الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

بعض كلمات المحقّقين من المفسّرين حتّى يقف القارئ على المعنى الصحيح للبداء ويعلم أنّه ممّا أصفقت عليه الأُمّة ولا يوجد بينهم أيُّ خلاف في ذلك.

١. روى الطبري (المتوفّى ٣١٠ ه‍) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون الله سبحانه بتغيير المصير وإخراجهم من الشقاء ـ إن كتب عليهم ـ إلى السعادة مثلاً : كان عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ يقول وهو يطوف بالكعبة : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة ، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وشقيق وأبي وائل. (١)

وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) بما يُنزِّلُ على الأنبياء ، ويُثبت ما يشاء مما ينزله إلى الأنبياء وقال وعنده أُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدَّل. (٢)

٢. قال الزمخشرى (المتوفّى ٥٢٨ ه‍) : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ. (٣)

٣. ذكر الطبرسي (٥٤٨٤٧٠ ه‍) : لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال : «الرابع : أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ومن الأجل ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روي ذلك) عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود وأبي وائل ، وقتادة. وأُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.

__________________

(١) الطبري : التفسير (جامع البيان) : ١٣ / ١١٤١١٢.

(٢) الطبري : التفسير (جامع البيان) : ١٣ / ١١٤١١٢.

(٣) الكشاف : ٢ / ١٦٩.

٣٨١

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحنى من الأشقياء ...». (١)

٤. قال الرازي (المتوفّى ٦٠٨ ه‍) : إنّ في هذه الآية قولين :

القول الأوّل : إنّها عامّة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر ، وهو مذهب عمر وابن مسعود ، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرّعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

والقول الثاني : إنّ هذه الآية خاصّة في بعض الأشقياء دون البعض.

ثم قال : فإن قال قائل : ألستم تزعمون إنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف ، فكيف يستقيم مع هذا المعنى ، المحو والإثبات؟

قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جفّ به القلم ، فلأنّه لا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه. (٢)

٥. وقال القرطبي (المتوفّى ٦٧١ ه‍) ـ بعد نقل القولين وإن المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصان ببعضها ـ : مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد ، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحَّ فالقول به يجب أن يوقف عنده ، وإلاّ فتكون الآية عامّة في جميع الأشياء ، وهو الأظهر ـ ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبد الله بن مسعود ثم قال : روى في الصحيحين عن أبي

__________________

(١) مجمع البيان : ٦ / ٣٩٨.

(٢) تفسير الرازي : ١٠ / ٦٥٦٤.

٣٨٢

هريرة قال : سمعت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : «مَن سرّه أن يبسط له في رزقهِ ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه». (١)

٦. قال ابن كثير (المتوفّى ٧٧٤ ه‍) بعد نقل قسم من الروايات : ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إن الرجل ليُحْرَمُ الرزقَ بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر». ثم نقل عن ابن عباس : الكتاب كتابان : فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء ، وعنده أُمّ الكتاب. (٢)

٧. روى السيوطي (المتوفّى ٩١١ ه‍) عن ابن عباس في تفسير الآية : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله تعالى وقد سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة والتابعين. (٣)

٨. ذكر الألوسي (المتوفّى ١٢٧٠ ه‍) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال : أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ ـ كرم الله وجهه ـ أنّه سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ...) الآية فقال له عليه الصلاة والسلام : «لأقرَّنَّ عينك بتفسيرها ، ولأُقرَّنَّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف ، محوِّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ،

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٣٢٩.

(٢) ابن كثير : التفسير ٢ / ٥٢٠.

(٣) الدر المنثور ٤ / ٦٦٠. لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلّها تحكي عن تغيير التقدير بالأعمال والأفعال.

