الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

عرفتهُم خرج رجل بيني وبينهم فقال : هلم! فقلت : أين؟ فقال : إلى النار والله ، فقلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة أُخرى ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هِمْل النعم». (١)

وظاهر الحديث : «حتّى إذا عرفتهم» وقوله : «ارتدوا على أدبارهم القهقرى» أنّ الذين أدركوا عصره وكانوا معه ، هم الذين يرتدون بعده.

إذا راجعنا الصحاح والمسانيد نجد أنّ أصحابهم أفردوا باباً بشأن فضائل الصحابة إلاّ أنّهم لم يفردوا باباً في مثالبهم ، بل أقحموا ما يرجع إلى هذه الناحية في أبواب أُخر ، ستراً لمثالبهم وقد ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحاحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض ، والوضع الطبيعي لجمع الأحاديث وترتيبها ، كان يقتضي عقد باب مستقل للمثالب في جنب الفضائل حتّى يطلع القارئ على قضاء السنة حول صحابة النبي الأكرم.

٣. السنّة قاضية على القرآن

القرآن الكريم هو المرجع الأوّل للمسلمين في الشريعة والعقيدة ، وقد وصفه سبحانه بأنّ فيه تبياناً لكلّ شيء ، قال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). (٢)

__________________

(١) جامع الأُصول لابن الأثير : ١١ / ١٢٠ ، كتاب الحوض في ورود الناس عليه ، رقم الحديث ٧٩٧٢. و «الفرط» : المتقدم قومه إلى الماء ، ويستوي فيه الواحد والجمع ، يقال : رجل فرط وقوم فرط.

(٢) النحل : ٨٩.

٥٢١

والمراد من الشيء في الآية إمّا المعنى العام ، أو المعنى الخاص ، أي العقيدة والشريعة ، والمعنى الثاني هو القدر المتيقّن ، فيجب أن يكون ميزاناً للحقّ والباطل فيما تحكيه الروايات في مجالي العقيدة والشريعة.

كما أنّه سبحانه عرّفه في مكان آخر بأنّه المهيمن على جميع الكتب السماوية (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). (١)

فإذا كان القرآن مهيمناً على جميع الكتب السماوية وميزاناً للحقّ والباطل الواردين فيها ، فأولى أن يكون مهيمناً على ما يُنسب إلى صاحب الشريعة المحمّدية من صحيح وسقيم.

ومقتضى ذلك أن يكون القرآن حاكماً على السنّة ومعياراً لصحّتها وسقمها ؛ ولكن الغلوّ في رواة السنّة وعلى رأسهم الصحابة ، انتهى إلى خلاف ذلك ، فصارت السنّة قاضية على القرآن ، حاكمة عليه ، وهذا أحد مظاهر الغلوّ في الصحابة ومن تتلمذ على أيديهم حيث قدّموا رواياتهم على كتاب ربّ العزّة ، وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاقرأ ما نتلوه عليك :

روى الحافظ الكبير أبو محمد عبد الرحمن الدارمي في سننه في باب «السنّة قاضية على كتاب الله» بسنده عن يحيى بن أبي كثير قال : السنّة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنّة. (٢)

قال الإمام الأشعري واختلفوا في القرآن هل ينسخ إلاّ بقرآن ، وفي السنّة هل ينسخها القرآن؟ فقال : المختلفون في ذلك ثلاثة أقاويل ، منها :

السنّة تنسخ القرآنَ وتقضي عليه ، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

(٢) سنن الدارمي : ١ / ١٤٤.

٥٢٢

عليها. (١)

لا شكّ انّ السنّة المحكية الّتي تصدر عن لسان النبيّ هي كالقرآن الكريم ، تخصِّص عموم القرآن وتقيّد مطلقه ، ولا يكون بينهما أيّ خلاف حتّى يكون أحدهما قاضياً على الآخر ، إنّما الكلام في هذه السنن الحاكية المبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد ، فهل يمكن أن تكون تلك السنّة قاضية على كتاب الله ولا يكون الكتاب قاضياً عليها؟!

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى).

