بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

ويخرج اسمه من الأشقياء ، ويدخله في السعداء ، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله.

فاللّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين ، فيحيي ويميت ، كذلك يمحو مصير العبد ، ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه ( فعله وعمله ) لقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حتّى يُغَيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (١) ، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان وأنّ العبد حرّ مختار ، قادر على تغيير القضاء ، وتبديل القدر ، بحسن فعله أو سوئه ، كما دلّت عليه الآيات والروايات.

وليس في ذلك أي محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه ، هو أيضا من قدره وقضائه وسننه التي لا تبديل لها ولا تغيير ، فاللّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر ، فلم يقدره ولم يقضه به على وجه القطع والبت ، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل ، بل قضى به على وجه خاص وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه ، ما لم يغيّر العبد حاله ، فإذا غيّر حاله بحسن فعله أو سوئه ، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل ، وكل هذه أيضاً قضاء وقدر منه ، كما لا يخفى.

وهذا ( البداء في الثبوت ) أولى بالتسمية بالمحو والاثبات ، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الإنسان غير أنّ المحو والاثبات في الكون بيد اللّه سبحانه ، يتصرّف فيه حسب مشيئته ، ولا دخل لارادة الإنسان ولصلاح فعله ولا فساده فيه ، وأمّا التغيير في مصير الإنسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه ، على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح.

____________

١ ـ الرعد / ١١.

٣٢١

البداء في الذكر الحكيم :

هذا الأصل ـ الذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود ، من سيادة القدر على كل شيء حتّى إرادته سبحانه ـ يستفاد بوضوح من قوله سبحانه ( يَمحوا اللّه ما يشاءُ ويُثبت وعِنده اُمُّ الكِتاب ) (١) وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها ، نقل كلمات المحققين من المفسرين ، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح ، مما أصفقت عليه الأُمّة.

١ ـ روى الطبري ( ٣١٠ هـ ) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون اللّه سبحانه بتغيير المصير واخراجهم من الشقاء ـ إن كتب عليهم ـ إلى السعادة مثلا ، كان عمر بن الخطاب ( رضي اللّه عنه ) يقول وهو يطوف بالكعبة : اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [ الشقاوة ] فامحني وأثبتني في أهل السعادة فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك اُمّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود ، وابن عباس وشقيق وأبي وائل (٢).

وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه : ( يمحوا اللّه ما يشاء ) بما يُنزِّلُ على الأنبياء ، ويُثبت ما يشاء مما ينزل على الأنبياء قال : وعنده اُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدِّل (٣).

٢ ـ قال الزمخشري ( ٥٢٨ هـ ) : ( يمحوا اللّه ما يشاء ) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ (٤).

__________________

١ ـ الرعد / ٣٩.

٢و٣ ـ الطبري : التفسير ( جامع البيان ) الجزء ١٣ / ١١٢ ـ ١١٤.

٤ ـ الزمخشري : الكشاف : ٢ / ١٦٩.

٣٢٢

٣ ـ ذكر الطبرسي ( ٥٤٨ ـ ٤٧١ هـ ) لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال : « الرابع أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ومن الأجل ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. ( روى ذلك ) عن عمربن الخطاب ، وابن مسعود وأبي وائل وقتادة : واُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : « اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء ... » (١).

٤ ـ قال الرازي ( ٦٠٨ هـ ) إنّ في هذه الآية قولين :

القول الأوّل : إنّها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا : إنّ اللّه يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى اللّه تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والقول الثاني : إنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض.

ثم قال : فإن قال قائل : ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى ، المحو والإثبات؟

قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلأنّه لا يمحو إلاّ ما سبق في علمه وقضائه محوه (٢).

٥ ـ قال القرطبي ( ٦٧١ هـ ) ـ بعد نقل القولين وإنّ المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها ـ : مثل هذا لا يدرك بالرأي والإجتهاد ، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحّ فالقول به يجب أن يوقف عنده ، وإلاّ فتكون الآية عامة في جميع الأشياء وهو الأظهر ـ ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبداللّه

__________________

١ ـ الطبري مجمع البيان ٦ / ٣٩٨.

