١ / ٢٣٧ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء : ١٥ / ٢٠٤.

١٤٨
 &

الإمام الخامس

الفائز بنصر الله

( ٥٤٤ ـ ٥٥٥ هـ )

هو عيسى بن إسماعيل ولد عام ٥٤٤ هـ ، وتسلّم الخلافة وله خمس سنين ، وبقى على سدّة الخلافة ست سنين ، ولَمّا اُغتيل أبوه ، أقامه الوزير عباس مكان والده ، تغطية لِما ارتكبه ابنُه من قتل الإمام الظافر ، فلمّا قدم طلائع بن رزيك ، والي الاشمونين بمجموعة إلى القاهرة ، فرّ عباس ، واستولى طلائع على الوزارة ، وتلقّب بالصالح ، وقام بأمر الدولة ، إلى أن مات الفائز لثلاثة عشرة بقيت من رجب سنة ٥٥٥ هـ عن إحدىٰ عشرة سنة وستة أشهر ويومين ، منها في الخلافة ست سنين وخمسة أشهر وأيام. (١)

الإمام السادس

العاضد لدين الله

( ٥٤٦ ـ ٥٦٧ هـ )

هو عبد الله بن يوسف ولد عام ٥٤٦ هـ وتوفي عام ٥٦٧ هـ ، وهو عبد الله ابن يوسف بن عبد المجيد بن محمد بن المنتصر ، أقامه طلائع بن رزيك ، بعد الفائز ، ولي المملكة بعد وفاة ابن عمّه الفائز بنصر الله ، وكان العاضد شديدَ التشيّع ، بويع وعمره آنذاك إحدى عشرة سنة ، وقام الصالح بن رزيك ، أخو طلائع بن رزيك ، بتدبير الأُمور ، إلى أن قتل في رمضان سنة ٥٥٦ هـ فقام من بعده

______________________

١. المقريزي : الخطط : ١ / ٣٥٧ ، لاحظ وفيات الأعيان : ٣ / ٢٩١ ، رقم الترجمة ٥١٤ ، والذهبي : سير اعلام النبلاء : ١٥ / ٢٠٧ رقم الترجمة ٧٨ ، وقصد فصل الأخيران الكلام في حياته.

١٤٩
 &

ابنه رزيك بن طلائع ، وحسنت سيرته.

يقول المقريزي : فلما قوى تمكّن الافرنج في القاهرة عام ٥٦٤ هـ ، وجاروا في حكمهم بها ، وركبوا المسلمين بأنواع الإهانة ، فسار مري ملك الافرنج يريد أخذ القاهرة ، ونزل علىٰ مدينة بلبيس وأخذها عنوة ، فكتب العاضد إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستصرخه ويحثّه على نجدة الإسلام وإنقاذ المسلمين من الافرنج ، فجهّز أسد الدين شيركوه في عسكر كثير ، وسيّرهم إلى مصر ، فلما اطّلع الافرنج علىٰ قدوم شيركوه ، رحلوا عن القاهرة في السابع من ربيع الآخر ، ونزل شيركوه بالقاهرة ، فخلع عليه العاضد وأكرمه ، وتقلّد وزارة العاضد وقام بالدولة شهرين وخمسة أيّام ، ومات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة ، ففوض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب ، فساس الأُمور ودبّر لنفسه ، فبذل الأموال وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال ، فلم يزل أمرُهُ في ازدياد ، وأمر العاضد في نقصان ، واستبدَّ بالأُمور ومنع العاضد من التصرّف حتىٰ تبيّن للناس ما يريده من إزالة الدولة ، إلى أن كان من واقعة العبيد ما كان فأبادهم وأفناهم ، ومن حينئذٍ تلاشىٰ العاضد وانحل أمره ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة ، وتتبع صلاح الدين جُندَ العاضد ، وأخذ دور الأُمراء ، وإقطاعاتهم ، فوهبها لأصحابه ، وبعث إلىٰ أبيه وإخوته وأهله فقدموا من الشام عليه ، وعزل قضاة مصر الشيعة ، واختفىٰ مذهب الشيعة إلىٰ أن نسي من مصر ، وقد زاد المضايقات على العاضد وأهل بيته ، حتى مرض ومات ، وعمره إحدىٰ وعشرون سنة إلّا عشرة أيّام ، وكان كريماً ليّن الجانب مرّت به مخاوف وشدائد ، وهو آخر الخلفاء الفاطميين بمصر ، وكانت مدّتهم بالمغرب ، ومصر ، منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد ٢٧٢ سنة ، منها بالقاهرة ٢٠٨ سنين فسبحان الباقي. (١)

