بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

الكتاب والسنّة ، وكلمات العترة الطاهرة والعقل فيما له مجال القضاء ، وليست الشيعة متطفّلة في منهجها الكلامي على أيّة من الطائفتين. وأنت إذا وقفت على الكتب الكلامية المؤلّفة في العصور المتقدّمة من عصر الفضل بن شاذان ( ت ٢٦٠ ) إلى عصر شيخنا الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) ومن بعده بقليل ، تجد منهجاً كلامياً مبرهناً متّزنا واضحاً لا تعقيد فيه ولا غموض ، وعلى تلك الاُصول وذلك المنهج درج علماؤهم المتأخّرون في الأجيال التالية ، فألّف الشيخ الحلبي ( ٣٧٤ ـ ٤٤٧ ) « تقريب المعارف » والشيخ سديد الدين الحمصي ( ت ٦٠٠ ) كتابه « المنقذ من التقليد » وتوالي بعدهم التأليف على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي ( ٥٩٧ ـ ٦٧٢ ) ومعاصره ابن ميثم البحراني ( ٥٨٩ ) وتلميذه العلّامة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ) وهكذا ... كل ذلك يكشف عن أنّ الأئمّة طرحوا أصول العقائد ، وغذّوا أصحابهم وتلاميذهم بمعارف سامية ، اُعتبر الحجر الأساس للمنهج الكلامي الشيعي ، وتكامل المنهج من خلال الجدل الكلامي والنقاش العلمي في الظروف المتأخّرة فوصل إلى الذروة والقمّة فالناظر في الكتب الكلامية للسيّد الشريف المرتضى ك « الشافي » (١) و« الذخيرة » (٢) يجد منبعاً غنيّاً بالبحوث الكلامية كما أنّ الناظر في كتب العلّامة الحلّي المختلفة ك « كشف المراد » (٣) و« نهاية المرام » (٤) وغيرهما يقف على أفكار سامية أنضجها البحث والنقاش عبر القرون ، فبلغت غايتها القصوى.

وقد توالى التأليف في عقائد الشيعة واُصولهم من العصور الاُولى إلى يومنا هذا ، ولا يحصيها إلا محصي قطرات المطر وذرّات الرمال.

____________

١ ـ المطبوع في بيروت في أربعة أجزاء.

٢ ـ المطبوع في ايران في جزأين.

٣ ـ الكتاب الدراسي في الجامعات الشيعية.

٤ ـ مخطوط نحتفط منها بنسخة وهي في يد التحقيق.

٢٨١

هذا وانّ الشيعة وإن خالفوا في هذه الاُصول طائفة من طوائف الاسلامية ووافقوا طوائف اُخرى ، ولكن هناك اُصول اتّفق الجميع فيها دون استثناء ، وهو ظاهر لمن قرأ ما أثبتناه من الرسائل والكتيبات.

أفما آن للمسليمن أن يتّحدوا في ظلال هذه الاُصول المؤلّفة لقلوبهم ، ويتظلّلوا بظلالها ، ويتمسّكوا بالعروة الوثقى ، ويكون شعارهم : انّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، وأن لا يصغوا إلى النعرات المفرّقة ، المفترية على الشيعة وأئمّتهم ، وليكن شعارنا في التأليف : التحقيق والتأكّد من عقائد الآخرين ، ثمّ التدوين.

الفوارق بين الشيعة وسائر الفرق:

إذا تعرّفت على الفوارق الموجودة بين الشيعة وبعض طوائف المسلمين ، فهلّم معي إلى الفوارق الجوهرية بينهم وبين سائر الطوائف التي صيّرتهم إلى فرقتين متمايزتين ، وأكثرهم يرجع إلى مسألة القيادة والخلافة بعد الرسول الأكرم ، فنأخذ بالبحث عنها على وجه الإجمال :

٢٨٢

المسألة الأُولى :

وجوب تنصيب الإمام على اللّه سبحانه

اتّفقت الاُمّة الاسلامية على وجوب نصب الامام ، سوى العجاردة من الخوارج ، ومعهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة (٢٣٧) (١) فذهب المسلمون إلى وجوب نصب الإمام ، إمّا على اللّه سبحانه كما عليه الشيعة ، وإمّا على الاُمّة كما عليه غيرهم ، فوجوب نصب الامام لا خلاف فيه بين المسلمين ، وإنّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك.