٢ ـ الرازي : ١٠ / ٦٤ ـ ٦٥.

٣٢٣

ابن مسعود ثم قال : روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن سرَّه أن يبسط له في رزقِه ويُنسَأ له في أثره ( أجله ) فليصل رحمه ». (١)

٦ ـ قال ابن كثير ( ٧٧٤ هـ ) بعد نقل قسم من الروايات : ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ اللّه ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الرجل ليُحْرَمُ الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء ، ولا يزيد في العمر إلاّ البر » ثم نقل عن ابن عباس : الكتاب كتابان ، فكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء ، وعنده اُمّ الكتاب (٢).

٧ ـ روى السيوطي ( ٩١١ هـ ) عن ابن عباس في تفسير الآية : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة اللّه ، ثم يعود لمعصية اللّه فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية اللّه تعالى وقد سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة اللّة سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة وألتابعين (٣).

٨ ـ ذكر الآلوسي (١٢٧٠ هـ) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال : أخرج ابن مردوية وابن عساكر عن عليّ ـ كرم اللّه وجهه ـ أنه سأل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله تعالى : ( يمحوا اللّه ما يشاء ... ) الآية فقال : له عليه الصلاة والسلام. لاقرّنّ عينك بتفسيرها ولا قرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف ، محوِّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء ، ثم قال : دفع الإشكال عن استلزام ذلك ، بتغيّر علم اللّه سبحانه ومن شاء فليرجع (٤).

٩ ـ قال صديق حسن خان ( ١٣٠٧ هـ ) في تفسير الآية : وظاهر النظم

__________________

١ ـ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ٥ / ٣٢٩.

٢ ـ ابن كثير : التفسير ٢ / ٥٢٠.

٣ ـ السيوطي : الدر المنثور ٤ / ٦٦٠ لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلها تحكي.

٤ ـ الآلوسي : روح المعاني ١٣ / ١١١.

٣٢٤

القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوةٍ أو سعادةٍ أو رزقٍ أو عمرٍ أو خيرٍ أو شرٍّ ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريح وغيرهم ... (١).

١٠ ـ قال القاسمي ( ١٣٣٢ هـ ) : تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى : ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت ) فقالوا : إنّها عامَّة في كل شيء كما ـ يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا ـ يمحو اللّه من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر (٢).

١١ ـ قال المراغي في تفسير الآية : وقد أثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض بل هي داخلة فيما سلف ثم نقل الأقوال بإجمال (٣).

وهذه الجمل والكلم الدرية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم باحسان ، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال وأنّه ليس كل تقدير حتمياً لا يغيّر ولا يبدّل وأنّ للّه سبحانه لوحين : لوح المحو والإثبات ولوح « اُمّ الكتاب » والذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأول ، وإنّ القول بسيادة القدر ، على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية ، قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة ، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب ( ذلكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفروا فويلٌ لِلَّذِينَ كَفروا مِنَ النّار ) (٤).

__________________

١ ـ صديق حسن خان : فتح البيان ٥ / ١٧١.

٢ ـ القاسمي : محاسن ٩ / ٣٧٢.

٣ ـ المراغي : التفسير ٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤ ـ سورة « ص » الآية ٢٧.

٣٢٥

الأثر التربوي للاعتقاد بالبداء :

الاعتقاد بالمحو والاثبات ، وانّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله ، يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر ، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه ، فتشريع البداء ، مثل تشريع قبول التوبة ، والشفاعة ، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر. كلّها لأجل بعث الرجاء وايقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة ، حتّى لا ييأسوا من روح اللّه ولا يتولّوا بتصوّر أنّهم من الأشقياء وأهل النار تقديراً ، فلا فائدة في السعي والعمل ، فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والاثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء « وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية » وتاب ، وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى ، يخرج من سلك الأشقياء ، ويدخل في صنف السعداء ، وبالعكس وهكذا كل ما قدر في حقّه من الموت والمرض والفقر ، والشقاء يمكن تغييره بالدعاء ، والصدقة وصلة الرحم ، وإكرام الوالدين ، وغير ذلك ، فالكل لأجل بث الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته وأخبار الهداة.