______________________

١. المقريزي ، الخطط : ١ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩ باختصار ، وابن خلكان : وفيات الأعيان : ٣ / ١٠٩ ـ ١١٢ ، والذهبي : سير اعلام النبلاء : ١٥ / ٢٠٧ ـ ٢١٥.

١٥٠
 &

جناية التاريخ على الفاطميين

إنّ لكلّ دولة أجلاً مسمّى ، كما أنّ لطلوعها ونشوئها عللاً ، كذلك لزوالها وإبادتها أسباباً سنّة الله سبحانه الذي قد كتب على كلّ أُمّة أمرَ زوالها وفنائها قال سبحانه : ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (١) وقال سبحانه : ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾. (٢)

لا شكّ أنّ كلَّ دولة يرأسها غيرُ معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات ، بل من جرائم وآثام ، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن ، تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

ومع ذلك فالدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد ، فقد كانت لديهم زلّات وعثرات ومآثم وجرائم كسائر الدول.

إلّا أنّهم قاموا بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلّا الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته ، كالجامع الأزهر ، ـ الذي ظل عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة ـ ، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ، ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم ، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلامية إلى مرتبة عالية ، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

وممّا يدلّ على أنّ حكمهم لم يكن حكماً استبدادياً ، ولم تكن سيرتهم على سفك الدماء ، أنّ البعضَ منهم تسلموا الخلافة وهم بين خمس سنين إلى عشر سنين ، فلو كانت حكومتهم حكومة ظالمة ومالكة للرقاب بالتعسف والظلم ، لانهار ملكهم منذ أوائل خلافتهم ، ولم يدم ثلاثة قرون ، وسط عدوّين شرسين ، الخلافة العباسيّة من جانب ، والافرنج من جانب آخر.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرونهم كالفراعنة ، وأنّهم فراعنة الأعصار

______________________

١. الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧.

٢. الأنبياء : ٣٤.

١٥١
 &

الإسلامية ، كالقبطيين الذي كانوا فراعنة أعصارهم ، لا لم يكونوا بهذه المثابة ، كما لم يكونوا نزيهين عن الآثام ، خلطوا المحاسن بالمساوئ ، شأن كلّ ملك يحكم ، وإن كانت محاسنهم أكثر من مساوئهم ، فأظن أنّ ما كتبته أقلام السير والتاريخ كلّها حدسيّات وتخمينات أخذوها من رماة القول على عواهنه ، فيجب على القارئ دراسة سيرة الفاطميين من رأس وأخذها من معين صاف غير مشوب بالعداء.

والذي يدل على ذلك أنّ الفقيه عمارة اليمني كتب إلى صلاح الدين قصيدة متضمنة شرح حاله وضرورته وسماها « شكاية المتظلم ونكاية المتألم » وهي بديعة ورثى أصحاب القصر عند زوال ملكهم ، بقصيدة لاميّة أجاد فيها. (١)

وعلى كلّ تقدير ، فبعد وفاة الطيّب بن الآمر وخلافة الأئمّة الأربعة المتأخرة ، الحافظ ، الظافر ، الفائز ثمّ العاضد ، دخلت الدعوة المستعلية بالستر وتوقفت عن السير وراء الركب الإمامي واتبعت نظام الدعاة مكان الأئمّة.

إلى هنا تم بيان أئمة المستعلية ، التي افترقت بعد المستنصر بالله ، وصارت فرقة عظيمة معروفة بالبهرة ، ولهم اليوم في الهند نشاطات ، ومدارس ودعايات ، وهم يمسكون بكتبهم عن الغير ويبخلون بها.