وليس المراد من وجوبه على اللّه سبحانه ، هو إصدار الحكم من العباد على اللّه سبحانه ، حتى يقال ( إنِ الحُكْمُ إلا لِلّهِ ) (٢) بل المراد كما ذكرنا غير مرّة ، أنّ العقل

__________________

١ ـ ادّعت العجاردة بأنّ الواجب على الاُمّة التعاون والتعاضد لإحياء الحق وإماته الباطل ، ومع قيام الاُمّة بهذا الواجب لا يبقى للإمام فائدة تستدعي تسلّطه على العباد ، أمّا إذا اختلفت الاُمّة ولم تتعاون على نشر العدل واحقاق الحق فيجب عليها تعيين من يقوم بهذه المهمات ، وعلى ذلك فالإمامة لا تجب بالشرع ولا بالعقل ، وإنّما تجب للمصلحة أحياناً ، وقد تعرّفت على عقيدة الخوارج في الموضوع في الجزء الخامس من هذه الموسوعة.

٢ ـ يوسف / ٤٠.

٢٨٣

حسب التعرّف على صفاته سبحانه ، من كونه حكيماً غير عابث ، يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه ، وإلا فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على اللّه سبحانه.

ثمّ إنّ اختلافهم في كون النصب فرضاً على اللّه أو على الاُمّة ، ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والامامة عن رسول اللّه. فمن ينطر إلى الامام كرئيس دولة ليس له وظيفة إلا تأمين الطرق والسبل ، وتوفير الأرزاق ، واجراء الحدود ، والجهاد في سبيل أللّه ، إلى غير ذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول بأشكالها المختلفة ، فقد قال بوجوب نصبه على الاُمّة ، إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلا الكفاءة والمقدرة على تدبير الاُمور وهذا ما يمكن أن تقوم به الاُمّة الإسلامية ، وأمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة ( لا لنفس الرسالة فانّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى ) فمن المعلوم إنّ تقلّد هذا المقام يتوقّف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلا إذا حظي بعناية إلهية خاصة فيخلف النبي في عمله بالاُصول والفروع ، وفي سد جميع الفراغات الحاصلة بموته ، ومن المعلوم أنّه لا تتعرّف عليه الاُمّة إلا عن طريق الرسول ، ولا يتوفّر وجوده إلا بتربية غيبيّة.

فقد ظهر من ذلك أنّ كون القيادة الاسلامية بعد النبي بيد اللّه أو بيد الاُمّة ، أو انّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم ، ينجم عن الاختلاف في ماهية الخلافة.

فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الاُمّة بأحد الطرق ، قال في حقه : « لا ينخلع الامام بنفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الابشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب

٢٨٤

وعظه وتخويفه ، وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه » (١).

فمن قال : بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة والوزراء ، تنتخبه الاُمّة الاسلامية ، قال في حقه : « ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة اُمورنا وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة اللّه فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين ، برّهم وفاجرهم ، إلى قيام الساعة ، ولا يبطلهما شيء ولا ينقضهما » (٢).

وقد درج على هذه الفكرة متكلّموا السنّة ومحدّثوهم ، حتى قال التفتازاني : « ولا ينعزل الامام بالفسق ، أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى ، والجور ( الظلم على عباد اللّه ) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والاُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم ، ونقل عن كتب الشافعية : انّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الامام ، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره اثارة الفتنة ، لما له من الشوكة ، بخلاف القاضي » (٣).

ومن فسّر الامامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي ، فلا مناص له عن القول : بوجوب نصبه على اللّه سبحانه.

__________________

١ ـ التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني ( ت ٤٠٣ ) : ١٨١.

٢ ـ العقيدة الطحاوية ٣٧٩ ـ ٣٨٧.

٣ ـ شرح العقائد النسفية : وهي لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي ( ت ٥٧٣ ) والشرح لسعد الدين التفتازاني ( ت ٧٩١ ) : ١٨٥ ـ ١٨٦ ، ولاحظ في هذا المجال مقالات الاسلاميين للأشعري : ٣٢٣ ، واُصول الدين لمحمّد بن عبد الكريم البزدوي إمام الماتريدية : ١٩٠.