٤. حجّية رواياتهم بلا استثناء

من مظاهر الغلو في حقّ الصحابة ، حجّية رواياتهم بلا استثناء ، مع أنّ الصحابة كانوا على أصناف يعرفهم كلّ من قرأ الكتاب العزيز وتدبّر في آياته.

كانت في الصحابة طائفة من المؤمنين المخلصين بدرجات مختلفة ، وفيهم المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، وفيهم المنافقون وهم عدد غير قليل ، وفيهم المؤلّفة قلوبهم ، وفيهم من نزل القرآن بفسقه ، وفيهم من أُقيم عليه الحدّ الشرعي في زمن النبيّ ، وفيهم من ارتدّ عن دينه إلى غير ذلك من الأصناف الّتي لا يحتجّ بأقوالها ورواياتها.

ومع ذلك احتج بروايات الصحابي مطلقاً ، ومن دون استثناء.

إنّ الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حذّر أصحابه من الكذب عليه في حياته ، وهذا يعرب عن وجود من كان يكذب عليه في حياته فكيف بعد مماته.

روى البخاري ، عن رِبْعي بن حراش يقول : سمعت عليّاً يقول : قال

__________________

(١) مقالات الإسلاميين : ٦٠٨.

٥٢٣

النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : لا تكذبوا عليّ فانّه مَنْ كذب عليّ فليلج النار». (١)

وروى أيضاً عن عبد الله بن الزبير قال : قلت للزبير : إنّي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يحدّث فلان وفلان؟ قال : إنّي لم أُفارقه ، ولكن سمعته يقول : «من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار».

إلى غير ذلك من الأحاديث الّتي رواها الإمام البخاري في هذه المضمار.

وقد عقد ابن ماجة في سننه باب التغليظ على تعمّد الكذب على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وروى فيه ثماني روايات حول نهي النبي عن الكذب عليه.

وعن أبي قتادة قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول على هذا المنبر : إيّاكم وكثرة الحديث عنّي ، فمن قال ، عليّ فليقل عدلاً أو صدقاً ، ومن تقوّل عليّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار. (٢)

ما ذا يريد رسول الله من خطابه : «إيّاكم وكثرة الحديث عنّي» ألا يدلّ هذا على أنّه كان بين الصحابة من يتقوّل عليه وينقل عنه ما لم يقل؟ نعم هذا لا يستلزم اختصاص الحكم بالصحابة ، بل يحرم التقوّل على غير الصحابي ، أيضاً بملاك الاشتراك في التكليف ، ولكن الخطاب متوجه إلى الصحابة يخصّهم بالذكر وإن كان الحكم واسعاً.

ثمّ إنّ ابن ماجة عقد باباً آخر ، تحت عنوان «من حدّث عن رسول الله حديثاً وهو يُرى أنّه كذب» روى فيه أربع روايات كلّها بمضمون الحديث التالي : من حدّث عنّي حديثاً وهو يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين. (٣)

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ ، باب إثم من كذب على النبيّ ، الحديث ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ١٤ ، رقم ٣٥.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ١٤ ، قسم المقدمة ، برقم ٣٨.

٥٢٤

وهذا يكشف عن وجود أرضية سيّئة بين نقلة الحديث في عصر الرسول ، أفيمكن بعد هذه الروايات أن نكيل عامة الصحابة بكيل واحد ونصفهم بالعدل والزهد والتقى؟! مع أنّ منهم ـ بعد ما ظهر كذبه في الحديث ـ من يعتذر بأنّه من كيسه.

أخرج البخاري عن أبي صالح ، قال : حدّثني أبو هريرة ، قال : قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أفضل الصدقة ما ترك غنىً ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : إمّا أن تطعمني وإمّا أن تطلقني.

ويقول العبد : اطعمني واستعملني.

ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني؟

فقالوا : يا أبا هريرة ، سمعت هذا من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟!

قال : لا ، من كيس أبي هريرة.

ورواه الإمام أحمد في مسنده باختلاف طفيف في اللفظ.