إنّ الإسماعيلية المستعلية انقسمت سنة ٩٩٩ هـ إلىٰ فرقتين : داودية ، وسليمانية ، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق ، داود بن عجب شاه ، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له ، ولكن اليمانيين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخراً ، يدعىٰ سليمان بن الحسن ، ويقولون : إنّ داود قد أوصىٰ له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق ، للفرقة الإسماعيلية المستعلية الداودية اليوم ، هو طاهر سيف الدين ، ويقيم في بومباي ـ الهند ـ أمّا الداعي المطلق للفرقة المستعلية السليمانية ، فهو علي بن الحسين ، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (٢)

______________________

١. ابن خلكان : وفيات الأعيان : ٤٣٤.

٢. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٦٢.

١٥٢
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

١٥٣
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

١٥٤
 &

قد عرفت أنّ الإسماعيلية افترقت فرقتين ، بين مستعلية تأتم بعد المستنصر بالله ، بأحمد المستعلي ، ثمّ الآمر بأحكام الله ؛ ونزارية تقول : بإمامة نزار بن معد بعد المستنصر ، ولا تأتم بالمستعلي أبداً ، وقد تعرّفت علىٰ أئمّة المستعلية ، وهذا بيان لأئمّة النزارية المشتركة بين الفرقتين « المؤمنية » و « الآغاخانية » ، فإنّ الفرقتين تتفقان على إمامة الأئمة الخمسة التالية :

١. المصطفى بالله نزار بن معد المستنصر.

٢. الإمام جلال الدين حسن بن أعلى محمد.

٣. الإمام علاء الدين بن الإمام جلال الدين.

٤. الإمام ركن الدين خورشاه بن الإمام علاء الدين.

٥. الإمام شمس الدين بن ركن الدين.

وقد اتّفقت الفرقتان على إمامة الأئمّة الخمسة في مسلسل أئمّتهما ، واختلفتا في غيرهم ، فإليك قائمة بأسماء أئمّة النزارية المؤمنية أوّلاً ، ثمّ قائمة بأسماء أئمّة النزارية « الآغاخانية » أو « القاسمية » ثانياً ، وترى أسماء الأئمّة المتفق عليهم في كلتا القائمتين.

* * *

١٥٥
 &

قائمة الأئمّة النزارية المؤمنية :

١. نزار بن معد.

٢. حسن بن نزار.

٣. محمد بن الحسن.

٤. حسن بن محمد « جلال الدين ».

٥. محمد بن الحسن « علاء الدين ».

٦. محمود بن محمد « ركن الدين ».

٧. محمد بن محمود « شمس الدين ».

٨. مؤمن بن محمد.

٩. محمد بن مؤمن.

١٠. رضي الدين بن محمد.

١١. طاهر بن رضي الدين.

١٢. رضي الدين الثاني بن طاهر.

١٣. طاهر بن رضي الدين الثاني.

١٤. حيدر بن طاهر.

١٥. صدر الدين بن حيدر.

١٦. معين الدين بن صدر الدين.

١٧. عطية الله بن معين الدين.

١٨. عزيز بن عطية الله.

١٩. معين الدين الثاني بن عزيز.

٢٠. محمد بن معين الدين الثاني.

٢١. حيدر بن محمد.

٢٢. محمد بن حيدر ( الأمير الباقر ). (١)

ولد هذا الإمام الأخير في أورنك آباد عام ١١٧٩ هـ ، لقبه محمد الباقر ( وتوفي سنة ١٢١٠ هـ ) ، كلّ ما عرف عنه حتى الآن ، هو أنّه آخر إمام من أسرة مؤمن ، يحتفظ الإسماعيليون في سوريا بفرمان مرسل منه ، من بلدة أورنك آباد بالهند ، إلى الإسماعيليين في سوريا ، وفي عهده توقف الفرع المؤمني النزاري عن الركب الإمامي ، ولم يبق بين فرق الإسماعيليين سوى القاسمية ـ الآغاخانية ـ سائرة على المنهج دون توقف. (٢)

______________________

١. الإمامة في الإسلام : ١٧٨.