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور ( ولو عرفوه لأذعنوا به ).

وأمّا اليهود ـ خذلهم اللّه ـ فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد اللّه مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والاعطاء ، وبعبارة اُخرى عندهم انّ للانسان مصيراً واحداً لا يمكن تغيره ولا تبديله وانّه ينال ما قدّر له من الخير والشر.

ولو صح ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الإنسان.

٣٢٦

وعلى ضوء هذا البيان نتمكن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما ( الباقر أو الصادق عليهما‌السلام ) : « ما عبداللّه عزّوجلّ بشيء مثل البداء » (١).

وما عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه : « ما عظّم اللّه عزّوجلّ بمثل البداء » (٢).

إذ لولا الاقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف اللّه حق المعرفة ، ويتجلّى سبحانه في نظر العبد ( بناء على عقيدة بطلان البداء ) أنّه مكتوف الأيدي ، لا يقدر على تغيير ما قدره ، ولا محو ما أثبته.

ومن الروايات في هذا المعنى ما روي عن الصادق أنّه قال :

« لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه » (٣).

وذلك لأنّ الاعتقاد بالبداء مثل الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغي والضلالة ، والانابة إلى الصلاح والهداية.

البداء في مقام الاثبات :

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ المراد من البداء في مقام الاثبات هو ، وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر ، منها : ما لا يقبل التغيير ومنها ما يقبل ذلك.

أمّا الأوّل : فهو المعبّر عنه بـ « اللوح المحفوظ » تارة وبـ « اُمّ الكتاب » اُخرى قال سبحانه : ( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (٤) وقوله تعالى :

__________________

١ ـ البحار ٤ / ١٠٧ باب البداء ، الحديث ١٩ ـ ٢٠.

٢ ـ التوحيد للصدوق باب البداء ، الحديث ٢.

٣ ـ الكافي ١ / ١١٥ ، والتوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث ٧.

٤ ـ البروج ٢١ ـ ٢٢.

٣٢٧

( وَإِنَّهُ فِى اُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلىٌّ حَكِيمٌ ) (١) وقال سبحانه : ( مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَة فِى الاَرْضِ وَلا فِى أَنفُسِكُمْ إلاّ فِى كِتاب مِن قَبْلِ أن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (٢) فاللوح المحفوظ واُمّ الكتاب وذلك الكتاب الذي كتب فيه ما يصيب الإنسان من مصائب ممّا لا يتطرق إليها المحو والاثبات قدر شعرة ، ولأجل ذلك لو أمكن الإنسان أن يتّصل به ، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف.

وأمّا الثاني : فهو لوح المحو والاثبات الذي أشار إليه سبحانه ، بقوله ( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (٣) فالأحكام الثابتة فيه ، أحكام معلّقة على وجود شرطها أو عدم مانعها ، فالتغيّر فيها لأجل اعواز شرطها أو تحقّق مانعها وربّما يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته ، ولكنّه ربّما يمحى ويكتب فيه الصّحة لفقدان شرط التقدير الأول أو طرؤ مانع من تأثير المقتضي.

فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه ، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته ، فإنّ الشيء إذا قيس إلى مقتضيه ( الذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع ) يمكن تقدير وجوده ، ولكنّه بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته التي منها الشرائط وعدم الموانع ، يقدر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه ، وتحقّق موانعه.

إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّه ربّما يتصل النبي أو الولي بلوح المحو والاثبات ، فيقف على المقتضى من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شيء

__________________

١ ـ الزخرف / ٤.

٢ ـ الحديد / ٢٢.

٣ ـ الرعد / ٣٩.

٣٢٨

ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه وذلك هو البداء في عالم الاثبات وإن شئت قلت : إنّ موارد وقوع البداء حسب الاثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت ، ولم يرد في الأخبار من هذاالقسم من البداء إلاّ موارد لا تتجاوز عن عدد الأصابع ، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم.

