الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

مفاد الآيات ؛ فأين الدعاء والثناء على لفيف من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم المتمتّعين بخصوصيات معيّنة ، من الثناء على الطلقاء والأعراب وأبناء الطلقاء والمتّهمين بالنفاق؟!

وأين هذه الآيات من مدح خمسة عشر ألف صحابي سُجّلت أسماؤهم في المعاجم ، أو مائة ألف صحابي صحبوا النبي في مواقف مختلفة ورأوه وعاشروه؟!

الآية الثالثة

استدلّوا بآية ثالثة نزلت في مورد بيعة الرضوان وأبدى سبحانه رضاه عن المبايعين ، وقال :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً). (١)

فالآية تثني على مَن صحبوا النبي في الحديبية وبايعوه تحت الشجرة ، وكان ذلك في السنّة السادسة من الهجرة ، وقد رافقه حوالي ألف وأربعمائة أو ألف وستمائة أو ألف وثمانمائة. (٢)

والثناء على هذا العدد القليل لا يكون دليلاً على الثناء على جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم!!

كما أنّ الرضا محدّد بزمان البيعة حيث قال : (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ولا يشمل الفترات المتأخرة عنها.

__________________

(١) الفتح : ١٨.

(٢) السيرة النبوية : ٢ / ٣٠٩ ؛ مجمع البيان : ٢ / ٢٨٨.

٥٨١

الآية الرابعة

استدلّوا على عدالتهم بآية رابعة تذكر سمات أصحاب النبي وصفاتهم ، يقول سبحانه :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). (١)

فهذه الآية بظاهرها أوسع دلالة ممّا سبق ، لأنّها تثني على النبي ومن معه ، ولكن مدلول الآية ـ في الحقيقة ـ ليس بأوسع ممّا سبق ، وذلك للقرائن التالية :

الأُولى : الصفات التالية لم تكن متوفرة في عامّة الصحابة ، أعني بها :

أ. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ).

ب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

ج. (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً).

د. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

ه. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

فهل الذين أراقوا دم عثمان وقتلوه في عقر داره كانوا من غير الصحابة؟!

وهل الذين خضّبوا الأرض بدم الصحابة في ميادين القتال كانوا من الأجانب؟! فما لكم كيف تحكمون.

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

٥٨٢

فإذا كانت أعمالهم الإجرامية من مصاديق التراحم فكيف يكون تباغضهم ومشاجراتهم؟!

وهل كان في وجوه الأعراب والطلقاء وأبنائهم والذين آمنوا بعد الفتح أثر للسجود؟!

الثانية : انّ ذيل الآية يشهد بأنّ الثناء على قسم منهم ، يقول تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فانّ لفظة «من» في قوله : «منهم» للتبعيض ، وما يقال من أنّ «من» بيانية غير صحيح ، لأنّها لا تدخل على الضمير مطلقاً في كلامهم وإنّما تدخل على الاسم الظاهر ، كما في قولك : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١). (٢)

الثالثة : انّ الآية نزلت قبل فتح مكة وبعد الحديبية ، والمراد من قوله سبحانه في هذه الآية : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) هو الفتح في صلح الحديبية ، وفيه إخبار عن فتح مكة في المستقبل بقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً). (٣)

فالآية تتضمن الإخبار عن فتحين آخرين :

١. عمرة القضاء وأشار إليه بقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ).

__________________

(١) الحج : ٣٠.

(٢) وربما يستشهد على دخول من البيانية على الضمير بقوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ). والاستدلال مبني على عود الضمير في تزيلوا إلى المؤمنين ، والضمير في «منهم» إلى الذين كفروا ، ولكنّه غير صحيح ، بل الضميران جميعاً يرجعان إلى مجموع المؤمنين والكافرين من أهل مكة فتكون «من» تبعيضية لا بيانية.

(٣) الفتح : ٢٧.

