بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

الافتراض السابع :

الشيعة والمغول

لمّا اُقصي آل بويه عن الحكم في العراق وإيران ، لم تقم للشيعة دولة قويّة ذات حول وطول بعدهم ، وعاد الضغط على أتباع أهل البيت إلى أن استولى « هولاكو » على ايران وقضى على الخلافة العباسيّة عام ( ٦٦٥ ) فأعطى الحرية للمذاهب ومنها مذهب أهل البيت وعلى ذلك نهج أولاده ، ثمّ أسلم من ملوك المغول أربعة ثالثهم محمّد خدابنده ، ورابعهم سعيد بن محمد خدابنده. فأمّا الأوّل منهما فقد كان حنيفاً ولمّا وفد عليه نظام الدين عبد الملك الشافعي جعله قاضي القضاة في المملكة وكان يناظر الحنيفة في محضر السلطان فيفحمهم ، ولمّا ظهرت له الغلبة حسن للسطان المذهب الشافعي فعدل إليه ، ولمّا كثرت المناظرات بين نظام الدين وعلماء الحنيفة ، وكان ينسب كل منهم إلى مذهب الآخر ما لا تستحسنه العقول ، ظهر عليه الملل والضجر ، وقد ورد إليه في هذه الآونة السيد تاج الاوي مع جماعة من الشيعة وقعت بينه وبين نظام الدين محاضرات بمحضره ، ثم بعد آونة حضر عنده العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بمناسبة خاصّة يذكرها التاريخ ، فأمر قاضي القضاة بمناظرته ، وأعدّ لهم مجلساً حافلاً للعلماء وأهل الفضل ، فوقعت المناظرة بينهم في المسائل العقائدية والفقهية ، فظهرت غلبة العالم الشيعي ، فأظهر السلطان

١٦١

التشيّع من احينه ، وصارت تلك المناظرة سبباً لأنتشار التشيّع (١) وقد استنشقت الشيعة في عصر المغوليين على وجه الاطلاق عطر الحرية ونسيمها ، فازدحمت المراكز العلمية بعلمائهم ومفكّريهم ، كنصير الدين الطوسي والمحقّق الحلّي. وازدهرت بيوتات الشيعة كبيت آل طاووس وآل سعيد وغيرهما. وقد كان للشيعة كيان ونشاط في عصرهم أعادوا مجدهم في عصر البويهيين.

__________________

١ ـ لاحظ منتخب التواريخ لمعين الدين النطزي المؤلف عام ٨١٦ ـ ٨١٧ طبع عام ١٣٣٦.

١٦٢

الإفتراض الثامن :

الشيعة والصفوية

والكلام في هذه الأسرة هو الكلام في البويهيين والمغوليين.

إنّ الصفويين اُسرة الشيخ صفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفّى عام (٧٣٥) ولمّا انقرضت دولة المغول ، انقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة شيعية وغير شيعية إلى أن قام أحد أحفاد صفي الدين ، الشاه إسماعيل عام (٩٠٥) واستلم مقاليد الحكم وسيطر على بلاد فارس والطرق ، واستمرّ في الحكم إلى عام (٩٣٠) ، ثمّ ورثه أولاده إلى أن اُقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على ايران عام (١١٣٥) فكان الصفويون خير الملوك لقلّة شرورهم وكثرة بركاتهم ، وقد راج العلم والأدب والفنون المعمارية أثناء حكمهم ، ولهم آثار خالدة إلى الآن في ايران والعراق ، ومن وقف على أحوالهم ووقف على تاريخ الشيعة يقف على أنّ عصرهم كان عصر ازدهار التشيّع لا تكوّنه.

هذه هي الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة ومبدأ تكوّنهم ، وكلّها كانت اُموراً افتراضية بنوها على أساس خاطئ وهو أنّ الشيعة ظاهرة طارئة على المجمتع الاسلامي بعد عهد النبي ، سامحهم الله وغفر الله لنا ولهم.

