الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين والتقبيح العقليّين الناشئين من قضاء الجبلّة الإنسانية والفطرة الثابتة ، فعند ذاك تتسم أُصول الأخلاق بسمة الثبات والخلود.

خذ على سبيل المثال «إكرام المحسن» فانّه أمر يستحسنه العقل ، ولا يتغير حكم العقل هذا أبداً ، وإنّما الذي يتغيّر بمرور الزمان ، وسائل الإكرام وكيفيته.

إنّ الثابت عبارة عن الأُصول الفطرية التي لها جذور في عمق الإنسان ، وطبيعته ، وبما انّ الفطرة الإنسانية واحدة في جميع الشرائط والظروف لا تتغير بتغيّرها ، تُصبح الأُصول المبنية على الفطرة الإنسانية أُصولاً ثابتة لا تتغيّر أيضاً ، فقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١) ثابت ولا يتغيّر عبر القرون ، لأنّ العدل والإحسان قد جبل الإنسان عليهما ، نعم ثمة تغيّر يطرأ على الأساليب المقررة لإجراء تلك الأُصول الثابتة تبعاً لتغيّر الزمان ، فهي لم تزل تتغيّر حسب تغيّر الحضارات وهذا التغيّر ليس جوهرياً يمس ثبات تلك الأُصول.

إنّ للإنسان ـ مع غض النظر عن البيئة التي يعيش فيها ـ سلوكاً باطنياً يلازمه ولا ينفك عنه ، وفطرة ثابتة ويعدّ جزءاً مهماً من شخصيته يميّزه عن سائر الحيوانات ويلازم وجوده في كلّ زمان ومكان.

فهذا السلوك الباطني الثابت لا يستغني عن قانون ينظم اتجاهاته ، ويصونه عن الإفراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته ، وصالحاً لتعديل ميولها ، لزم خلوده بخلوده ، وثبوته بثبوته ، فمن زعم أنّ الأخلاق تتطور

__________________

(١) النحل : ٩٠.

٤١

حسب تطور الظروف والشرائط غفل عن أنّ للإنسان سلوكاً باطنياً وفطرة ثابتة لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً.

نعم إنّ الذي يتغيّر وتتغيّر بتبعه العادات والتقاليد ، لا صلة له بالأخلاق وثباتها ، وها نحن نذكر من الأُصول الثابتة في علم الأخلاق نماذج :

١. لا يشك ذو مسكة أنّ بقاء النظام في المجتمع الإنساني رهن قوانين تؤمِّن حقوق جميع شرائح المجتمع بعيداً عن الظلم والجور والتعسّف ، وهذا أصل ثابت لا يشك فيه أحد ، بيد أنّ الذي يتغيّر هو الأساليب التي تتكفّل إجراء هذا الأصل ، فلا تجد على أديم الأرض من ينكر حسن تقنين مبنيّ على العدل وبسطه بين الناس ، وقبح الظلم والتعسف.

وهذا الأصل الثابت لم يتغيّر منذ أن وجد الإنسان على البسيطة وأصبحت له حياة اجتماعية.

٢. الاختلاف بين الرجل والمرأة أمر تكويني محسوس ، فهما موجودان مختلفان عضوياً وروحياً على الرغم من الأبواق الإعلامية التي تبغي كسر الحواجز بينهما ، ولذلك اختلفت أحكام كلّ منهما عن الآخر.

فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما يظل ثابتاً لا يتغيّر بمرور الزمان ، لثبات الموضوع المقتضي لثبات المحمول.

٣. الروابط العائلية ، كرابطة الابن بأبويه ، ورابطة الأخ بأخيه ، وهي روابط طبيعية ، تتحد فيها الأواصر الروحية والنسبية ، فالأحكام التي قُنّنت لتنظيم تلك الروابط باتت ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الزمان.