تلميحات إلى البداء في الذكر الحكيم :

١ ـ قال سبحانه :( فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيم * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى المَنَامِ أَنَّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أبَتِ أفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرينَ ) (١).

أخبر إبراهيم عليه‌السلام ولده إسماعيل عليه‌السلام بأنّه رأى في المنام أنّهُ يذبحه ورؤيا الأنبياء ( كما ورد في الحديث ) من أقسام الوحي (٢) ، فكانت رؤياه صادقة حاكية عن حقيقة ثابتة ، وهي أمر اللّه إبراهيم بذبح ولده ، وقد تحقّق ذلك الأمر ، أي أمر اللّه سبحانه به.

ولكن قوله : ( اِنِّى أرى فِى المَنامِ أنِّى اَذْبحك ) يكشف عن أمرين :

الف : الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق.

ب : الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وانّ إبراهيم سيمتثل ذلك ، والحال أنّه لم يتحقق لفقدان شرطه ، وهو عدم النسخ ويحكي عن كلا الأمرين قوله : ( وفَدَيناهُ بِذَبحٍ عظيم ).

وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه بأنه كيف أخبر خليل الرحمن بشيء من

__________________

١ ـ الصافات / ١٠١ ـ ١٠٢.

٢ ـ السيوطي : الدر المنثور ٥ / ٢٨٠.

٣٢٩

الملاحم والمغيبات ، ثمّ لم يتحقّق ، وما هذا إلاّ لأجل أنّه وقف على المقتضي ، فأخبر بالمقتضى ، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامة ، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتصاله بلوح المحو والاثبات.

٢ ـ أخبر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام (١) ولكن العذاب لم يصبهم ، فما هذا إلاّ لأنّ النبي ، وقف على المقتضي ولم يقف على المانع وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبة نصوحاً رافعة للعذاب ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلَى حِينِ ) (٢).

٣ ـ أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة ، كما روي عن ابن عباس حيث قال : إنّ موسى قال لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه واخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه (٣).

وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسى لأَخِيهِ هَارونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدينَ ) (٤).

فلا شك أنّ موسى اطّلع على الخبر الأوّل ولم يطّلع على نسخه وانّ التوقيت سيزيد ولا مصدر لعلمه إلاّ الاتصال بلوح المحو والاثبات.

__________________

١ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٣ / ١٣٥.

٢ ـ يونس / ٩٨.

٣ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٢ / ١١٥.

٤ ـ الأعراف / ١٤٢.

٣٣٠

هذه جملة الأخبار التي تحدث بها الذكر الحكيم ولكنّها لم تحقق ، فلا محيص لتفسيرها إلاّ القول بوقوفهم على المقتضي دون العلّة التامة ، فعندما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء ، والمراد أنّه بدا من اللّه لنبيّه وللناس ما خفى عليهم ، على غرار قوله سبحانه : ( وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتْسِبُونَ ) (١) فالبداء إذا نسب إلى اللّه سبحانه فهو بداء منه ، وإذا نسب إلى الناس فهو بداء لهم ، وبعبارة اُخرى ، البداء من اللّه هو اظهار ما خفى على الناس ، والبداء من الناس بمعنى ظهور ما خفى لهم ، وهذا هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه أحد.

وأمّا ما ورد في الروايات ، فهو بين خمسة أو أزيد بقليل :

١ ـ إنّ المسيح عليه‌السلام مرّ بقوم مجلبين ، فقال : ما لهؤلاء؟ قيل : يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه. فقال : يجلبون اليوم ويبكون غداً ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول اللّه؟ قال : لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه ... فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح اللّه إنَّ التي أخبرتنا أمس انّها ميّتة لم تمت. فدخل المسيح دارها فقال : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلاّ وكنت أصنعه فيما مضى ، انّه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ، عاضّ على ذنبه ، فقال عليه‌السلام : بما صنعت ، صرف عنك هذا (٢).