٢٨٥

وقد استدلّت الامامية على وجوب نصب الامام على اللّه سبحانه : بأنّ وجود الامام الذي اختاره اللّه سبحانه ، مقرّب من الطاعات ، ومبعد عن المعاصي ، وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرب هنا ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الاُمّة في مجالي العقيدة والشريعة ، كما تتكر جدالاً ونزاعاً عنيفاً بين الاُمّة في تعيين الامام. فالواجب على اللّه سبحانه من باب اللطف هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هو صنو النبي الأكرم في عمله بالعقيدة والشريعة ، وفي العدالة والعصمة ، والتدبير والحنكة ، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسول ، ولمّ شعث الاُمّة ، وجمعهم على خط واحد.

والعجب انّ المعتزلة ممّن تقول : بوجوب اللطف والأصلح على اللّه سبحانه ، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام ، مع العلم بأنّ المورد من جزئياته ، والذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزمهم أن يقولوا بعدم صحة خلافة الخلفاء المتقدمين على عليّ ، لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من اللّه سبحانه.

ثمّ إنّك تعرّفت على أنّ الرسول الأكرم بوحي من اللّه سبحانه ، قام بتطبيق القاعدة ، ونصب إماماً للاُمّة ، ليقود أمرهم ويسد جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى ، وبذلك حسم مادة النزاع ، وقطع الطريق على المشاغبين ، ولكنّه ـ وللأسف ـ تناست الاُمّة وصية الرسول وأمره ، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب ، وقامت بينهم المعارك والحروب التي اُريقت فيها الدماء ، واستبيحت الأعراض ، وتبدّلت المفاهيم ، واختلفت القيم ، ومازال ولم تزل معاناة الاُمّة من هذا الانشقاق ، وأصبح التقريب فضلاً عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكرين ، نسأل اللّه سبحانه أن يسد تلك الفجوة العميقة بايقاظ شعور علماء الاُمّة ومصلحيهم في المستقبل.

٢٨٦

المسألة الثانية :

عصمة الإمام

تفرّدت الامامية من بين الفرق الاسلامية بوجوب عصمة الامام من الذنب والخطأ ، مع اتّفاق غيرهم على عدمه.

قال الشيخ المفيد : إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء ، ولا تجوز عليهم صغيرة إلا ما قدم ذكر جوازه على الأنبياء ، ولا ينسون شيئاً من الأحكام ، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي ، ولا كون المعصوم مضطراً إلى فعل الطاعات ، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب ، هذه هي عقيدة الامامية في الامامة ، وقد استدلّوا عليه بوجوه من العقل والسمع. أمّا العقل فقالوا : إنّ الامام منفذ لما جاء به الرسول ، وحافظ للشرع ، وقائم بمهام الرسول كلّها ، فلو جاز عليه الخطأ والكذب ، لا يحصل الغرض من إمامته.

٢٨٧

حقيقة العصمة :

العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ ، حيث لا يترك واجباً ، ولا يفعل محرَّماً مع قدرته على الترك والفعل ، وإلا لم يستحق مدحاً ولا ثواباً ، وإن شئت قلت : إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلًّب عليه الشهوات والأهواء ، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبةً لا يخطأ معها أبدا.

وليست العصمة شيئاً ابتدعتها الشيعة ، وإنّما دلَّهم عليها في حق العترة الطاهرة ، كتاب اللّه وسنّة رسوله. قال سبحانه : ( إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْشَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) وليس المراد من الرجس إلا الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق. وقال الرسول : « علي مع الحق والحق مع عليٍّ يدور معه كيفما دار » (٢) ومن دار معه الحق كيفما دار ، محال أن يعصي أو أن يخطأ ، وقول الرسول في حق العترة : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا » (٣) فاذا كانت العترة عدل القرآن تصبح معصومة كالكتاب ، لا يخالف أحدهما الآخر ، وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.

وليس للقول بالعصمة في حق العترة منشأ سوى الكتاب والسنّة ، وسيوافيك بعض دلائلهم.

نعم شذَّ من قال انّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا

__________________

١ ـ الأحزاب / ٣٣.

٢ ـ حديث مستفيض ، رواه الخطيب في تاريخه ١٤ / ٣٢١ والهيثمي في مجمعه ٧ / ٢٣٦ وغيرهما.

