بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

« ولقد كنّا مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم ، وجدّاً في جهاد العدوّ ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان انفسهما أيّهما يسقي صاحبه كاس المنون ، فمرّة لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا. فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتّى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه ، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للايمان عود » (١).

هذه كلمة الامام قائد الشيعة وامامهم أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميع صحابة النبي أو يفسقهم أو ينسبهم إلى الزندقة والالحاد أو الارتداد ، من دون أن يقسّمهم إلى أقسام ويصنّفهم اصنافا ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم؟ كلاًّ ولا ، وهذا هو الامام علي بن الحسين يذكر في بعض أدعيته صحابة النبيّ ويقول : اللّهمّ وأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته ، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبّته ، يرجون تجارة لن تبور في مودّته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته ، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلومهم ، اللّهمّ واوصل التابعين

____________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٥٦.

٤٠١

لهم باحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا ... (١).

فإذا كان الحال كذلك ، واتّفق الشيعي والسنّي على اطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعد ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟

إنّ موضع الخلاف ليس إلاّ في نقطة واحدة وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كل من رأى النبيّ وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم اُدرج في كفنه ، ولو صدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك ، محتجّين بما نسب إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. ولو تليت عليهم التواريخ المتضافرة يقولون بما ذكره الحسن البصري : اولئك الذين طهّر اللّه سيوفنا عن دمائهم فلنطهّر ألسنتنا عن أعراضهم. ولا أظن أنّ الحسن البصري يعتقد بما قال.

وقد تدرّع بهذه الكلمة وصان بها نفسه عن هجمات الأمويين الذين كانوا يروّجون عدالة الصحابة في جميع الأزمنة بل يلبسونهم ثوب العصمة ، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ من القدح برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنفي العصمة عن النبيّ واتهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلاً يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل به ، وأمّا من نسب صغيرة أو كبيرة إلى صحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلاّ فالقتل ..

فإذا كان هذا هو محلّ النزاع أي عدالة الكل بلا استثناء أو تصنيفهم إلى مؤمن وفاسق ومثالي وعادي ، إلى زاهد ومتوغّل في حبّ الدنيا ، إلى عالم بالشريعة وعامل بها وجاهل لا يعرف منها إلاّ شيئاً طفيفاً ، فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة مجرّدين عن كل رأي مسبق لا النزول على العاطفة التي تحمل المسلم

__________________

١ ـ الصحيفة السجادية : الدعاء ٤.

٤٠٢

على الحكم بنزاهة الصحابة كلّهم ، ورفض ما خلّفته الحوافز.

ولأجل اماطة الستر عن وجه الحقيقة نذكر اُموراً :

الصحابة في القرآن الكريم :

١ ـ إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى اصناف مختلفة ، فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين ، والمبايعين تحت الشجرة ، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم ، وأصحاب الفتح ، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية ، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة ، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً اُخرى يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية :

١ ـ المنافقون المعروفون (١).

٢ ـ المنافقون المتستّرون الذين لا يعرفهم النبيّ (٢).

٣ ـ ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب (٣).

٤ ـ السمّاعون لأهل الفتنة (٤).

٥ ـ المجموعة الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (٥).

٦ ـ المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر (٦).

__________________

١ ـ المنافقون / ١.

٢ ـ التوبة / ١٠١.

٣ ـ الأحزاب/ ١١.

٤ ـ التوبة / ٤٥ ـ ٤٧.

٥ ـ التوبة / ١٠٢.

٦ ـ آل عمران / ١٥٤.

٤٠٣

٧ ـ الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم (١).

٨ ـ المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم (٢).

٩ ـ المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (٣).

١٠ ـ المولّون أمام الكفّار (٤).

هذه الأصناف إذا انضمّت إلى الأصناف المتقدّمة ، تعرب عن أنّ صحابة النبيّ الأكرم لم يكونوا على نمط واحد ، بل كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه ، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها ، فيجب اخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس ، وعندئذ يتحقّق انّ الصحبة لا تعطي لصحابها منقبة إلاّ إذا كان أهلاً لها ، ومع ذلك فكيف يمكن رمي الجميع بسهم واحد واعطاء الدرجة الواحدة للجميع ، وهذا هو رأي الشيعة فيهم ، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم.