٣٨٣

ويقي مصارع السوء». ثم قال : دفع الإشكال عن استلزام ذلك ، بتغير علم الله سبحانه ، ومن شاء فليرجع. (١)

٩. وقال صديق حسن خان (المتوفّى ١٣٠٧ ه‍) في تفسير الآية : وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شرّ ، ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم ... (٢)

١٠. وقال القاسمي (المتوفّى ١٣٣٢ ه‍) : تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) فقالوا : إنّها عامَّة في كل شيء كما ـ يقتضيه ظاهر اللفظ ـ قالوا : يمحو الله من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. (٣)

١١. وقال المراغي (المتوفّى ١٣٧١ ه‍) في تفسير الآية : وقد أُثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض فيها ، بل هي داخلة فيما سلف. ثم نقل الأقوال بإجمال. (٤)

وهذه الجمل والكلم الدرّية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال ، وأنّه ليس كل تقدير حتمياً

__________________

(١) روح المعاني ١٣ / ١١١.

(٢) فتح البيان ٥ / ١٧١.

(٣) محاسن التأويل : ٩ / ٣٧٢.

(٤) تفسير المراغي : ٥ / ١٥٥.

٣٨٤

لا يُغيّر ولا يبدّل ، وإنّ لله سبحانه لوحين : لوح المحو والإثبات ، ولوح «أُمّ الكتاب». والذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأوّل ، وإنّ القول بسيادة القدر على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية ، قول بالجبر ، الباطل بالعقل والضرورة ، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (١)

__________________

(١) ص : ٢٧.

٣٨٥

٣

 النزاع في البداء لفظي

لم يزل النزاع بين الشيعة والسنّة في وصف الله سبحانه بالبداء قائماً على قدم وساق ، فالشيعة الإمامية تعتبر البداء من صميم الدين بحجّة انّه بمعنى تغيّر المصير بصالح الأعمال وطالحها ، وتنكره بمعنى الظهور بعد الخفاء كما سيوافيك ؛ والسنّة ترفض البداء بالمعنى المحال وهو ظهور الشيء بعد الخفاء ، وتكفّر القائل به لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتنسبه إلى الشيعة.

ومن الواضح انّ المقبول لدى الشيعة يغاير موضوعاً ومحمولاً مع ما هو المرفوض لدى السنّة ، فلا يرد مثل ذلك الإيجاب والسلب على مورد واحد ، حيث لا نجد بين الأُمّة الإسلامية من ينكر علم الله سبحانه وإحاطته بما في الأرض والسماء ، كما لا نجد فيهم من ينكر تغير المصير بصالح الأعمال.

فالفريقان يتنازعان ولكنّهما يتفقان في المعنى الإيجابي ، كما أنّهما يتّفقان في المعنى السلبي.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المسألة لم تطرح في جوّ هادئ حتّى تقف كلّ طائفة على ما لدى الطائفة الأُخرى من المعنى لهذا الأصل. ونحن ندعو إلى عقد مؤتمر علمي لدراسة هذه المسألة بدقة لإزالة الشكّ والالتباس فيها وفي غيرها من المسائل المختلف فيها.

٣٨٦

نصوص علماء الإمامية في البداء

١. قال الصدوق (٣٨١٣٠٦ ه‍) في «باب الاعتقاد بالبداء» : إنّ اليهود قالوا : إنّ الله تبارك وتعالى قد فرغ من الأمر ، قلنا : بل هو تعالى «كلّ يوم هو في شأن» لا يشغله شأن عن شأن ، يحيي ويميت ، ويخلق ويرزق ويفعل ما يشاء ، وقلنا : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١). (٢)

٢. قال الشيخ المفيد (٤١٣٣٣٦ ه‍) : معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من : الإفقار بعد الإغناء ، والإمراض بعد الإعفاء ، والإماتة بعد الإحياء ، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة ، من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال. (٣)

٣. قال السيد المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍) : البداء في لغة العرب هو الظهور من قوله : «بدا الشيء : إذا ظهر وبان ، والمتكلّمون تعرّفوا فيما بينهم أن يسمّوا ما يقتضي هذا البداء باسمه ، فقالوا : إذا أمر الله تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معيّن ومكلّف واحد ، ثمّ نهى عنه ، فهو بداء ، والبداء على ما حدّدناه لا يجوز على الله تعالى لأنّه علم بنفسه ، ولا يجوز له أن يتجدّد كونه عالماً ، ولا أن يظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهراً.