٣ ـ حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه ، والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده ٢ / ١١٤ وغيرهم.

٢٨٨

على تقديس الحاكم ، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية ، ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي ، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه علي من الخطأ حتى يتّضح للملأ عدوان بني أمية في اغتصاب الخلافة. هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب التي تسرَّبت إلى الشيعة (١).

هب انّ عصمة الامام تسرّبت إلى الشيعة من الطريق الذي أشار إليه الكاتب فمن أين تسرّبت عصمة النبي التي يقول بها أهل السنّة جميعاً في التبليغ وبيان الشريعة ، فهل هذه الفكرة تسربّت إلى أهل السنّة من اليهود.

لا واللّه إنّها عقيدة اسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس ، فما ذكره الكاتب تخرُّص على الغيب ، بل فرية واضحة.

إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الامام وعدمه ، ينشأ من الاختلاف في تفسير الامامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها فمن تلقّى الامامة ـ بعد الرسول ـ بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل ، وتعمير البلاد واجراء الحدود ، فشأنه شأن سائر الحكّام العرفيين. وأمّا من رأى الامامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة وأنّ الامام ليس بنبيّ ولا يوحى إليه ، لكنّه مكلّف بملء الفراغات الحاصلة برحلة النبي ، فلا محيص له عن الالتزام بها ، لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك ، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الامام بالعصمة ويتخيِّلون أنّ ذلك يلازم النبوّة وما هذا إلا أنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين ولكل معطياته والتفصيل موكول إلى محلّه.

__________________

١ ـ الدكتور نبيه حجاب : مظاهر الشعوبية في الأدب العربي ٤٩٢ ، كما في هوية التشيع ١٦٦.

٢٨٩

الدليل على لزوم عصمة الامام بعد النبيّ :

استدل على لزوم العصمة في الامام بوجوه نأتي بها.

الأول : انّ الامامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوة والرسالة ، وكان الامام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبي الأكرم ، فلا مناص من لزوم عصمته ، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية التي لأجلها نصبه اللّه سبحانه إماماً للاُمّة ، فانّ الغاية هي هداية الاُمّة إلى الطريق المهيع ، ولا يحصل ذلك إلا بالوثوق بقوله ، والاطمئنان بصحة كلامه ، فاذا جاز على الامام الخطأ والنسيان ، والمعصية والخلاف ، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله ، وضعفت ثقة الناس به ، فتنتفي الغاية من نصبه ، وهذا نفس الدليل الذي استدلّ به المتكلمون على عصمة الأنبياء ، والامام وإن لم يكن رسولاً ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما.

نعم لو كانت وظيفة الامام مقتصرة بتأمين السبل وعزو العدو والانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك ، لكفى فيه كونه رجلاً عادلاً قائماً بالوظائف الدينية ، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك كما هو الحال في مورد النبيّ ، فكون الامام عادلاً قائماً بالوظائف الدينية ، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الامام.

فقد كان النبي الأكرم يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره.

كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الاسلام.

وكان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير.

وكان يربّي المسلمين ويهذّبهم ويدفعهم نحو التكامل.

فالفراغات الحاصلة برحلة النبي الأكرم لا تسدّ إلا بوجود انسان مثالي يقوم

٢٩٠

بتلك الواجبات وهو فرع كونه معصوماً عن الخطأ والعصيان (١).

الثاني : قوله سبحانه ( أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرَّسولَ واُولِى الأمْر مِنْكُمْ ) (٢).

والاستدلال مبني على عامتين :

١ ـ إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق ، إي في جميع الأزمنة والأمكنة ، وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما ومقتضى الآية.

٢ ـ إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان ( ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْر ) (٣) من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناهٍ ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من اُولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين ( وجوب اطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق ، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان ) أن يتّصف اُولي الأمر الذين وجبت اطاعتهم على وجه الاطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلا عبارة اُخرى عن كونهم معصومين ، وإلا فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية ، لما صحّ الأمر باطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحَّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فتستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة ، اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.

وممّن صرّح الآية على العصمة الامام الرازي في تفسيره ، ويطلب لي

__________________

١ ـ هذا اجمال ما أوضحناه في بحوثنا الكلامية فلاحظ الإلهيات ٢ / ٥٢٨ ـ ٥٣٩.