٤. انّ التشريع الإسلامي بالغ في الاهتمام بالأخلاق للحيلولة دون تفسّخها ، كما عالج أسباب التفسّخ الخلقي كالخمر والميسر والإباحة الجنسية

٤٢

بوضع حلول تتناسب معها من خلال تحريمها وإقامة الحدود على مقترفيها ، وهذه الحلول ليست مقطعية تتغيّر بتغير الزمان ، بل هي ثابتة لا تتغير ، لأنّ الآثار التي تتركها المفاسد الخلقية أيضاً ثابتة ، فالخمر يزيل العقل ، والميسر ينبت العداوة في المجتمع ، والإباحة الجنسية تفسد النسل والحرث.

هذا وأمثالها من الأحكام الثابتة في حياة الإنسان الاجتماعية ، وهي تنسجم قبل كلّ شيء مع فطرته.

وخلاصة البحث : أنّ تطوّر الحياة الاجتماعية في بعض مجالاتها ، أو تغيّر الأحكام الموضوعة على وفق ملاكات واقعية متغيّرة لا يكون ذريعة لنسخ قبح الظلم وحسن العدل ولزوم أداء الأمانة ، ودفع الغرامات ، والوفاء بالعهود والمواثيق وأضرابها.

٤٣
٤٤

الفصل الثاني

الإنسان بين الجبر والتفويض

٤٥
٤٦

تمهيد

إنّ للشخصية الإنسانية أبعاداً مختلفة ، ومن تلك الأبعاد كون الإنسان فاعلاً مختاراً فيما يفعل أو يترك ، أو كونه مسيّراً قد رُسِم مصيرُ حياته بيد القَدَر أو عامل آخر ـ كما سيوافيك ـ ولا محيص له إلاّ السير في الطريق الذي خُطّ له.

مع انّ دراسة هذا البعد من أبعاد الشخصية الإنسانية دراسة مسألة فلسفية محضة يَلجها كبارُ الحكماء والفلاسفة عبْر القرون ولهم فيها آراء وأفكار ، لكنّها وفي الوقت نفسه مسألة يشتاق إلى فهمها عامّة الناس وقلّما وجدت في حياة الإنسان مسألة لها تلك الميزة ، وفي الحقيقة هي من إحدى المسائل الأربع التي يتطلّع إلى فهمها الجميع ألا وهي :

١. من أين جاء إلى الدنيا؟

٢. لما ذا جاء إليها؟

٣. إلى أين يذهب؟

٤. وهل هو في إعماله مخيّر أو مسير؟

ولأجل ذلك لا يمكن تحديد الزمن الذي طُرِحت فيه مسألة الجبر والاختيار ، كما لا يمكن تحديد مكانها ، وإنّ باذرها هل هو إفريقي أو روميّ أو هندي أو صيني أو إيراني؟ وعلى كلّ تقدير فللمسألة جذور عميقة في تاريخ حياة

٤٧

الإنسان.

ثمّ إنّ الآراء المطروحة في المسألة تدور على محورين :

١. الإنسان مسيّر لا مخيّر ، مجبور في أفعاله وليس بمختار.

٢. الإنسان مخيّر في أفعاله لا مسيّر ، مختار فيها وليس بمجبور.

ولكلّ من الرأيين قائل ودليل يعضد رأيه ، إلاّ أنّ المهم هو الوقوف على الرأي السائد حين نزول الوحي على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فالسير في الحديث والتاريخ يُثبت بأنّ الرأي العام في الجزيرة العربية قبل البعثة كان هو الجبر ، وقد بقيت رسوبات تلك الفكرة بعد البعثة وحتى رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. ولأجل تبيين هذا الجانب من جوانب البحث نعقد الفصل التالي.

٤٨

١

الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي

إنّ التأمّل في عقائد العرب في الجاهلية يُثبت بأنّهم أو طائفة منهم كانوا معتقدين بالتقدير السالب للاختيار عن الإنسان ، يقول سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ). (١)

وليست الآية ، آية وحيدة تكشف عن عقيدة العرب في العصر الجاهلي حول فعل الإنسان ، بل هناك آية أو آيات أُخرى تشير إلى عقيدتهم ، يقول سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (٢)

فقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) إشارة إلى أنّ عبادة الوثن أمر قدّره الله سبحانه وليس لنا الفرار ممّا قُضي به ، والله سبحانه يردّ على مزعمتهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، فلا يأمر بها ولا يقدِّرها بالمعنى

__________________

(١) الأنعام : ١٤٨.