وقد وردت أخبار آحاد لا توجب علماً ، ولا تقتضي قطعاً بإضافة البداء إلى الله ، وحملها محقّقو أصحابنا على أنّ المراد بلفظة البداء فيها النسخ للشرائع ولا

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) عقائد الإمامية ، المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر : ٧٣.

(٣) أوائل المقالات : ٥٣ ، باب القول في البداء والمشيئة.

٣٨٧

خلاف بين العلماء في جواز النسخ للشرائع. (١)

ترى أنّ السيد الشريف يتبرّأ من البداء بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه ، ويفسّر الروايات بمعنى النسخ وهو صحيح ، لكن يجب أن يضاف إليه بأنّ النسخ يستعمل في التشريع والبداء في التكوين.

٤. وقال الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) : البداء حقيقة في الظهور ، ولذلك يقال : بدا لنا سور المدينة ، وبدا لنا وجه الرأي وقال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (٢) و (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا). (٣)

فأمّا إذا أُضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى ، فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز ؛ فأمّا ما يجوز من ذلك ، فهو ما إذا أفاد النسخ بعينه ، ويكون إطلاق ذلك عليه ضرباً من التوسّع ، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين ـ عليهما‌السلام ـ من الأخبار المتضمّنة لإضافة البداء إلى الله ، دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن.

ووجه إطلاق ذلك فيه تعالى ، هو أنّه إذا كان منه ما يدلّ على النسخ ، يظهر به للمكلّفين ما لم يكن ظاهراً ، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلاً لهم ، أطلق على ذلك لفظ البداء. (٤)

ترى أنّ شيخ الطائفة أيضاً يفسّر البداء بالنسخ ، ولكن نضيف إلى ما ذكره أنّ النسخ يستعمل في نسخ الحكم والبداء في نسخ التكوين ، أعني : تغيير المصير

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ، مسألة ٥ ، ص ١١٧ ، المسألة الرازيّة. وقد نقل العلاّمة المجلسي خلاصة نظرية السيد في بحار الأنوار : ٤ / ١٢٩ ، ومرآة العقول : ٢ / ١٣١ حيث قال : الرابع ما ذكره السيد المرتضى.

(٢) الجاثية : ٣٣.

(٣) الزمر : ٤٨٤٧.

(٤) عدة الأُصول : ٢ / ٢٩. ولاحظ كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ، ص ٢٦٣.

٣٨٨

بصالح الأعمال وطالحها.

٥. وقال الشيخ أيضاً في كتاب «الغيبة» : إنّه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقّت هذا الأمر (الحادثة المعيّنة) في الأوقات التي ذكرت ، فلما تجدّد ما تجدّد ، تغيّرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر ـ إلى أن قال : ـ وعلى هذا يُتأوّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء وصلة الأرحام ، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم ، وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالماً بالأمرين ، فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوماً بشرط ، والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل ، وعلى هذا يتأوّل أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمّنة للفظ البداء ويبيّن أنّ معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل ، فيما يجوز فيه النسخ أو تغيّر شروطها ، إن كان طريقها الخبر عن الكائنات. (١)

٦. وقال السيّد المحقّق الداماد (... ١٠٤١ ه‍) : البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية فهو نسخ وفي الأمر التكويني والمكوّنات الزمانية بداء ، فالنسخ كأنّه بداء تشريعي ، والبداء كأنّه نسخ تكويني ، ولا بداء في القضاء ولا بالنسبة إلى جناب القدّوس الحق.

 ـ إلى أن قال : ـ وكما حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره ، لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذلك حقيقة البداء انبتات (٢) استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة. (٣)

__________________

(١) الغيبة للشيخ الطوسي ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٤ ، طبعة النجف.

(٢) انقطاع.

(٣) نبراس الضياء ، ص ٥٦.