٢ ـ إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار ، وغيرهم بالمدح والثناء ، لا تدلّ على أزيد من أنّهم كانوا حين نزول القرآن مُثلا للفضل والفضيلة ولكن الاُمور انّما تعتبر بخواتيمها ، فيحكم عليهم ـ بعد نزول الآيات ـ بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات ، وأمّا لو ثبت عن طريق السنّة أو التاريخ الصحيح انّه صدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته ، فحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ الحكم بذلك ، ولا يعد مثل ذلك معارضاً للقرآن الكريم لأنّه ناظر إلى أحوالهم في

__________________

١ ـ الحجرات / ٦ ، السجدة / ١٨.

٢ ـ الحجرات / ١٤.

٣ ـ التوبة / ٦٠.

٤ ـ الأنفال / ١٥ ـ ١٦.

٤٠٤

ظروف خاصّة ، لا في جميع فصول حياتهم ، فليس علينا رفع اليد عن السنّة والتاريخ الصحيح بحجّة أنّ القرآن الكريم مدحهم وأنّ اللّه رضي عنهم ، لما عرفت من أنّ المقياس القاطع للقضاء هو دراسة جميع أحوالهم ، فكم من مؤمن زلّ قدمه في الحياة ، فعاد منافقاً ، أو مرتدّاً ، وكم من ضالّ شملته العناية الإلهية فبصر الطريق وصار رجلاً إلهياً ، وبالجملة فمن ثبت عن طريق الدليل الصحيح انحرافه وزيغه عن الصراط المستقيم وشوب ايمانه بالظلم والعيث والفساد ، فيؤخذ بما هو الثابت في ذينك المصدرين ، وأمّا من لم يثبت زيغه فلا نتكلّم في حقّه بشيء سوى ما أمر اللّه به سبحانه من طلب الرحمة لهم حيث قال : ( رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ ) (١).

٣ ـ ومن سوء الحظ انّ شرذمة قليلة من الصحابة ، زلّت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق ، فلا تمس دراسة أحوال هؤلاء القليلين ، وتبيين مواقفهم ، وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين ، ولعلّ عدد المنحرفين ( غير المنافقين ) لا يتجاوز العشرة إلاّ بقليل.

أفيسوغ في ميزان النصفة رمي الشيعة بأنّهم يكفّرون الصحابة ويفسّقونهم بحجّة أنّهم يدرسون حياة عدّة قليلة منهم ويذكرون مساوئ أعمالهم ، وما يؤاخذ عليهم على ضوء الكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح.

وما نسب إلى الحسن البصري فهو أولى بالاعراض عنه إذ لو كانت النجاة في ترك ذكرهم فلماذا اهتمّ ببيان أفعالهم وصفاتهم التاريخ المؤلّف بيد السلف الصالح الذين كانوا يحترمون الصحابة مثلما يحترمهم الخلف ، فلو كان الحق ترك التكلّم فيهم واعذارهم بالاجتهاد ، فلماذا وصف النبي الأكرم بعضهم بالارتداد ، كما رواه

__________________

١ ـ الحشر / ١٠.

٤٠٥

البخاري وغيره (١).

وإذا دار الأمر بين كون القرآن أو النبي أسوة ، أو الكلمة المأثورة عن الحسن البصري ، فالأوّل هو المتعيّن ، ويضرب بالثاني عرض الجدار.

الردّة بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

بقيت هنا كلمة وهي : إذا كان موقف الشيعة وأئمّتهم من الصحابة ما ذكر آنفاً فما معنى ما رواه أبو عمرو الكشي من أنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ ثلاثة. إذ لو صحّ ما ذكر ، وجب الالتزام بأنّ النبيّ الأكرم لم ينجح في دعوته ولم تتخرّج من مدرسته إلاّ قلائل لا يعتد بهم في مقابل ما ضحّى به من النفس والنفيس.