٢ ـ روى الكليني عن الامام الصادق عليه‌السلام : إنّه مرّ يهودي بالنبي فقال : السام عليك. فقال النبيّ عليك. فقال أصحابه : إنّما سلّم عليك بالموت فقال :

____________

١ ـ الزمر / ٤٧.

٢ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ٩٤.

٣٣١

الموت عليك. فقال النبيّ : وكذلك رددت. ثمّ قال النبيّ : إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله ، قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف ، فقال له رسول اللّه : ضعه ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود ، فقال : يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال : ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا حملته فجئت ومعي كعكتان ، فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول اللّه : بها دفع اللّه عنه ، قال : إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان (١).

ولا يمكن لأحد تفسير مضامين الآيات الماضية وهذين الحديثين إلاّ عن طريق البداء بالمعنى الذي تعرّفت عليه ، وهو اتّصال النبي بلوح المحو والاثبات والوقوف على المقتضي والاخبار بمقتضاه دون الوقوف على العلّة التامة.

٣ ـ عرض اللّه عزّوجلّ على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم ، فمرّ بآدم اسم داود النبي عليه‌السلام فإذا عمره في العالم أربعون سنة ، فقال آدم : يا رب ما أقل عمر داود وما أكثر عمري يا رب إنّي أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة أتثبت ذلك له؟ قال اللّه : نعم يا آدم ، فقال آدم : فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة ، فأثبت اللّه عزّوجلّ لداود في عمره ثلاثين سنة (٢).

ترى أنّه سبحانه أثبت شيئاً ، ثمّ محاه بدعاء نبيه ، وهذا هو المراد من قوله سبحانه : ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب ) فلو أخبر نبي اللّه عن عمر داود بأربعين سنة لم يكن كاذباً في إخباره ، لأنّه وقف على الاثبات الأوّل ولم يقف على محوه.

__________________

١ ـ المجلسي : بحارالانوار ٤ / ١٢١.

٢ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ٩٥ ـ ١٠٢.

٣٣٢

٤ ـ أخبر اللّه نبياً بأنّ يخبر ملكاً بأنّه تعالى متوفّيه إلى كذا وكذا ، فأخبره بذلك ولمّا دعا الملك وقال : ربّ أجلّني حتّى يشب طفلي وأقضي أمري ، فأوحى اللّه عزّوجلّ إلى ذلك النبي أن ائت فلاناً الملك واخبره انّي قد زدت في عمره خمس عشرة سنة (١).

٥ ـ روى عمرو بن الحمق ، قال : دخلت على أميرالمؤمنين عليه‌السلام حين ضرب على قرنه ، فقال لي : يا عمرو إنّي مفارقكم ، ثمّ قال : سنة السبعين فيها بلاء ـ قالها ثلاثاً ـ فقلت : فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني واُغمي عليه ، فبكت اُمّ كلثوم فأفاق ... فقلت : بأبي أنت واُمّي قلت : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال : نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء و ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب ) (٢).

هذه جملة ما ورد في البداء في مقام الاثبات وإن شئت قلت في ثمرات البداء في الثبوت ولا تجد في الأحاديث الشيعية بداء غير ما ذكرنا ، ولو عثر المتتبع على مورد ، فهو نظير ما سبق من الموارد ، والتحليل في الجميع واحد.

إذا وقفت على ذلك تعرفت قيمة ما ذكره الرازي في ختام محصّله ، وقال : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، لا يظهر معهما أحد عليهم.

الأوّل : القول بالبداء ، فاذا قال : إنّه سيكون لهم قوّة وشوكة ، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا ، قالوا : بدا للّه فيه (٣).

__________________

١ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ١٢١ ( وفي رواية اُخرى أنّ ذلك النبي هو حزقيل ، البحار ٤ / ١١٢ وذكر مثله في قضية شعيا ص ١١٣.

٢ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ١١٩ ، برقم ٦٠.

٣ ـ الرازي : نقد المحصل ٤٢١ ، نقله عن سليمان بن جرير الزيدي ، والأمر الثاني هو التقية كما ستعرف.