٢ ـ النساء / ٥٩.

٣ ـ الزمر / ٧.

٢٩١

أن أذكر نصَّه حتى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته قال :

أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ ، كان بتقدير أقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهى عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنّه محال ، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كل من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ اُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً (١).

ولمّا وقف الرازي على تمايمة دلالة الآية على عصمة اُولي الأمر ، وهي لا توافق مذهبه في الامامة حاول أن يؤول الآية بما يوافقه مع أنّ الواجب على أمثاله.

أن يتعرّف على « اُولي الأمر » الذي استظهر من الآية كونهم معصومين ، ولكنّه زلّت قدمه ، ولم يستغل هذه الفكرة ، ولم يستثمرها ، فأخذ يتهرّب من تنائج الفكرة بالقول بأنّا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليه ، عاجزون عن استفاده الدين والعلم منه ، فاذا كان الأمر كذلك ، فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الاُمّة ، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الاُمّة.

يلاحظ عليه : بأنّه إذا دلّت الآية على عصمة اُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم ، وادّعاء العجز ، هروب من الحقيقة فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية ، لا أظن أن يقول الرازي بالثاني فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبيّ وعصر نزول الآية ، فبالتعرّف عليهم ، يعرف معصوم زمانه ، حلقة بعد

__________________

١ ـ مفاتيح الغيب ١٠ / ١٤٤.

٢٩٢

اُخرى ، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي باطاعة المعصوم ثم لا يقوم بتعريفه حين النزول ، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة اُولي الأمر ، لكان عليه أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي على تعريفهم بلسان النبي الأكرم.

إذ لا معنى أن يأمر اللّه سبحانه باطاعة المعصوم ، ولا يقوم بتعريفه.

ثمّ إنّ تفسير « اُولي الأمر » بأهل الحل والعقد ، تفسير للغامض ـ حسب نظر الرازي ـ بالأغمض إذ هو ليس بأوضح من الأول ، فهل المراد منهم : العساكر والضباط ، أو العلماء والمحدّثون ، أو الحكام والسياسيون أو الكل. وهل اتّفق اجماعهم على شيء ، ولم يخالفهم لفيف من المسلمين.

إذا كانت العصمة ثابتة للاُمّة عند الرازي كما علمت ، فهناك من يرى العصمة لجماعة من الاُمّة كالقراء والفقهاء والمحدّثين ، هذا هو ابن تيمية يقول ي ردّه على الشيعة عند قولهم : انّ وجود الامام المعصوم لابدّ منه بعد موت النبي يكون حافظاً للشريعة ومبيّناً أحكامها خصوصاً أحكام الموضوعات المتجدّدة ، يقول : إنّ أهل السنّة لا يسلمون أن يكون الامام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي ، وذلك لأنّ ذلك حاصل للمجموع ، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد ، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه ، والمحدّثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها ، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال (١).

يلاحظ عليه : كيف يدّعي العصمة لهذه الطوائف مع أنّهم غارقين في الاختلاف في القراءة والتفسير ، والحديث والأثر ، والحكم والفتوى ، والعقيدة والنظر. ولو أغمضنا عن ذلك فما الدليل على عصمة تلكم الطوائف خصوصاً على قول القائل بأنّ القول بالعصمة تسرّب من اليهود إلى الأوساط الاسلامية.

__________________

١ ـ ابن تيمية : منهاج السنّة كما في نظرية الامامية ١٢٠.

٢٩٣

الثالث : قوله سبحانه : ( وإذِ ابْتَلى إبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قالَ وَمنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (١).

والاستدلال بالآية على عصمة الامام ، يتوقّف على تحديد مفهوم الامامة الواردة في الآية والمقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة ، فأمّا الأولّ فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي ، والثاني عبارة عن منصب ابلاغه إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في اُخريات عمره غير هذه وتلك ، لأنّه كان نبيّاً ورسولاً وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتى خوطب بهذه الآية ، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة ، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. ويعرب عن كون المراد من الامامة في المقام هو المعنى الثالث ، قوله سبحانه : ( أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً ) (٢).

