بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

عليها ، وقد شكى بعضهم رسول اللّه من شدّة الحر ، فلم يجبه ، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن ورد الرخصة بالسجود على الخمر والحصر فوسع الأمر للمسلمين لكن في اطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك المجال على المسلمين مرحلتان لا غير :

١ ـ ما كان الواجب فيها على المسلمين ، السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أية رخصة.

٢ ـ المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر والبواري والخمر ، تسهيلاً للأمر ، ورفعاً للحرج والمشقّة ولم تكن هناك أية مرحلة اُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه أهل السنّة وإليك البيان :

المرحلة الاُولى : السجود على الأرض :

١ ـ روى الفريقان عن النبيّ الأكرم أنّه قال : « وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » (١).

والمتبادر من الحديث انّ كل جزء من الأرض مسجد وطهور يُسْجد عليه ويُقْصَد للتيمّم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارة والتيمّم اُخرى.

وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس ، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه ، فانّه إذا كانت الأرض على وجه الاطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة ، فما ذكر

__________________

١ ـ صحيح البخاري ١ / ٩١ كتاب التيمّم الحديث ٢ وسنن البيهقي ٢ / ٤٣٣ باب : أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.

٤٢١

معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر « طهوراً » بعد « مسجداً » وجعلهما مفعولين لـ « جعلت » والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين كونه مسجداً وكونه طهوراً ، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً (١).

ومثله غيره من شرّاح الحديث.

تبريد الحصى للسجود عليها :

٢ ـ عن جابر بن عبداللّه الأنصاري ، قال : كنت اُصلّي مع النبيّ الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ اُحوّلها إلى الكف الاُخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني حتّى أسجد عليها من شدّة الحر (٢).

وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود (٣). ونقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.

٣ ـ روى أنس قال : كنّا مع رسول اللّه في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (٤).

٤ ـ عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول اللّه شدة الرمضاء في جباهنا

__________________

١ ـ احكام القرآن للجصاص ٢ / ٣٨٩ نشر بيروت.

٢ ـ مسند أحمد ٣ / ٣٢٧ من حديث جابر وسنن البيهقي ١ / ٤٣٩ باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحرّ.

٣ ـ سنن البيهقي ٢ / ١٠٥.

٤ ـ السنن الكبرى ٢ / ١٠٦.

٤٢٢

وأكفّنا فلم يشكنا (١).

٥ ـ قال ابن الاثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم (٢).

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط حتّى انّ الرسول لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً أوجب عليهم مس جباههم الأرض ، وإن آذتهم شدة الحر.

والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض وعن اصرار النبيّ الأكرم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتصله ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.

الأمر بالتتريب :

٦ ـ عن خالد الجهني قال : رأى النبيّ صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : ترّب وجهك يا صهيب (٣).

٧ ـ والظاهر انّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية ، وعلى كل تقدير ، فالحديث شاهد على أفضلية السجود على التراب في مقابل السجود على

__________________

١ ـ سنن البيهقي ٢ / ١٠٥ باب الكشف عن الجبهة.

٢ ـ ابن الأثير : النهاية ٢ / ٤٩٧ مادة « شكى ».

٣ ـ المتقي الهندي : كنز العمال ٧ / ٤٦٥ برقم ١٩٨١٠.

٤٢٣

الحصى لما دل من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

٨ ـ روت اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ رأى النبي غلاماً لنا يقال له « افلح » ينفخ إذا سجد ، يا افلح ترّب (١).

٩ ـ وفي رواية : يا رباح ترّب وجهك (٢).

١٠ ـ روى أبو صالح قال : دخلت على اُمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت اُمّ سلمة : ابن أخي؟! لا تنفخ ، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول لغلام له يقال له يسار ـ ونفخ ـ : ترّب وجهك للّه (٣).

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة :

١١ ـ روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (٤).

١٢ ـ روي عن علي أميرالمؤمنين أنّه قال : إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة (٥).

١٣ ـ روى صالح بن حيوان السبائي أنّ رسول اللّه رأى رجلاً يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه عن جبهته (٦).

١٤ ـ عن عياض بن عبداللّه القرشي : رأى رسول اللّه رجلاً يسجد على كور

__________________

١ ـ المتقي الهندي : كنز العمال ٧ / ٤٥٩ برقم ١٩٧٧٦.

٢ ـ المصدر نفسه برقم ١٩٧٧٧.

٣ ـ المتقي الهندي كنز العمال ٧ / ٤٦٥ ، برقم ١٩٨١٠ ومسند أحمد ٦ / ٣٠١.

٤ ـ الطبقات الكبرى ١ / ١٥١ كما في السجود على الأرض ٤١.

٥ ـ منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند ٣ / ١٩٤.

٦ ـ البيهقي : السنن الكبرى ٢ / ١٠٥.