(٢) الأعراف : ٢٨.

٤٩

الذي تدّعون أي السالب للاختيار.

وأمّا جذور هذه العقيدة وانّها كيف تسرّبت إلى الجزيرة العربية حتّى سادت على المشركين فقد ظلّت مجهولة؟

والعجب انّ رسوبات فكرة الجبر بقيت بعد بزوغ نجم الإسلام وسادت حال حياة الرسول وبعد رحيله أيضاً.

روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدِّث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً ، فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر الله. (١)

ومعنى ذلك انّه لم يكن دور للغزاة من المسلمين في هزيمة حنين ، وقد كانت الهزيمة تقديراً قطعياً من الله ولم يكن محيص من التسليم امامه.

وهذا هو نفس الجبر لا يفترق عنه قيد شعرة ، مع أنّه سبحانه يقول : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). (٢)

وقد أشار سبحانه إلى عامل الهزيمة وأنّه أمران :

الأوّل : إعجابهم بكثرتهم ، فاعتمدوا على الكثرة ، مكان الاعتماد على الله سبحانه أوّلاً وعلى قواهم الذاتية ثانياً كما يقول : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).

الثاني : الانسحاب عن ساحة الحرب بدل الثبات ، كما يقول سبحانه (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) مع أنّهم أُمروا بالثبات كما يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ). (٣)

__________________

(١) المغازي : ٣ / ٩٠٤.

(٢) التوبة : ٢٥.

(٣) الأنفال : ١٥.

٥٠

والعجب انّ هذه العقيدة (القدر السالب للاختيار) كانت سائدة بعد رحيل الرسول وباقية في اذهان الصحابة ، وهذا السيوطي ينقل عن عبد الله بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال : أرأيت الزنا بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال : نعم يا بن اللخناء أما والله لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (١)

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر فسأل الخليفة عن كون الزنا مقدَّراً من الله أم لا؟ فلما أجاب الخليفة بنعم ، استغرب من ذلك ، لأنّ العقل لا يسوّغ تقديره سبحانه شيئاً سالباً للاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه ، ولذلك قال : «فانّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذبني؟!» فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه ، وقال : نعم يا ابن اللخناء.

استغلال الأُمويّين للقدر

إنّ طبيعة الحكومات الاستبدادية هي تبرير كلّ ما يسود المجتمع من الفقر والظلم والاعتساف بعامل خارج عن دائرة حكمهم كقضاء الله سبحانه وقدره حتّى لا يعترض عليهم معترض.

ومن هنا وجد التفسيرُ الخاطئ للدين طريقَه إلى المجتمع الحاضر وانّه وسيلة لدعم الجهاز الحاكم ، وقد استغل الشيوعيون والعلمانيُّون هذه الفكرة لإبعاد الناس عن الدين ولكنّهم خلطوا سهواً أو عمداً بين كون الدين الواقعي ـ الذي أُلهم على قلوب الأنبياء ولا أن يكون مسانداً للجهاز الظالم ـ وبين التفسير الباطل للدين ، إذ كيف يكون الدين مسانداً للسلطات الزمنية الجائرة مع أنّه يأمر بالعدل

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٩٥.

٥١

والاحسان وينهى عن الظلم والفحشاء؟! يقول إمام المسلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ راوياً عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لن تقدس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع». (١)

١. انّ الأمويين استغلّوا الجبر لإرساء قواعد حُكْمِهم حتى أنّ معاوية لمّا نصب ولده يزيداً خليفة للمسلمين وسلّطه على رقاب المسلمين اعترضت عليه أُمّ المؤمنين عائشة ، فأجابها معاوية : إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (٢)

٢. وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد الله بن عمر عند ما سأل معاوية عن تنصيبه يزيدَ للحكم؟ بقوله : إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم ، وانّ أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء وليس للعباد خيرة من أمره. (٣)