فالإمامة التي أنعم بها اللّه سبحانه على الخليل وبعض ذريّته ، هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم ، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الامامة ، وراء النبوّة والرسالة ، وانّما هو قيادة حكيمة ، وحكومة إلهية ، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة. واللّه سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية :

١ ـ يقول سبحانه ـ حاكياً قول يوسف عليه‌السلام : ( رَبَّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ ) (٣) ومن المعلوم أنّ الملك الذي منّ به

__________________

١ ـ البقرة / ١٢٤.

٢ ـ النساء / ٥٤.

٣ ـ يوسف / ١٠١.

٢٩٤

سبحانه على عبده يوسف ، ليس النبوّة ، بل الحاكمية حيث صار أميناً مكيناً في الأرض. فقوله : ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) اشارة إلى نبوّته ، والملك اشارة إلى سلطته وقدرته.

٢ ـ ويقول سبحانه في داود عليه‌السلام : ( وَآتاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وعلَّمَهُ مِمّا يَشآءُ ) (١) ويقول سبحانه ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ ) (٢).

٣ ـ ويحكي اللّه تعالى عن سليمان أنّه قال : ( وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ ) (٣).

فملاحظة هذه الآية يفسر لنا حقيقة الامامة ، وذلك بفصل الاُمور التالية :

أ ـ إنّ إبراهيم طلب الامامة لذريتة ، وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.

ب ـ إنّ مجموعة من ذرّيته ، كيوسف وداود وسليمان ، نالوا ـ وراء النبوّة والرسالة ـ منصب الحكومة والقيادة.

ج ـ إنّه سبحانه أعطى آل ابراهيم الكتاب ، والحكمة ، والملك العظيم.

فمن ضم هذه الاُمور بعضها إلى بعض ، يخرج بهذه النتيجة : انّ ملاك الإمامة في ذرّية إبراهيم ، هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع ، وهذه هي حقيقة الامامة ، غير أنّها ربّما تجتمع ما المقامين الاُخريين ، كما في الخليل ، ويوسف ، وداود ، وسليمان ، وغيرهم ، وربّما تنفصل عنهما كما في قوله سبحانه : ( وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ

__________________

١ ـ البقرة / ٢٥١.

٢ ـ ص / ٢٠.

٣ ـ ص / ٣٥.

٢٩٥

بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَاللّهُُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشآءُ وَاللّهُ واسِعُ عَليمٌ ) (١).

والامامة التي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبي الأكرم ، تتّحد واقعيتها مع هذه الامامة.

ما هو مراد من الظالم :

قد تعرّفت على المقصود من جعل الخليل إماماً للناس ، وانّ المراد هو القيادة الإلهية ، وسوق الناس إلى السعادة بقوّة وقدرة ومنعة. بقي الكلام في تفسير الظالم الذي ليس له من الإمامة سهم ، فنقول :

لمّا خلع سبحانه ثوب الامامة على خليله ، ونصبه إماماً للناس ، ودعا إبراهيم أن يجعل من ذرّيته إماماً ، اُجيب بأنّ الامامة منصب إلهي ، لا يناله الظالمون ، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس ، المتصرّف في الأموال والنفوس ، فيجب أن يكون على الصراط السويّ ، والظالم المتجاوز عن الحد لا يصلح لهذا المنصب.

إنّ الظالم الناكث لعهد اللّه ، والناقض لقوانينه وحدوده ، على شفا جرف هار ، لا يؤتمن عليه ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة ، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدي ، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين ، فكيف يصح في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً ، نافذ القول ، مشروع التصرّف. وعلى ذلك ، فكل من ارتكب ظلماً وتجاوز حداً في يوم من أيام عمره ، أو عبد صنماً ، أو لاذ إلى وثن ، وبالجملة ارتكب ما هو حرام فضلاً عمّا هو شرك وكفر ، ينادى من فوق العرش في حقه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) من غير فرق بين صلاح حالهم بعد تلك الفترة ، أو البقاء على ما كانوا عليه.

__________________

١ ـ البقرة / ٢٤٧.

٢٩٦

نعم اعترض « الجصاص » على هذا الاستدلال وقال : « إنّ الآية إنّما تشمل من كام مقيماً على الظلم وأمّا التائب منه فلا يتعلّق به الحكم ، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة ، وزالت تلك الصفة ، زال الحكم. ألاترى أنّ قوله : ( وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (١) إنّما ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم ، فقوله تعالى : ( وَلا يَنال عَهدِى الظّالِمينَ ) لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه ، لأنّه في هذه الحاله لا يسمّى ظالماً ، كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً » (٢).

