بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

غايتها :

الغاية من التقية : هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الارهاب ، والتشريد والنفي ، والقتل والتنكيل ، ومصادرة الأموال ، وسلب الحقوق الحقة ، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقاً محيص عن إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجهاته حتّى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل ، إلى أن يُحدِث اللّه أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم ، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها ، يتصور أو يصوِّر أن الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية ، وهو تصور خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلا أو عمداً دون أن يركّزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره ، ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذا الجموع المستضعفة من

٣٤١

المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد ، إلاّ أنّ السيف والنطع سالح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح بها أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها.

أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم ، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار « الغايات تبرر الوسائل » فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً ، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير ، حتّى لا يُقْتَل ولا يُستأصل ، ولا تُنهب داره وماله ، إلى أن يُحدث اللّه أمراً ، من قبيل عطف المبائن على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها ، فإنّ الشيوعيّين وطيلة تسلطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ، ومساكنهم ، ومساجدهم ، ومدارسهم ، وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً ، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشىء من التظاهر بالمرونة ، واخفاء المراسم الدينية ، والعمل على اقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً ، وما هذا إالاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتها وهدفها ، فهو أمر

٣٤٢

فطري يسوق الإنسان إليه قبل كل شيء عقلُه ولبُّه ، وتدعوه إليه فطرته ، ولأجل ذلك يستعملها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم ـ شيعياً كان أم سنيّاً ـ وغيره ، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة.

دليلها في القرآن والسنّة :

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة (١) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية :

الآية الاُولى :

قال سبحانه : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (النحل / ١٠٦).

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجدد ، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنبّاً عن الإطالة والاسهاب ، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة :

١ ـ قال الطبرسي : قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سمية ، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الفكر ولم ينالا من النبيّ ، وأعطاهم

__________________

١ ـ غافر / ٢٨ و ٤٥ ، والقصص / ٢٠ وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.

٢ ـ النحل / ١٠٦.

٣٤٣

عمّار ما أرادوا منه ، فأطلقوه ، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (١).

٢ ـ وقال الزمخشري روي أنّ أُناساً من أهل مكة فُتِنُوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخباب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ... (٢).

٣ ـ وقال الحافظ ابن ماجة : « والايتاء : معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى : ( إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (٣).

٤ ـ وقال القرطبي قال الحسن : التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة ـ ثمّ قال : ـ أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا اثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (٤).

٥ ـ قال الخازن : « التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال اللّه

__________________

١ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٣ / ٣٨٨.

٢ ـ الزمخشري : الكشاف عن حقائق التنزيل ٢ / ٤٣٠.

٣ ـ ابن ماجة : السنن ١ / ٥٣ ، شرح حديث رقم ١٥٠.

٤ ـ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ٤ / ٥٧.

٣٤٤

تعالى : ( إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثمّ هذه التقية رخصة » (١).

٦ ـ قال الخطيب الشربيني : « ( إلاّ من أُكره ) أي على التلفّظ به ( وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب » (٢).

٧ ـ وقال إسماعيل حقي : « ( إلاّ من أُكره ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والاكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : « ولكن المكره على الكفر باللسان ، ( وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) لا تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللّه ، هو التصديق بالقلب » (٣).

الآية الثانية :

قال سبحانه : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤمِنُونَ الْكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤمِنينَ وَمن يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءِ اِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلى اللّهِ الْمَصيرُ ) (٤).

وكلمات المفسرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح :

١ ـ قال الطبري : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : قال أبو العالية : التقية باللسان ، وليس بالعمل ، حُدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) قال : التقية باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه ( وقلبه مطمئنّ

__________________

١ ـ تفسير الخازن : ١ / ٢٧٧.

٢ ـ الخطيب الشربيني : السراج المنير.

٣ ـ إسماعيل حقي : تفسير روح البيان ٥ / ٨٤.

٤ ـ آل عمران / ٢٨.

٣٤٥

بالإيمان ) فلا اثم عليه ، إنّما التقية باللسان (١).

٢ ـ وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع (٢).

٣ ـ قال الرازي في تفسير قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : المسألة الرابعة : اعلم : إنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها :

أ : إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ، ويخاف منهم على نفسه ، وحاله ، فيداريهم باللسان وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة : لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » (٣).

٤ ـ وقال النسفي :( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ، أي الاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة (٤).

٥ ـ وقال الآلوسي : وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة

__________________

١ ـ الطبري : جامع البيان ٣ / ١٥٣.

٢ ـ الزمخشري : الكشاف ١ / ٤٢٢.