٥٨٣

٢. فتح مكة وأشار إليه بقوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

فإذا كانت الآية ممّا نزلت في السنّة السادسة وحواليها ، فلا تكون أوسع دلالة من الآيات النازلة بعدها في السنّة التاسعة كما نقلناه ، فالثناء المطلق في الآية على مَن كان مع النبي (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يحمل ويخصص بما خصصه القرآن في آيات أُخرى كالآيات المتقدّمة.

وعلى ضوء ما تقدّم ، نصل إلى النتيجة التالية : انّ ما اشتهر على الألسن من ثناء القرآن على صحابة الرسول قاطبة وتعديله إياهم ممّا لا أساس له ، وإنّما وقع الثناء ـ بعد ضمّ بعضها إلى بعض ـ على لفيف منهم وطائفة خاصّة.

٥٨٤

إنّما الأعمال بالخواتيم

هذا العنوان كلمة قدسية قالها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه البخاري عنه ، وذكر في الباب روايتين تدلاّن على أنّ الملاك للنجاة هو خواتيم الأعمال نذكر واحدة منها.

أخرج البخاري عن سهل : أنّ رجلاً من أعظم المسلمين غناءً عن المسلمين ، في غزوة غزاها مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فنظر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : «من أحبّ أن ينظر إلى الرّجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ، فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدّ الناس على المشركين حتّى جرح ، فاستعجل الموت ، فجعل ذبابة سيفه بين ثَدييه حتّى خرج من بين كتفيه ، فأقبل الرّجل إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مسرعاً ، فقال : أشهد أنّك رسول الله ، فقال : «وما ذاك؟». قال : قلت لفلان : «من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه». وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين ، فعرفتُ أنّه لا يموت على ذلك ، فلمّا جرح استعجل الموت فقتل نفسه ، فقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند ذلك : «إنّ العبد لَيعملُ عَمَل أهل النّار وانّه من أهل الجنّة ، ويعمل عمل أهل الجنّة وإنّه من أهل النار ، وإنّما الأعمال بالخواتيم». (١)

وكم من إنسان حسنتْ حياته في أوائل عمره ، ثمّ تبدلت وساءت سيرته وسلوكه ، وحبطت أعماله الصالحة أتى بها في أوائل عمره أو أواسطه يقول سبحانه :

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٢٣٣ ، كتاب القدر ، الباب ٥ ، الحديث ٦٦٠٧ ؛ سنن الترمذي : ٤ ، كتاب القدر ، الباب ٥ ، الحديث ٢١٣٧. والحديث الوارد في السنن غيره في صحيح البخاري.

٥٨٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ). (١)

والقرآن يحدث عمّن أُوتي آيات الله في مقتبل عمره ، لكنّه ساءت سيرته في الفترة الأخيرة من عمره فصار من الغاوين ، ويقول : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ). (٢)

وهذا هو قارون بني إسرائيل كان يقرأ التوراة بصوت حسن ، ولكنّه ساء سلوكه فخسف سبحانه به وبداره وكنزه. (٣)

وعلى ضوء ذلك فما مرّ من الآيات التي تُثني على فئات من الصحابة لا يحتج بها على صلاحهم إذا ثبت بالأدلّة القطعية انحرافهم عن الطريق المهيع ، واقترافهم المعاصي ومحاربتهم الحق والحقيقة.

وممّا لا شكّ فيه وقوع التشاجر بين الصحابة ، كما دارت بينهم معارك دامية ، قُتل على أثرها لفيف من البدريين والأُحديين وغيرهم من المسلمين الأبرياء وعندئذ يقال : إنّما العبرة بخواتيم الأعمال ، وثناء القرآن عليهم إنّما كان بحسب ملابساتهم وأحوالهم يوم ذاك. فكانوا من الصلحاء وليس من المستحيل أن ينسلخوا من تلك الأحوال كما انسلخ غيرهم.

__________________

(١) الحجرات : ٢.

(٢) الأعراف : ١٧٥.

