الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

والإثبات وهو لوح مخلوق لله لا نعلم كنهه ، وأمّا علمه سبحانه فهو قائم بذاته بل عين ذاته ، لا يتغيّر ولا يتبدّل وهو سبحانه حينما يقدّر التقدير الأوّل في كتاب المحو والإثبات يعلم عن مصير ذلك التقدير وانّه هل يثبت ولا يمحى لتمادي العبد على ما كان عليه ، أو انّه يتغيّر بحسب حياة العبد وطروء التغير إلى أفعاله.

ولأجل إيضاح الحقّ نأتي بما ألقيناه في سالف الزمان في ذلك المجال ونقتبس منه ما يلي :

إنّ العبد الفارغ من الدعاء والعمل الصالح التارك لهما ، قُدّر له قصر العمر ، وقلّة الرزق ؛ كما أنّ العبد المقبل على الدعاء والعمل الصالح كتب عليه طول العمر وسعة الرزق ، وكلا التقديرين تقدير من الله سبحانه.

فلو كان الرجل في إبّان شبابه غير متفرّغ للدعاء والعمل الصالح فهو داخل تحت التقدير الأوّل ، فقد قدر في حقّه قصر العمر ونقصان الأرزاق بشرط البقاء على تلك الحالة.

ولكنّه إذا تحول إلى حالة أُخرى في أُخريات حياته وأقبل على الدعاء والعمل الصالح ، انقلب التقدير الأوّل إلى خلافه وضده ، فيكتب في حقّه الزيادة في الأجل والرزق وغيرهما.

نعم هو سبحانه يعلم من الأزل أنّ أيَّ عبد يختار أيَّ واحد من التقديرين طول حياته ، أو انّ أيّ عبد ينتقل من تقدير إلى تقدير آخر ، فليس هاهنا تقدير واحد ، وقضاء فارد ، لا ينفك عنه الإنسان ولا مناص له منه ، وإن كان هناك علم واحد أزلي غير متغيّر.

٤٠١

لا تخصيص في القاعدة العقلية

والعجب من أبي زهرة ، حيث يتفاعل مع الشيعة في معنى البداء في موضع دون موضع آخر ، فقال : إنّ البداء بمعنى أن ينزل بالناس ما لم يحتسبوا ويقدروا كالغنى بعد الفقر والمرض بعد العافية ، فهذا موضع اتّفاق بين الشيعة والسنة.

فنسأله أيّ فرق بين تغيير الفقر إلى الغنى والمرض إلى العافية وبين الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ، حيث جوّز الأوّل دون الثاني ، مع أنّ الجميع في تغيير ما قُدِّر سيّان ، حيث كان المقدّر هو الفقر والمرض ، فتغيّرا إلى ضدهما ، ولو كان التغير في المقدَّر مستلزماً للتغيّر في علمه سبحانه فما هو الفرق بين الموردين ، ولما ذا تمسّك بالقاعدة العقلية في مورد دون مورد؟

وزان التقديرين وزان الأجلين

وهذا مثل قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). (١)

والمراد من الأجل الأوّل ، هو القابليّة الطبيعيّة لأفراد النوع الإنساني ، والعمر الطبيعي لنوع الإنسان.

وأمّا الأجل المسمّى ، فهو الأجل القطعي الذي لا يتجاوزه الفرد ، وإليه يشير سبحانه بقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). (٢)

نعم الأجل المسمّى كثيراً ما ينقص عن الأجل المطلق ، فلو جعلنا مقدار

__________________

(١) الأنعام : ٢.

(٢) النحل : ٦١.

٤٠٢

الأجل المطلق لطبيعة الإنسان مائة وعشرين سنة ، فقلّما يتّفق أن يبلغ الإنسان إلى ذلك الحدّ من العمر ، فإنّ هناك موانع وعراقيل تمنعه ـ في العادة ـ من الوصول إليه.

نعم قلّما يزيد هذا الأجل على الأجل المطلق إذا توفّرت لذلك مقتضيات وقابليّات خارجة عن المتعارف تؤثّر في طول العمر وامتداده.

وعلى كلّ ، فكما أنّ وجود الأجلين لا يوجب تغييراً في علم الله سبحانه ، فهكذا وجود التقديرين.

