بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-272-3
الصفحات: ٤٥٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

أحد الأُمراء الإسماعيليين وقبض عليه وساقه إلى الإمام المنصور ، وكان ذلك سنة ٣٣٦ هجرية ، فقتله وأمر الإمام أن تبنىٰ مدينة « المنصورية » تيمّناً بذلك الانتصار العظيم ، ثمّ عاد الإمام إلى المهدية في شهر رمضان عام ٣٣٦ هجرية ، فعهد بالإمامة من بعده لولده المعز لدين الله ، وتوفي يوم الأحد في الثالث والعشرين من شوال سنة ٣٤٦ هجرية ، ودفن جسده الطاهر في مدينة المنصورة ، وقيل كانت وفاته سنة ٣٤٣ هجرية ودفن بالمهدية. (١)

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ١٩٠.

١٢١
 &

الإمام التاسع

المعزّ لدين الله

مؤسس الدولة الفاطمية في مصر

( ٣١٩ ـ ٣٦٥ هـ )

وهو أوّل خليفة فاطمي ملك مصر وخرج إليها ، وكان مغرىً بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين ، وكان المعز عالماً ، فاضلاً ، جواداً ، شجاعاً ، جارياً على منهاج أبيه في حسن السيرة ، وإنصاف الرعية ، وستر ما يدعون إليه إلّا عن الخاصة ، ثمّ أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلّا أنّه لم يخرج فيه إلى حد يذم به. (١)

يقول المقريزي : المعز لدين الله أبو تميم ، « معد » ولد للنصف من رمضان سنة ٣١٩ هـ فانقاد إليه البربر وأحسن إليهم ، فعظم أمره واختص من مواليه ، « بجوهر » وكنّاه بأبي الحسين ، وأعلى قدره ، وسيّره في رتبة الوزارة ، وعقدَ له علىٰ جيش كثيف ، فدوّخ المغرب ، وافتتح مدناً ، وقهر عدّة أكابر وأسّرهم ، حتى أتىٰ البحر المحيط الذي لا عمارة بعده ، ثمّ قدم غانماً مظفراً ، فعظم قدرُه عند المعزّ ، ولما وصل الخبر إلى المعز بموت كافور الإخشيدي صاحب مصر أخذ في تجهيز جوهر بالعساكر إلى أخذ ديار مصر حتى تهيأ أمره ، وبرز للمسير ، فلمّا ثبتت قدم جوهر بمصر ، عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره فيمن يخلفه في بلاد المغرب ، فوقع اختياره على « يوسف بن زيري الصنهاجي » ، وقال له : تأهب لخلافة المغرب ،

______________________

١. الجزري : الكامل في التاريخ : ٨ / ٦٦٤.

١٢٢
 &

فأكبر ذلك وقال : يا مولانا أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صفا لكم المغرب فكيف يصفو لي وأنا صنهاجيّ بربريّ ؟! قتلتني يا مولانا بغير سيف ولا رمح. فما زال به المعز حتى أجاب.

فلمّا ملك جوهرُ مصر بادر حسن بن جعفر الحسني بالدعاء للمعز في مكة ، وبعث إلى « جوهر » بالخبر ، فسيّر إلى المعزّ يعرّفه بإقامة الدعوة له بمكة ، فأنفذ إليه بتقليده الحرم وأعماله ، وسار المعز بعساكره من المغرب حتى نزل بالجيزة ، فعقد له جوهر جسراً جديداً عند المختار بالجزيرة ، فسار إليه وقد زيّنت له مدينة الفسطاط فلم يشقها ، ودخل إلى القاهرة بجميع أولاده وإخوته وسائر أولاد عبيد الله المهدي ، وذلك لسبع خلون من رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ، فعندما دخل القصر صلّىٰ ركعتين ، وأمر فكتب في سائر مدن مصر : خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وأثبت اسم المعزّ لدين الله واسم أبيه عبد الله الأمير ، وجلس في القصر علىٰ سرير الذهب ، وصلّىٰ بالناس صلاة عيد الفطر في المصلّىٰ ، وركب لفتح خليج مصر يوم الوفاء وعمل عيد غدير خم. وقدمت القرامطة إلى مصر فسير إليهم الجيوش وهزموهم ، وما زال إلى أن توفي من علة اعتلّها بعد دخوله إلى القاهرة بسنتين وسبعة أشهر وعشرة أيّام وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريباً ، فإنّ مولده بالمهدية في حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة (١) ، ووفاته بالقاهرة لأربع عشرة خلت من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة ، وكانت مدّة خلافته بالمغرب وديار مصر ثلاثاً وعشرين سنة وعشرة أيّام وهو أوّل الخلفاء الفاطميين بمصر وإليه تنسب القاهرة المعزية ، لأنّ عبده « جوهراً » القائد بناها حسب ما رسم له.