٢. الإمامة في الإسلام : ٢١٤.

١٥٦
 &

قائمة الأئمّة النزارية القاسمية ـ الآغاخانية :

١. نزار بن معد.

٢. هادي.

٣. مهتدي.

٤. قاهر .

٥. حسن على ذكره السلام.

٦. أعلىٰ محمد.

٧. جلال الدين حسن.

٨. علاء الدين محمد.

٩. ركن الدين خورشاه.

١٠. شمس الدين محمد.

١١. قاسم شاه.

١٢. اسلام شاه.

١٣. محمد بن اسلام.

١٤. المستنصر بالله الثاني.

١٥. عبد السلام.

١٦. غريب ميرزا.

١٧. أبو الذر علي .

١٨. مراد ميرزا .

١٩. ذو الفقار علي.

٢٠. نور الدين علي.

٢١. خليل الله علي.

٢٢. نزار علي.

٢٣. السيد علي.

٢٤. حسن علي.

٢٥. قاسم علي.

٢٦. أبو الحسن علي.

٢٧. خليل الله علي.

٢٨. حسن علي.

٢٩. علي شاه.

٣٠. سلطان محمد شاه

٣١. كريم خان. (١)

فعدد الأئمّة عند النزارية المؤمنية بعد المستنصر يبلغ ٢٢ إماماً ، وعند الآغاخانية يبلغ ٣١ إماماً.

______________________

١. الإمامة في الإسلام : ١٧٨.

١٥٧
 &

إنّ الاختلاف بدأ يدبُ بعد الإمام نزار ابن المستنصر ، ففي الشجرة المؤمنية نرىٰ إمامين بعد نزار ، هما : حسن ، ومحمد ، ثمّ حسن جلال الدين ، وفي الشجرة القاسميّة نرىٰ خمسة أئمّة بعد نزار ، هم : هادي ، ومهتدي ، وقاهر ، وحسن على ذكره السلام ، وأعلىٰ محمد ، ثم يأتي جلال الدين حسن ، هذا ويلاحظ أنّه بعد هذا الالتقاء عند حسن جلال الدين ، تعود الشجرتان إلى السير جنباً إلى جنب حتى محمد شمس الدّين ، فبعد وفاة هذا الأخير ظهر اختلاف من نوع جديد ، فالمعلوم أنّه كان للإمام محمد شمس الدين ثلاثة أولاد ، هم : مؤمن شاه ، وقاسم شاه ، وكياشاه.

فالمؤمنيّة اعترفت بإمامة مؤمن شاه ، وسارت وراءه ، ووراء ولده من بعده حتى آخرهم أمير محمد باقر سنة ١٢١٠ هـ ، والقاسميّة سارت وراء قاسم شاه ، وولده الذين هم أسرة آغا خان. (١)

ثمّ إنّ بسط الكلام في ترجمة هؤلاء الأئمّة يحوجنا إلى تأليف كتاب مفرد ، ولنقتصر علىٰ ترجمة الأئمّة الذين حكموا قلعة آلموت من قلاع قزوين ، التي دمّرها هولاكو سنة ٦٥٤ هـ. وكان آخر الأئمّة في تلك القلاع الإمام ركن الدين ، الذي ولد عام ٦٢٥ هـ وأُسّر بيد جيوش التتر ، وقتل سنة ٦٥٤ هـ عند ما كانت الجيوش التترية تعبر نهر جيحون لتسليم الإمام والأسرىٰ إلى هولاكو.

وأمّا الباقي فسنترك ذكر سيرتهم ، ومن أراد المزيد فليرجع إلى المصادر التالية :

١. الإمامة في الإسلام تأليف عارف تامر ، ٢. تاريخ الدعوة الإسماعيلية لمصطفى غالب.

______________________

١. الإمامة في الإسلام : ١٧١.