٣. وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويّين من الذين ساروا في ركب الخلفاء ، فهذا هو عمر بن سعد بن أبي وقاص ، قاتل الإمام الشهيد الحسين ـ عليه‌السلام ـ فلمّا اعترض عليه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله : اخترت همدَان والريَ على قتل ابن عمك؟! فقال عمر : كانت أُمور قُضِيتْ من السماء وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى. (٤)

٤. وقد برّرتْ عائشة أُم المؤمنين خلافَها مع علي ـ عليه‌السلام ـ بالقضاء والقدر ، على ما رواه الخطيب عن أبي قتادة فعند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة أجابته

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم ٥٣.

(٢) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١ / ١٦٧.

(٣) الإمامة والسياسية : ١ / ١٧١.

(٤) طبقات ابن سعد : ٥ / ١٤٨ ، ط بيروت.

٥٢

أُمّ المؤمنين بقولها : وما يمنعني ما بيني وبين عليّ أن أقول الحق ، سمعت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : «تفترق أُمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم ، مخفّون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبهم إليّ ، وأحبهم إلى الله» ، قال : يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟! قالت : يا قتادة وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وللقدر أسباب!!. (١)

التقدير المساوي للجبر عقيدة مستوردة

ومن العوامل التي صارت سبباً لتركيز فكرة الجبر بين المسلمين هي الأساطير التي حاكها الأحبار والرهبان ونشروها بين المسلمين حول القضاء والقدر ، فهذا هو حماد بن سلمة يروي عن أبي سنان قال : سمعنا وهب بن منبه ، قال : كنتُ أقول بالقدر حتّى قرأت بضعة وسبعين كتاباً مَنْ كتب الأنبياء في كلّها : من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر ، فتركتُ قولي. (٢)

والمراد من القدر في قوله : «كنت أقول بالقدر» ليس القول بتقدير الله سبحانه وقضائه ، بل المراد هو القول بالاختيار والمشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه.

وهذا النقل يعطي انّ القول بنفي الاختيار والمشيية للإنسان ، قد تسرّب إلى الأوساط الإسلامية عن طريق هذه الجماعة وعن الكتب الإسرائيلية أفيصحّ بعد هذا أن نعد القول بنفي المشيئة للإنسان عقيدة جاء بها القرآن والسنّة النبوية ، ونكفّر من قال بالمشيئة له ولو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه ، ونقاتل في سبيل هذه العقيدة؟!

__________________

(١) تاريخ بغداد : ١ / ١٦٠.

(٢) ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٥٣.

٥٣

حديث «الفراغ من الأمر» بدعة يهوديّة

يجد الباحث في ثنايا الأحاديث وكلمات المحدّثين قولهم : «إنّ الله سبحانه قد فرغ من الأمر» ، أي قد فرغ سبحانه من أمر التدبير والتكوين فلا يتغيّر ما قُدّر ، ولا يتبدّل ما قضى به ، وهو بظاهره نفس الجبر ، إذ معناه انّه لا محيص للإنسان إلاّ العمل بما قُدّر وقضى ولا يتمكّن من تغييره وتبديله ، وبالتالي لا خيرة للإنسان في حياته فيما يختار أو يترك مع أنّه سبحانه يحكم على خلافه ويقول : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ * يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (١)

وهل يمحو إلاّ ما أثبتَ؟! فلو كان قد فرغ من الأمر فما معنى محو ما أثبته وقدّره؟ كيف والله سبحانه مبسوط اليد لا يكبّله تقديره وقضاؤه ، فله السيادة على القضاء والقدر دونهما عليه؟!