(٣) القصص : ٨١.

٥٨٦

٣

 ثناء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على الصحابة

استُدلّ على عدالة الصحابة بثناء النبي عليهم ، ونحن نذكر منه ما هو المهم :

١. حديث انّ الله اطّلع على أهل بدر ...

أخرج البخاري عن علي رضي‌الله‌عنه قال : بعثني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبا مرثد والزبير ، وكلُّنا فارس ، قال : انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ ، فانّ بها امرأة من المشركين ، معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فقلنا : الكتاب ، فقالت : ما منّا كتاب ، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً ، فقلنا : ما كذب رسول الله ، لتُخرجنّ الكتاب أو لنجرّدنّك ، فلمّا رأت الجدّ أهوت إلى حُجْزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فقال عمر : يا رسول الله ، قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني لاضرب عنقَه ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكونَ مؤمناً بالله ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أردت أن يكون لي

٥٨٧

عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلاّ له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : صدق ، ولا تقولوا له إلاّ خيراً.

فقال عمر : إنّه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعْني فلأضرب عنقه ، فقال : أليس من أهل بدر؟ فقال : لعلّ الله اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعمَلوا ما شئتم ، فقد وجبت لكم الجنة ، أو قد غفرتُ لكم ، فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم. (١)

هذا الحديث وإن أخرجه البخاري وأسنده إلى علي ـ عليه‌السلام ـ ولكنّنا نجلّ الإمام أمير المؤمنين عليّاً ـ عليه‌السلام ـ عن رواية هذا الحديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فانّ مضمونه يشهد على كذبه ، إذ كيف يمكن للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يُعطي الضوء الأخضر لجماعة من الصحابة يناهز عددهم الثلاثمائة ، ويسمح لهم أن يفعلوا ما يشاءُون ، وإن اقترفوا الكبائر وارتكبوا المعاصي وإن سفكوا الدماء وخضّبوا بها وجه الأرض.

إنّه سبحانه يخاطب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). (٢) فهل يُعقل أن يسمح للبدريين أن يفعلوا ما شاءوا وأن يُبشرهم بالجنة؟! وقد تقدّم آنفاً انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ اقتصّ من الحارث بن سويد بن الصامت البدريّ لقتله المجذر بن زياد.

وهذا هو حاطب بن أبي بلتعة يُصبح عينَ المشركين بالمدينة ، ولكنّه بالرغم من ذلك يدخل الجنة!! مع أنّ الجاسوس إذا كان مسلماً ، يتجسّس لصالح الكفّار يقتل ، أو يوجع ويعزّر على اختلاف في المذاهب. (٣)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١١ ، برقم ٣٩٨٣.

(٢) الزمر : ٦٥.

(٣) الموسوعة الفقهية : ١٠ / ١٦٣ ـ ١٦٥.

٥٨٨

٢. حديث «مثل أصحابي كالنجوم»

أخرج ابن حميد عن نافع عن ابن عمر ، انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : مثل أصحابي مثل النجوم يهتدى به ، فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم. (١)

يلاحظ عليه : أنّ متن الحديث يكذِّب صدوره ، إذ ليس كلّ نجم هادياً في البرّ والبحر ، بل هناك نجوم خاصة للاهتداء ، ولأجل ذلك قال سبحانه : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). (٢)

وأمّا قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) فاللام في النجوم للعهد أي النجوم المعهودة التي كانت العرب يوم ذاك يهتدون بها في البر والبحر وليست للاستغراق.

ولا يتمشّى ذلك الحمل في الحديث بأن يحمل على فئة من الصحابة ، لأنّ الغاية فيها التبسيط والتعميم لكلّ صحابي كما هو صريح قوله : «فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم» فلا محيص من حمل «كالنجوم» على الاستغراق ، والحال انّه ليس كلّ نجم هادياً.