٣٨٩

٧. قال العلاّمة المجلسي (١١١٠١٠٣٧ ه‍) : إنّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون : إنّ الله قد فرغ من الأمر ، وردّاً على النظّام وبعض المعتزلة الذين يقولون : إنّ الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه وإنّما التقدّم يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها ، فنفت أئمّة أهل البيت ذلك المعنى وأثبتوا انّه تعالى كلّ يوم في شأن ، في إعدام شيء وإحداث آخر ، وإماتة شخص وإحياء آخر ، إلى غير ذلك ، لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرّب إليه ما يصلح أُمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبر الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك. (١)

٨. وقال السيد عبد الله شبّر (... ـ ١٢٤١ ه‍) : للبداء معان ، بعضها يجوز عليه ، وبعضها يمتنع ، وهو بالفتح والمدّ أكثر ما يطلق في اللغة على ظهور الشيء بعد خفائه ، وحصول العلم به بعد الجهل ، واتّفقت الأُمّة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلاّ من لا يعتدّ به ، ومن نسب إلى الإماميّة فقد افترى عليهم كذباً ، والإمامية براء منه ، وقد يطلق على النسخ ، وعلى القضاء المجدّد ، وعلى مطلق الظهور ، وعلى غير ذلك من المعاني.

ثمّ استشهد على هذا بما ورد من أنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء ، إلى غير ذلك ممّا روي في هذا المضمار. (٢)

هذا هو قول علماء الشيعة وأكابرهم ، ترى أنّ الجميع يفسّر البداء بما

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ١٣٠.

(٢) مصابيح الأنوار : ١ / ٣٣.

٣٩٠

يقارب النسخ الذي اتّفق المسلمون على جوازه ، غير أنّ مجال النسخ هو التشريع ومجاله هو التكوين.

كلام الإمام شرف الدين في البداء

وهناك كلامٌ للإمام شرف الدين (١٢٩٠ ـ ١٣٧٧ ه‍) قد كشف اللثام عن حقيقة البداء بوجه يقنع كلّ باحث يرتاد الحقيقة ، وبما أنّ كلامه فصل حاسم نأتي به تفصيلاً ليقف القارئ على مدى اضطهاد الشيعة ، قال : إنّ الله قد ينقص من الرزق وقد يزيد فيه ، وكذا الأجل والصحّة والمرض والسعادة والشقاء ، والمحن والمصائب والإيمان والكفر وسائر الأشياء كما يقتضيه قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

وهذا مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي وائل وقتادة ، وقد رواه جابر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وكان كثير من السلف الصالح يدعون ويتضرّعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء لا أشقياء ، وقد تواتر ذلك عن أئمّتنا في أدعيتهم المأثورة وورد في السنن الكثيرة ، أنّ الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء ، سعادة ويزيد في العمر ، وصحّ عن ابن عباس انّه قال : لا ينفع الحذر من القدر ولكنّ الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.

هذا هو البداء الذي تقول به الشيعة ، تجوّزوا في إطلاق البداء عليه بعلاقة المشابهة ، لأنّ الله عزّ وجلّ أجرى كثيراً من الأشياء التي ذكرناها على خلاف ما كان يظنّه الناس فأوقعها مخالفة لما تقتضيه الأمارات والدلائل ، وكان مآل الأُمور فيها مناقضاً لأوائلها ، والله عز وجلّ هو العالم بمصيرها ومصير الأشياء كلّها ، وعلمه بهذا كلّه قديم أزليّ ، لكن لمّا كان تقديره لمصير الأُمور يخالف تقديره لأوائلها. كان

٣٩١

تقدير المصير أمراً يشبه «البداء» فاستعار له بعض سلفنا الصالح هذا اللّفظ مجازاً ، أو كأنّ الحكمة قد اقتضت يومئذ هذا التجوّز.

وبهذا ردّ بعض أئمّتنا قول اليهود : إنّ الله قدّر في الأزل مقتضيات الأشياء ، وفرغ الله من كلّ عمل إذا جرت الأشياء على مقتضياته ، قال ـ عليه‌السلام ـ : بأنّ لله عزّ وجلّ في كلّ يوم قضاءً مجدّداً بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهراً لهم ، وما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه الأزلي ، فالنزاع في هذه بيننا وبين أهل السنّة لفظيّ لأنّ ما ينكرونه من البداء الذي لا يجوز على الله عزّ وجلّ تبرّأ الشيعة منه ، وممّن يقول به ، براءتها من الشرك بالله ومن المشركين.