وهذا هو الثعلبي ينقل عن مجاهد قال : قالت قريش : «حينما أنزل (ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) ما لنا نراك يا محمد تملك من شيء وقد فرغ من أمره ، فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعداً لهم ، أي أن يشأ أحدثها من أمر ـ إلى أن قال : ـ ويُحدث في كلّ رمضان في ليلة القدر ويمحو ويُثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومسائلهم وما يؤتيهم ويُنسأهم له. (٢)

وقد تطرق عن طريق تلامذة الاحبار والرهبان انّه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت إلاّ الحياة والموت والشقاء والسعادة فانّهما لا يتغيران ، ونقله السيوطي عن

__________________

(١) الرعد : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) تفسير الثعلبي ، المسمّى بالكشف والبيان : ٥ / ٢٩٨ ؛ الدر المنثور : ٤ / ٦٥٩ واللفظ للثاني.

٥٤

غير واحد من الصحابة والتابعين الذين كانوا يحسنون الظن باحبار اليهود ورهبان النصارى.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ...) قال : إلاّ الحياة والموت ، والشقاء والسعادة فانّهما لا يتغيّران. (١)

أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عمر : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) : إلاّ الشقوة والسعادة والحياة والموت. (٢)

وقد روى عن ابن عباس : قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : «ذلك كلّ ليلة القدر يرفع ويخفض ويرزق» أي غير الحياة والموت والشقاوة والسعادة ، فإنّ ذلك لا يزول. (٣)

وأظنّ أنّ الرواية مكذوبة على لسان ابن عباس تلميذ الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، فإنّ الإمام ـ عليه‌السلام ـ وبيته الرفيع مجمعون على إمكان تغيير المصير حتّى السعادة والشقاء بالأعمال الصالحة والطالحة.

إنّ سيادة القدر على مصير الإنسان على نحو يسلب عنه الاختيار ولا يتمكّن من تبديل ما قدّر إلى خلافه ، نفس القول بالجبر وسيادته.

إنّ هذا القول مرفوض عقلاً ، وكتاباً ، فإنّ إطلاق الكتاب في المحو الإثبات ، يعمّ الجميع حتّى الموت والحياة والسعادة والشقاء.

إنّ قوم يونس قد غيّروا مصيرهم السيّئ بالتوبة والعمل الصالح. يقول سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٤ / ٦٦٣ ، ٦٦١ ، ٦٦٢.

(٢) الدرّ المنثور : ٤ / ٦٦٣ ، ٦٦١ ، ٦٦٢.

(٣) الدرّ المنثور : ٤ / ٦٦٣ ، ٦٦١ ، ٦٦٢.

٥٥

عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). (١)

ويدلّ على ذلك أيضاً الروايات المتضافرة.

أخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» وابن أبي الدنيا في الدعاء ، عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : ما دعا عبد قطّ بهذه الدعوات إلاّ وسّع الله له في معيشته : يا ذا المن ولا يُمنُّ عليه ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا ذا الطول لا إله إلاّ أنت ، ظهر اللاجئين ، وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين ، إن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب شقيّاً فامح عني اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيداً ... ، ـ إلى أن قال ـ : فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (٢)

__________________

(١) يونس : ٩٨.

(٢) الدر المنثور : ٤ / ٦٦١ ، وبهذا المضمون روايات أُخرى لاحظ ص ٦٦٣.

٥٦

٢

أحاديث لا تفارق الجبرَ قيد شعرة

إنّ اتّفاق المحدّثين على أنّ الصحيحين وبعدهما السنن الأربع ، من أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم ، عاق الكثير من المحقّقين من الخوض فيهما نقداً وتمحيصاً ، ولو لا هذا الاتّفاق ، لقام المحقّقون بالنقد والتمحيص فيما كان مخالفاً للكتاب والسنّة النبوية القطعية والعقل الصريح ، وها نحن نسرد في المقام بعض ما جاء في الصحيحين ما لا يفارق الجبر قيد شعرة وهو إمّا مؤوّل أو موضوع على لسان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

١. روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب ، عن عبد الله قال : حدّثنا رسول الله ـ وهو الصادق ـ أنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً ، ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. (١)

__________________

(١) صحيح مسلم : ٨ / ٤٤ ، كتاب القدر.

٥٧

فعلى هذا لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنة أو النار ، ولو حاول لتحصيل شيء منها ، سبقَ الكتابُ حائلاً بينه وبين إرادته ، وهذا هو نفس القول بأنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر.