وكان المعز عالماً ، فاضلاً ، جواداً ، أحسن السيرة منصفاً للرعية ، مغرماً بالنجوم ، أُقيمت له الدعوة بالمغرب كله وديار مصر والشام والحرمين وبعض

______________________

١. وقد أرخ ميلاده عارف تامر بـ ٣٤٧ وهو خطأ واضح.

١٢٣
 &

اعمال العراق ، وقام من بعده ابنه العزيز بالله أبو منصور نزار. (١)

يقول ابن خلكان : وكان المعز عاقلاً ، حازماً ، سرياً ، أديباً ، حسن النظر في النجامة ، وينسب إليه من الشعر قوله :

لله ما صنعت بنا

تلك المحاجر في المعاجر

أمضي وأقضي في النفو

س من الخناجر في الحناجر

ولقد تعبت ببينكم

تعب المهاجر في الهواجر

وينسب إليه أيضاً :

اطلع الحسن من جبينك شمسا

فوق ورد في جنتيك اطلا

وكأن الجمال خاف على الور

د جفافاً فمد بالشعر ظلا

وهو معنى غريب بديع. (٢)

ويقول في موضع آخر : ملك المعز أبو تميم معد بن المنصور العبيدي الديار ا لمصرية على يد القائد جوهر ، وجاء المعزّ بعد ذلك من إفريقية ، وكان يُطعن في نسبه ، فلمّا قرب من البلد وخرج الناس للقائه ، اجتمع به جماعة من الأشراف ، فقال له من بينهم ابن طباطبا : إلى من ينتسب مولانا ؟ فقال له المعزّ : سنعقد مجلساً ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا. فلمّا استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم ، وقال : هل بقي من رؤسائكم أحد؟ فقالوا : لم يبق معتبر ، فسلّ عند ذلك نصف سيفه وقال : هذا نسبي ، ونثر عليهم ذهباً كثيراً ،

______________________

١. وفيات الأعيان : ٥ / ٢٢٤. المقريزي : كتاب الخطط المقريزية : ١ / ٣٥٢ ـ ٣٥٤ ، دار صادر . ومن الغريب أنّ المقريزي ذكر ولادة المعز سنة ٣١٧ تارة وأُخرى بسنة ٣١٩ ، وقد اعتمدنا في تعيين سنة ولادته علىٰ نقل ابن خلكان.

٢. ابن خلكان : وفيات الأعيان : ٥ / ٢٢٨.

١٢٤
 &

وقال : هذا حسبي ، فقالوا جميعاً : سمعنا وأطعنا. (١)

لا شكّ انّ عصر المعز لدين الله من العصور الذهبية للإسماعيلية حيث أصبحت مصر داراً للخلافة ، وأصبح الإمام المعز أوّل خليفة فاطمي فيها ، فعمل علىٰ ترقية العلوم والثقافة ، وأمر ببناء الجامع الأزهر ، وجعله داراً للعلوم ومنهلاً للثقافة والفكر ، وشجّع العلماء ، وخصّص لهم المبالغ الطائلة ، فوفدوا عليه من كلّ قطر حيث وجدوا المساعدات.

كما أشرف بنفسه علىٰ تأليف الكتب علىٰ غرار المذهب الإسماعيلي ، فتقدمت الثقافة الإسماعيلية تقدماً باهراً ، وازدهر في عصره فقهاء وشعراء وفلاسفة يشار إليهم بالبنان.

فمن فقهاء عصره : القاضي النعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي مؤلف كتاب « دعائم الإسلام » ، توفي بالقاهرة في ٢٩ من جمادى الثانية سنة ٣٦٣ هـ ، وصلّى عليه الإمام المعز لدين الله.