والاجابة على هذا السؤال واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً. فإنّ ما رواه لا يتجاوز السبع روايات. وهي بين ضعيف لا يعرج عليه ، وموثق ـ حسب اصطلاح علماء الامامية في تصنيف الأحاديث ـ وصحيح قابلين للتأويل ، ولا يدلان على الارتداد عن الدين ، والخروج عن الإسلام بل يرميان إلى أمر آخر.

أمّا الضعيف فهو ما رواه الكشي عن حمدويه وإبراهيم أبناء نصير قال : حدثنا محمّد بن عثمان عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان الناس أهل الردّة بعد النبي إلاّ ثلاثة ... (٢).

وكفى في ضعفها وجود محمّد بن عثمان في سنده وهو من المجاهيل.

وما رواه أيضاً عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٥ / ١١٨ ـ ١١٩ في تفسير سورة النور.

٢ ـ رجال الكشي ١٢ الحديث ١.

٤٠٦

قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة نفر : سلمان وأبوذر والمقداد (١).

وكفى في ضعفها انّ الكشي من أعلام القرن الرابع الهجري القمري فلا يصح أن يروي عن علي بن الحكم سواء أكان المراد منه الأنباري الراوي عن ابن عمير المتوفّى عام ٢١٧ أو كان المراد الزبيري الذي عدّه الشيخ من أصحاب الرضا عليه‌السلام المتوفّى عام ٢٠٣.

وما نقله أيضاً عن حمدويه بن نصير قال : حدثني محمّد بن عيسى ومحمّد ابن مسعود قال : حدثنا جبرئيل بن أحمد. قال : حدثنا محمّد بن عيسى عن النضر بن سويد عن محمّد بن البشير عمّن حدثه قال : ما بقى أحد إلاّ وقد جال جولة إلاّ المقداد بن الأسود فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد (٢).

والرواية ضعيفة بجبرئيل بن أحمد فانّه مجهول كما أنّها مرسلة في آخرها.

وأمّا الروايات الباقية فالموثق عبارة عمّا ورد في سنده علي بن الحسن بن فضال والثلاثة الباقية صحيحة ومن أراد الوقوف على اسنادها ومتونها فليرجع إلى رجال الكشي (٣).

ومع ذلك كلّه فإنّ هذه الروايات لا يحتج بها أبداً لجهات عديدة نشير إلى بعض منها.

١ ـ كيف يمكن أن يقال انّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه ولم يبق إلاّ ثلاثة تمسّكوا بولاية علي ولم يعدلوا عنها مع أنّ ابن قتيبة والطبري رويا انّ جماعة من

__________________

١ ـ رجال الكشي ١٦ الحديث ١٣.

٢ ـ رجال الكشي ١٦ الحديث ١١.

٣ ـ رجال الكشي ١٣ الحديث ٣ ـ ٤ ـ ٦ و ٧.

٤٠٧

بني هاشم وغيرهم تحصَّنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة. ولم يتركوا بيت الامام إلاّ بعد التهديد والوعيد واضرام النار أمام البيت. وهذا يدل على انّه كان هناك جماعة مخلصين بقوا أوفياء لما تعهّدوا به في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإليك نص التاريخ. قال ابن قتيبة :

« إنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب ، ومعهم الزبير ابن العوام ـ رضي اللّه عنه ـ ... (١).

وقال في موضع آخر : إنّ أبابكر ـ رضي اللّه عنه ـ تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ـ كرم اللّه وجهه ـ فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لاُحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا ابا حفص انّ فيها فاطمة فقال : وإن ... (٢).

وقال الطبري : قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : واللّه لاُحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (٣).

وقال ابن واضح الاخباري : وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس بن عبدالمطلب ، والفضل ابن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبوذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب واُبي ابن كعب. فأرسل أبوبكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٠ ـ ١٢.

٢ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٠ ـ ١٢.

٣ ـ تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٢.

٤٠٨

ابن شعبة فقال : ما الرأي؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبدالمطلب فتجعل له في هذا الأمر نصيباً ... (١).

كل ذلك يشهد على انّه كان هناك اُمّة بقوا على ما كانوا عليه ، في عصر الرسول الأعظم ، ولم يغترّوا بانثيال الأكثرية إلى غير ما كان الحق يدور مداره. وكيف يمكن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلاّ القليل.