٤٢٤

عمامته فأومأ بيده : ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته (١).

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبي بالتتريب ، وحسر العمامة عن الجبهة.

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخمر والحصر :

هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه وإن صعب الأمر واشتدّ الحر لكن هناك نصوص تعرب عن ترخيص النبيّ ـ بايحاء من اللّه سبحانه إليه ـ السجود على ما أنبتت الأرض ، فسهل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الاصر والمشقّة في الحر والبرد وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :

١ ـ عن أنس بن مالك قال : كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي على الخمرة (٢).

٢ ـ عن ابن عباس : كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة وفي لفظ : وكان النبيّ يصلّي على الخمرة (٣).

٣ ـ عن عائشة : كان النبيّ يصلّي على الخمرة (٤).

__________________

١ ـ البيهقي : السنن الكبرى ٢ / ١٠٥.

٢ ـ أبو نعيم الاصفهاني : ذكر أخبار اصبهان ٢ / ١٤١.

٣ ـ مسند أحمد ١/ ٢٦٩ ـ ٣٠٣ ـ ٣٠٩ و ٣٥٨.

٤ ـ مسند أحمد ٦ / ١٧٩ وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.

٤٢٥

٤ ـ عن اُمّ سلمة : كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة (١).

٥ ـ عن ميمونة : ورسول اللّه يصلّي على خمرته فإذا أصابني طرف ثوبه (٢).

٦ ـ عن اُمّ سليم قالت : وكان يصلّي الخمرة (٣).

٧ ـ عن عبداللّه بن عمر : كان رسول اللّه يصلّي على الخمر (٤).

السجود على الثياب لعذر :

قد عرفت المرحلتين الماضيتين ولو كان هناك مرحلة ثالثة فانّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحر والأذى ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة وإليك ما ورد في هذا المقام.

١-عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض ، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

٢ ـ وفي صحيح البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، بسط ثوبه.

٣ ـ وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ مسند أحمد ٦ / ٣٠٢.

٢ ـ مسند أحمد ٦ / ٣٣١ ـ ٣٣٥.

٣ ـ مسند أحمد ٦ / ٣٧٧.

٤ ـ مسند أحمد ٢ / ٩٢ ـ ٩٨.

٤٢٦

فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر مكان السجود (١).

وهذه الرواية الّتي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف الغطاء عن بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. وذلك لأنّ رواية أنس نص في اختصاص الجواز على حالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات وإليك بعض ما روي في هذا المجال.

١ ـ عبداللّه بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي على كور عمامته (٢).

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن السجود عليه ، محمولة على العذر والضرورة وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال :

قال الشيخ : « وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك وأصح ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ (٣).

وقد روي عن ابن راشد قال : رايت مكحولا يسجد على عمامته فقلت : لِمَ تسجد عليها؟ قال : أتّقي البرد على أسناني (٤).

٢ ـ ما روي عن أنس : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسجد

__________________

١ ـ صحيح البخاري ١ / ١٠١ ، صحيح مسلم ٢ / ١٠٩ ، مسند أحمد ١ / ١٠٠ ، السنن الكبرى ٢ / ١٠٦.

٢ ـ كنز العمال ٨ / ١٣٠ برقم ٢٢٢٣٨.

٣ ـ البيهقي : السنن ٢ / ١٠٦.

٤ ـ المصنف لعبد الرزاق ١ / ٤٠٠ كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة ٩٣.

٤٢٧

أحدنا على ثوبه (١).

والرواية محمول على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شدة الحرّ فاذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (٢).

ويؤيّده ما رواه النسائي : كنّا إذا صلينا خلف النبيّ بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (٣).

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدل إلاّ على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على الفرو. وأمّا انّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

٣ ـ عن المغيرة بن شعبة : كان رسول اللّه يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (٤).

والرواية مع كونها ضعيفه بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ولعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ، ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث :

إنّ الناظر في الروايات يجد أنّه مرّ على المسلمين مرحلتان أو مراحل ثلاثة ففي المرحلة الاُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يُرخَّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض وليست وراء هاتين

__________________

١ ـ البيهقي السنن الكبرى ٢ / ١٠٦ ، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.

٢ ـ البخاري ٢ / ٦٤ كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.

٣ ـ ابن الأثير : الجامع للاُصول ٥ / ٤٦٨ برقم ٣٦٦٠.

٤ ـ أبو داود : السنن / باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم ٣٣١.

٤٢٨

المرحلتين ، مرحلة اُخرى إلاّ جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً ، فمحمولة على الضرورة أو لا دلالة لها على السجود عليها بل غايتها الصلاة عليها.