خدم المهدي بالله مؤسس الدولة الفاطمية تسع سنوات ، ثمّ ولي قضاء طرابلس في عهد القائم بأمر الله الخليفة الثاني للفاطميين ، وفي عهد الخليفة الثالث المنصور بالله عين قاضياً للمنصورية ، ووصل إلى أعلى المراتب في عهد المعز لدين الله الخليفة الرابع الفاطمي إذ رفعه إلىٰ مرتبة قاضي القضاة وداعي الدعاة.

وقد نشر كتابه لأوّل مرّة في مستدرك الوسائل للمحدّث النوري ( ١٢٥٤ ـ ١٣٢٠ هـ ) مبعّضاً وموزعاً أحاديثه على أبواب الكتب الفقهية كما تم طبعه مستقلاً بتحقيق آصف بن علي أصغر فيضي في مصر عام ١٣٧٤ هـ ، وطبع ثالثاً على الأُفست في بيروت عام ١٣٨٣ هـ.

______________________

١. ابن خلكان : وفيات الأعيان : ٣ / ٨١.

١٢٥
 &

ومن شعراء عصره ابن هانئ الأندلسي ، وهو محمد بن هانئ الأندلسي من قرية اشبيلية ، ولد عام ٣٢٠ هـ ولقب بأبي القاسم ، ولما اتهم بمذهب الإسماعيلية غادر الأندلس نازلاً إلى المغرب ، واتصل بأميره ، فبالغ في إكرامه وأحسن إليه ، ولما وصل خبره إلى المعز طلبه من أمير المغرب ، فأقام عنده حتى ارتحل الإمام المعز إلى مصر فلحق به فيها.

كان ابن هانئ من فحول الشعراء ، ولكن قصائده تحكي عن غلوه في حقّ الأئمّة الإسماعيلية حيث تفوح منها رائحة الإلحاد ، وقد أعطى لهم ما للخالق من الأوصاف ، وإليك مقتطفات من أشعاره :

قال :

ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ

فاحكم فأنتَ الواحدُ القهّار

وكانّما أنت النبي محمّد

وكأنّما أنصارك الأنصار

أنت الذي كانت تبشّرنا به

في كتبها الأحبارُ والأخبار

هذا إمام المتقين ومن به

قد دوخ الطغيان والكفار

هذا الذي ترجى النجاة بحبِّه

وبه يُحطُ الإصر والأوزار

هذا الذي تجدي شفاعته غداً

حقاً وتخمد أن تراه النارُ (١)

إنّ بيته الأوّل ينم عن غلوّه غلواً يكسي صفة الخالق على المخلوق.

ومن العجب أنّ المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر حاول تصحيح الأشعار ، ودفع الفاسد بالأفسد ، حيث قال في تعليقته : إنّ العقيدة الإسماعيلية تنزّه الخالق عن الصفات كالعالم والقادر والصانع و ... ، فإنّ إطلاق الصفات عليه يوجب الكثرة في ذاته عندهم ، وهم يروون عن الإمام الباقر محمد بن علي زين العابدين

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ٢٠٩.

١٢٦
 &

قوله : « إنّ الله عالم على المعنى انّه يؤتي العلم من يشاء لا على معنى انّ العلم قائم بذاته ، وانّه تعالى قادر على معنى أنّ القدرة قائمة بذاتها ».

ولمّا كان الإمام قائماً مقام الأمر والكلمة في هذا العالم فجميع صفات الباري واقفة عليه ، ومن هنا نجد انّ إطلاق كلمة الواحد القهار على المعز إنّما هي حسب الاعتقاد. (١)

عزب عن هذا المسكين أوّلاً : انّ إطلاق الصفات عليه سبحانه لا توجب الكثرة في ذاته عند المحقّقين ، وذلك لأنّ الأوصاف وإن كانت مختلفة مفهوماً لكنّها متحدة وجوداً ، فذاته نفس العلم والقدرة والحياة ، لا انّ كلّ واحدة من هذه الصفات تمثل جزءاً من ذاته.