ثمّ إنّ الإمام النووي الشارح لصحيح مسلم نظر إلى هذه الأحاديث بعين الرضا والقبول ، فلما رأى انّها لا تفارق الجبر قيد شعرة حاول تأويل قوله : «فيسبق عليه الكتاب» في كلا الموضعين ، وقال : «انّ هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنّه غالب فيهم».

ثمّ إنّ من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلابُ الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأمّا انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة ، وهو نحو قوله تعالى : «إنّ رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي». (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : بانّ حمل أحد الطرفين على الغلبة والطرف الآخر على وجه الندرة قسمة ضيزى فانّ ظاهر الحديث أنّ سبق الكتاب في الطرفين سيّان.

وثانياً : انّ الحديث ظاهر في غلبة القدر على عمل الإنسان ونيته فربما يجعل الصالح طالحاً والطالح صالحاً ، ولا صلة له بسبق رحمته على غضبه والظاهر انّ هذه الأحاديث حيكت على وفق عقائد اليهود الذين ذهبوا إلى انّ يده سبحانه مغلولة فبعد ما قضى ، لا يتمكن من تغييره ، غُلَّت أيديهم.

٢. وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أو أُنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله

__________________

(١) شرح صحيح مسلم للنووي : ١٦ / ٤٣٥.

٥٨

وأثره وأجله ورزقه ، ثمّ تُطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص». (١)

فعلى هذا فالصحف الأُولى التي قُدِّر فيها مصير الإنسان مطوية لا تفتح فلا يزيد فيها شيء ولا ينقص ، وهذا لا يختلف عن الجبر قيد شعرة.

إنّ تفسير القضاء والقدر ـ اللّذين هما من المعارف العليا في الإسلام ـ بالمعنى الوارد في الرواية يجعل الإنسان مكتوف اليدين في خضمِّ الحياة فيسلب عنه كلّ سعي في طريق السعادة إذا كتب من أهل الشقاء أو في طريق الشقاء إذا كتب من أهل السعادة.

٣. روى عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه؟ فقال : بل فيما قد فرغ منه ، يا ابن الخطاب وكلّ ميسر ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء.

وفي رواية قال : لمّا نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سألت رسول الله ، فقلت : يا نبي الله فعلامَ نعمل ، على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كلّ ميسّر لما خلق له. (٢)

وهذا الحديث يعرب عن أنّه قد تمّ القضاء على الناس في الأزل وجعلهم صنفين وكلّ ميسر لما خلق له في الأزل لا لما لم يخلق له ، فأهل السعادة ميسّرون للاعمال الصالحة فقط وأهل الشقاء ميسّرون للأعمال الطالحة فقط ، وأي جبر أوضح وأبين ممّا جاء في هذا الحديث.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٨ / ٤٥ ، كتاب القدر.

(٢) صحيح مسلم : ٨ / ٤٥ ، كتاب القدر.

٥٩

٣

مضاعفات القول بالجبر

إنّ للقول بالجبر وإنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر ، مضاعفات كثيرة ، نشير إلى قسم منها ونحيل الباقي إلى مجال آخر :

١. انتفاء الغرض من بعثة الأنبياء

إنّ الغرض من بعثة الأنبياء هو دعوة الناس وإرشادهم إلى معالم التوحيد ونهيهم عن الشرك في مجال العقيدة ، وإلى محاسن الأخلاق وزجرهم عن مساويها في مجال العمل ، يقول سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١) ، وقال سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات التي تعكس الهدف المنشود من وراء بعث الأنبياء ، ولا يتحقّق هذا الغرض إلاّ في ظل كون الإنسان مخيّراً لا مسيَّراً ، فلو كان مسيّراً فكلّ إنسان كتب عليه النار ، فهو يدخلها ، إذن فما هو فائدة بعث الأنبياء ، فإنّ دعوة الأنبياء وعدمها بالنسبة إليه سيّان؟! وهذا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى التطويل.

__________________

(١) النحل : ٣٦.

(٢) البقرة : ٢١٣.

٦٠