فاللازم على فقهاء أهل السنّة إعادة النظر في هذه المسألة حتّى يحيوا السنّة ويميتوا البدعة. فانّ الرائج في بلادهم هو افتراش المساجد بالسجاد ، والسجود عليها. كما أنّ السائد هو السجود على كل شيء. من البسط المنسوجة من الصوف والوبر ، والحرير ، وطرف الثوب فانّ هذا العمل حسب مامرّ من الروايات بدعة حدثت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت السنّة غيرهما فلا عتب على الشيعة إذا ما تمسّكوا بالسنّة ولم يسجدوا الاّ على الأرض وما أنبتته تبعاً للسنن النبوية والأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت.

ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة :

بقي هنا سؤال يطرحه اخواننا أهل السنّة يقولون ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء انّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ولكن المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها وعلى أي تقدير فالاجابة عنها واضحة فانّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها من أي أرض اُخذت ، من اي صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلاّ مثل إلتزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها ، ويتّخذها مسجداً لا تتأتّى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات ومحال المسافرين ومحطّات وسائل السير والسفر ومهابط فئات الركاب ومنازل

٤٢٩

الغرباء ، أنّى له ذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة.

فأي وازع من أن يحتاط المسلم في دينه ، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة ، والأوساخ الّتي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :

المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الابل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها (١).

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها فقد روي أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفّى عام ٦٢ كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها (٢).

إلى هنا تبيّن انّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره عسى أن لا يجد أرضاً طاهرة أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليه.

وأمّا السر في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فانّما هو من

__________________

١ ـ العلامة الأميني : سيرتنا وسنّتنا ١٥٨ ـ ١٥٩.

٢ ـ أبوبكر بن أبي شيبة : المصنف ١ / ٤٠٠ كما في السجدة على التربة ٩٣.

٤٣٠

جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة ، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة وفي الحديث « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية اُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب (١).

وقال العلامة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً ، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ولا ممّا ألزمه المذهب ولا يفرّق أي أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم بآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت وكثير من رجال

____________

١ ـ الأرض والتربة الحسينية ٢٤.

٤٣١

المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (١).

هذا إلمام اجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّها وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره وأخص بالذكر منهم.

١ ـ المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ في كتابه الأرض والتربة الحسينية.

٢ ـ العلاّمة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير ١٣٢٠ ـ ١٣٩٠ فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه سيرتنا وسنّتنا.

٣-السجود على الأرض للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي ـ دام عزّه ـ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.

__________________

١ ـ سيرتنا وسنّتنا ١٦٦ ـ ١٦٧ طبع النجف الأشرف.

٤٣٢

الفصل الحادي عشر

في الأئمّة الإثني عشر

٤٣٣
٤٣٤

إنّ الشيعة الامامية هي الفرقة المعروفة بالإثني عشرية. فهم يعتقدون باثني عشر إماماً من بني هاشم وقد نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامتهم وقيادتهم واحداً بعد الآخر كما نصّ كلّ إمام على إمامة من بعده نصّاً يخلو من الابهام.

وقد عرفت فيما مضى أنّه تضافر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يملك هذه الاُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل. وذكرنا هناك أن هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلاّ على أئمّة الشيعة والعترة الطاهرة « وإذا كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الشجرة وهم أغصانها ، والدوحة وهم أفنانها ، ومنبع العلم وهم عيبته ، ومعدن الحكم وهم خزائنه ، وشارع الدين وهم حفظته وصاحب الكتاب وهم حملته » (١) فيلزم علينا معرفتهم ، كيف وهم احد الثقلين اللَّذَين تركهما الرسول ، قدوة للاُمّة ونوراً على جبين الدهر.

ونحن نعرض في هذا الفصل ، موجزاً عن أحوالهم وحياتهم حتّى يكون القارئ ملمّاً بهم عن كثب. ونعيد كلمتنا بأن الغرض هو الالمام والايجاز بل الاشارة والالماح لا التفصيل والتطويل. وإلاّ فإنّ بسط الكلام عنهم يحتاج إلى تدوين

__________________

١ ـ اقتباس ممّا ذكره أمين الاسلام الطبرسي في مقدمة كتابه إعلام الورى بأعلام الهدى ٣.

٤٣٥

موسوعة كبيرة. وقد قام بذلك شطر كبير من علماء الإسلام ونحن نستضيئ من أنوار كلامهم فنقول :

٤٣٦

الامام الأوّل :

الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام

إنّ الامام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته ، ومناقبه ، وفضائله ، وجهاده ، وعلومه وخطبه وقصار كلماته. وسياسته وحروبه مع الناكثين والقاسطين ، فالأولى لنا الاكتفاء بهذا المقدار واحالة القارئ إلى تلك الموسوعات بيد أنّنا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنّة فنقول :

هو أميرالمؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين ، وأوّل القوم إيماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأعظمهم مزيّة ، وأقومهم بأمر اللّه ، وأعلمهم بالقضية ، وراية الهدى ، ومنار الايمان ، وباب الحكمة ، والممسوس في ذات اللّه ، خليفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الهاشمي ، وليد الكعبة المشرّفة ومُطهِّرها من كل صنم ووثن ، الشهيد في البيت الإلهي

٤٣٧

( جامع الكوفة ) في محرابه حال الصلاة سنة ٤٠.