١٦٣

زلّة لاتستقال :

إنّ الدكتور عبد اللّه فياض زعم أنّ التشيع بمعنى موالاة علي نضج في مراحل ثلاث :

١ ـ التشيّع الروحي ، يقول : إنّ التشيّع لعلي بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي وتمّت قبل تولّيه الخلافة ، ثم ساق الأدلّة على ذلك وجاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة وأحاديث الغدير وما قال النبي في حق علي من التسليم على علي بإمرة المؤمنين.

٢ ـ التشيّع السياسي ، ويريد من التشيّع السياسي ، كون علي أحق بالإمامة لا لأجل بل لأجل مناقبة وفضائله ، ويقول : إنّ التشيّع السياسي ظهرت بوادره ـ دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية ( يريد النص ) ـ في سقيفة بني ساعدة ، حين أسنَدَ حقَ علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير ، والعباس ، وغيرهما ، وبلغ التشيّع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان.

٣ ـ ظهوره بصورة فرقة ، فإنّما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة (٦١) ولم يظهر التشيّع قبل ذلك بصورة فرقه دينية تعرف بالشيعة. ثمّ استشهد بكلام المقدسي حيث قال : إنّ أصل مذاهب المسلمين كلّها منشعبة من أربع : الشيعة ، والخوارج ، والمرجئة ، والمعتزلة. وأصل افتراقهم قتل عثمان ، ثمّ تشعّبوا (١) وأيّد نظريته بما ذكره المستشرق « فلهوزن » قال : تمكّن الشيعة أوّلاً في العراق ولم يكونوا في الأصل فرقة دينية ، بل تعبيراً عن الرأي السياسي في هذا الاقليم كلّه ، فكان جميع سكان العراق خصوصاً أهل الكوفة شيعة علي على تفاوت بينهم (٢).

__________________

١ ـ أحسن التقاسيم ٣٨ طبع ليدن ١٩٠٦.

٢ ـ تاريخ الإمامية ٣٨ ـ ٤٧.

١٦٤

يلاحظ عليه ، أوّلاً : انّ التفكيك بين المرحلتين الأوليتين وانّ الاُولى منهما كانت في عصر النبي وظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبي قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال : كان روّاد التشيّع الروحي يلتزمون بآراء علي الفقهية إلى جانب الالتزام باسناده سياسياً (١).

وثانياً : إنّ ما ذكره من النصوص في مجال التشيّع الروحي كما يدّل على أنّ عليّاً القائد الروحي ، يدل بوضوح على أنّه القائد السياسي ، وقد نقل الكاتب جل النصوص ، فمعنى التفكيك بينهما هو أنّ الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها وتركوا بعضها ، ولو صحّ اسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح اسناده إلى سلمان ، وأبي ذر ، وعمّار ، الذين لا يتركون الحق وإن بلغ الأمر ما بلغ.

وبما أنّ النبي كان هو القائد المحنَّك للمسلمين لم تكن هناك حاجة لظهور التشيّع السياسي في حياته ، بل كان المجال واسعاً لظهور التشيّع الروحي ورجوع الناس إلى علي في القضايا والأحكام الفقهية ، وهذا لا يعني عدم كونه قائداً سياسياً وانّ وصايا النبي لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.

وثالثاً : إنّ التشيّع السياسي ظهر في أيّام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية ، فانّ الطبري وغيره وإن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير والعباس إلى علي ، ولكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.

روى الصدوق عن زيد بن وهب انّه قال : كان الذين أنكروا على أبي بكر في تقدّمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، فمن المهاجرين خالد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، واُبيّ بن كعب

__________________

١ ـ تاريخ الإمامية ٤٥.