وما يقوله الشيعة من البداء بالمعنى الذي ذكرناه يقول به عامّة المسلمين ، وهو مذهب عمر بن الخطّاب وغيره كما سمعت ، وبه جاء التنزيل (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) ، و (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) ، أي كلّ وقت وحين يُحدث أُموراً ويجدّد أحوالاً من إهلاك وإنجاء وحرمان وإعطاء ، وغير ذلك كما روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقد قيل له : ما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه سبحانه وتعالى أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ، ويضع آخرين.

هذا هو الذي تقول به الشيعة وتسمّيه بداءً ، وغير الشيعة يقولون به ، لكنّهم لا يسمّونه بداءً ، فالنزاع في الحقيقة إنّما هو في تسميته بهذا الاسم وعدم تسميته به ، ولو عرف غير الشيعة أنّ الشيعة إنّما تُطلِق عليه هذا الاسم مجازاً لا حقيقة ، لتبيّن ـ حينئذ ـ لهم أنّه لا نزاع بيننا وبينهم حتّى في اللفظ ، لأنّ باب المجاز واسع عند العرب إلى الغاية ، ومع هذا كلّه فان أصرّ غيرنا على هذا النزاع اللفظي وأبى

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) الرحمن : ٢٩.

٣٩٢

التجوّز بإطلاق البداء على ما قلناه ، فنحن نازلون على حكمه فليبدل لفظ البداء بما يشاء «وليتّق الله ربّه» في أخيه المؤمن «ولا يبخس منه شيئاً» (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١). (٢)

كلام المصلح الكبير كاشف الغطاء في البداء

وممّن صرّح بأنّ النزاع بين الشيعة والسنة نزاع لفظي ، وأنّ الإيجاب والسلب من الطرفين لا يتوجهان على موضوع واحد ، هو العلاّمة المصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء حيث يقول في كتاب «الدين والإسلام» :

يحسب عامّة المسلمين (جمع الله كلمتهم) أنّ هذه الكلمة (البداء) ممّا انفردت به الإمامية واعتدُّوها شناعة عليهم ، ولو تمحّصت الحقائق واستوضحت المقاصد وزالت أغشيةُ الأوهام التي تحول بين الحقيقة والأفهام لانكسرت السورة وانكبحت الشرّة ، ولعرف الجميع أنّهم متّفقون على مقالة واحدة وأنّ النزاع بينهم لم يكن إلاّ لفظياً.

وهكذا أكثر الخلافيات التي تضارب فيها المسلمون ، التضارب الذي جرّ عليهم الويلات وآل بجمعهم إلى الشتات وصيّرهم بالحالة التي تراها وتسمع بها اليوم ، وكلّ تلك المنازعات إلاّ الطفيف قد عملت فيها عوامل الشدّة ونظر الشنآن والحدّة وعدم التروّي والأناة في تبلُّغ المقاصد وتفهُّم المرامي والغايات ، حتّى بلغ الأمر إلى أوخم عاقبة وأسود مغبّة ، وإلى الله المشتكى والرغبةُ في إدالة هذه الحال والنزوع عن تلك الضرائب فإنّه الحريّ بالإجابة إن شاء الله. (٣)

__________________

(١) هود : ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) أجوبة مسائل جار الله : ١٠١ ـ ١٠٣.

(٣) الدين والإسلام : ١ / ١٦٩١٦٨.

٣٩٣

فذلكة البحث

هذه بعض نصوص علماء الإمامية (١) قديماً وحديثاً أتينا بها ليقف القارئ على أنّ البداء عقيدة مشتركة بين المسلمين ، وإنّما يستوحش منه من يستوحش لأجل عدم وقوفه على معناه ، ولتصوّره أنّ المراد هو ظهور الأمر لله بعد الخفاء عليه. وقد عرفت اتّفاق علمائنا تبعاً للقرآن والسنّة على امتناع إطلاقه على الله سبحانه ، وإنّما المراد تغيير ما قدِّر بالدعاء والعمل ، وهناك كلمات لسائر مشايخنا لم نذكرها وإنّما نشير إلى أسمائهم فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مؤلفاتهم نظراء :

١. ميرزا رفيع النائيني في شرح الكافي ، وقد نقله العلاّمة المجلسي في البحار : ٤ / ١٢٩.