وثانياً : انّه لو صحّ ما ذكره من التفسير في العالم والقادر بمعنى أنّه سبحانه يعطي العلم والقدرة لا يصحّ ذلك في الواحد القهار ، إذ معناه عندئذ انّ الإمام يهب الوحدة والقهر من يشاء لكي يصحّ إطلاقها على الإمام ، ولا شكّ انّ في ما جاء به الشاعر غلواً واضحاً ، عصمنا الله من غلو الغالين وإبطاء التالين.

______________________

١. مصطفىٰ غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ٢٠٩ الهامش.

١٢٧
 &

الإمام العاشر

العزيز بالله

( ٣٤٤ ـ ٣٨٦ هـ ) (١)

نزار بن معد ، العزيز بالله ، ولي العهد بمصر يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر سنة ٣٦٥ هـ ، واستقل بالأمر بعد وفاة أبيه ، وكان يوم الجمعة حادي عشر الشهرالمذكور وسُتِرتْ وفاة أبيه وسُلّم عليه بالخلافة ، وكان شجاعاً ، حسن العفو عند المقدرة ، ذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب « يتيمة الدهر » وأورد له شعراً قاله في بعض الأعياد ، وقد وافق موت بعض أولاده وعقد عليه المآتم وهو :

نحن بنو المصطفى ذوو محن

يجرعها في الحياة كاظمنا

عجيبة في الأنام محنتنا

أوّلنا مبتلىٰ وخاتمنا

يفرح هذا الورى بعيدهم

طرّاً وأعياذنا مآتمنا

وفتحت له حُمْص وحماة وشَيْزَر ، وحلب ، والموصل ، وخطب له باليمن ولم يزل في سلطانه وعظم شأنه إلى أن خرج إلى بلبيس متوجهاً إلى الشام ، فابتدأت به العلّة في العشر الأخير من رجب سنة ست وثمانين وثلاثمائة ، ولم يزل مرضه يزيد حتى توفي في مسلخ الحمّام في الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة

______________________

١. وقد أرّخ عارف تامر تاريخ وفاته ٣٦٨ وهو خطأ.

١٢٨
 &

ست وثمانين وثلاثمائة. (١) بمدينة بلبيس وحمل إلى القاهرة.

وذكر ابن خلكان انّ تاريخ وفاته في الثامن والعشرين من شهر رمضان ، في حين انّ المقريزي ذكره في الثامن والعشرين من رجب مع توافقهما في سنة وفاته.

قال ابن الأثير : في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزار ابن المعز أبي تميم معد العلوي ، صاحب مصر لليلتين بقيتا من رمضان وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف ، بمدينة بلبيس ، وكان برز إليها لغزو الروم ، فلحقه عدة أمراض ، منها : النقرس ، والحصا ، والقولنج ، فاتصلت به إلى الشامات.

وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً ، ومولده بالمهدية من إفريقية. (٢)

قال الذهبي : وكان كريماً ، شجاعاً ، صفوحاً ، أسمر ، أصهب الشعر ، أعين ، أشهل ، بعيد ما بين المنكبين ، حسن الأخلاق ، قريباً من الرعية ، مغرى بالصيد ، ويكثر من صيد السباع ، ولا يؤثر سفك الدماء.

وفي سنة ٣٦٧ هـ جرت وقعات بين المصريين وهفتكين الأمير ، وقتل خلق ، وضرب المثل بشجاعة هفتكين وهزم الجيوش ، وفرّ منه جوهر القائد ، فسار لحربه صاحب مصر العزيز بنفسه ، فالتقوا بالرملة ، وكان « هفتكين » على فرس أدهم يجول في الناس ، فبعث إليه العزيز رسولاً يقول : أزعجتني وأحوجتني لمباشرة الحرب ، وأنا طالب للصلح ، وأهب لك الشام كلّه.

قال : فات الأمر ، ووقعت الحرب ، فحمل العزيز بنفسه عليه في الأبطال ، فانهزم هفتكين ومن معه من القرامطة ، واستحرَّ بهم القتل.

وفي سنة ٣٧٧ هـ تهيأ العزيز لغزو الروم فأُحرقت مراكبه ، فغضب وقتل

______________________

١. ابن خلكان : وفيات الأعيان : ٥ / ٣٧١ ـ ٣٧٤.

٢. ابن الأثير : الكامل في التاريخ : ٩ / ١١٦.