٢ ـ كيف يمكن أن يقال ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة مع أنّ الصدوق ـ رضي اللّه عنه ـ ذكر عدة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلا من المهاجرين والأنصار وهم خالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، واُبي ابن كعب ، وعمّار بن ياسر ، وأبوذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبداللّه بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيّوب الأنصاري ، وأبو هيثم ابن التيهان وغيره.

ثمّ ذكر اعتارضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد (٢).

٣ ـ إنّ وجود الاضطراب والاختلاف في عدد من استثناهم الامام يورث الشك في صحّتها ففي بعضها « إلاّ ثلاثة » وفي البعض الآخر إلاّ سبعة وفي ثالث « إلاّ ستة » فإنّ التعارض وإن كان يمكن رفعه بالحمل على اختلافهم في درجات الايمان غير أنّه على كل تقدير يوهن الرواية.

٤ ـ كيف يمكن انكار ايمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق كلمة الشيعة والسنّة على علو شأنهم كأمثال بلال الحبشي ، وحجر بن عدي ، واويس القرني ، ومالك بن نويرة المقتول ظلماً على يد خالد بن الوليد ، وعباس بن عبدالمطلب

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢٤.

٢ ـ الخصال : الشيخ الصدوق أبواب الاثنى عشر ٤٦١ ـ ٤٦٥.

٤٠٩

وابنه حبر الاُمّة وعشرات من أمثالهم ، وقد عرفت أسماء المتخلّفين عن بيعة أبي بكر في كلام اليعقوبي ، أضف إلى ذلك انّ رجال البيت الهاشمي كانوا على خط الامام ولم يتخلّفوا عنه وانّما غمدوا سيوفهم اقتداءً بالامام لمصلحة عالية ذكرها في بعض كلماته (١).

واقصى ما يمكن أن يقال في حقّ هذه الروايات هو انّه ليس المراد من الارتداد ، الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية وانّما المراد عدم الوفاء بالعهد. الذي اُخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمّها غدير خم. ويؤيّد ذلك :

ما رواه وهب بن حفص عن ابي بصير عن أبي جعفر : جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم ـ بعدما بويع أبوبكر ـ إلى علي وقالوا له : أنت واللّه أميرالمؤمنين ، أنت واللّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هلمّ يدك لنبايعك فواللّه لنموتنّ قدامك. فقال علي عليه‌السلام : إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليّ محلّقين. فحلق أميرالمؤمنين وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبوذر ولم يحلق غيرهم (٢).

وهذه الرواية قرينة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الامام عليه‌السلام لأخذ الحق المغتصب فيكون المراد من الردّة هو عدم القتال معه.

وممّا يؤيّد ذلك أيضاً الرواية التي جاء فيها انّ قلب المقداد بن الأسود كزبر الحديد ، فهي وإن كانت ضعيفة السند ، لكن فيها اشعار على ذلك لأنّ وصف قلب المقداد اشارة إلى ارادته القوية وثباته في سبيل استرداد الخلافة.

وظنّي انّ هذه الروايات صدرت من الغلاة والحشوية دعماً لأمر الولاية وتفانياً في الاخلاص غافلين عن أنّها تضاد القرآن الكريم وما روي عن

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم ٦٢.

٢ ـ لاحظ الرجال للكشي ١٤ الحديث ٧ من هذا الباب.

٤١٠

أميرالمؤمنين وحفيده سيد الساجدين ، من الثناء والمدح لعدّة من الصحابة. وهناك كلمة قيّمة للعلاّمة السيد محسن الأمين العاملي نذكر نصّه وهو يمثّل عقيدة الشيعة فقال :

وقالت الشيعة حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم ولا يتحتّم الحكم بها بمجرّد الصحبة وهي لقاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام. وانّ ذلك ليس كافياً في ثبوت العدالة بعد الاتّفاق على عدم العصمة المانعة من صدور الذنب فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته ، ولزمنا له من التعظيم والتوقير ، بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل اللّه ما هو أهله ، ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته ، أمثال مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وبسر بن أرطاة وبعض بني اُمية وأعوانهم ، ومن جهلنا حاله في العدالة توقّفنا في قبول روايته.