ولو افترضنا الاهتداء بكلّ نجم في السماء ، أفهل يمكن أن يكون كلّ صحابي نجماً لامعاً هادياً للأُمّة؟ فهذا قدامة بن مظعون ، صحابي بدري يعد من السابقين الأوّلين ومن المهاجرين الهجرتين ، قد شرب الخمر وأقام عليه عمر الحدّ ،

__________________

(١) المسند الجامع : ١٠ / ٧٨٢ برقم ٨٢١٩ نقله عن مسند عبد بن حُميْد.

(٢) النحل : ١٦.

(٣) الأنعام : ٩٧.

٥٨٩

كما أنّ المشهور انّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر. (١)

كما أنّ بعض الصحابة أراق دماءً طاهرة فمن استقصى تاريخ حياة بسر بن أرطاة يجد انّه اقترف جرائم كثيرة ، حتّى أنّه قتل طفلين لعبيد الله بن عباس!! وكم بين الصحابة من رجال قد احتفل التاريخ بضبط مساويهم ، أفبعد هذه البيّنات يصحّ لأحد أن يتقوّل بأنّهم جميعاً وبلا استثناء كالنجوم يهتدى بهم؟!

يقول أبو جعفر النقيب : إنّ هذا الحديث من موضوعات متعصبة الأموية فانّ منهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف. (٢)

ولعل القارئ الكريم يتصوّر انّ أبا جعفر النقيب ممن ينفرد في شأن هذه الرواية وليس الأمر كذلك ، بل حكم بوضعها كثير من محقّقي السنّة يقول ابن حزم في رسالة إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد : وهذا ـ أي حديث النجوم ـ خبر مكذوب موضوع باطل لم يصحّ قط. (٣)

وقال الحافظ الكبير الذهبي في ترجمة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي : ومن بلاياه عن وهب بن جرير ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى. (٤)

وقال أيضاً في ترجمة زيد بن الحواري العَمِّي.

__________________

(١) أُسد الغابة : ٣ / ٣١٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ٢٠ / ١٢.

(٣) البحر المحيط : ٥ / ٥٢٨.

(٤) ميزان الاعتدال : ١ / ٤١٣ برقم ١٥١١.

٥٩٠

روى نعيم بن حماد ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العَمِّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر مرفوعاً : سألت ربي بين ما اختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى الله إليّ : يا محمد إنّ أصحابك عندنا بمنزلة النجوم بعضهم أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. فهذا باطل ، وعبد الرحيم تركوه ، ونعيم صاحب مناكير. (١) إلى غير ذلك من الكلمات حول الحديث.

ثمّ إنّ الحديث قد روي بصور مختلفة :

أ. أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم

رواه ابن عبد البر في جامع العلم (٢ / ٩١) ، وابن حزم في الأحكام (٦ / ٨٢) من طريقة سلام بن سليم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً به. وقال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجّة ، لأنّ الحارث بن غصين مجهول.

وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة ، أبو سفيان ضعيف ، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي ، وسلام بن سليمان يروى الأحاديث الموضوعة ، وهذا منها بلا شك». (٢)

ب. مهما أُوتيتم من كتاب الله فالعمل به ، لا عذر لأحدكم في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله ، فسنّة منّي ماضية ، فإن لم يكن سنة منّي ماضية ، فما قال أصحابي ، إنّ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيّها أخذتم به اهتديتم ، واختلاف

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٠٢ برقم ٣٠٠٣.

(٢) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : ١ / ١٤٤.

٥٩١

أصحابي لكم رحمة.

أخرجه الخطيب في الكفاية في علم الدراية ، ص ٤٨ ، وكذا أبو العباس الأصم وابن عساكر (٧ / ٣١٥ / ٢) من طريق سليمان بن أبي كريمة ، عن جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً.

وهذا اسناد ضعيف جداً ، سليمان بن أبي كريمة ، قال ابن أبي حاتم (٢ / ١ / ١٣٨) عن أبيه : «ضعيف الحديث».