انظر إلى الرجل ينسب في صدر الحديث الرواية إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بضرس قاطع ، ولكنّه عند ما سُئل عن سماع الحديث من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عدل عمّا ذكره أوّلاً ، وصرح بأنّه من كيسه الخاص أي من موضوعاته. (١)

٥. القول بعدالتهم جميعاً

إنّ من مظاهر الغلو في الصحابة ، القول بعدالتهم جميعاً ، كأنّ الرؤية أو الصحبة جعلتهم ملائكة يسيرون في الأرض بصورة الإنس ، لا يعصون الله ما

__________________

(١) البخاري ، كتاب النفقات ، رقم الحديث ٥٣٥٥ ؛ مسند أحمد : ٢ / ٢٥٢.

٥٢٥

أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

والقوم وإن كانوا يصفونهم بالعدل ، ولكن يتعاملون معهم بنحو كأنّهم معصومون ، فوق أن يكونوا عدولاً ، ولذلك يتحاشون عن نسبة أيّ ذنب أو خطيئة إليهم ، إلى حدّ ذهب الإمام أحمد إلى وجوب الإمساك عن التعرض للصحابة وحمل أعمالهم على الصحة ، قال : لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه عقوبته ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه فإن تاب قبل منه ، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع. (١)

وقال ابن حجر : ويجب الاعتقاد بنزاهتهم لأنّه قد ثبت أنّ الجميع من أهل الجنّة وأنّه لا يدخل أحد منهم النار. (٢)

ليت ابن حجر يشير إلى آية أو رواية صحيحة تدلّ على أنّ جميع الصحابة من أهل الجنّة ، وأنّه لا يدخل أحد منهم النار ، وسيوافيك من الصحابة مَن وصفه الله سبحانه بأنّه فاسق. (٣) كما وصف لفيفاً منهم بأنّهم يريدون الدنيا ولفيفاً يريدون الآخرة وقال : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). (٤)

كيف تحرم النار على مَن ترك رسول الله وهو يلقي عليهم خطبة الجمعة وذهب للهو والتجارة ، قال سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ...) (٥) ، إلى غير ذلك من الآيات الذامة لفئة منهم ، وستوافيك تلك الآيات في مكانها.

__________________

(١) السنّة وعقيدة أهل السنّة : ٥٠.

(٢) الإصابة : ١ / ١.

(٣) الحجرات : ٦.

(٤) آل عمران : ١٥٢.

(٥) الجمعة : ١١.

٥٢٦

وقال الذهبي : وأمّا الصحابة فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ، وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات!! فما يكاد يسلم أحد من الغلط ولكنّه غلط نادر لا يضر أبداً ، إذ على عدالتهم ، وقبول ما نقلوا ـ العمل وبه ندين الله تعالى. وأمّا التابعون فيكاد فيهم ـ من يكذب عمداً ، ولكن لهم غلط وأوهام ... وأمّا أصحاب التابعين كمالك والأوزاعي ، وهذا الضرب ، فعلى المراتب المذكورة ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر غلطه ، فترك حديثه هذا مالك وهو النجم الهادي بين الأُمّة ، وما سلم من الكلام فيه ، وكذا الأوزاعي ثقة حجة ، وربما انفرد ووهم ، وحديثه عن الزهري فيه شيء .... (١)

وقال الطحاوي : ونحبّ أصحاب رسول الله ولا نفرّط في حب أحد منهم ، ولا نتبرّأ من أحد منهم ، ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم ، ولا نذكرهم إلاّ بخير ، وحبّهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. (٢)

ولمّا كان القول بعدالة الصحابة جميعاً أمراً غريباً ، إذ كيف يتصوّر أنّ جماعة كثيرة ربما تناهز مائة ألف قد صاروا عدولاً بمجرّد الرؤية أو بإضافة الصحبة مع أنّ قسماً منهم كانوا يفقدون حسن السابقة في عهد الجاهلية وارتكبوا جنايات يندى لها الجبين ، فهل يمكن أن تكون رؤية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو صحبته إكسيراً يقلب العنصر الخبيث إلى العنصر الطيب كقلب النحاس إلى الذهب؟

كلاّ لا يمكن ، ولا العقل يصدقه ، ولا العلم ولا التجربة الاجتماعية.