وممّا يمكن أنّ يذكر في المقام انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي ومن رآه وسمع عنه يتجاوز مائة ألف انسان من رجل وامرأة على ما حكاه ابن حجر في الاصابة عن أبي زرعة الرازي : « وقيل مات صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي » ومن الممتنع عادة أن يكون هذا العدد في كثرته وتفرّق أهوائه وكون النفوس البشرية مطبوعة على حبّ الشهوات كلّهم قد حصلت لهم ملكة التقوى المانعة عن صدور الكبائر ، والاصرار على الصغائر بمجرّد رؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والايمان به ، ونحن نعلم أنّ منهم من أسلم طوعاً ورغبة في الإسلام ومنهم من أسلم خوفاً وكرهاً ، ومنهم المؤلّفة قلوبهم ، وما كانت هذه الاُمّة إلاّ كغيرها من الاُمم التي جبلت على حبّ الشهوات وخلقت فيها الطبائع القائدة إلى ذلك إن لم يردع رادع والكل من بني آدم وقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « لتسلكنّ سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتّى لو دخل أحدهم

٤١١

جحر ضب لدخلتموه ». ولو منعت رؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وقوع الذنب لمنعت من الارتداد الذي حصل من جماعة منهم كعبداللّه بن جحش ، وعبيداللّه بن خطل ، وربيعة بن اُمية بن خلف والأشعث بن قيس (١) وغيرهم. هذا مع ما شوهد من صدور اُمور من بعضهم لاتتّفق مع العدالة كالخروج على أئمّة العدل ، وشق عصا المسلمين ، وقتل النفوس المحترمة ، وسلب الأموال المعصومة ، والسب والشتم وحرب المسلمين وغشهم ، والقاح الفتن والرغبة في الدنيا ، والتزاحم على الامارة والرياسة وغير ذلك ممّا تكفّلت به كتب الآثار والتواريخ وملأ الخافقين. وأعمال مروان بن الحكم في خلافة عثمان معلومة مشهورة ، وكذلك بسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وكلّهم من الصحابة (٢).

وحصيلة البحث : انّ موضع الاختلاف ، ومصبّ النزاع ليس إلاّ كون عدالة الصحابة قضية كلية ، أو جزئيّة ، فالسنّة على الاُولى والشيعة على الثانية وأمّا ما سواها من سبّ الصحابة ولعنهم ، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول أو عدم حجية رواياتهم على وجه الاطلاق فانّها تهم اموية ناصبية ، اتّهم بها شيعة آل محمّد وهم برآء منها. ونعم الحكم اللّه. فالشيعة يعطون لكل ذي حقّ حقّه ، فيأخذون معالم دينهم عن ثقاة الصحابة ، ولا يتكلّمون في حقّ من لم يتعرّفوا على حاله ، ويحكمون على القسم الثالث على ضوء الكتاب والسنّة.

إنّ هناك رجالا من السلف لا يجور حبّهم ولا يصح الترحّم عليهم ـ حسب الموازين الشرعية ـ ، منهم :

__________________

١ ـ الثلاثة الأوّلون ارتدّوا وماتوا على الردّة ، والأشعث ارتدّ فاُتي به إلى أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ أسيراً فعاد إلى الإسلام وزوّجه اُخته ، وكانت عوراء فأولدها محمّداً أحد قتلة الحسين عليه‌السلام.

٢ ـ الأمين : أعيان الشيعة ١ / ١١٣ ـ ١١٤.

٤١٢

١ ـ معاوية بن أبي سفيان ويكفي في حقّه ما ذكره الجاحظ في رسائله :

قال في رسالته في بني اُميه والآثام التي اقترفوها : استوى معاوية على الملك ، واستبدَّ على بقيّة أهل الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في العام الذي سمّوه عام الجماعة ، وما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويا ، والخلافة غصباً قيصريا ، ثمّ مازالت معاصيه من جنس ما حكيناه ، وعلى منازل ما رتّبناه ، حتّى ردّ قضية رسول اللّه ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهرا (١) ، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار.