وتغيير التقدير الأوّل بالتقدير الثاني مثل تغيير الأجل المطلق بالأجل المسمّى في ناحيتي الزيادة والنقصان ، بل لا معنى للأجلين إلاّ التقديرين.

ثمّ إنّ المراد من تغيير المقدّر هو تغيير المكتوب في لوحي المحو والإثبات ، فإنّ لله سبحانه لوحين :

الأوّل : اللوح المحفوظ الذي لا يتطرّق إليه التغيير ، وقد أشار إليه سبحانه بقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (١)

الثاني : لوح المحو والإثبات ، فيكتب فيه التقدير الأوّل ، وهو وإن كان بظاهره مطلقاً وظاهراً في الاستمرار ، إلاّ أنّه مشروط بشروط ، فإذا تغيّرت الشروط انتهى أمر التقدير الأوّل ، وحان وقت التقدير الثاني ، وإلى هذا اللوح أشار سبحانه بقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (٢)

__________________

(١) الحديد : ٢٢.

(٢) الرعد : ٣٩.

٤٠٣

ومثل هذا التغيّر في التقدير لا يمسّ كرامة العلم الإلهي الأزلي أبداً.

أحد أعلام السنّة يصحر بالحقيقة

انّ الشيخ عبد العزيز البلوشي من أعضاء مجلس الخبراء لكتابة الدستور للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، اجتمع بي وسألني عن حقيقة البداء ، وقد شرحت له مغزى المسألة ، واستمع لما نقوله بهدوء وتفهم ، فقال : لو كان البداء بهذا المعنى فهو ممّا يعتقده أهل السنّة أجمع غير أنّكم لا تريدون من البداء هذا ، وإنّما تريدون معنى آخر يلازم جهله سبحانه وظهور الحقيقة بعد الخفاء.

ثمّ قال : لو أتيت بكتاب من قدماء الشيعة يتبنّى هذه العقيدة كما شرحتها لصدّقت كلامك وآمنت بالبداء ، فنزلت عند رغبته ، وآتيت له كتاب «أوائل المقالات» و «شرح عقائد الصدوق» للعلاّمة الشيخ المفيد ، فأخذ الكتاب وطالعه بدقّة وقلّبه ظهراً لبطن ، وجاء بعد أيّام قائلاً : لو كان البداء بنفس المعنى الذي فسّره معلم الشيعة الشيخ المفيد ، فأهل السنّة قاطبة معه في هذه العقيدة من لدن ضرب الإسلام بجرانه في الأرض.

٤٠٤

٥

 الأثر التربوي للإيمان بالبداء

إذا كان البداء هو تمكّن العبد من تغيير المصير بنواياه الصادقة وأعماله الطاهرة ، فهو يبعث الرجاء في نفس العبد ويكون نظيرَ تشريع قبول التوبة والشفاعة وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر ، فتشريع الكلّ لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب المكلّفين حتّى لا ييأسوا من روح الله ، ولا يتنكّبُوا عن الصراط المستقيم ، بتصوّر انّهم بأعمالهم السابقة صاروا من الأشقياء وكتبت عليهم النار تقديراً حتمياً لا تبديل فيه.

فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمُه في لوح المحو والإثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يُسعِد من يشاء ويُشقي من يشاء ، لسعى في إسعاده وإخراجه من ديوان الأشقياء ، وتسجيله في قائمة السعداء ، إذ ليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة خاصّة ، بل إذا تاب وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى يخرج من سلك الأشقياء ويدخل في صنف السعداء وبالعكس ، وهكذا كلّ ما قدر في حقّه من الأجل والمرض والفقر والشقاء ، يمكن تغييره بالدعاء والصدقة وصلة الرحم وإكرام الوالدين وغير ذلك ، فالكلّ لأجل بثّ الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات

٤٠٥

الكتاب وصريح آياته وأخبار الأئمّة الهداة.

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتّفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا له).

وأمّا اليهود ـ خذلهم الله ـ فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والإعطاء.

وبعبارة أُخرى : أنّ للإنسان عندهم مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله ، وأنّه ينال ما قُدِّر له من الخير والشر بلا استثناء.