١٦٥

و عمّار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، ومن الأنصار زيد بن ثابت ، وذو الشهادتين ، وابن حنيف وأبو أيّوب الأنصاري ، وأبو الهيثم بن التيهان. وبعدما صعد أبابكر على المنبر قال خالد ابن سعيد : يا أبابكر اتّق الله ... ثم استدلّ على تقدم علي بما ذكره النبي فقال : معاشر المهاجرين والأنصار ، اُوصيكم بوصية فاحفظوها ، وانّي مؤدّ اليكم أمراً فاقبلوه على أنّ عليّاً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم ـ إلى آخر ما ذكره ـ ثمّ قام أبوذر وقال : يا معاشر المهاجرين والأنصار ... طرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما أوعز إليكم ، ثمّ ذكر مناشدة كل منهم مستندين في حجاجهم على أبي بكر بالأحاديث التي سمعوها من النبي الأكرم (١) وهذا يعرب أنّ التشيّع السياسي ـ الذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال ـ بعد الرحلة ، كان مستفاداً من نصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

رابعاّ : ماذا يريد من الفرقة وانّ الشيعة تكوّنت بصورة فرقة بعد مقتل الامام الحسين فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتنى على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاُخرى ، فهذا لم يكن منه أثراً إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة ، ولم يكن يومذاك أيّة مسألة كلامية مطروحة حتى تأخذ شيعة علي بجانب والآخرون بجانب آخر ، بل كان المسلون متسالمين في العقائد والأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول ، ولم يكن يومذاك أيّ اختلاف إلا مسألة القيادة فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.

وإن أراد من الفرقة الجماعة المتبنّية ولاية علي روحيّاً وسياسياً وانّه أحق بالقيادة على جميع الموازين ، فكانت موجودة في يوم السقيفة وبعدها.

__________________

١ ـ الخصال ٤٦١ طبع مكتبة الصدوق لاحظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لاثبات الخلافة للامام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٦٦

نعم إنّ احتكاك المسلمين مع ألأجانب واستيراد آرائهم وعقائدهم في المسائل الكلاميةو الدينية أوجد فروعاً كلامية ، وبما أنّ الشيعة حسب حديث الثقلين رجعوا إلى أئمّة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعّبة الأفنان ، ضاربة جذورها في الكتاب والسنّة والعقل.

الآن حصحص الحق وأسفر الصبح لذي عينين فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام ، وإنّما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي بعد رحلة النبي بتنصيصه. وتبنّاه منذ بعثة النبي الأكرم لفائف من الصحابة والتابعين وامتدّ حسب الأجيال والقرون وظهر بفضل التمسّك بالثقلين علماء مجاهدون ، وشعراء مجاهرون ، وعباقرة في الحديث ، والفقه والتفسير والفلسفة والكلام واللغة والأدب ، وشاركوا جميع السملين في بناء الحضارة الاسلامية بجوانبها المختلفة ، يتّفقون مع جميع الفرق في أكثر الاُصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. وسيوافيك تفصيل عقائدهم في الفصل العاشر باذن اللّه.

وبذلك يظهر وهن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أنّ التشيّع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبي وباعتباره حزباً سياسياً قد حدث بعد قتل عليّ (١).

هذه الفروض الوهمية تبتنى على أساس باطل وهو أنّ التشيّع بجميع أو بعض أبعاده أمر طارىء على الاسلام والاُمّة ، فراحوا يتبنّون الفروض الذهنيّة.

__________________

١ ـ لاحظ الصلة بين التصوّف والتشيّع ١٨.

١٦٧
١٦٨

الفصل السابع

صيغة الحكومة عند أهل السنّة

١٦٩
١٧٠

قد تعرّفت على صيغة الحكومة عند الشيعة ، وحان البحث عن صيغتها لدى أهل السنّة ، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه ، في أمرين :

الأوّل : فيما يتعلّق بجوهرها وصلبها وأساسها ، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية ، واستمرار لوظائف النبوّة كلّها ، سوى تلقّي الوحي الإلهي ، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبيّ لأنّ النبوّة اُوصدت وختمت بالرسول ... فلا نبيّ ولا رسول بعده ، ولكن الوظائف كلّها مستمرّة فلأجل ذلك يجب أن يكون الامام قائماً بوظائفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعنوية والمادية والعلمية والاجتماعية ، ويسد الفراغات الحاصلة بوفاته ، وقد عرفت قسماً منها ، وكان الامام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلا لعلي بعد حرمانه من حقّه سنين متمادية ، فلمّا استتبّت له الاُمور قام بنفس وظائف النبيّ ، من غير فرق بين الأجتماعية منها والعلمية ، وسد الفراغات الهائلة.

ولكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم اُمور الاُمّة من تدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وردع الظالم ، والأخذ للمظلوم ، وقسمة الفيء بين

١٧١

المسلمين ، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم (١).

ولأجل اختصاص وظائف الامام بهذه الاُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة ، ولا الاحاطة بالشرع اُصوله وفروعه ، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الاُمور ، وقطع كيد الأعداء ، وتسهيل الحياة للاُمّة فعلى ذلك ، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات الحاضرة ، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الفردية ، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه (٢).

وهذا الاختلاف بين الفريقين يرجع إلى تفسير جوهر الامامة وحقيقتها ويتفرّع على ذلك خلاف آخر وهذا هو الذي نذكره في الأمر التالي.

الثاني : انّ الامام عند الشيعة يعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول ، وأمّا الامام عند أهل السنّة فقد فوّض أمر النتخابه إلى الاُمّة على وجه الاجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل ، والذي يظهر من مجموع كلامهم ، انّ الامامة تنعقد عن طريق الشورى ، واختيار أهل الحل والعقد أوّلاً ، وبتعيين الامام السابق ثانياً ، وبالغلبة ثالثاً (٣).

قال الماوردي : الامامة تنعقد بوجهين :

أحدهما : باختيار أهل الحل والعقد.

والثاني : بعهد الامام من قبل (٤).

__________________

١ ـ قد لخّص الماوردي مسؤوليات الامام في عشرة ، لاحظ الأحكام السلطانية ١٥ ـ ١٦.

٢ ـ التمهيد للباقلاني ( ت ٤٠٣ هـ ) ١٨١.

٣ ـ الماوردي : الأحكام السلطانية ٦ والتفتازاني : شرح مقاضد الظالبيين في علم اُصول عقائد الدين ٢٧٢ طبع مصر.

٤ ـ الأحكام السلطانية ٤.

١٧٢

وقال العضدي : إنّها تثبت بالنص من الرسول ، وفي الامام السابق بالاجماع ، وتثبت ببيعة أهل العقد والحل (١).

ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الامامة على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة : لا تنعقد الامامة إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عامّا.

وقالت طائفة : أقل ما تنعقد به منهم خمسة ، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة الجرّاح ، واسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.

وقال آخرون : تنعقد بثلاثة ، يتولّاها أحدهم برضا الاثنين ، ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.

وقالت طائفة اُخرى : تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعلي : امدد يدك اُبايعك ، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ (٢).

إنّ هذا الاختلاف الهائل فيما تنعقد به الامامة ، ناجم عن القول بأنّ أمر الخلافة مفوّض إلى الاُمّة مع عدم النص على أصل التفويض ولا على خصوصياته. وهذا من عجيب الأمر ، حيث إنّ النبيّ يفوّض ذلك الأمر الحيوي إلى الاُمّة ، ولا يتكلّم بأصل التفويض ولا خصوصياته ، فيترك الاُمّة في حيرة.

وقد وقف على ذلك ، الكاتب المصري الخضري ، قال : لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه ، اللّهمّ تلك الأوامر العامة التي تتناول

__________________

١ ـ شرح المواقف ٣ / ٢٦٥.

٢ ـ الأحكام السطانية ٤.