٢. المحدّث الكبير محمد محسن الفيض الكاشاني في علم اليقين : ١ / ١٧٧ ، والوافي : ١ / ٥٠٧ ، الباب الخامس.

٣. شيخنا المجيز الشيخ آقا بزرگ الطهراني في الذريعة إلى تصانيف الشيعة : ٣ / ٥٣٥١.

٤. المحقّق العلاّمة الشيخ فضل الله الزنجاني في تعليقاته على كتاب «أوائل المقالات» ، ص ٩٤.

٥. السيد حسين مكي في كتابه «عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمّة». (٢)

إلى غير ذلك من المحقّقين العظام.

__________________

(١) وقد تركنا ذكر كثير من النصوص في هذا المجال لخوف الاطالة.

(٢) الإمام الصادق عليه‌السلام ـ : ٤٨٤٧ ، ط دار الأندلس ، بيروت.

٣٩٤

٤

 التفسير الخاطئ للبداء عند مشايخ السنّة

قد تعرّفت في صدر البحث على أنّ للبداء معنى إيجابياً وقد اتّفق عليه الفريقان ، ومعنى سلبيّاً ، قد نفاه الفريقان بحماس ، فكان المتوقّع عدم وجود النقاش والجدال في تلك المسألة كسائر المسائل التي اتّفق الفريقان عليها ، ولكن يا للأسف كان في حياة المسلمين عوامل خاصّة تزرع بذور الخلاف بين الفريقين ، وبالتالي لا تحصد الأُمّة منها إلاّ التناحر والدماء ، ومن هذه المسائل ، مسألة البداء ، فنذكر كلمات بعضهم لترى أنّهم يتّبعون ظاهر حرفية «بدا لله» ثمّ يشنّعون على الشيعة ويرمونهم بالأباطيل التي لا أساس لها بزعم انّ مرادهم منه هذا المعنى ، منهم :

١. البلخي (المتوفّى ٣١٧ ه‍)

إنّ الشيخ البلخي فسّر البداء من قبل نفسه وافترى على الشيعة ثمّ ردّ عليه ، وقد حكى كلامه شيخنا الأكبر شيخ الطائفة الطوسي في تبيانه إذ قال : قال قوم ـ ليس ممّن يعتبرون ولكنّهم من الأُمة على حال ـ انّ الأئمّة المنصوص عليهم ـ بزعمهم ـ مفوض إليهم نسخ القرآن وتدبيره ، وتجاوز بعضهم حتّى خرج من

٣٩٥

الدين بقوله : إنّ النسخ قد يجوز على وجه البداء ، وهو أن يأمر الله عز وجلّ عندهم بالشيء ولا يبدو له ، ثمّ يبدو له فيغيّره ، ولا يريد في وقت أمره به أن يغيّره هو ويبدله وينسخه ، لأنّه عندهم لا يعلم الشيء حتّى يكون ، إلاّ ما يقدره فيعلمه علم تقدير ، وتعجرفوا فزعموا انّ ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة. (١)

هذا كلام البلخي الذي هو من أئمّة المعتزلة.

وكلامه يعرب عن أنّه تبع ظاهر حرفية البداء ولم يرجع فيه إلى تأليف شيعي أو رواية مرويّة عن أئمّتهم ، ولذلك قال الشيخ الطوسي بعد كلامه :

وأظن انّه عنى بهذا أصحابنا الإمامية ، لأنّه ليس في الأُمّة من يقول بالنصّ على الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ سواهم. فإن كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب عليهم ، لأنّهم لا يجيزون النسخ على أحد من الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ ، ولا أحد منهم يقول بحدوث العلم. (٢)

٢. أبو الحسن الأشعري (٢٦٠ ـ ٣٢٤ ه‍)

إنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري تربّى في أحضان الاعتزال طيلة أربعة عقود ، ولكنّه عدل عن الاعتزال والتحق عام ٣٠٥ ه‍ ـ بركب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في تفكيره وعقيدته وألّف كتاباً باسم «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» وقد ذكر فيه عقائد الشيعة وقال : وكلّ الروافض إلاّ شرذمة قليلة يزعمون انّه يريد الشيء ثمّ يبدو له.