ولو صحّ ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ، ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناه تأثيراً كبيراً في تغيير مصير الإنسان.

وعلى ضوء هذا البيان نتمكّن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق ـ عليهما‌السلام ـ) : «ما عُبد الله عز وجلّ بشيء مثل البداء». (١)

ولقد أدرك قوم يونس إمكان تغيير التقدير بالتوبة والعمل الصالح ، فلمّا نزل بهم العذاب مشوا إلى رجل من علمائهم ، فقالوا : علّمنا دعاءً ندعُو به لعلّ اللهَ يكشفُ عنّا العذابَ ، فقال : قولوا : يا حيّ ، حينَ لا حيَّ ، يا حيّ محيي الموتى ، يا حي لا إله إلاّ أنت ، قال : فكشف عنهم العذاب. (٢)

ويظهر ممّا رواه السيوطي أنّهم وقفوا بين يدي الله سبحانه بحالة تستنزل الرحمة وتدفع النقمة ، قال : أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال :

__________________

(١) البحار : ٤ / ١٠٧ ، باب البداء ، الحديث ١٩.

(٢) تفسير ابن كثير : ٣ / ٥٣٠.

٤٠٦

لما دعا يونس على قومه أوحى الله إليه انّ العذاب مُصْبحهم. فقالوا : ما كذب يونس وليُصبحنا العذاب ، فتعالوا حتّى نُخرج سخالَ كلّ شيء فنجعلها مع أولادنا فلعلّ الله أن يرحمهم. فأخرجوا النساء معهن الولدان ، وأخرجوا الإبل معها فَصلانها ، وأخرجوا البقر معها عجاجيلها ، وأخرجوا الغنم معها سخالها فجعلوه أمامهم ، وأقبل العذاب فلما أن رأوه جأروا إلى الله ودعوا ، وبكت النساء والولدان ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وعجاجيلها ، وثغت الغنم وسخالها ، فرحمهم الله ، فصرف عنهم العذاب. (١)

__________________

(١) الدر المنثور : ٤ / ٣٩٣.

٤٠٧

٦

 الحوادث التي بدا لله تبارك وتعالى فيها

تفسير البداء بتغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة تفسير له في مقام الثبوت. وهناك مصطلح آخر للبداء نعبّر عنه بالبداء في مقام الإثبات وهو انّه ربّما يلهم النبي أو يوحى إليه وقوع شيء ولكنّه لا يقع ، وهذا ما يعبّر عنه بأنّه بدا لله في تلك الحادثة.

أمّا استعمال كلمة «بدا لله» فسيوافيك انّه مجاز. وقد تبع المسلمون في هذا النوع من الاستعمال سنّةَ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في أبرص وأقرع وأعمى كما مرّ. (١)

إنّما الكلام في كيفية الإلهام أو الوحي إلى النبي وأخباره للناس وعدم وقوعه ، فبيانه :

انّه ربما تقتضي المصلحةُ اطّلاعَ النبي على المقتضي للشيء دون العلّة التامة لوقوعه ، فيخبر استناداً إلى المقتضي مع عدم الوقوف على العلّة التامة التي من أجزائها عدم المانع من تأثير المقتضي.

فإخباره يستند إلى وجود المقتضي للشيء ، وأمّا عدم وقوعه فلاستناده إلى وجود المانع من تأثير المقتضي ، وها نحن نذكر شيئاً من هذه الإخبارات الواردة في الكتاب والسنّة والتي بدا لله فيها :

__________________

(١) راجع ص ٣٧٠ من هذا الكتاب.

٤٠٨

١. حادثة رفع العذاب عن قوم يونس

أخبر يونسُ قومَه بنزول العذاب ثمّ ترك القوم وكان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضي العذاب الذي اطّلع عليه ، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع ، أعني : التوبة والتضرّع ، إذ مع المانع لا تجتمع العلة التامة للعذاب ، قال سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). (١)