وجويبر هو ابن سعيد الأزدي متروك ، كما قال الدارقطني والنسائي وغيرهما ، والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس. (١)

ج. سألت ربّي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إليّ ، يا محمد : انّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه فهو عندي على هدى.

رواه ابن بطّة في الإبانة (٤ / ١١ / ٢) ، والخطيب أيضاً ، نظام الملك في الأمالي (١٣ / ٢) ، والديلمي في مسنده (٢ / ١٩٠) ، والضياء في المنتقى من مسموعاته بمرو (١١٦ / ٢) ، وكذا ابن عساكر (٦ / ٣٠٣ / ١) من طريق نعيم بن حمّاد ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العمّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً.

وهذا السند موضوع ، نعيم بن حماد ضعيف ، قال الحافظ : يخطئ كثيراً. وعبد الرحيم بن زيد العَمّي كذاب فهو آفته. (٢)

هذا قليل من كثير ممّا ذكره الشيخ الألباني المعاصر في كتابه ، ومن أراد

__________________

(١) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : ١ / ١٤٦.

(٢) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : ١ / ١٤٨.

٥٩٢

التفصيل فليرجع إلى نفس الكتاب.

وقد أضاف في آخر تحقيقه ، وقال : لو صحّ هذا الخبر يكون المراد إنّ ما قالوه برأيهم يجب العمل به ، وهذا دليل آخر على أنّ الحديث موضوع ، وليس من كلامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، إذ كيف يسوغ لنا أن نتصوّر أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يبرّر لنا أن نقتدي بكل رجل من الصحابة مع أنّ فيهم العالم والمتوسط في العلم ، ومن هو دون ذلك وكان فيهم مثلاً من يرى أنّ البرد لا يفطر الصائم بأكله. (١)

٣. خير القرون قرني

أخرج البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن عمران بن حصين يقول : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : خير أُمّتي قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً ، ثمّ إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن. (٢)

وأخرجه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين. (٣)

وأخرجه أحمد في مسنده عن بريدة الأسلمي. (٤)

إنّ هذا الحديث مهما صح سنده ونقله أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن ، يكذبه التاريخ الصحيح الذي سجّل أحوال أهل القرون التي أُطلق عليهم هذا الاسم ، وذلك بالبيان التالي :

__________________

(١) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : ١ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، وحديث البرد أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار ، لاحظ ٢ / ٣٤٠ وهو حديث غريب يضاد القرآن والسنة وإجماع المسلمين.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٢٤٩ ، برقم ٣٦٥٠.

(٣) صحيح مسلم : ٧ / ١٨٥ ـ ١٨٦ ، باب فضل الصحابة ثمّ الذين يلونهم.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٣٥٧.

٥٩٣

القرن في اللغة عبارة عن الفترة من الزمان وإطلاقه على مائة سنة ، إطلاق حادث لا تحمل عليه الرواية. وعلى ضوء ذلك فالقرن الذي بعث فيه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خير القرون من الأزمنة باعتبار نفس النبي فقط ، فكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نوراً انبعث في الظلمة حيث تقوضت به دعائم الشرك والوثنية ، وأُشيدت دعائم التوحيد والحنفية.

هذا يرجع إلى نفس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وأمّا غيره فالظاهر من الرواية انّها تصنِّف الناس حسب التفضيل بالنحو التالي :

الصحابة (القرن الذي بعثتُ فيه).

التابعون (ثمّ الذين يلونهم).

تابعو التابعين (ثمّ الذين يلونهم) وهكذا.

فكلّ من قرب زمنه من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فهو أفضل ممّن بعد منه.

هذا ما تفيده الرواية ، وللأسف الشديد أنّ الواقع الملموس يثبت خلاف ذلك لا سيّما من تصفّح التاريخ والحديث.