كل من هذه الجمل الخمس عشر ، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من أهل السنّة (١).

وكفى في حقّه ما قاله رسول اللّه :

« عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سرّه أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً. وويل للمكذّبين بفضلهم ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (٣).

وقال الامام أحمد : ما لأحمد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي ( رضي عنه ) (٤).

وقال الامام الرازي : من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه ، فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (٥).

ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، لقول النبي : « اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار » (٦).

وقال شبلي شميّل : « الامام علىّ بن أبي طالب ، عظيم العظماء ، مسخة مفردة ،

__________________

١ ـ راجع مسند أحمد ١ / ٣٣١ ، ٥ / ١٨٢ ـ ١٨٩ ، حلية الأولياء ١ / ٦٢ ـ ٦٨ ، ولاحظ الغدير ٢ / ٣٣.

٢ ـ الخطيب البغدادي التاريخ ٤ / ٤٠.

٣ ـ أبو نعيم : حلية الأولياء ١ / ٨٦.

٤ ـ ابن الجوزي الحنبلي : مناقب أحمد ١٦٣.

٥ و ٦ الرازي : التفسير ١ / ٢٠٧.

٤٣٨

لم ير لها الشرق والغرب صورة طبق الأصل ، لا قديماً ولا حديثاً » (١).

وقال جورج جرداق : « وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله ، وقلبه ، ولسانه وذي فقاره » (٢).

فصول حياته الخمسة :

إنّ الامام عليه‌السلام ولد في الكعبة بعد مضي ثلاثين عاماً من واقعة الفيل وفي الحقيقة ولد بعشر سنين قبل البعثة وتوفّي في العام الأربعين من الهجرة فيكون عمره الشريف ثلاثة وستين عاما.

فلو أردنا أن نقسم حياته إلى فصول نجد أنّ هناك فصولا خمسة تشكّل مجموع حياته عليه‌السلام.

١ ـ حياته قبل البعثة وهي لا تتجاوز عن عشر سنين ، وقد تكفّله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حين ذاك لا يتجاوز عمره عن أربعة أو خمسة سنين وجاء به إلى داره وعاش في بيته ، وقد لازمه طيلة تلك الأعوام حتّى الأيام التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتكف فيها في غار حراء كما هو المحقق في التاريخ.

٢ ـ حياته بعد البعثة وقبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة المنوّرة ، ولقد هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي لا تزيد على ثلاثة عشر عاماً.

٣ ـ حياته بعد الهجرة وقبل وفاة النبي الأكرم وهي عشر سنوات حافلة بالجهاد والتضحيات.

٤ ـ حياته بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبل الخلافة وتبلغ

__________________

١ و٢ ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ١ / ٣٧ ـ ٤٩.

٤٣٩

٢٥ سنة ولقد قدّم خدمات ثقافية عظيمة للاُمّة خلالها. ولم تكن خالية عن الحوادث المريرة.

٥ ـ حياته بعد الخلافة إلى شهادته في محراب مسجد الكوفة ، وهي حافلة بحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين. ولقد أخذ بمقاليد الخلافة. بعد أن صارت أموية. وبعد أن سلّط عثمان بني اُميّة ، على العباد والبلاد وسادت عبادة الدينار والدرهم وملأ حبّ الدنيا قلوب كثير من الناس فسعى عليه‌السلام في اخراج الاُمّة من هذه الأزمة وارجاعهم إلى ما كانوا عليه في عصر النبي الأكرم. ولقى في طريق اُمنيته ما لقى إلى أستشهد في محراب عبادته لشدّة عدله.

فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيّا.

وقد كتب حول حياة الإمام ما لا تعد ولا تحصى من الكتب والرسائل والموسوعات ، فلا محيص ، عن احالة القرّاء إليها غير انّا نشير هنا إلى بعض خصائصه.

بعض خصائصه :

يطيب لي أن اُشير إلى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة ، فنقول : إنّ له خصائص لم يشترك فيها أحد :

١ ـ السابق إلى الإسلام.

٢ ـ ولد في الكعبة.

٣ ـ تربّى منذ صغره في حجر رسول اللّه.

٤ ـ مؤاخاته مع النبي.

٥ ـ إنّ النبي حمله حتّى طرح الأصنام من الكعبة.

٦ ـ إنّ ذرّية رسول اللّه منه.

٧ ـ إنّ النبي تفل في عينيه يوم خيبر ، ودعا له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ.

٤٤٠