وتبعه محقّق الكتاب وفسّر كلامه وقال : أي يظهر له وجه المصلحة بعد

__________________

(١) التبيان : ١ / ١٣ ـ ١٤ ، ط النجف عام ١٣٧٦.

(٢) التبيان : ١ / ١٤١٣.

٣٩٦

خفائه عليه فيتغيّر رأيه.

ثمّ ذكر الإمام الأشعري بعد صفحتين قوله : افترقت الرافضة هل الباري يجوز أن يبدو له إذا أراد شيئاً أم لا؟ على ثلاث مقالات ثمّ فسرها. (١)

إنّ الإمام الأشعري كان يعيش في البصرة وبغداد ويتردد بينهما ، والبصرة مرفأ الكلام والمقالات ، ولو رجع إلى علماء الشيعة فيها وفي بغداد لكشفوا له عن حقيقة البداء.

والعجب انّه ينسب البداء بالمعنى الباطل إلى كلّ الشيعة ثمّ يأتي بخلافه بعد صفحتين ويقول :

والفرقة الثانية منهم يزعمون أنّه لا يجوز وقوع النسخ في الأخبار ، وأن يخبر الله سبحانه انّ شيئاً يكون ثمّ لا يكون ، لأنّ ذلك يوجب التكذيب في أحد الخبرين.

إنّ المتوقّع من شيخ الأشاعرة هو نزاهة القلم ورعاية الأدب ، فكان اللائق أن لا يعبّر عن الشيعة بالرافضة ، فانّه من أوضح مصاديق قوله سبحانه : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). (٢)

وأسوأ من ذلك ما ارتكبه المعلّق في تعاليقه من لعن الرافضة وتقبيحهم.

غفر الله ذنوب الجميع.

إنّ الشيعة ليسوا إلاّ نفس المسلمين في صدر الإسلام ، ويمتازون عمّن سواهم بأنّهم بقوا على وصية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حقّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ أحد الثقلين وعدل القرآن الكريم كما جاء على لسان الصادق الأمين ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث الثقلين

__________________

(١) لاحظ مقالات الإسلاميين : ١٠٧ ، ١٠٩ ، ١١٩.

(٢) الحجرات : ١١.

٣٩٧

الذي رواه أصحاب الصحاح والسنن (١) ، وتبعهم التابعون منهم إلى يومنا هذا ، فلا وجه لتفريقهم عن المسلمين بهذه الكلمات اللاذعة.

٣. فخر الدين الرازي (المتوفّى ٦٠٦ ه‍)

إنّ الإمام الرازي كأسلافه تبع ظاهر حرفية لفظ «البداء» ونسبه إلى الشيعة ثمّ ناقشه ، بل ردّ عليه بعنف ، مع أنّه كان رازي المولد وكان موطنه معقل الشيعة ، ومن مقاربي عصره المفسّر الكبير أبو الفتوح الرازي مؤلف «روض الجنان في تفسير القرآن» في عشرة أجزاء (المتوفّى حوالي سنة ٥٥٠ ه‍) ، ومن معاصريه الشيخ محمود الحمصي المتكلّم الكبير الذي يذكر اسمه في تفسيره عند تفسير قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). (٢)

ومع ذلك فقد وضع من عنده للبداء تفسيراً خاطئاً جعله أساساً للردّ على الشيعة وأتى في خاتمة المحصل بما يحكى عن سليمان بن جرير الزيدي أنّه قال : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، لا يظفر معهما أحد عليهم ، الأوّل : القول بالبداء ، فإذا قالوا : إنّه سيكون لهم قوّة وشوكة ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا : بدا الله تعالى فيه. (٣)

إنّ المترقّب من فخر الدين الرازي أن لا يصدر إلاّ عن دليل ، وهذا التفسير الذي وضعه للبداء ممّا اخترعه خصوم الشيعة ، ولا يحتجّ به وقد علمت نصوص

__________________

(١) راجع صحيح الترمذي : ٥ / ٣٢٨ ح ٣٨٧٤ ؛ مسند أحمد : ٥ / ١٨٢ و ١٨٩ ؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم : ٣ / ١٤٨ ، وغيرها كثير.