أخرج عبد الرزاق عن طاوس في قوله : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٢) قال : قيل ليونس ـ عليه‌السلام ـ : إنّ قومك يأتيهم العذاب يوم كذا وكذا ... فلمّا كان يومئذ ، خرج يونس ـ عليه‌السلام ـ ففقده قومه ، فخرجوا بالصغير والكبير والدواب وكلّ شيء ، ثمّ عزلوا الوالدة عن ولدها ، والشاة عن ولدها ، والناقة والبقرة عن ولدها ، فسمعت لهم عجيجاً فأتاهم العذاب حتّى نظروا إليه ثمّ صرف عنهم فلما لم يصبهم العذاب ، ذهب يونس ـ عليه‌السلام ـ مغاضباً فركب في البحر في سفينة مع أناس ... الخ. (٣)

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : لمّا بعث الله يونس ـ عليه‌السلام ـ إلى أهل قريته ، فردوا عليه ما جاءهم به ، فامتنعوا منه ، فلمّا فعلوا ذلك أوحى الله إليه إنّي مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا ، فأخرج من بين أظهرهم ، فأعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إيّاهم ، فقالوا : ارمقوه فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم ، فلمّا كانت الليلة التي وُعِدُوا

__________________

(١) يونس : ٩٨.

(٢) الصافات : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٣) الدر المنثور : ٧ / ١٢١.

٤٠٩

العذاب في صبيحتها ، أدلج فرآه القوم ، فحذروا فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كلّ دابة وولدها ، ثمّ عجّوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم ، وانتظر يونس عليه خبر القرية وأهلها ، حتّى مرّ مارّ فقال : ما فعل أهل القرية؟ قال : فعلوا أنّ نبيهم لمّا خرج من بين أظهرهم عرفوا أنّه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ، ثمّ فرقوا بين كلّ ذات ولد وولدها ، ثمّ عجُّوا إلى الله ، وتابوا إليه فقُبِل منهم وأخّر عنهم العذاب. (١)

٢. حادثة الإعراض عن ذبح إسماعيل

قد تضافر في الآثار انّ رؤية الأنبياء رؤيا صادقة وربّما يكون وحياً. (٢) وقد رأى إبراهيم في منامه انّه يذبح إسماعيل ، وأعلم ابنه بذلك ، ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه على طاعة الله وطاعة أبيه ، يقول سبحانه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). (٣)

فقوله : (أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحكي عن حقيقة ثابتة وواقعية مسلّمة ، وهو أمر الله لإبراهيم بذبح ولده أوّلاً ، وتحقّق ذلك في عالم الوجود ثانياً ، وكأنّ قوله سبحانه : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يكشف عن أمرين :

١. الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي.

٢. الكناية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي.

__________________

(١) الدر المنثور : ٧ / ١٢٢.

(٢) الدر المنثور : ٥ / ٢٨٠.

(٣) الصافات : ١٠١ ـ ١٠٢.

٤١٠

فقد أخبر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بذلك ، بطريق من طرق الوحي ، وأخبر هو ولده بذلك ، ومع ذلك كلّه لم يتحقّق ونُسخ نسخاً تشريعياً ، كما لم يتحقّق ذبح إبراهيم إسماعيل في الخارج فكان نسخاً تكوينياً.

ويحكي عن كلا الأمرين قوله سبحانه : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). (١)

وسيوافيك انّ اخبار الأنبياء عن حوادث مستقبلية مع عدم وقوعها لا يستلزم كذبهم ولا يمسّ كرامتهم بشيء ، وذلك لدلالة القرائن على وجود المقتضي للحوادث وإنّما لم يقع لأجل موانع حالت بين المقتضي وتأثيره.

ثمّ إنّه سبحانه يحكي لنا عزمَ إبراهيم لذبح ولده ، وانّ الوالد والولد سلّما ما أُمرا به ، ووضع إبراهيم وجهه للأرض (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) فلمّا أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه ، نودي مِن خلفه أن يا إبراهيمُ قد صدّقتَ الرؤيا وخرجتَ من الاختبار مرفوع الرأس ، قال سبحانه :

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (٢)

٣. حادثة إكمال ميقات موسى ـ عليه‌السلام ـ

ذكر المفسّرون انّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة ، فصامها موسى ـ عليه‌السلام ـ وطواها ، فلمّا تمّ الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يُكْمل بعشر ، يقول

__________________

(١) الصافات : ١٠٧.

(٢) الصافات : ١١١١٠٣.