١٢٩
 &

مائتي نفس اتهمهم ، ثمّ وصلت رسل طاغية الروم بهديّة ، تطلب الهدنة ، فأجاب بشرط أن لا يبقىٰ في مملكتهم أسير ، وبأن يخطبوا للعزيز بقسطنطينية في جامعها ، وعقدت سبعة أعوام. (١)

______________________

١. الذهبي : سير أعلام النبلاء : ١٥ / ١٦٧ ـ ١٧٢.

١٣٠
 &

الإمام الحادي عشر

الحاكم بأمر الله

( ٣٧٥ ـ ٤١١ هـ )

هو منصور بن نزار (١) ولد يوم الخميس لأربع ليال بقين من شهر ربيع الأوّل سنة ٣٧٥ هـ ، وبويع في اليوم الذي توفي فيه والده أي سنة ٣٦٨ هـ ، وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام وهو من الشخصيات القليلة التي لم تتجلّ شخصيته بوضوح ، وقام بأعمال إصلاحية زعم مناوئوه انّها من البدع.

يقول الجزري : وبنى الجامع براشدة ، وأخرج إلى الجوامع والمساجد ، من الآلات ، والمصاحف ، والستور والحصر ما لم ير الناس مثله ، وحمل أهل الذمة على الإسلام ، أو المسير إلى مأمنهم ، أو لبس الغيار ، فأسلم كثير منهم ، ثمّ كان الرجل منهم بعد ذلك يلقاه ، ويقول له : إنّني أُريد العود إلى ديني ، فيأذن له.

أظن انّ إدخال الحصر إلى المساجد ، لأجل أنّ المسجود عليه في مذهب الشيعة يجب أن يكون إمّا أرضاً ، أو ما أنبتته الأرض ، فبما أنّ المساجد كانت مفروشة فحمل الحصر على ذلك.

ويقول أيضاً : ثمّ أمر في سنة ٣٩٩ هـ بترك صلاة التراويح ، فاجتمع الناس بالجامع العتيق ، وصلّى بهم إمام جميع رمضان ، فأخذه وقتله ، ولم يصل أحد

______________________

١. وأسماه في « الإمامة في الإسلام » بـ « الحسن بن نزار » ولكن في الخطط ، وتاريخ الدعوة الإسماعيلية حسب ما أثبتناه.

١٣١
 &

التراويح إلى سنة ٤٠٨ هـ. (١)

أقول : لقد قام الخليفة بمهمته ، فإنّ صلاة التراويح كانت تقام في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخليفة الأوّل بغير جماعة ، وإنّما أُقيمت جماعة في عصر الخليفة الثاني ، واصفاً إيّاها بالبدعة الحسنة ، ولمّا تسلّم الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام زمام الخلافة نهى الناس عن إقامتها جماعة ، فلمّا رأى إصرار الناس على إقامتها جماعة تركهم وما يهوون.

وأمّا رميه بتهمة قتل الإمام بعد انقضاء شهر رمضان ، فما لا يقبله العقل ، إذ كان في وسع الخليفة منعه من إقامتها أوّل الشهر فأي مصلحة كانت تكمن في استمهاله إلى آخر الشهر واكتسابه مكانة في القلوب ثمّ قتله ؟!

يقول المقريزي : جامع الحاكم بني خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة ، وأوّل من أسّسه أمير المؤمنين العزيز بالله ، نزار بن المعز لدين الله معد ، وخطب فيه وصلّى بالناس الجمعة ، ثمّ أكمله ابنه الحاكم بأمر الله ، فلمّا وسّع أمير الجيوش بدر الجمالي القاهرة ، وجعل أبوابها حيث هي اليوم صار جامعُ الحاكم داخل القاهرة. (٢)

وينقل أيضاً انّ الحاكم بأمر الله أمر في سنة ٣٩٣ هـ أن يتم بناء الجامع الذي كان الوزير يعقوب بن كاس بدأ في بنيانه عند باب الفتوح ، فقدّر للنفقة عليه أربعون ألف دينار ، فابتدأ بالعمل فيه وفي صفر سنة إحدى وأربعمائة زيد في منارة جامع باب الفتوح وعمل لها أركاناً ، طول كلّ ركن مائة ذراع.