ولذلك نرى أنّ بعض المنصفين من أهل السنة توقّفوا في الحكم بعدالة جميع

__________________

(١) الرواة الثقات : ٢١.

(٢) شرح العقيدة الطحاوية : ٣٩٦.

٥٢٧

الصحابة فلم يؤيّدوا عدالتهم بقول مطلق ولم ينفوها كذلك ولم يبدوا رأيهم في المسألة وإنّما حكوا الآراء فيها وإليك نقل بعض كلماتهم :

قال الآمدي : اتّفق الجمهور على عدالة الصحابة ، وقال قوم : إن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم في الرواية ، ومنهم من قال : إنّهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع الاختلاف والفتن فيما بينهم ، وبعد ذلك فلا بدّ من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر العدالة ، ومنهم من قال : إنّ كلّ من قاتل عليّاً عالماً منهم فهو فاسق مردود الرواية والشهادة على الإمام الحقّ ، ومنهم من قال بردّ رواية الكلّ وشهادتهم ، لأنّ أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معيّن. (١)

قال الغزالي : وزعم قوم إنّ حالهم ـ أي الصحابة ـ كحال غيرهم في لزوم البحث ، وقال قوم : حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ، ثمّ تغيرت الحال وسفكت الدماء فلا بدّ من البحث. (٢)

وسيوافيك انّ القول بعدالة الصحابة أو التوقّف فيها مرفوض بتصريح القرآن على خلافه وشهادة السنّة على ضدّه.

__________________

(١) الاحكام : ٢ / ١٢٨.

(٢) المستصفى : ١ / ٣٠٨.

٥٢٨

٨

 الاعتقاد بعدالة الصحابة كخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين

من يراجع الرسائل والكتب العقائدية يقف فيها على مسألتين تعتبران منذ عصر الإمام أحمد (المتوفّى ٢٤١ ه‍) من صميم الدين وممّا يجب الإيمان به ، وهما :

١. خلافة الخلفاء الأربعة.

٢. عدالة الصحابة جميعاً.

يقول إمام الحنابلة في رسالة عقائدية : وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر ، عمر ، وخيرهم بعد عمر ، عثمان ، وخيرهم بعد عثمان ، علي ـ رضوان الله عليهم ـ خلفاء راشدون مهديّون ، ثمّ أصحاب محمد بعد هؤلاء الأربعة. (١)

وقال الإمام الأشعري في رسالة ألّفها لبيان عقيدة أهل الحديث :

إنّ الإمام الفاضل بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أبو بكر الصدّيق ، ثمّ عمر بن الخطاب ، ثمّ عثمان بن عفان ، ثمّ علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) السنّة : ٥٠.

٥٢٩

فهؤلاء الأئمّة بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخلافتهم خلافة النبوّة. (١)

وقال أبو جعفر الطحاوي في العقيدة الطحاوية المسمّاة ب «بيان السنّة والجماعة» :

وتثبيت لأبي بكر الصديق تفضيلاً وتقديماً على جميع الأُمّة ثمّ لعمر بن الخطاب ، ثمّ لعثمان ، ثمّ لعلي». (٢)

هذه النصوص المذكورة وما لم نذكره تعرب عن أنّ خلافة الخلفاء ـ عند القوم ـ عقيدة إسلامية يجب على كلّ مسلم الاعتقاد بها كالاعتقاد بسائر الأُصول من توحيده سبحانه ونبوّة نبيّه ومعاد الإنسان ، وقد ذكرها الإمامان : أحمد والأشعري في عداد عقائد أهل السنة والجماعة.

هذا هو المفهوم من هذه الكلمات وربما يتصوّر القائل أنّ الاعتقاد بخلافة الخلفاء أصل من أُصول الإسلام وقد جاء به النبيّ الخاتم وأمر الناس بالاعتقاد به.