٤١١

سبحانه : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (١)

إنّه سبحانه لمّا واعد موسى ثلاثين ليلة ، كلّم بما وعده الله سبحانه قومه الذين صحبوه إلى الميقات ، فلمّا طوى موسى ـ عليه‌السلام ـ ثلاثين ليلة أمر بإكمال بأربعين ليلة.

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية : انّ موسى قال لقومه : انّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده الله عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله. (٢)

فكان هناك إخباران :

الأوّل بأنّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة ، ثمّ نسخه خبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة ، وكان موسى صادقاً في كلا الأخبارين ، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات يقتضي إقامة ثلاثين ليلة ، لو لا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.

هذه جملة الحوادث التي تنبّأ أنبياء الله بوقوعها في الذكر الحكيم إلاّ أنّها لم تقع ، وهذا ما يعبّر عنه بأنّه بدا لله فيها.

وسيوافيك وجه استعمال لفظة «بدا» في المقام وكيفية نسبته إلى الله.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) الدر المنثور : ٣ / ٣٣٥.

٤١٢

حوادث بدا لله تعالى فيها في الأحاديث

المتتبع في الآثار والروايات يجد نظائر هذه الحوادث فيها ، ونذكر نزراً قليلاً منها :

١. مر يهوديّ بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : السام عليك ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ له : «وعليك» ، فقال أصحابه : انما سلّم عليك بالموت ، فقال : الموت عليك؟ فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «وكذلك رددت» ، ثمّ قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لأصحابه : «إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله». قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «ضعه» ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «يا يهوديّ ما عملت اليوم؟» قال : ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا حملته فجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «بها دفع الله عنه» ، وقال : «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان». (١)

٢. انّ المسيح مرّ بقوم مجلبين ، فقال : ما لهؤلاء؟ قيل : يا روح الله فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه ، فقال : يُجلَبُون اليوم ويَبكوُن غداً ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول الله؟ قال : لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه ، فلما أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح الله إنّ التي اخبرتَنا أمس انّها ميتة لم تمت ، فدخل المسيح دارها فقال : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلاّ وكنت أصنعه فيما مضى ، انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ١٢١.

٤١٣

يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ، عاضّ على ذنبه ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : بما صنعت ، صرف عنك هذا. (١)

أقول : إنّ الأخبارات الصادرة من الأنبياء لأجل اتّصالهم باللوح الثاني الذي في معرض التغيّر والتبدّل كثيرة مبثوثة في الكتب ، فيخبرون لمصالح حسب ما يقتضي المقتضي مع احتمال تغيّرها حسب توفّر الشروط وعدمها أو الموانع وعدمها.

وفي هذا المجال يقول العلاّمة المجلسي في عالم الإثبات :

اعلم أنّ الآيات والأخبار تدلّ على أنّ الله خلق لوحين أثبت فيها ما يحدث في الكائنات :

أحدهما : اللوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلاً وهو مطابق لعلمه تعالى.

والآخر : لوح المحو والإثبات ، فيثبت فيه شيئاً ثمّ يمحوه ، لحكم كثيرة لا تخفى على أُولي الألباب.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ٩٤.

٤١٤

٧

 شبهات وحلول

تثار حول البداء شبهات عديدة تطلب لنفسها الإجابة ، ونحن بدورنا نذكر المهم منها :

الأُولى : استحالة إطلاق البداء على الله سبحانه

إنّ البداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء ، وهو يلازم العلم بعد الجهل ، والله سبحانه عالم بكلّ شيء قبل الخلقة ومعها وبعدها فكيف يقال بدا لله في هذه الحادثة؟

والجواب : انّ هذه الشبهة صارت ذريعة لإنكار البداء حتّى بالمعنى الصحيح ، غير انّا نُلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ النزاع ليس في إطلاق لفظ «البداء» على الله ، وإنّما النزاع في المسمّى ، فسواء أصحت تسميته بالبداء أم لم تصحّ ، فالبداء عبارة عن تغيير المصير بالعمل الصالح والطالح ، فلو كان إطلاق البداء عليه غير صحيح عند شخص فليسمّه بلفظ آخر ، على أنّ إطلاقه على الله صحيح لإحدى الجهات التالية أو جميعها :