١٧٣

الخلافة وغيرها ، مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : ( وَأمْرُهُمْ شورى بَينَهُمْ ) (١) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة ، إلا بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنَّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتى يحلّوه بأنفسهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده واُوضحت سبله ، كما اُوضحت سبل الصلاة والصيام (٢).

إنّ ما ذكره الخضري لا يسمن ولا يغني من جوع لأنّ الحكومة بعد النبي الأكرم كانت من عظائم الاُمور فلا يخطر ببال أحد أن يكتفي الرسول بجميع تفاصيلها وخصوصياتها التي لم تمارسها الاُمّة ولا ذاقتها طوال حياته بآية الشورى وهذا أشبه بالاكتفاء في اقامة الصلاة بالمجاملات الواردة في نص الكتاب.

« كيف يخطر ببال أحد أن يهمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيادة السياسية للدولة الاسلامية التي أسّسها ، وثبّت عناصرها ومرتكزاتها ، فلم يضع قاعدة معيّنة للخلافة كما زعموا ، مع العلم بأنّ القيادة بالنسبة للدولة كالرأس من الجسد ، وكالقلب من سائر الأعضاء والجوارج , أيهمل القيادة والرئاسة للدولة ، ولا يتكلّم عنها بنفي أو اثبات؟ أيهملها ويتركها نهباً لأصحاب المطامع ، والمطامح , والأهواء ، ولشهوات أصحاب القوّة والفساد في الأرض؟ فتعود بذلك بعد موته ، الجاهلية ، وعبادة الطواغيت ، بعد أن عان وأصحابه ما عانوا من متاعب ، ومشقّات ، وما قدّموه من تضحيات غالية وعزيزة للخلاص من أوبائها وتحرير العباد من فحشائها؟ أيتركها لتكون سبباً لإراقة الدماء وازهاق الأرواح؟ وهو المرسل رحمة لا نقمة للعالمين ، ونوراً وهدىً للحائرين والضالّين.

__________________

١ ـ الشورى / ٣٨.

٢ ـ محاضرات في تاريخ الاُمم الاسلامية ٢ / ١٦١.

١٧٤

حاشاه حاشاه لقد وضع لاُمّته وبوحيٍ من ربّه العليم الخبير كل قواعد واُسس الحياة الانسانية بمجالاتها الواسعة ، ولم يهمل حتى آداب الأكل والشرب ولبس النعال وحتى آداب التبوّل والتبرّز ، ووضّح لاُمّته معالم الحياة الرفيعة الراقية وفي مقدّمتها الحياة السياسية ، ورأسها المفكر وقلبها البابض ، هو القيادة المعروفة في لغة القرآن والسنّة باسم ـ الامامة والخلافة ـ والملك والسلطان ـ وبذلك نزلت البشرى من عالم الغيب والشهادة باكمال الدين ، واتمام النعمة ، والرضى بالاسلام قال تعالى : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) ـ المائدة / ٣ (١).

لو كانت صيغة الحكومة قائمة على أساس الشورى ، وكانت هي طريقاً لتعيين الحاكم ، كان من الضروري أن يقوم النبي بتوعية الاُمّة ، وايقافها بصورة واسعة على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة ، حتى لا تتحيّر الاُمّة ولا تختلف في أمرها ، ولكنّا رغم هذه الأهمية القصوى ، لا نجد لهذه التوعية الضرورية أي أثر في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم. أجل إنّ مقتضى كون الدين الاسلامي ديناً خاتماً هو التعرّض لصلب الموضوع مُوكِلاً شكله إلى نظر الاُمّة ، حتى يتماشى مع جميع العصور. ولا نعني من هذا أنّه يجب على الشارع اعطاء كل التفاصيل الخصوصيات الراجعة إلى الشورى ، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى جوهر الشورى وصميمها ، فلا يصح للشارع أن يترك بيانها ، إذاً هناك أسئلة تطرح نفسها في المقام لا يمكن الوقوف على أجوبتها ، إلا عن طريق الشرع ، وهي :

١ ـ من هم المشاركون في الشورى ، فهل العلماء وحدهم أو السياسيون وحدهم أو الضبّاط والعساكر وحدهم ، أو المختلط منهم؟

__________________

١ ـ الزيدية نظرية وتطبيق تأليف علي بن عبدالكريم ١٠٢ ـ ١٠٣ طبع عمان ١٤٠٥.