فهذا هو الإمام البخاري يروي في حقّ الصحابة ما مرّ من ارتدادهم ، كما مرّ في ص ٢٧.

ثمّ إنّ قوله : هم الذين يلونهم : يهدف إلى التابعين وفيهم الأمويون ، فهل يمكن أن نعدَّ عصر الأمويين خير القرون وقد لوّنوا وجه الأرض بدماء الأبرياء ، وقتلوا سبط النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في كربلاء عطشاناً وذبحوا أولاده وأصحابه ، وهتكوا حرمة الكعبة.

وهذا هو الحجاج صنيعة أيديهم اقترف من الجرائم البشعة ما يندى لها جبين الإنسانية ، ولا أُطيل الكلام في ذلك والتاريخ خير شاهد على كذب هذه الرواية ووضعها من قبل سماسرة الحديث لتطهير الجهاز الحاكم الأموي ممّا

٥٩٤

ارتكبه.

ويكفي في ذلك ما علّقه أبو المعالي الجويني على هذا الحديث ، قائلاً :

وما يدلّ على بطلانه أنّ القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة ، شرّ قرون الدنيا وهو أحد القرون التي ذكرها في النصّ ، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قُتل فيه الحسين ، وأُوقع بالمدينة ، وحوصرت مكة ، ونقضت الكعبة ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنتصبون في منصب النبوة ، الخمورَ وارتكبوا الفجور ، كما جرى ليزيد بن معاوية ولزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد ، وأُريقت الدماء الحرام ، وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونُقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك ، وإمرة الحجاج ، وإذا تأمّلت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية ، شراً كلها ، لا خير فيها ولا في رؤسائها وأمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم أشبه ، والقرن خمسون سنة فكيف يصحّ هذا الخبر؟ (١)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٩ والرسالة مبسوطة جديرة بالمطالعة.

٥٩٥

١٣

 موعظة شافية

أُريد أن أذكر في خاتمة المطاف كلمة فيها صلاح الإسلام والمسلمين ، وهي موعظة شافية لكلّ من ألقى السمع وهو شهيد ، وهي :

١. إذا كان السبُّ هو النيل من كرامة الشخص بكلمات مبتذلة ولسان بذيء ، لغاية التشفّي وهدم كرامة المسبوب ، فالمسلمون بعامة طوائفهم إلاّ النواصب منزّهون عن تلك الوصمة ، وقد ملئت أسماعهم بقول الرسول : «وسباب المسلم فسق ، وقتاله كفر».

وأمّا الرائج بين المحقّقين فليس من مقولة السبّ إنّما هو دراسة أحوال الصحابة من زاوية الحديث والتاريخ ، وهذا ليس سبّاً ، بل نقداً لحياة الشخص ، وأين هو من السبِّ؟

يقول الشيخ عبد الله الهروي الشافعي المعروف بالحبشي : ليس من سب الصحابة القول إنّ مقاتلي علي منهم بغاة ، لأنّ هذا ممّا صرّح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين ، وقد روى البيهقي في كتابه الاعتقاد باسناده المتصل إلى محمد بن إسحاق وهو ابن خزيمة قال : «وكلّ من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في إمارته فهو باغ» وعلى هذا عهدتُ مشايخنا ، وبه قال ابن إدريس يعني

٥٩٦

الشافعي ، فلا يُعدُّ ذكر ما جاء في حديث البخاري سبّاً للصحابة إلاّ من بعد عن التحقيق العلمي فليتفطن لذلك. (١)

وقال أيضاً : وهذا الحسن البصري (٢) الذي قيل فيه انّه سيد التابعين (وإن كنّا نقول إنّ سيد التابعين أُويس القرني أخذاً بحديث مسلم) ، فانّه قال : لمّا مات عمرو بن العاص وهو يردّد لا إله إلاّ الله : وكيف إذا جاء بلا إله إلاّ الله وقد قتل أهلَ لا إله إلاّ الله. (٣)

٢. انّ النقد لا يعدّ سبّاً إذا كان لغرض شرعي صحيح ، بل يكون بنّاءً ، ويشهد لذلك حديث مسلم وأبي داود انّ رجلاً خطب عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، فقال له رسول الله : بئس الخطيب أنت. (٤)

وقد كان البحث حول محاربي عليّ في الجمل وصفين والنهروان قائماً على قدم وساق ، وقد كثر الكلام حول من نكث البيعة وحارب علياً في صفين وغيرها.