١. انّ الشيعة الإمامية اقتفوا أثر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في إطلاق البداء على الله سبحانه

٤١٥

حيث جاء في حديث الأقرع والأبرص والأعمى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم) (١) وقد قال سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (٢)

٢. انّ وصفه سبحانه بهذا الوصف من باب المشاكلة ، وهو باب واسع في كلام العرب ، فانّه سبحانه في مجالات خاصة يعبّر عن فعل نفسه بما يعبّر به الناس عن فعل أنفسهم ، وما ذلك إلاّ لأجل المشاكلة الظاهرية ، وقد صرّح بها القرآن الكريم في مواضع عديدة ، نذكر منها :

يقول سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ). (٣)

ويقول تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). (٤)

وقال عزّ من قائل : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). (٥)

وقال عزّ اسمه : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا). (٦)

وقال عزّ وجلّ : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا). (٧)

إذ لا شكّ انّه سبحانه لا يخدع ولا يمكر ولا ينسى ، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف ، ولكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة ، والجميع كناية عن إبطال خدعتهم ومكرهم وحرمانهم من مغفرة الله سبحانه وبالتالي عن جنّته ونعيمها.

وعلى ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبّر عن فعله بما نعبّر عن أفعالنا ، إذا كان

__________________

(١) تقدم تخريجه : انظر ص ٣٧٠ ـ ٣٧١ من هذا الكتاب.

(٢) الأحزاب : ٢١.

(٣) النساء : ١٤٢.

(٤) آل عمران : ٥٤.

(٥) الأنفال : ٣٠.

(٦) الجاثية : ٣٤.

(٧) الأعراف : ٥١.

٤١٦

التعبير مقروناً بالقرينة الدالّة على المراد ، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء ، فبما انّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة ، وإلاّ فهو ـ في الحقيقة ـ بداء من الله للناس ، ولكنّه يتوسّع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ ، ويقال بدا لله تمشّياً مع ما في حسبان الناس وأذهانهم وقياس أمره سبحانه بأمرهم ، ولا غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز والمشاكلة.

٣. انّ اللام هنا بمعنى «من» فقوله : «بدا لله» أي بدا من الله للناس ، يقول العرب : قد بدا لفلان عمل صحيح أو بدا له كلام فصيح ، كما يقولون بدا من فلان كذا ، فيجعلون اللام مقام «من» ، فقولهم : بدا لله أي بدا من الله سبحانه. (١)

فعلى ضوء هذه الجهات يصحّ إطلاق البداء على الله سبحانه ووصفه به ، حتّى لو قلنا بتوقيفية الأسماء والصفات وما ينسب إليه تعالى من الأفعال ، لوروده في الحديث النبوي الآنف الذكر.

الثانية : استلزام البداء في مقام الإثبات الكذب

قد عرفت أنّ للبداء مجالين : مقام الثبوت ومقام الإثبات ، والمراد من الثاني كما تقدّم هو إخبار النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن حادثة وعدم وقوعها لانتفاء شرطها ، فحينئذ تطرح الشبهة التالية بأنّه إذا أخبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولم يتحقّق ما أخبر به يلزم حينها كذبه وزوال الاعتماد على قوله.

والجواب : إنّ مصدر خبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إمّا الوحي كما هو الحال في الإخبار عن أمره سبحانه بذبح إسماعيل أو نزول العذاب على قوم يونس ، أو اتّصال النبي بلوح المحو والإثبات ، أو الألواح التي يكتب فيها الحوادث الثابتة والمتغيّرة ، فربّما

__________________

(١) أوائل المقالات : ٥٣.

٤١٧

يكتب فيها الموت بالنظر إلى مقتضياته فيتّصل به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيطلع على موته مع أنّه كان مشروطاً بشرط لم يتحقّق.

غير أنّ هذا النوع من الإخبار لا يستلزم كذب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وذلك لدلالة القرائن على صدق النبي ، وهو وجود المقتضي للحادثة وانّها لم تقع لأجل فقدان الشرط ، مثلاً :

إنّه سبحانه ـ بعد ما نسخ ذبح إسماعيل ـ أمر إبراهيم بالفداء عنه بذبح عظيم وقال : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١) ، ففي هذه الفدية دليل على صدق ما أخبر به النبي من الرؤيا ، وقد كانت هناك مصلحة للأمر بالذبح ، غير أنّه نسخ لمصلحة فيه.