الاعتقاد بخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين

كيف يتصوّر ذلك مع أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يقبل إسلام من ذكر الشهادتين دون أن يسأله عن خلافة الخلفاء؟

والذي يدلّ على أنّ خلافة الخلفاء ليست أصلاً دينيّاً وإنّما هي مرحلة زمنية مرّ بها المسلمون في فترة من تاريخهم كما مرّوا بخلافة سائر الخلفاء ، هو أنّ أصل الخلافة والإمامة من الفروع عند متكلّمي أهل السنّة ، فكيف تكون خلافة

__________________

(١) الإبانة في أُصول الديانة : ٢١ ـ ٢٢ ، باب إبانة قول أهل الحقّ والسنّة.

(٢) شرح العقيدة الطحاوية ، للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي : ٤٧٩. ولاحظ الفرق بين الفرق : ٣٥٠ ، للبغدادي وغيره.

٥٣٠

الخلفاء من الأُصول؟

قال الغزالي : واعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليست من المهمّات ، وليس أيضاً من فن المعقولات ، بل من الفقهيّات. (١)

وقال الآمدي : اعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ، ولا من الأُمور اللابدّيّات بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها والجهل بها. (٢)

وقال السيد الشريف : وليست الإمامة من أُصول الديانات والعقائد ، بل هي من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمّة سمعاً. (٣)

فإذا كانت الكبرى حكماً فرعياً من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد قام المسلمون بعد رحيل الرسول بتطبيقها على الخلفاء الأربعة ثم توالى الخلفاء بعدهم ، أفهل يكون ذلك دليلاً على أنّ الاعتقاد بخلافتهم أصل من الأُصول؟

إذ طالما قام المسلمون بواجبهم في أكثر بقاع العالم فبايعوا شخصاً بالخلافة فلم تُصبح خلافته أصلاً من أُصول الإسلام ، هذا من غير فرق بين أن نقول بصحّة خلافتهم وكونها جامعة شرائط الخلافة أم لم نقل ، إنّما الكلام في أنّ الاعتقاد بها ليس أصلاً من أُصول الإسلام.

ومن سبر التاريخ يقف على أنّ يد السياسة أوجدت تلك الفكرة ، وجعلت خلافة الخلفاء الثلاث أصلاً من أُصول الإيمان ليكون ذريعة إلى سائر المسائل السياسية.

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٢٣٤.

(٢) غاية المرام في علم الكلام ، ص ٣٦٢.

(٣) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ٣٤٤.

٥٣١

ذكر المسعودي : اجتمع عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل ، فجرى بينهما مناظرات ، وقد أحضر عمرو غلامه لكتابة ما يتّفقان عليه ، فقال عمرو بن العاص بعد الشهادة بتوحيده سبحانه ونبوّة نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونشهد أنّ أبا بكر خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عمل بكتاب الله وسنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حتى قبضه الله إليه ، وقد أدّى الحق الذي عليه.

قال أبو موسى : اكتب ، ثمّ قال في عمر مثل ذلك ، فقال أبو موسى : اكتب. ثمّ قال عمرو : اكتب انّ عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ورضا منهم وأنّه كان مؤمناً ، فقال أبو موسى الأشعري : ليس هذا ممّا قعدنا له ، قال : والله لا بدّ من أن يكون مؤمناً أو كافراً ، فقال أبو موسى : كان مؤمناً. قال عمرو : فمره يكتب ، قال أبو موسى : اكتب. قال عمرو : فظالماً قتل عثمان أو مظلوماً؟ قال أبو موسى : بل قتل مظلوماً ، قال عمرو : أو ليس قد جعل الله لوليّ المظلوم سلطاناً يطلب بدمه؟ قال أبو موسى : نعم. قال عمرو : فهل تعلم لعثمان ولياً أولى من معاوية؟ قال أبو موسى : لا ، قال عمرو : أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتّى يقتله أو يعجز عنه؟ قال أبو موسى : بلى ، قال عمرو للكاتب : اكتب وأمره أبو موسى فكتب ، قال عمرو : فإنّا نقيم البيّنة على أنّ علياً قتل عثمان .... (١)

ومن يقرأ قصة التحكيم في حرب صفّين يجد أنّ إقحام الاعتقاد بخلافة الشيخين ، كان تمهيداً لانتزاع الإقرار بخلافة الثالث ، ولم يكن الإقرار بخلافة الثالث مقصوداً بالذات ، بل كان ذريعة لانتزاع اعترافات أُخرى من أنّه قتل مظلوماً ، وأنّه ليس له وليّ يطلب بدمه أولى من معاوية وأنّ علياً هو الذي قتله.