أو ليس قتل حجر بن عدي واطعام عمرو بن العاص خراج مصر ، وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفيئ واختيار الولاة على الهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة ، وسواء جحد الكتاب ، وردّ السنّة إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره ، إلاّ أنّ أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد (٢).

وقد أربت نابتة عصرنا ومبدعة دهرنا فقالت : لا تسبّوه فانّ له صحبة وسبّ معاوية بدعة ، ومن بغضه فقد خالف السنّة ، فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنّة (٣).

٢ ـ عمرو بن العاص الذي ألَّب على عثمان وسُرّ بقتله ، ثم اجتمع مع معاوية يطالب بدمه من كان من أشدّ المدافعين عنه ، وأعطفهم عليه يوم أمر طلحة بمنع الماء

__________________

١ ـ إشارة إلى استلحاق زياد بن أبيه وليد فراش غير أبي سفيان.

٢ ـ أي ردّ السنّة مثل ردّ الكتاب إذا بلغت السنّة في الشهرة ، شهرة الكتاب.

٣ ـ الجاحظ : رسائل الجاحظ ٢٩٤ طبع مصر.

٤١٣

عنه وتعجيل قتله. كل ذلك كان من ابن العاص حبّاً بخراج مصر ، لا بعثمان ولا بمعاوية أيضا ، والعجب أنّ الرسول تنبّأ بذلك وصرح بأنّهما لا يجتمعان إلاّ على غدر (١).

٣ ـ يزيد الخليع المستهتر خليفة معاوية الذي ولّي ثلاث سنين بعده ، فقتل في الاُولى الحسين ، وفي الثانية أغار على المدينة وقتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وأباح أعراضهم ، وفي الثالثة رمى الكعبة (٢) وكفى في كفره وإلحاده جهره بقول ابن الزبعرى :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

٤ ـ مروان بن الحكم الذي كان من أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت. قال ابن حجر : ومن أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم (٣). روى الحاكم أنّ عبدالرحمان بن عوف ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلاّ اُتي به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاُدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال : هو وزغ بن الوزغ ، الملعون بن المعلون (٤).

٥ ـ الوليد بن عقبة شارب الخمر ، والزائد في الفريضة (٥).

٦ ـ عبداللّه سعد بن أبي سرح الذي أهدر النبيّ دمه (٦).

٧ ـ الوليد بن يزيد بن عبدالملك الذي يخاطب كتاب اللّه العزيز بعد أن ألقاه

__________________

١ ـ ابن حجر : تطهير الجنان ١٠٢ ، المطبوع على هامش الصواعق المحرقة.

٢ ـ ابن الجوزي : تذكرة الخواص ، فصل يزيد بن معاوية ٢٥٧.

٣ ـ ابن حجر : الصواعق المحرقة.

٤ ـ الحاكم : المستدرك ٤ / ٤٧٩.

٥ ـ البلاذري : الانساب ٥ / ٣٣ وأحمد بن حنبل : المسند ١ / ١٤٤.

٦ ـ الطبري : التاريخ ، الجزء ٣ / ٢٩٥ ، فصل : ذكر الخبر عن فتح.

٤١٤

ورماه بالسهام بقوله :

تهدّدني بجبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ماجئت ربّك يوم حشر

فقل يا رب مزّقني الوليد (١)

هؤلاء وأضرابهم ، هم الذين تتبرّأ الشيعة منهم وتحكم عليهم بما حكم اللّه به عليهم. أفيصح تكفير الشيعة وتفسيقهم لأجل سبّ هؤلاء والتبرّي منهم.

ويقول السيوطي : إنّ الوليد هذا كان فاسقاً خميراً لوّاطا ، راود أخاه سليمان عن نفسه ونكح زوجات أبيه (٢).

إلى غير ذلك من رجال العيث والفساد ، أفيصح في ميزان العدل والنصفة مؤاخذة الشيعة لأجل رفض هؤلاء الفسقة. الخارجين عن ولاية اللّه ودينه.

__________________

١ ـ ابن الأثير : الكامل في التأريخ ٥ / ١٠٧.

٢ ـ جلال الدين السيوطي : تاريخ الخلفاء ٩٧.