هذا هو أبو منصور البغدادي يقول في كتابه «الفرق بين الفرق» ما نصّه :

وقالوا ـ أي أهل السنّة ـ بإمامة علي في وقته ، وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبالنهروان ، وقالوا بأنّ طلحة والزبير تابا ورجعا عن قتال علي ، لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع بعد منصرفه من الحرب ، وطلحة لما همّ بالانصراف رماه مروان بن الحكم وكان مع أصحاب الجمل بسهم فقتله ،

__________________

(١) المقالات السنية : ٣٦٠.

(٢) اتحاف السادة المتقين ١٠ / ٣٣٣.

(٣) المقالات السنية : ٣٦٠.

(٤) صحيح مسلم : ٣ / ١٢ ـ ١٣ ، كتاب الجمعة ، باب تحقيق الصلاة والخطبة ؛ سنن أبي داود : ١ / ٢٨٨ ، كتاب الحجّة ، باب الرجل يخطب على قوس ، رقم الحديث ١٠٩٩.

٥٩٧

وقالوا : إنّ عائشة قصدت الإصلاح بين الفريقين ، فغلبها بنو ضبّة والأزد على رأيها ، وقاتلوا علياً دون إذنها حتّى كان من الأمر ما كان. (١)

وقال في كتاب أُصول الدين : أجمع أصحابنا على أنّ علياً رضي‌الله‌عنه كان مصيباً في قتال أصحاب الجمل وفي قتال أصحاب معاوية بصفين ، وقالوا في الذين قاتلوه بالبصرة : انّهم كانوا على الخطأ ، وقالوا في عائشة وفي طلحة والزبير : انّهم أخطئوا ولم يفسقوا ، لأنّ عائشة قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو ضبة وبنو الأزد على رأيها ، فقاتلوا علياً فهم الذين فسقوا دونها ، وأمّا الزبير فانّه لما كلمه عليّ يوم الجمل عرف أنّه على الحقّ فترك قتاله وهرب من المعركة راجعاً إلى مكة ، فأدركه عمرو بن جرموز بوادي السباع فقتله وحمل رأسه إلى علي فبشره علي بالنار ، وأمّا طلحة فانّه لمّا رأى القتال بين الفريقين همّ بالرجوع إلى مكة ، فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله ، فهؤلاء الثلاثة بريئون من الفسق والباقون من أتباعهم الذين قاتلوا علياً فسقة ، وأمّا أصحاب معاوية فانّهم بغوا ، وسمّاهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بغاة في قوله لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» ولم يكفروا بهذا البغي. (٢)

نحن وإن لم نكن نوافق بعض ما جاء في بنود هذا النص ، وإنّما نستشهد به على أنّ دراسة أحوال الصحابة إذا كانت دراسة نزيهة لا تعدّ من السب بشيء.

وقال الحافظ الذهبي في «سير اعلام النبلاء» : لا ريب انّ عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل ، وما ظنّت انّ الأمر يبلغ ما بلغ ، فعن عمارة بن عمير عمّن سمع عائشة إذا قرأت : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ)

__________________

(١) الفرق بين الفرق : ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، باب بيان الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة.