__________________

(١) مروج الذهب للمسعودي : ٢ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

٥٣٢

وقد استفحلت أهميّة الإيمان بخلافة الخلفاء ولا سيما الثالث في عهد معاوية للإطاحة بعليّ وأهل بيته وإقصائهم عن الساحة السياسية ، حتّى يخلو الجوّ لمعاوية وأبناء بيته ، وقد أمر الخطباء والوعّاظ بنشر مناقب الخلفاء أوّلاً ، وسائر الصحابة ثانياً ، والمنع عن نشر أيّة فضيلة من فضائل أمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ.

إنّ الرسائل العقائدية الّتي أشرنا إليها اشتملت على ما يربو على خمسين أصلاً ، يتراءى لنا أنّها من أُصول الإسلام ، وأنّها ممّا قد أجمع عليها المسلمون بعد رحيل الرسول ، ولكن الواقع غير ذلك فأكثر الأُصول ردود على الفرق الكلامية الّتي ظهرت في الساحة ، فصارت العقائد الإسلامية كأنّها ردود على الفرق الناجمة في عصر التيارات الكلامية ولا أصالة لها. ولو لا تلك الفرق الضالة! لم يكن لهذه الأُصول عين ولا أثر ، حتّى أنّ مسألة تربيع الخلفاء تمّ الاتّفاق عليها في عصر الإمام أحمد ، وكان أكثر المحدّثين على التثليث.

قد ذكر ابن أبي يعلى بالاسناد إلى وديزة الحمصي قال : دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي ـ رضي‌الله‌عنه ـ فقلت له : يا أبا عبد الله إنّ هذا لطعن على طلحة والزبير ، فقال : بئس ما قلت وما نحن وحرب القوم وذكرها ، فقلت : أصلحك الله إنّما ذكرناها حين ربّعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله ، فقال لي : وما يمنعني من ذلك؟ قال : قلت : حديث ابن عمر. فقال لي : عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى ، وعلي بن أبي طالب ـ رضي‌الله‌عنه ـ قد سمّى نفسه أمير المؤمنين ، فأقول : أنا ليس للمؤمنين بأمير ، فانصرفتُ عنه. (١)

والحقّ أنّ الأُصول التي تبنّاها الإمام أحمد وبعده الإمام الأشعري أو جاءت

__________________

(١) طبقات الحنابلة : ١ / ٣٩٣.

٥٣٣

في العقيدة الطحاوية هي أُصول استنبطها الإمام من الآيات والروايات فجعلها عقائد إسلامية يجب الإيمان بها ، وهي أولى بأن تسمّى : عقائد الإمام أحمد بدل أن تسمّى عقائد إسلاميّة.

الاعتقاد بعدالة الصحابة ليس من صميم الدين

هذا هو حال الخلافة التي جعلوها من الأُصول ولا تمّت إليها بصلة ، ولنبحث الآن مسألة عدالة الصحابة ، أي عدالة مائة ألف إنسان رأى النبيّ وشاهده أو عدالة خمسة عشر ألف صحابي سُجّلت أسماؤهم في المعاجم فقد هتفت الكتب الرجالية بعدالتهم على الإطلاق ، وحُرّم أيّ نقد علمي أو تاريخي في حقّهم ، بل عُدّ الناقد لهم خارجاً عن الإسلام مبطلاً لأدلة المسلمين على ما مرّ. (١)

إنّ الدارس لتاريخ حياة الصحابة يقف بوضوح على أنّ هذه الحالة القدسية التي يضفيها جمهور السنّة على الصحابة ليست إلاّ وليدة عصر متأخر عنهم ، ولم تزل هذه الحالة تزداد وتتّسع ، حتّى أصبحنا في عصر لا يمكن فيه لأحد أن يبحث في ممارسات الصحابة وسلوكيّاتهم ، ولا أن يشير إلى مواضع الألم في تاريخ تلك الحقبة ، حتّى ولو اعتمد القائل في قضائه على الآيات والروايات والتاريخ الصحيح ، بل يتّهم بأنّه زنديق ، وأنّ الجارح أولى بالجرح.