٣٣٣

إنّ الذي نقله أئمة الشيعة هو ما تعرّفت عليه من الروايات فليس فيها ما يدعم ذلك ، فقد نقلوا قصة رسول اللّه مع اليهودي وقصة المسيح مع العروس ، كما نقلوا قصة عمر داود وعمر الملك ، فهل ورد فيها ما أشار إليه الرازي؟

وأمّا ما رواه عمرو بن الحمق فإنّما هو خبر واحد فإنّ الامام ذيّل كلامه بالآية قائلاً : بأنّ هذا ليس خبراً قطعياً وأنّه في مظان المحو والاثبات. أفيصح لأجل مثله رمي أئمّة الشيعة « بأنّهم وضعوا قاعدتين وأنّهم كلّما يقولون سيكون لهم قوّة ثم لا يكون ، قالوا بدا للّه تعالى فيه »؟.

وقد سبق الرازي في هذا الزعم ، أبو القاسم البلخي المعتزلي على ما حكاه شيخنا الطوسي في تبيانه (١) ثمّ إنّ اكمال البحث يتوقّف على ذكر اُمور :

الأمر الأوّل :

إنّ البداء بالمعنى المذكور يجب أن يكون على وجه لا يستلزم تكذيب الأنبياء ووحيهم بان تدل قرائن على صحة الإخبار الأوّل كما صحّ الخبر الثاني ، كما هو واضح قرأ قصة يونس وإبراهيم الخليل فإنّ القوم قد شاهدوا طلائع العذاب فأذعنوا بصحة خبر يونس كما أنّ التفدية بذبح عظيم دلّت على صحة اخبار الخليل ، وهكذا وجود الأفعى تحت الثياب أو في جوف حطب اليهودي يدلاّن على صحة اخبار النبي الأعظم.

كل ذلك يشهد على أنّ الخبر الأوّل كان صحيحاً ومقدّراً ، غير أنّ الإنسان يمكن له أن يغيّر مصيره بعلمه الصالح أو الطالح كما في غير تلك المقامات.

__________________

١. الطوسي : التبيان ١ / ١٣ ـ ١٤ ، طبع النجف ، وقد عرفت بعض المتشدقين بهذه الكلمة الكاذبة.

٣٣٤

وبالجملة يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدل على صحة اخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يكون البداء على وجه يعد دليلا على كذبه ، ففي هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كان صادقاً في خبره.

الأمر الثاني :

إنّ البداء لا يتحقّق فيما يتعلّق بنظام النبوّة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية التي تعدّ شعاراً للشريعة فإذا أخبر المسيح بمجيئ نبي اسمه أحمد أو أخبر النبي بكونه خاتماً للرسل أو أنّ الخلافة بعده لوصيّه أو أنّه يخرج من ولده من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونظير ذلك ، فلا يتحقّق فيه البداء قطعاً ، لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة ، وموجب لضلال العباد ، ولو كان احتمال هذا الباب مفتوحاً في تلك المسائل الاُصولية ، لما وجب لأحد أن يقتفي النبي المبشر به ، ولا يوالي الوصي المنصوص ولا يتلقى دين الإسلام خاتماً ولا ظهور المهدي أمراً مقضيّاً بحجة أنّه يمكن أن يقع فيها البداء ، ففتح هذا الباب في المعارف والعقائد والاُصول والسنن الإسلامية مخالف للحكمة وموجب لضلالة الناس. وهذا ما يستحيل على اللّه سبحانه وانّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصيّة ، كما هو الحال في الأخبار الماضية.

الأمر الثالث :

إنّ اطلاق البداء في هذه الموارد ، إنّما هو بالمعنى الذي عرفت ، وانّ حقيقته بداء من اللّه للناس واظهار منه ولو قيل بدا للّه ، فإنّما هو من باب المشاكلة والمجاز ، والقرآن مليء به ، فقد نسب الذكر الحكيم إليه سبحانه المكر وقال : ( وَمَكَرُوا

٣٣٥

وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ ) (١) وليست المناقشة في التعبير من دأب المحقّقين ، فلو كان أهل السنّة لا يروقهم التعبير عن هذا الأصل بلفظ البداء للّه. فليغيّروا التعبير ويعبّروا عن هذه الحقيقة الناصعة بتعبير يرضيهم.