١٧٥

٢ ـ من هم الذين يختارون أهل الشورى؟

٣ ـ لو اختلف أهل الشورى في شخص أو أمر ، ما هو الملاك لتقديم رأي على آخر؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة التي ترتبط بنظام الشورى المجمل ، ولا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلا رجماً بالغيب.

ثمّ إنّ القوم ربّما يعبّرون عن صيغة الحكومة باتّفاق أهل الحل والعقد ، وهذه الكلمة أشد غموضاً من السابقة إذا لا يعرف الانسان من هم أهل الحل والعقد ، وماذا يُحلِّون وماذا يعقِدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبهم من حوادث؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الانسان صار من أهل الحل والعقد؟ ما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ولأجل هذه الابهامات حول نظام الشورى أوّلاً ، وأهل الحل والعقد ثانياً ، تنبّه بعض دكاترة العصر إلى وهن هذه النظرية.

قال الدكتور طه حسين : لو كان للمسلمين هذا النظام المكتوب أي نظام الشورى ، لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك ، وما يدعون ، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف.

وقال الخطيب : إنّ كلمة أهل العقد والحل لأغمض غموضاً من كلمة الأفراد المسؤولين (١).

كل ذلك يعرب عن أنّ مسألة نظام الشورى انّما اخترعها المتقمّصون للخلافة في أيام الأمويين.

__________________

١ ـ الخلافة والامامة للخطيب عبد الكريم ٢٧١.

١٧٦

آيتان حول الشورى :

إنّ القائلين بكون الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الشورى ، استدلّوا بأمرين :

١ ـ الآيتان الواردتان حول الشورى.

٢ ـ انّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى.

ونحن نبحث عن كلا الموضوعين بوجه موجز ، ونحيل التفصيل إلى الموسوعات الكلامية ، وإليك الآية الاُولى وتحليلها :

١ ـ ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِر لَهُمْ وشاوِرهُمْ فِى الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) (١).

إنّ الاستدلال بها سببه الغفلة عن موردها ومضمونها فإنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي فرضه سبحانه حاكماً على الاُمّة ، فيأمره أن يشاور أفراد الاُمّة فلا صلة للآية بالمدعى. فإنّ أقصى ما تفيده الآية هو أن لا يكون الحكاكم الاسلامي الذي تمّت سلطته ، مستبدّاً في أعماله ، وأمّا أنّ الامام ، يتعيّن عن طريق الشورى فالآية لا تدل عليه ، والذي يؤكّد ما قلناه انّه يأمر النبيّ بعد المشاورة. بالتوكّل عند العزم. وأنّ له الرأي النهائي والأخير.

والحاصل : انّ الآية خطاب للحاكم الاسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلاً وأخذ التصميم النهائي ثانياً , وأمّا أنّ الحاكم الاسلامي يتعيّن من جانب الشورى ، فالآية أجنبية عنه فانّ الخطاب في الآية للحاكم لا لغيره.

وأمّا الآية الثانية : أعني قوله سبحانه في صفات المؤمنين : ( وأمْرُهُمْ

__________________

١ ـ آل عمران / ١٥٩.

١٧٧

شُورى بَيْنَهُمْ ) (١) فهي تحثّ المؤمنين إلى المشورة في جميع الاُمور المرتبطة بهم وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية ، من الاُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية. والتمسّك بها في مثل هذه المقام المردّد بين كونه من اُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه تمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية.