وفي سنة ٤٠٣ هـ أمر الحاكم بأمر الله بعمل تقدير ما يحتاج إليه جامع باب الفتوح من الحصر والقناديل والسلاسل ، فكان تكسير ما ذرع للحصر ٣٦ ألف ذراع ، فبلغت النفقة على ذلك خمسة آلاف دينار.

______________________

١. الجزري : الكامل في التاريخ : ٩ / ٣١٦ ـ ٣١٧.

٢. المقريزي : الخطط : ٢ / ٢٧٧.

١٣٢
 &

وتم بناء الجامع الجديد بباب الفتوح ، وعلّق على سائر أبوابه ستور ديبقية عملت له ، وعلّق فيه تنانير فضة عدّتها أربع وكثير من قناديل فضة ، وفرش جميعه بالحصر التي عملت له ، ونصب فيه المنبر ، وتكامل فرشه وتعليقه ، وأذن في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن بات في الجامع الأزهر أن يمضوا إليه ، فمضوا وصار الناس طول ليلتهم يمشون من كلّ واحد من الجامعين إلى الآخر بغير مانع لهم ولا اعتراض من أحد من عسس القصر ، ولا أصحاب الطوف إلى الصبح ، وصلّى فيه الحاكم بأمر الله بالناس صلاة الجمعة ، وهي أوّل صلاة أُقيمت فيه بعد فراغه. (١)

ما ذكرنا من محاسن أعماله قد أخفاها أعداؤه ، وبدل ذلك فقد نالوا منه وأكثروا في ذمّه وذكر مساوئ أعماله ، حتى تجد انّ الذهبي قد بالغ في ذمّه ووصفه بقوله : « العبيدي ، المصري ، الرافضي بل الإسماعيلي الزنديق المدّعي الربوبية ».

ثمّ يقول في موضع آخر : وكان شيطاناً مريداً ، جباراً عنيداً ، كثير التلوّن ، سفاكاً للدماء ، خبيث النحلة ، عظيم المكر ، جواداً ممدحاً ، له شأن عجيب ونبأ غريب ، كان فرعون زمانه ، يخترع كلّ وقت أحكاماً يلزم الرعية بها إلى آخر ما ذكر. (٢)

وعلى أيّ حال فهو من الشخصيات القلقة التي تجمع بين محاسن الأعمال ومساوئها.

ولولا انّ الحاكم كان من الشيعة لما وجد الذهبي السلفي في نفسه مبرراً لصب هذه التقريعات.

وقد اكتفينا بذلك في ترجمته ، لأنّ فيها أُموراً متناقضة ومتضادة لا يمكن الإذعان بصحّة واحد منها.

______________________

١. المقريزي : الخطط : ٢ / ٢٧٧ ، دار صادر.

٢. الذهبي : سير أعلام النبلاء : ١٥ / ١٧٤.

١٣٣
 &

انشقاق الإسماعيلية

كانت الإسماعيلية فرقة واحدة ، غير انّه طرأ عليهم الانشقاق ، فقال قوم منهم : بإلوهية الحاكم وغيبته ، وهم المعروفون اليوم بـ « الدروز » ، يقطنون لبنان.

فالدروز إسماعيلية محرّفة ، وسيوافيك البحث عن هذه الفرقة وعقائدها في باب خاصّ ، وهي أكثر غموضاً من سابقتها ، فهم يمسكون بكتبهم ووثائقهم عن الآخرين.

يقول المؤرخ المعاصر : وفي سنة ٤٠٨ استدعى الحاكم كبير دعاته ، وأحد المقربين إليه الموثوق بهم سيدنا « الحمزة بن علي » الفارسي الملقب بـ « الدرزي » وأمره أن يذهب إلى بلاد الشام ليتسلم رئاسة الدعوة الإسماعيلية فيها ، ويجعل مقره « وادي التيم » ، لأنّ الأخبار التي وردت إلى بيت الدعوة تفيد بأنّ إسماعيلية وادي التيم تسيطر عليهم التفرقة والاختلافات الداخلية ، حول تولّي رئاسة الدعوة هناك ولقبه الإمام بـ « السند الهادي ».

تمكّن الدرزي في وقت قليل من السيطرة على الموقف في وادي التيم وإعادة الهدوء والسكينة في البلاد ، وعمل جاهداً لتوسيع وانتشار الدعوة الإسماعيلية في تلك البلاد.