لقد تكوّنت هذه النظرية ونشأت عن العاطفة الدينية التي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم وجرّتهم إلى تبنّي تلك الفكرة واستغلّتها السلطة الأموية لإبعاد الناس عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ أحد الثقلين الذين تركهما الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد رحيله لهداية الناس.

__________________

(١) لاحظ ص ٥١٨ من هذا الكتاب.

٥٣٤

والشاهد على أنّ هذه القداسة طارئة على فكر المجتمع الإسلامي ، هو تضافر الآيات على تصنيف الصحابة إلى أصناف مختلفة يجمعها من حسنت صحبته ومن لم تحسن ، كما تضافرت الروايات على ذمّ لفيف منهم ، وقد احتفل التاريخ بنزاعهم وقتالهم وقتلهم الأبرياء ، ومع ذلك كلّه فعدالة الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم صارت كعقيدة راسخة في فكر المجتمع الإسلامي ، لا يجترئ أحد على التشكيك فيها إلاّ من تجرّد عن العقائد المسبقة وقدّم تبنّي الحقيقة على المناصب الدنيوية وزخارفها وابتاع لنفسه أنواع التهم والذموم.

وها نحن نذكر شيئاً من الآيات الصريحة في ذمّ لفيف منهم على نحو لا يبقى معه شكّ لمشكّك ولا ريب لمرتاب.

وهذا ما سيوافيك في الفصل التالي :

٥٣٥

٩

 القرآن الكريم وعدالة الصحابة

إنّ القرآن الكريم في مختلف سوره وآياته ينقد أقوال الصحابة وأفعالهم بوضوح كما أنّه في بعض آياته يثني على طائفة منهم ، فمن الخطأ أن نركّز على طائفة دون طائفة ، فها نحن ندرس في هذا الفصل بعض الآيات التي تنقد أفعالهم وآراءهم كما ندرس في الفصول القادمة الآيات المادحة.

١. تنبّؤ القرآن بارتداد لفيف من الصحابة

القرآن يتنبّأ بإمكان ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. وذلك لمّا انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد وقتل من قتل منهم. يقول ابن كثير : نادى الشيطان على أنّ محمّداً ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد قتل وجوّزوا عليه ذلك ، فحصل ضعف ووهن وتأخّر عن القتال ، روى ابن نجيح عن أبيه إنّ رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحّط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرت أنّ محمّداً ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمّد قد قتل فقد بلّغ ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل الله

٥٣٦

سبحانه قوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (١)

قال ابن قيّم الجوزية : كانت وقعة أُحد مقدّمة وإرهاصاً بين يدي محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونبّأهم ووبّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله أو قتل. (٢)

والظاهر من الارتداد هو الأعمّ من الارتداد عن الدين الذي جاهر به بعض المنافقين والارتداد عن العمل كالجهاد ومكافحة الأعداء وتأييد الحقّ إنساء ما أوصى به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

وهذه الآية تخبر عن إمكانية الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل الرسول ، فهل يمكن أن يوصف بالعدالة التامّة الّتي هي أُخت العصمة من كان يُحتمل فيه تلك الإمكانية؟ ولذلك ترى أنّهم لا يرضون بنقد آراء الصحابة وأقوالهم.

٢. ترك الرسول قائماً وهو يخطب

بينا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يخطب الجمعة قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حتّى لم يبق معه إلاّ اثنا عشر رجلاً. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتّى لا يبقى منكم أحد سال لكم الوادي ناراً ، فنزلت هذه الآية : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

قال ابن كثير : يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع ، من الانصراف عن

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٠٩ والآية ١٤٤ من سورة آل عمران.

(٢) زاد المعاد : ٢٥٣.