٣ ـ مفاتيح الغيب ٨ / ١٣.

٤ ـ النسفي : التفسير بهامش تفسير الخازن ١ / ٢٧٧.

٣٤٦

النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان :

الأوّل : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم.

الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والامارة (١).

٦ ـ وقال جمال الدين القاسمي : ومن هذه الآية : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه ( ايثار الحق على الخلق ) (٢).

٧ ـ وفسر المراغي قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) بقوله : أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية « إنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ».

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن بالإيمان ،

__________________

١ ـ الآلوسي : روح المعاني ٣ / ١٢١.

٢ ـ جمال الدين القاسمي : محاسن التأويل ٤ / ٨٢.

٣٤٧

لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان وفيه نزلت الآية :

( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان ) (١).

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالا إلاّ أن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردد في الحكم بجوازها ، كما أنّك أخي القارئ لا تجد انساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة ، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة ، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها ، فإنّما يفسرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدامة كالنصيرية والدروز ، والباطنية كلّهم ، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة : قوله سبحانه :

( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقَاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (٢).

وكانت عاقبة أمره أن : ( فَوَقَاهُ اللّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) (٣).

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبىّ اللّه من الموت : ( قَالَ

__________________

١ ـ تفسير المراغي ٣ / ١٣٦.

٢ ـ غافر / ٢٨.

٣ ـ غافر / ٤٥.

٣٤٨

يَا مُوسَى اِنَّ الملأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَأخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (١).

وهذه الآيات تدل على جواز التقية لانقاذ المؤمن من شرّ عدوه الكافر.

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة :

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر ، ولكن المورد ليس بمخصص لحكم الآية فقط ، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر ، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر ، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو كان هناك وزر إنّما يتوجه على من يُتقى منه لا على المتقي ، فلو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية ، وتحملت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب ، وفهمت بأنّ ذلك هو قدر اجتهادها ، لم يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية ، ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به ، وإليك نصوص بعضهم :

١ ـ يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي ـ رضي اللّه عنه ـ : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس ، وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من قتل دون ما له فهو شهيد » (٢).

__________________

١ ـ القصص ٢٠.

٢ ـ الرازي : مفاتيح الغيب ٨ : ١٣ في تفسير الآية.

٣٤٩

٢ ـ ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه « إيثار الحق على الخلق » ما هذا نصه : « وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران : أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، واجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنّه قال في ذلك العصر الأوّل : حفظت من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم (١).

٣ ـ وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَان ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة الفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسم ، في وجوههم وبذل المال لهم ، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة » (٢).

إنّ الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السنّي ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لالقصور في الشيعي ، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده ، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول : إنّ اللّه ليس له جهة ، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة ، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم ، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق ـ التي استنبطت من

__________________

١ ـ جمال الدين القاسمي : محاسن التأويل : ٤ / ٨٢.

٢ ـ مصطفى المراغي : التفسير ٣ / ١٣٦.

٣٥٠

الكتاب والسنّة ـ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مر عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرعت لأجله التقية ، واعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه ( ٧ / ١٩٥ ـ ٢٠٦ ) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة ، ولما أبصر أُولئك المحدثين حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسروا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

الظروف العصبية التي مرت بها الشيعة :

الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون ـ من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين ـ أي ضغط على الشيعة ، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك ، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها ، ولكن ياللأسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة

٣٥١

طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم ، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم ، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة ، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.

والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد ، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها : فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا كيفما كانوا ، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة :

بيان معاوية إلى عماله :

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي عليه‌السلام فاستعمل عليها زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيام علي عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة

٣٥٢

أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي عليه‌السلام ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ويحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليه.

وأضاف ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي عليهما‌السلام فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه‌السلام ، وولي عبدالملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ، وولى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي عليه‌السلام وعيبه ، والطعن فيه ، والشنآن له ، حتّى إنّ إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنّه جد الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير ، إنّ أهلي عقّوني فسموني علياً ، وإنّي فقير وبائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج ، وقال : للطف ما توسلتَ به ، قد وليتك موضع كذا (١).

ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف ، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقي لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع ، بل العجب العجاب أن

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ ـ ٤٦.

٣٥٣

تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة ، وأقامت دولاً وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.

فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي ، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته ، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

وإذا كانوا يقولون ـ وذاك هو العجيب ـ أنّ الخروج على الإمام علي عليه‌السلام غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين ـ التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين ـ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنّهم معذورين ومثابين!!