لبث الدرزي رئيساً للدعوة الإسماعيلية وكبيراً لدعاتها في بلاد الشام حتى أُعلنت وفاة الإمام الحاكم وولاية ابنه الطاهر.

لم يعترف الدرزي بوفاة الإمام الحاكم ، مدّعياً بأنّ وفاته لم تكن سوىٰ نوع من الغيبة لتخليص أنفس مريدي الإمام من الأدران ، وبقي متمسكاً بإمامة الحاكم ومنتظراً عودته من تلك الغيبة ، وبذلك أعلن انفصاله عن الإسماعيلية التي لا تعتقد بالغيبة ، وتقول بفناء الجسم وبقاء سر الإمامة بالروح ، فينتقل بموجب النص إلى إمام آخر وهو المنصوص عليه من قبل الإمام المتوفىٰ ، وسميت الفرقة

١٣٤
 &

التي تبعت الدرزي بالدرزية نسبة إليه.

وهكذا يتبين للقارئ الكريم بأنّ الدرزية والإسماعيلية عقيدتان من أصل واحد. (١)

وأمّا عن مصير الحاكم فمجمل القول فيه انّه فُقد في سنة ٤١١ هـ ، ولم يعلم مصيره ، وحامت حول كيفية اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر .

يقول الذهبي : وثمّ اليوم طائفة من طغام الإسماعيلية الذين يحلفون بغيبة الحاكم ، وما يعتقدون إلّا بأنّه باق ، وانّه سيظهر (٢).

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٢. الذهبي : سير أعلام النبلاء : ١٥ / ١٠٨ ، ابن الأثير : الكامل في التاريخ : ٩ / ١١.

١٣٥
 &

الإمام الثاني عشر

الظاهر لإعزاز دين الله

علي بن منصور (١)

( ٣٩٥ ـ ٤٢٧ هـ )

هو علي بن منصور ، ولد ليلة الأربعاء من شهر رمضان سنة ثلاثمائة وخمس وتسعين ، وبويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً يقول ابن خلكان : كانت ولايته بعد فقد أبيه بمدّة ، لأنّ أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة ٤١١ هـ ، وكان الناس يرجون ظهورَه ويتبعون آثاره إلى أن تحقّقوا عدمه ، فأقام ولده المذكور في يوم النحر من السنة المذكورة. (٢)

وقد أطنب المقريزي في سيرته وذكر حوادث حياته.

يقول المقريزي : مات الظاهر في النصف من شعبان سنة ٤٢٧ هـ عن اثنين وثلاثين سنة إلّا أيّاماً ، وكانت مدّة خلافته ١٥ سنة وثمانية أشهر. (٣)

وذكر الذهبي فتنة القرامطة عام ٤١٣ هـ فنقل عن محمد بن علي بن عبد الرحمان العلوي الكوفي انّه قال : لما صليت الجمعة والركب بعدُ بمنى ، قام رجل ،

______________________

١. سماه عارف تامر علي بن الحسن ، وفي المقريزي وتاريخ الدعوة كما أثبتناه.

٢. ابن خلكان : وفيات الأعيان : ٣ / ٤٠٧ ، دار صادر.

٣. المقريزي : الخطط : ١ / ٣٥٥.

١٣٦
 &

فضرب الحجر الأسود بدبّوس ثلاثاً ، وقال : إلى متى يُعبد الحجر فيمنعني محمد ممّا أفعله ؟ فإنّي اليوم أهدم هذا البيت ، فاتقاه الناس ، وكاد يفلت ، وكان أشقر ، أحمر ، جسيماً ، تام القامة ، وكان على باب المسجد عشرة فرسان على أن ينصروه ، فاحتسب رجل ، فوجأه بخنجر ، وتكاثروا عليه ، فأُحرق ، وقتل جماعة من أصحابه وثارت الفتنة ، فقتل نحو العشرين ونهب المصريون وقيل : أخذ أربعة من أصحابه ، فأقرّوا بأنّهم مائة تبايعوا علىٰ ذلك ، فضربت أعناق الأربعة ، وتهشّم وجه الحجر ، وتساقط منه شظايا وخرج مُكْسَرُه أسمر إلى صفرة. (١)

ويقال انّ الظاهر شنّ على الدروز حرباً محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطمية الأصيلة ، مدة خلافته كانت ستة عشر عاماً ... لم تنته هجمات الصليبيين عن الأراضي والثغور العائدة للدولة الفاطمية ، وقّع هدنة مع الروم. (٢)

______________________

١. الذهبي : سير أعلام النبلاء : ١٥ / ١٨٥ ـ ١٨٦ ، مؤسسة الرسالة.