١٥٨
 &

الإمام الأوّل

المصطفى بالله نزار بن معد المستنصر

( ٤٣٧ ـ ٤٩٠ هـ )

قد تعرفت على أنّ المستنصر عهد بالولاية لابنه نزار إلّا أنّ الأفضل رئيس الوزراء ، سعى لخلعه ، وبايع أخاه الأصغر أحمد المستعلي ، وقد ذكرنا سبب هذا الخلاف ، فغادر الإمام نزار القاهرة بصحبة عدّة من رجال دعوته ، ونزل الاسكندرية بدعوة من حاكمها ، فسار إليه الأفضل علىٰ رأس جيش وحاصر الاسكندرية ، وعندما اشتدَّ الحصار عليها غادرها الإمام نزار مع أهل بيته متخفّياً بزي التجار ، نحو « سجلماسة » حيث مكث عند عمّته هناك بضعة أشهر ، حتى عادت إليه الرسل التي أوفدها لإبلاغ الحسن بن الصباح عن محل إقامته ، فسار إلى جبال الطالقان مع أهل بيته ومن بقي معه من دعاته وخدمه ، حيث استقر بقلعة « آلموت » بين رجال دعوته المخلصين ، وعمل مع الحسن بن الصباح علىٰ تأسيس الدولة النزارية ، وبعد أن تمّ له ذلك أصابه مرض شديدٌ استدعى علىٰ أثره دعاته ونص على إمامة ابنه ( علي ) وذلك سنة ٤٩٠ هـ ، وتوفي في اليوم الثاني ودفن في قلعة الموت. (١)

هذا ما يذكره ذلك المؤرخ ، ولكنَّ غيره من المؤرخين يذكرون شيئاً آخر ، وهو أنّ الأفضل لحق به ونشبت بينهم معارك ضارية انتهت بمقتل نزار ، وقد انتقم

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ٢٥٥.

١٥٩
 &

النزاريون بمقتله فيما بعد بأن قتلوا الخليفة الفاطمي الآمر بن المستعلي ، ورئيس الوزراء الأفضل نفسه. وعلىٰ كلّ تقدير فقد توفي عام ٤٩٠ هـ إمّا في الاسكندرية مقتولاً ، أو في قلعة آلموت. (١)

وتجدر الإشارة إلى أنّ الحسن بن الصباح شيخ الجبل ( ٤٢٨ ـ ٥١٨ هـ ) هو المؤسس الواقعي للإمامة النزارية ، ولولا بيعته لابن المستنصر لما كان للنزارية دولة.

إنّ ابن الصباح قصد المستنصر بالله في زياراته واجتمع به ، وخاطبه في إقامة الدعوة له فأجاب الدعوة له في بلاد العجم ، فعاد ودعا الناس إليه سراً ، ثمّ أظهرها وملك قلاع آلموت.

يقول الجزري : وكان الحسن بن الصباح رجلاً شهماً ، كافياً ، عالماً بالهندسة ، والحساب ، والنجوم والسحر وغير ذلك ؛ وكان رئيس الري إنسان يقال له أبو مسلم ، وهو صهر نظام الملك ، فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه ، فخافه ابن الصباح ، وكان نظام الملك يكرمه ، وقال له يوماً من طريق الفراسة : عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام ، فلمّا هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه ، فطاف البلاد ، ووصل إلى مصر ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالاً ، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته ، فقال له الحسن : فمن الإمام بعدك ؟ فأشار إلى ابنه نزار ، وعاد من مصر إلى موطنه ، فلمّا رأى قلعة آلموت واختبر أهل تلك النواحي ، أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر ، وأظهر الزهد ، ولبس المسح ، فتبعه أكثرهم ، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه ، يجلس إليه يتبرك به.

فلمّا أحكم الحسن أمره ، دخل يوماً على العلوي بالقلعة ، فقال له ابن الصباح : اخرج من هذه القلعة ، فتبسم العلوي وظنّه يمزح ، فأمر ابن الصباح

______________________

١. وليعلم أنّ نزار بن معد المذكور في المقام غير نزار بن معد العزيز بالله الإمام العاشر للإسماعيلية.

١٦٠