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضائل أُخرى ، حسب قوّة الضغط وضآلته ، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت ، ويكرم العلويين ، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل ، وقد اختاره معلماً لوالديه فسأله يوماً : أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت : واللّه إنّ قنبر خادم علي عليه‌السلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع

٣٥٤

وأربعين ومائتين ، وقيل ثلاث وأربعين ، وكان عمره ثمانية وخمسين سنة. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال : هذه دية والدك!! (١).

وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر ابن الحسين بن زيد بن علي :

اكلّ أوان للنبيّ محمّد

قتيل زكيّ بالدماء مضرّج

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لبلواكم عمّا قليل مفرّجُ ن

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم

تضيء مصابيح السماء فتسرّجُ (٢)

فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول ، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم؟!

قال العلاّمة الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم ، ولما كانت الشيعة ، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ماتختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ،

__________________

١ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٣ / ٣٣. الذهبي : سير أعلام النبلاء ١٢ / ١٦.

٢ ـ ديوان ابن الرومي ٢ / ٢٤٣.

٣٥٥

تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين ، لئلا تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى ، متبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : « التقية ديني ودين آبائي » ، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم (١).

روي عن صادق آل البيت عليهم‌السلام في الأثر الصحيح :

« التقية ديني ودين آبائي » و : « من لا تقية له لا دين له » وكذلك هي.

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت عليهم‌السلام دفعاً للضرر عنهم ، وعن أتباعهم ، وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، ولماً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن ، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة ، أو أُمّة أُخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم ، وترك مظاهرتهم ، وستر عقائدهم ، وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.

وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها ، بحسب اختلاف مواقع خوف

__________________

١ ـ غافر / ٢٨ ، النحل / ١٠٦.

٣٥٦

الضرر ، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة (١).

حدّها :

قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها ، ودليلها ، بقي الكلام في تبيين حدودها ، فنقول :

عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين ، فقالوا : بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون ، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة ، ويكرره الكاتب الباكستاني « إحسان إلهي ظهير » في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.

ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ـ يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها ، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصور فيها التقية ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير ، إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد ، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلا في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن عدم معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل : أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في عصر لم تكن لهم

__________________

١ ـ مجلة المرشد ٣ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ولاحظ : تعليقة أوائل المقالات ص ٩٦.

٣٥٧

دولة تحميهم ، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرر للتقية إلاّ في موارد خاصة.

إنّ الشيعة وكما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك ، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأُمور بلبّه لا بعواطفه ، إلاّ أنّ من الثوابت الصحيحة بقاء هذه التقية ـ إلاّ في حدود ضيقة ـ تنحصر في مستوى الفتاوى ، ولم تترجم إلاّ قليلاً على المستوى العملي ، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الأمويين ، والحكام العباسيين ، أمثال حجر بن عدي ، وميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوارتهم المتتالية.

التقية المحرّمة :

إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة ، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال ، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين ، فللتقية مواضع معينة ، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتّى يزول الخطر ، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة ، خائف متردد الخطوات يملأ حناياه الذل ، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها ، فكما هي واجبة في حين ، هي حرام في حين آخر ، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية

٣٥٨

مثلا محرّمة ، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء ، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف ، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

إنّ للإمام الخميني قدس‌سره كلاماً في المقام ننقله بنصه حتّى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال قدس‌سره :

تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة ، والمشاهد المشرفة ، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرمات ، ولا تعمها أدلة التقية ولا الاضطررار ولا الاكراه.

وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : « فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (١).

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمته ، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً ، فإنّ جواز التقية في مثله ، تمسّكاً بحكومة دليل الرفع (٢) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية وفيه ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها

__________________

١ ـ الوسائل كتاب الأمر بالمعروف الباب ٢٥ الحديث رقم ٦.

٢ ـ قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ».

٣٥٩

لبقاء المذهب وحفظ الأُصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة (١).

وهكذا فقد بيّنا للجميع الأبعاد الحقيقة والواقعية للتقية ، وخرجنا بالنتائج التالية :

١ ـ إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية ، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر ، حيث أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعودة إذا عادوا.

٢ ـ إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم ، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة ، وهو لا يمت للتقية المتبناة من قبل الشيعة بصلة.

٣ ـ إنّ المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

٤ ـ إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر ، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف ، الذي يريد السوء والبطش بأخيه.

٥ ـ إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة ، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرمة في موضع آخر.

٦ ـ إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية ، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً ، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط ، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة.

__________________

١ ـ الإمام الخميني : الرسائل : ١٧١ ـ ١٧٨.

٣٦٠