٢. عارف تامر : الإمامة في الإسلام : ١٨٩.

١٣٧
 &

الإمام الثالث عشر

المستنصر بالله

( ٤٢٠ ـ ٤٨٧ هـ ) (١)

هو معد بن علي ، ولد يوم الثلاثاء في الثالث عشر من شهر جمادى الآخر سنة ٤٢٠ هـ ، وبويع بالخلافة يوم الأحد في منتصف شهر شعبان سنة ٤٢٧ هـ ، وكان له من العمر سبعة أعوام ، وقد ظل في الحكم ستين عاماً ، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلامية.

يقول ابن خلكان : وجرى على أيامه ما لم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممّن تقدّمه ولا تأخره ، منها :

١. قضية أبي الحارث أرسلان البساسيري ، فإنّه لمّا عظم أمره وكبر شأنه ببغداد ، قطع خطبة الإمام القائم وخطب للمستنصر المذكور ، وذلك في سنة خمسين وأربعمائة ، ودعا له علىٰ منابرها مدّة سنة.

٢. انّه ثار في أيّامه علي بن محمد الصليحي وملك بلاد اليمن ، ودعا للمستنصر على منابرها بعد الخطبة.

٣. انّه أقام في الأمر ستين سنة ، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس.

______________________

١. أرّخ كل من الكاتبين عارف تامر ومصطفى غالب تاريخ ولادته ٤٢٠ هـ.

١٣٨
 &

٤. انّه ولي العهد وهو ابن سبع سنين.

٥. انّ دعوتهم لم تزل قائمة بالمغرب منذ قام جدهم المهدي إلى أيام المعز ، ولمّا توجه المعز إلى مصر واستخلف بلكين بن زيري كانت الخطبة في تلك النواحي جارية على عادتها لهذا البيت إلى أن قطعها المعز بن باديس في أيام المستنصر ، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.

٦. أنّه حدث في أيّامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه‌السلام حتى قيل انّه بيع رغيف واحد بخمسين ديناراً ، وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده ، وكلّ من معه من الخواص مترجّلون ليس لهم دواب يركبونها ، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع ، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الانشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته ، وآخر الأمر توجهت أُم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع ، وتفرّق أهل مصر في البلاد وتشتتوا. (١)

وذكر الذهبي تفاصيل حياته بحسب السنين التي مرت عليه. (٢)

ولقي المستنصر شدائداً وأهوالاً ، وانفتقت عليه الفتوق بديار مصر أخرج فيها أمواله وذخائره إلى أن بقي لا يملك غير سجادته التي يجلس عليها ، وهو مع هذا صابر غير خاشع. (٣)

وقد توفي في الثامن عشر من ذي الحجة ، ودامت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر.

إلى هنا تمت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الذين اتّفقت كلمة الإسماعيلية علىٰ إمامتهم وخلافتهم ، ولم يشذ عنهم سوى الدروز الذين انشقوا عن الإسماعيلية في

______________________

١. ابن خلكان : وفيات الأعيان : ٥ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، دار صادر.

٢. الذهبي : سير أعلام النبلاء : ١ / ١٨٦ ـ ١٩٦.

٣. الجزري : الكامل : ١٠ / ٢٣٧.

١٣٩
 &

عهد خلافة الحاكم بأمر الله ، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيلية بين : مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي ابن المستنصر بالله ، ونزارية تقول بإمامة نزار ابن المستنصر.

فالمستعلية هم المعروفون في هذه الأيام بالبُهرة ، وقد انقسموا إلى : سليمانية وداودية ؛ كما أنّ النزاريين هم القائلون بإمامة نزار ابن المستنصر ، وانقسموا إلى : مؤمنية وقاسمية. وقد اتّفقت الطائفتان الأخيرتان في بعض الأئمة ، واختلفت في البعض الآخر ، وسيوافيك تفصيل الجميع.

١٤٠