يلاحظ عليه : أنّ قوله « الحكم يدور مدار وجود الموضوع » ليس ضابطاً كلياً ، بل الأحكام على قسمين ، قسم كذلك ، وآخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما ، ولحظة خاصة ، وإن انتفى بعد الاتّصاف ، فقوله : « الخمر حرام » ، أو : « في سائمة الغنم زكاة » من قبيل القسم الأوّل ، وأمّا قوله : « الزاني يحد » ، و« السارق يقطع » فالمراد منه انّ الإنسان المتلبّس بالزنا أو السرقة يكون محكوماً بهما وإن زال العنوان ، وتاب السارق والزاني ، ومثله : « المستطيع يجب عليه الحج » فالحكم ثابت ، وإن زالت عنه الاستطاعة عن تقصير لا عن قصور.

وعلى ذلك فالمدعى أنّ « الظالمين » في الآية المباركة كالسارق والسارقة والزاني والزانية والمستطيع واُمّهات نسائكم في الآيات الراجعة إليهم.

نعم المهم في المقام ، اثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل الثاني ، وأنّ التلبّس بالظلم ولو آناً ما ، يسلب عن الإنسان صلاحية الامامة ، وإن تاب من ذنبه ، فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة :

١ ـ من كان طيلة عمره ظالماً.

__________________

١ ـ هود / ١١٣.

٢ ـ تفسير آيات الأحكام ١ / ٧٢.

٢٩٧

٢ ـ من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.

٣ ـ من كان ظالماً في بداية عمره ، وتائباً في آخره.

٤ ـ من كان طاهراً في بداية عمره ، وظالماً في آخره.

عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم عليه‌السلام ، الذي سأل الإمامة لبعض ذريته أىّ قسم منها أراد؟

حاشا إبراهيم أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل ، والرابع من ذريته ، لوضوح انّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره ، أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة ، لا يصلح لأن يؤتمن عليها.

بقي القسمان الآخران ، الثاني والثالث ، وقد نص سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم ، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث ، أعني من كان ظالماً في بداية عمره ، وكان تائباً حين التصدي.

فإذا خرج هذا القسم ، بقي القسم الثاني ، وهو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره ، ولم ير منه لا قبل التصدّي ولا بعده أي انحراف عن جادة الحق ، ومجاوزة للصراط السوي. وهو يساوي المعصوم.

العصمة في القول والراي :

إنّ الأئمة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلاً ، وعن الخطأ والزلة في القول ثانياً وما ذلك إلاّ لأنّ كلّ إمام من الأوّل إلى الثاني عشر ، قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلاً وتأويلاً ، ولا شيء من سنّة رسول اللّه قولا وفعلا وتقريراً وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنّة فضلاً وعلما. ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدّهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٩٨

وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب والسنّة وفهموها عن رسول اللّه تماماً (١) كما أخذها ووعاها رسول اللّه عن جبرائيل ، وكما وعاها جبرائيل عن اللّه ، ولا فرق أبداً في شيء إلاّ بالواسطة ، وقال الشاعر الإمامي في هذا المعنى :

إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهبا

ينجيك يوم البعث من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك

وأحمد والمروى عن كعب أحبار

ووال اُناساً نقلهم وحديثهم

روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

أخذ علىّ عن النبيّ ، وأخذ الحسنان عن أبيهما ، وأخذ علي بن الحسين عن أبيه ، وهكذا كل إمام يأخذ العلم عن إمام ، ولم ترو أصحاب السير والتواريخ أنّ أحداً من الأئمّة الإثنا عشر أخذ عن صحابي أو تابعي ، فقد أخذ الناس العلم عنهم ، ولم يأخذوه عن أحد ، وقال الامام الباقر عليه‌السلام : لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم (٢).

__________________

١ ـ أو الهاماً غيبياً لأنّهم محدّثون ، كما أنّ مريم كانت محدّثة ، وفي صحيح البخاري : عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فان كان من اُمتي منهم أحد فعمر. صحيح البخاري ٢ / ١٩٤ باب مناقب عمر بن الخطاب.

٢ ـ محمّد جواد مغنية : الشيعة والتشيّع ٤٤.

٢٩٩
٣٠٠