(٢) مفاتيح الغيب : ١٠ / ١٤٥. والآية ٥٩ من سورة النساء.

(٣) تلخيص المحصّل : ٤٢١.

٣٩٨

علمائهم.

وأعجب من ذلك تعبيره اللاذع بأنّ أئمّة الشيعة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، فهل يريد بذلك أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ من الباقر والصادق والكاظم والرضا ـ عليهم‌السلام ـ الذين هم أتقى الناس وأعلاهم شأناً ، وأبرأ الناس من الكذب والحيلة والخدعة ، وقد أثنى فخر الدين نفسه على أئمّة الشيعة في كتابه عند تفسير سورة الكوثر حيث قال :

الكوثر أولاده ، لأنّ هذه السورة إمّا نزلت ردّاً على من عابه ـ عليه‌السلام ـ بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يعبأ به ، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا ـ عليهم‌السلام ـ والنفس الزكية وأمثالهم. (١) وبذلك يصدق المثل السائر : «لا ذاكرة لكذوب»!!

٤. أبو زهرة وهفوته في تفسير البداء

ولعلّ خطأ البلخي والأشعري والرازي في تفسير البداء ليس بخطير ، لأنّ ظروفهم كانت تحكم ضد الشيعة وتعكس عقائدهم حسب ميول الحكام والخلفاء ، ولكن بعد ما انكشفت الحقائق وارتفعت الحواجز وسهل الاطّلاع على عقائد الآخرين لا تُغتفر أيّة زلّة في تفسير عقائد الآخرين.

وهذا هو العلاّمة المفضال الشيخ أبو زهرة المصري خريج الأزهر والباحث الكبير في القرن الماضي (المتوفّى ١٣٩٦ ه‍) فقد خدم المكتبة العربية ببيانه وقلمه وكتبه ، وخدماته مشكورة ، غير أنّ له ردّاً هادئاً بالنسبة إلى البداء في

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ٣١ / ١٢٤.

٣٩٩

عقيدة الشيعة حيث إنّه نقل نظريّتهم عن تعليقة المحقّق الزنجاني على كتاب «أوائل المقالات في المذاهب المختارات» (١) ، وعلّق عليه بما نذكره بنصّه :

إنّ البداء بمعنى أن ينزل بالناس ما لم يحتسبوا ويقدّروا كالغنى بعد الفقر ، والمرض بعد العافية ، فهذا موضع اتّفاق بين الشيعة والسنّة ولكنّهم يقولون : من البداء الزيادة في الآجال ، والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ، ولا شكّ أنّ الزيادة في الآجال إن أُريد بالزيادة ما قدّره الله تعالى في علمه الأزلي ، والزيادة عمّا قدّر ، فذلك يقتضي تغيير علم الله ، وإن أُريد بالزيادة عمّا يتوقّعه الناس فذلك ممّا ينطبق عليه قول الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). (٢)

وعلى ذلك نقول : إن كان البداء في ما يحتسبه الناس ويقدّرونه فيجيء الأمر على خلاف ما توقّعوا فانّ ذلك موضع إجماع ، وإن كان البداء هو التغيير في المقدور فذلك ما لم يقله أحد من أهل السنّة ، لأنّه تغيير لعلمه وذلك لا يجوز. (٣)

يلاحظ على ما ذكره : من أنّ ما يدّعيه الشيعة الإمامية من زيادة الآجال والأرزاق والنقصان بالأعمال ممّا لا يتفردون به ، فقد عرفت أنّ أهل السنّة قالوا به كما يظهر من الروايات التي رواها أئمّة أهل الحديث ومن كلمات المفسّرين ، وقد مرّ قول بعضهم من أنّ قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) عام وليس بخاص هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ الزيادة في الآجال والأرزاق تغيّر التقدير ولكن لا تحدث التغيّر في علم الله ، ومنشأ الخلط هو جعل تقديره سبحانه نفس علمه تعالى ، وتوهّم انّ التغيير في الأوّل يوجب التغيير في الثاني ، مع أنّ مركز التغيير هو لوح المحو

__________________

(١) لاحظ ص ٩٤ ترى فيها نصّه.

(٢) الزمر : ٤٧.

(٣) الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٤٠٠