٤١٥
٤١٦

المسألة العاشرة :

الالتزام بالسجدة على الأرض أو ما أنبتته

السجدة في الصلاة وغيرها ، من مظاهر العبودية أمام المسجود له ، ومن أركان الصلاة وفي بعض المأثورات « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فمهما أتى بالتذلّل والخضوع كان أوقع وافضل في العبودية ، فالسجود على التراب والرمل والحجر والحصى أبين لبيان العبودية والتصاغر ، من السجود على الحصر والبواري ، فضلاً عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الغالية والذهب والفضة ، وإن كان الكل سجوداً ، لكن العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.

والامامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون عنها إلاّ إلى ما اُنْبِت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس. ولا يرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر ـ في ثنايا البحث ـ أن الالتزام بالسجود على الأرض أو

٤١٧

ما أنْبتت ، كانت هي السنّة بين الصحابة وانّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخّرة ، ولأجل توضيح المقام نقدم اُموراً :

١ ـ اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه :

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مرّتين ، ولم يختلفوا في المسجود له فإنّه هو اللّه سبحانه الذي له يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها (١) وشعار كل مسلم قوله سبحانه : ( لا تَسجُدُوا لِلشَّمسِ ولا للقَمَرِ واسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) (٢) وانّما اختلفوا في شروط المسجود عليه ـ أعني ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الامامية على انّه يشترط أن يكون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري ، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب وإليك نقل الآراء.

قال الشيخ الطوسي (٣) وهو يبيّن آراء الفقهاء : لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة ، وطرف الرداء ، وكم القميص ، وبه قال الشافعي ، وروي ذلك عن علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وابن عمرو عبادة بن الصامت ، ومالك ، وأحمد بن حنبل.

__________________

١ ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وكَرْهاً وظلالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصالِ ) ـ الرعد / ١٥ ـ.

٢ ـ فصّلت / ٣٧.

٣ ـ من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد ٣٨٥ توفّي عام ٤٦٠ من تلاميذ الشيخ المفيد ٣٣٦ ـ ٤١٣ ، والسيد الشريف المرتضى ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ـ ـ رضي اللّه عنهم ـ.

٤١٨

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه ، أجزأه ، وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه ، وروي ذلك عن الحسن البصري (١).

وقال العلاّمة الحلّي (٢) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ : لا يجوز السجود على ما ليس بارض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع ، وأطبق الجمهور على الجواز.

وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمّتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين نكتفي بالنزر القليل :

روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبداللّه عليه‌السلام : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه ، عمّا لا يجوز؟ قال : السجود لا يجوز إلاّ على الأرض ، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما اُكل أو لبس. فقال له : جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال : لأنّ السجود خضوع للّه عزّوجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس ، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّوجلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا لغرورها (٣).

فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولاً ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم ، على انّ ما رواه أهل السنّة في المقام ،

__________________

١ ـ الخلاف ١ كتاب الصلاة ، المسألة ١١٢ ـ ١١٣ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٢ ـ الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي ٦٤٨ ـ ٧٢٦ وهو اُستاذ الشيعة في قرن السابع لا يسمع الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.

٣ ـ الوسائل ٣ الباب ١ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ١ ، وهناك روايات بمضمونه. والكل يتضمن انّ الغاية من السجود التي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرهما فلاحظ.

٤١٩

يدعم نظرية الشيعة وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم ، ويتّضح انّ السنّة كانت هي السجود على الأرض ، ثم جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

٢ ـ الفرق بين المسجود له والمسجود عليه :

كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت ، بدعة ، ويتخيّل الحجر المسجود عليه ، وثناً ، وهؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي ، وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لاعتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الأمرين وزعم المسجود عليه ، مسجوداً له ، وقاس أمر الموحّد ، بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد أن يصلّي في أظهار العبودية إلى نهاية مراتبها ، يخضع للّه سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر ، والرمال والحصى ، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلا : أين التراب وربّ الأرباب.

٣ ـ السنّة في السجود في عصر الرسول وبعده :

إنّ النبيّ الأكرم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء وغبار التراب ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود

٤٢٠