وبعبارة اُخرى : انّ الامامة لو كانت أمراً إلهيّاً. متوقّفاً على ولاية مفاضة من اللّه سبحانه وإلى الولي يكون من الاُمور المربوطة باللّه ورسوله ، وأمّا لو كانت امرة عرفية وولاية شعبية تكون من الاُمور المتعلّقة بالمؤمنين وفي مثله حيث الأمر مردّد لا يمكن التمسّك بالعموم واثبات انّ الولاية من شؤون المؤمنين.

أضف إلى ذلك انّه لو كان أساس الحكم في الاسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة. على ما عرفت تفصيلا.

ولأجل عدم وجود أيّ ايضاح من قبل النبيّ حول النظام المذكور ، التجأ الكاتب المصري إلى رفض أن يكون ذلك أساساً للحكم وانّما كانت تجربة من المسلمين بعد رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

يقول : « ينظر بعضهم إليه على انّه ( أي تعيين الامام بالشورى ) نواة صالحة لأوّل تجربة ، وانّ الأيام كفيلة بأن تنميها وتستكمل ما يبدو فيها من نقص فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث ، إذ لم يكن من المستطاع ـ حينذاك الوقوف على رأي الاُمّة كلّها ، فرداً فرداً ـ فيمن يخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينظر بعض آخر إلى هذا الاسلوب بأنّه اُسلوب بدائي عالج أهم مشكلة في الحياة وقد كان لهذا الاسلوب أثر في تعطيل القوى المفكرّة

__________________

١ ـ الشورى / ٣٨.

١٧٨

للبحث عن اسلوب آخر من أساليب الحكم التي جريتها الاُمم » (١).

ومعنى ذلك انّ الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات قد أهملت هذا الجانب المصيري في حياة الاُمّة ، وانّه اهتمّ بكل صغير وكبير سوى هذا الأمر الخطير الذي به يناط بقاء الاسلام واستمراره. علماً انّ الظروف كانت مساعدة لوصول ذلك ولا مانع يعترض الطريق.

خلافة الخلفاء ومسألة الشورى :

هذا كلّه حول الدليل الأول وأمّا الدليل الثاني. وهو انّ خلافة الخلفاء تمّت عن هذا الطريق فهو أوهن وأضعف من الأوّل فمن قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك أي مشورة ولا استشارة وانّما تمّت خلافة الأول في جوّ إرهابي وفي محفل ساد فيه ، السب والشتم والضرب. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة التي لا تليق بمجلس كهذا.

كما انّ خلافة الثاني تمّت بتنصيص من الخليفة الأول وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالاً للاُمّة.

وأمّا خلافة الثالث فهي وإن كانت مصبوغة بصبغة الشورى ولكن الخليفة هو الذي عيّن أعضاء الشورى واستبدّ بالأمر وعيّن المرشحين للخلافة بل كان ما قام به يؤدي إلى تعيّن الخليفة. ومثل ذلك لا ينطق عليه شروط الشورى وانّما كان استبداداً في لباس الحرية.

وإن كنت في شك ممّا تلوناه عليك فلندرس تاريخ انتخاب الخلفاء عن كثب.

__________________

١ ـ الخلافة والامامة : عبد الكريم الخطيب ٢٧٢.

١٧٩

١ ـ السقيفة وخلافة أبي بكر :

توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي ، وانّ رسول اللّه ما مات ، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فواللّه ليرجعنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأسن كما يأسن البشر. وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين؟ هو أكرم على اللّه من ذلك فان كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه.

وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُنح فسمع مقالة عمر فدخل البيت فكشف عن وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبّله وقال : بأبي أنت واُمّي طبت حيّاً وميّتاً والذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً (١). ثم خرج فقال : على رِسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال : ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال : ( إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقال : ( وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَاِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِى اللّهُ الشّاكرِينَ ) فتشنّج الناس. فقال عمر : واللّه ما هو إلاّ أن

__________________

١ ـ أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا ، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت ، ويقبّله ويتبرّك به ، ويقول بأبيه واُمّه له.

١٨٠