٥٣٧

الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر تخطب ، هكذا ذكره غير واحد من التابعين منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة وزعم بن حبّان أنّ التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قائماً على المنبر إلاّ القليل منهم ، وقد صحّ بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد : حدّثنا ابن إدريس ، عن حصين بن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر ، قال : قدمت غير مرّة المدينة ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً فنزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) أخرجاه في الصحيحين. (١)

أفمن يقدّم اللهو والتجارة على ذكر الله ويستخف بالنبيّ ، يكون ذا ملكة نفسانية تحجزه عن اقتراف المعاصي واجتراح الكبائر ، ما لكم كيف تحكمون؟

٣. الخيانة بالنكاح سرّاً

شرّع الله سبحانه صوم شهر رمضان وحرّم على الصائم إذا نام ليلاً مجامعة النساء ، فكان جماعة من المسلمين ينكحون سرّاً وهو محرّم عليهم.

قال ابن كثير : كان الأمر في ابتداء الإسلام ، هو إذا أفطر أحدهم إنّما يحلّ له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو نام قبل ذلك فمتى نام أو صلّى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القادمة ، ثمّ إنّ أُناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأنزل الله قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٧٨ ؛ صحيح البخاري : ١ / ٣١٦ ، كتاب الجمعة ، باب الساعة التي في يوم الجمعة ؛ صحيح مسلم : ٢ / ٥٩٠ كتاب الجمعة ، باب في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ...).

٥٣٨

الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ...). (١)

فهل يصحّ لنا أن نصف من خانوا أنفسهم بارتكاب الحرام بأنّهم عدول ذوي ملكة رادعة عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر؟! أو أنّ أكثرهم لم يكونوا حائزين تلك الملكة ، وإنّما كانوا على درجة متوسطة من الإيمان والتقوى وقد يغلب عليهم حبّ الدنيا ولذّاتها.

٤. خيانة بعض البدريّين

يقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). (٢)

قال ابن كثير : نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعلّ رسول الله أخذها فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا تنزيه له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة ، ثمّ تبيّن أنّه قد غلّ بعض أصحابه. (٣)

والآية تعرب عن مدى حسن ظنّهم واعتقادهم برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حتّى اتّهموه بالخيانة في الأمانة وتقسيم الأموال ، ثمّ تبين أنّه قد غلّه بعض أصحابه ، فهؤلاء الجاهلون بمكانة النبي ، أو من مارس الخيانة في أموال المسلمين لا يوصفون بالعدالة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٢١٩ ؛ صحيح البخاري : ٤ / ١٦٣٩ ، كتاب التفسير ، وغيرهما ، والآية ١٨٧ من سورة البقرة.

(٢) آل عمران : ١٦١.

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٢١ ؛ تفسير الطبري : ٤ / ١٥٥ في تفسير الآية ، إلى غير ذلك من المصادر.

٥٣٩

وهذا حال البدريين ، لا الأعراب ولا الطلقاء ولا أبنائهم ولا المنافقين ، فكيف حال من أتى بعدهم؟ ولعمري أنّ من يقرأ هذه الآيات البيّنات وما ورد حولها من الأحاديث والكلمات ثمّ يصرّ على عدالة الصحابة جميعاً دون تحقيق فقد ظلم نفسه وظلم أُمّته.

٥. فاسق يغرّ النبيّ وأصحابه

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (١)

أمر الله سبحانه بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلاّ يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً ، قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسّرين أنّ الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على صدقات بني المصطلق إلى حارث بن ضرار وهو رئيسهم ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة ، فلمّا أن سار الوليد حتّى بلغ بعض الطريق فرق ـ أي خاف ـ فرجع حتّى أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله إنّ الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي ، فغضب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبعث البعث إلى الحارث ـ رضي‌الله‌عنه ـ وأقبل الحارث بأصحابه حتّى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث. فلمّا غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك. قال : ولم؟ قالوا : إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنّك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال رضي‌الله‌عنه : لا والذي بعث محمّداً ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالحقّ ما رأيته بتة ولا أتاني ، فلمّا دخل الحارث على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟ قال : لا ،

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٥٤٠