ولكن الشيعة تبعت النبي الأكرم في هذا المصطلح وهو أوّل من استعمل تلك اللفظة في حقّه سبحانه ، روى البخاري في كتاب النبوّة « قصة بدء الخليفة » وفيها هذه اللفظة التي يستوحش منها أهل السنّة ، روى أبو هريرة :

انّه سمع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، بدا للّه أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال : أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذّرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه فاُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أىّ المال أحبّ إليك؟ قال : الإبل أو قال : البقر ـ هو شك في ذلك انّ الأبرص والأقرع قال أحدهما : الإبل وقال الآخر : البقر ـ فاُعطي ناقة عشراء ، فقال : يبارك اللّه لك فيها.

وأتى الأقرع فقال : أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا قذرني الناس. قال : فمسحه ، فذهب ، واُعطي شعراً حسناً ، قال : فأيّي المال أحبّ إليك؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال : أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال : يرد اللّه إلىّ بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال : فأىّ المال أحبّ إليك؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً فأنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.

__________________

١ ـ آل عمران / ٥٤ ، وهنا آيات اُخرى يستدل بها على المشاكلة في التعبير عن الحقائق العلوية.

٣٣٦

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه ثمّ بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً اتبلّغ عليه في سفري فقال له : إنّ الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس. فقيراً فأعطاك اللّه؟ فأجابه : لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثلما رد عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه ، ثمّ بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلَّغ بها في سفري فقال : قد كنت أعمى فرد اللّه بصري وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت ، فواللّه لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه ، فقال : امسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك (١).

هذه حقيقة البداء ، وهذا هو مفهومه في الثبوت والاثبات ، قد ادعمه الذكر الحكيم والسنَّة النبوية فماذا بعد الحقِّ إلاّ الضلال.

__________________

١ ـ البخاري : الصحيح ٤ / ١٧٢ ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني اسرائيل.

٣٣٧
٣٣٨

المسألة الخامسة :

التقيّة

التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة ، ليصون بها نفسه وعرضه وماله ، أو نفس من يمتّ إليه بصلة وعرضَه ومالَه ، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (١) ولاذبها عمّار عندما أُخذ وأُسِر وهُدِّد بالقتل (٢) إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة ، فمن المحتّم علينا أن نتعرف عليها ، مفهوماً وغايةً ودليلاً وحدّاً ، حتّى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

إنّ التقية ، إسم لـ « إتّقى يتّقي » (٣) والتاء بدل من الواو وأصله من الوقاية ،

__________________

١ ـ القصص / ٢٠.

٢ ـ النحل / ١٠٦.

٣ ـ قال ابن الأثير في النهاية ٥ / ٢١٧ : وأصل اتقى : أوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاء وأُدغمت. ومنه حديث علي عليه‌السلام : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي جعلناه وقاية من العدوّ. ولاحظ لسان العرب مادة « وقى ».

٣٣٩

ومن ذلك اطلاق التقوى على اطاعة اللّه ، لأنّ المطيع يتخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.

مفهومها :

إذا كانت التقية هي اتخاذ الوقاية من الشرِّ ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو : إظهار الكفر وإبطال الإيمان ، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق. وإذا كان هذا مفهومها ، فهي تُقابل النفاق ، تَقابُل الإيمان والكفر ، فإنّ النفاق ضدها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وابطان الكفر ، والتظاهر بالحقّ واخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدها من فروع النفاق.

نعم : من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن ، وبه صوَّر التقية ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ من فروعه ، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن ، فإنّه يُعرَّف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى : ( إذَا جَاءَكَ المَنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المَنافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (١) فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس ، والعرض والمال من التعرض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي ، ولو كانت من قسم النفاق ، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (٢).

__________________

١ ـ المنافقون / ١.

٢ ـ الأعراف / ٢٨.

٣٤٠