(٢) أُصول الدين : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

٥٩٨

بكت حتّى تبل خمارها. (١)

وذكر مثل ذلك القرطبي وأبو حيان في تفسيره ، قال : وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية يعني آية (يا نِساءَ النَّبِيِ) بكت حتّى تبلّ خمارها ، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. (٢)

وفي كتاب دلائل النبوة للبيهقي ما نصه : «عن أُمّ سلمة ، قالت : ذكر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خروج بعض نسائه أُمّهات المؤمنين ، فضحكت عائشة ، فقال : انظري يا حميراء ، أن لا تكوني أنت.

ثمّ التفت إلى عليّ فقال : يا علي إن ولِّيت من أمرها شيئاً فارفق بها. (٣)

ونحن أيضاً لا نوافق بعض ما جاء في هذه الكلمات ، لكن الاستشهاد بها مثل ما سبق.

هذا وقد تضافر انّ الحافظ النسائي قال : لمّا دخلت دمشق وجدت أهلها منحرفين عن علي بن أبي طالب ، ولمّا علموا انّي عملتُ خصائص عليّ ـ عليه‌السلام ـ طلبوا أن أعمل خصائص معاوية ، فقلت : ما ذا أخرج له ، أخرج له لا أشبع الله بطنه. (٤)

فصاروا يضربونه في خصيته فحمل من دمشق إلى الرملة فتوفي بها.

وهذا هو علي أفضل الصحابة وأوّل من آمن بالنبي ينقد صاحبي رسول الله كما ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية ، قال : إنّ صاحبي علي رضي‌الله‌عنه

__________________

(١) سير اعلام النبلاء : ٢ / ١٧٧.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ١٨٠.

(٣) دلائل النبوة : ٦ / ٤١١.

(٤) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب السير والصلة والآداب ، باب من لعنه النبي أو سبّه أو دعا عليه.

٥٩٩

عبد الله بن الكواء وابن عباد سألاه عن طلحة والزبير قالا : فأخبرنا عن ملك هذين الرجلين (يعنيان طلحة والزبير) صاحباك في الهجرة وصاحباك في بيعة الرضوان وصاحباك في المشورة ، فقال : بايعاني بالمدينة وخالفاني بالبصرة ، وعزاه لإسحاق بن راهويه ، قال الحافظ البوصيري : رواه إسحاق بسند صحيح. (١)

ونحن لا نطيل الكلام بذكر نظائرها في غير من قاتل علياً ، فقد جرت السيرة على عدم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة وما صدر عنهم ، وإن صدر الأمر بالإمساك عن عمر بن عبد العزيز وغيره.

روى الحافظ الذهبي في كتاب «سير اعلام النبلاء» ما هذا حاصله : اتّهم المغيرة بن شعبة بالزنا وهو أمير الكوفة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب وشهد عليه شهود أربعة ، منهم أبو بكرة ونافع وشبل فشهدوا على أنّهم رأوه يولجه ويخرجه ويلج ولج المِروَد في المكحلة ، فلمّا حاول رابع الشهود وهو زياد بن أبيه ، حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحد للشبهة ، فخاطبه بقوله : إنّي لأرى رجلاً لم يخز الله على لسانه رجلاً من المهاجرين ، فقال له الخليفة : أرأيتَه يُدخله كالميل في المكحلة؟ فقال : لا ولكنّي رأيت مجلساً قبيحاً وسمعت نفساً عالياً ورأيته تبطنها. (٢)

فلو كانت الصحابة عدولاً ، لما استمع الخليفة إلى الشهادات ، ولرفضها ابتداءً!! ولو كانت دراسة سيرة الصحابي ، سبّاً له ، لعزّر الخليفة الشهود بالسبّ ، دون أن يسأل واحداً واحداً منهم عن صحّة الواقعة.

__________________

(١) المطالب العالية ، باب قتال أهل البغي : ٤ / ٢٩٦.

(٢) سير اعلام النبلاء : ٣ / ٢٨ برقم ٧ ؛ الأغاني : ١٤ / ١٤٦ ؛ تاريخ الطبري : ٤ / ٢٠٧ ؛ الكامل : ٢ / ٢٢٨.

٦٠٠