ونظير هذا قصة يونس حيث أخبر عن العذاب وقد تقدّم أنّ القوم رأوا طلائعه ، فقال لهم عالمهم : افزعوا إلى الله فلعلّ الله يرحمكم ، ويرد العذاب عنكم ، فاخرجوا إلى المفازة ، وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولادها ثمّ ابكوا وادعوا ، ففعلوا فصرف عنهم العذاب. (٢)

وقد مضى في قصة المسيح انّه أخبر بهلاك العروس ولم يقع ، لكنّه برهن على صحّة إخباره بقوله لها : «تنحّي عن مجلسك» فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : «بما صنعت صرف عنك هذا». (٣)

كما أنّ في إخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بهلاك اليهودي كان مقروناً بمشاهدة الأسود في جوف الحطب عاض على عود.

__________________

(١) الصافات : ١٠٧.

(٢) مجمع البيان : ٣ / ١٥٣.

(٣) تقدم تخريجه.

٤١٨

وبالجملة : إنّ تنبّؤات الأنبياء والأولياء بوقوع حوادث مستقبلية تتحقّق غالباً ، وعند ما تتخلّف يكون الإخبار مقروناً بأمارات دالّة على صدقه كما تقدّم.

الثالثة : استلزام البداء للتشكيك في مطلق ما أخبر

إذا كان إخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خاضعاً للبداء فلا يبقى أيُّ اعتماد بتنبّؤات الأنبياء والأولياء ، فإذا أخبر المسيح بمجيء نبي بعده اسمه أحمد ، أو أخبر النبي عن كونه خاتم الأنبياء ، أو عن ظهور المهدي في آخر الزمان ، وكان الجميع خاضعاً للبداء والتغيير فلا يبقى وثوق بما أخبر.

والجواب : انّ البداء إنّما يتعلّق بموارد جزئية وحوادث خاصّة ، كما عرفت من ذبح إسماعيل ونزول البلاء على قوم يونس وموت العروس واليهودي بالأسود ، فهذا القسم من التنبؤات تقتضي المصلحة وقوع البداء فيها ، وهي أُمور نادرة بالنسبة إلى ما جاء به الأنبياء من السنن والقضايا والسياسات ، فلا يورث البداء في مورد أو موارد لا تتعدى عن عدد الأصابع ، شكاً وترديداً فيما أخبر به الأنبياء أو جاءوا به من الأحكام ، وإن شئت التفصيل فنذكر بعض ما لا يتطرّق إليه البداء فنقول :

١. السنن الكونية لا تخضع للبداء

إنّ لله سبحانه تبارك وتعالى سنناً كونية غير محددة بزمان ومكان ، وهي ثابتة لا تخضع للبداء ، لأنّها سنة ، والسنّة بطبعها تقتضي الشمول والعموم وتأبى التخصيص والتبعيض ، قال الله سبحانه : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١)

__________________

(١) الأحزاب : ٦٢.

٤١٩

وإليك نزراً من هذه السنن.

١. يقول سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (١)

فهل يتصوّر طروء البداء إلى هذه السنن الكونية التي لا تقصر عن السنن الطبيعية؟ كلا ولا.

٢. يقول سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (٢)

فالآية تتكفّل ببيان سنّتين إلهيّتين : ايجابية وسلبية.

فلا يتطرق إليهما البداء ولا النسخ.

٣. يقول سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (٣)

٤. ويقول عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (٤)

فهذه السنن قد أخذ الله على ذمته أن تكون ثابتة في عامّة الأجيال والأزمان لا تخضع للتغيّر لمنافاته للسنّة الإلهية.

٢. التنبّؤ بالنبوّة والإمامة لا يخضع للبداء

قد تقتضي المصلحة تنبّؤ النبي بنبيّ لاحق بعده كما تنبّأ عيسى ـ عليه‌السلام ـ بظهور

__________________

(١) نوح : ١٢١٠.

(٢) إبراهيم : ٧.

(٣) الطلاق : ٣٢.

(٤) الأنبياء : ١٠٥.

٤٢٠