الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

المتكلّم

أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً ، ويبدو أنّ البحث في هذا الوصف هو أوّل مسألة في تاريخ علم الكلام طرحت على طاولة البحث ، وقد شغلت المسألة بال المُفكرين والمتكلّمين في أعصار مختلفة ، وقد تناولوها بالبحث من زاويتين :

١. ما معنى كونه سبحانه متكلّماً؟ وهل هو من صفات الذات كالعلم والقدرة ، أو من صفات الفعل كالخلق والرزق؟

٢. هل كلامه سبحانه حادث أو قديم؟

وقد سبّب البحث في كون كلامه حادثاً أو قديماً صدامات سجّلها التاريخ في طياته وعُرِفتْ بمحنة خلق القرآن ، وها نحن نتناول كلاً من الموضوعين بالبحث :

معنى كونه سبحانه متكلّماً

اختلفت كلمتهم في تفسير كونه سبحانه متكلّماً بعد اتّفاقهم على أصل الوصف ، وقد تضافرت النصوص عليه ، وإليك ما ورد في الذكر الحكيم :

١. (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ). (١)

__________________

(١) البقرة : ٢٥٣.

٣٢١

٢. (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). (١)

٣. (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ). (٢)

٤. (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). (٣)

وقد بيّن سبحانه في الآية الأخيرة انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو الأقسام التالية :

أ. (إِلاَّ وَحْياً).

ب. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

ج. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً).

وإليك تفسير الأقسام الثلاثة :

١. (إِلاَّ وَحْياً) إشارة إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء.

٢. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) إشارة إلى الكلام الذي سمعه موسى ـ عليه‌السلام ـ في البقعة المباركة ، أعني قوله سبحانه : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (٤)

٣. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) إشارة إلى الإلقاء بتوسيط ملك الوحي وأمينه ، قال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). (٥)

__________________

(١) النساء : ١٦٤.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) الشورى : ٥١.

(٤) القصص : ٣٠.

(٥) الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤.

٣٢٢

وحصيلة الآيات : انّ الله سبحانه يوحي إلى أنبيائه ورسله بصور مختلفة.

تارة بلا واسطة بالإلقاء في الروع.

وأُخرى بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يُرى المتكلّم.

وثالثة بواسطة الرسول : أمين الوحي.

إذا عرفت نصوص الآيات حول تكلمه سبحانه ومفاهيمها ، فلنذكر الآراء المختلفة حول تكلّمه تعالى.

٣٢٣

١

 نظرية المعتزلة

ذهبت المعتزلة إلى أنّ كلامه أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي ، وقد صرّح بذلك القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في القرن الخامس فقال : حقيقة الكلام ، الحروف المنظومة ، والأصوات المقطعة ، وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره ، ورازقاً برزق يوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره ، وليس من شرط الفاعل أن يحل عليه الفعل. (١)

والظاهر انّ كونه سبحانه متكلّماً بهذا المعنى لا خلاف فيه ، إنّما الكلام في حصر تكلّمه في هذا المعنى ، قال السيّد الشريف عميد الأشاعرة في القرن التاسع في شرح المواقف : «هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره ، بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ، ولكن نثبت أمراً وراء ذلك. (٢)

ولكن يرد على هذه النظرية أنّها تفسر الكلام الذي يخاطب به سبحانه شخصاً من أوليائه ، وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص فلا بدّ أن يكون لكلامه معنى آخر ، إذ لا معنى للخطاب بالأصوات والألفاظ دون أن يكون هناك مخاطب إلاّ أن يكون كلامه سبحانه محصوراً في هذا القسم ، وسيوافيك عدم صحّته.

__________________

(١) شرح الأُصول للقاضي عبد الجبار : ٥٢٨ ؛ شرح المواقف للسيد الشريف : ٤٩٥.

(٢) شرح المواقف : ١ / ٧٧.

٣٢٤

٢

 نظرية الحكماء

وهناك نظرية ثانية تفسر معنى كونه متكلّماً خصوصاً فيما إذا لم يكن هناك مخاطب خاص ، وحاصل هذه النظرية هو ما يلي :

إنّ الكلام في أنظار عامة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلم ، القائمة به ، وهو يحصل من تموج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه. ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسع في إطلاقه ، فيطلق الكلام على الخطبة المنقولة أو الشعر المرويّ عن شخص ، ويقول : هذا كلام النبي أو خطبة الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ ، مع أنّ كلامهما قد زال بزوال الموجات والاهتزازات ، وما هذا إلاّ من باب التوسع في الإطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المروي والمنقول.

وعلى هذا فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه من إبراز ما يكتنفه الفاعل في باطنه من المعاني والحقائق ، تصحّ تسميته كلاماً من باب التوسع والتطوير.

والذي يقرب ذلك انّ المصباح وضع حينما وضع على مصداق بسيط لا يعدو الغصن المشتعل ، ولكن لمّا كان أثره ـ وهو الإنارة ـ موجوداً في الجهاز الزيتي والغازي والكهربائي أُطلق على الجميع ؛ فإذا صحت تلك التسمية وجاز ذلك التوسع في لفظ «المصباح» ، يجوز في لفظ «الكلام» ، فهو وإن وضع يوم وضع للأصوات والحروف المتتابعة الكاشفة عمّا يقوم في ضمير المتكلّم من المعاني ، إلاّ

٣٢٥

أنّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات والحروف المتتابعة بنحو أعلى وأتم ، لصحّت تسميته كلاماً أو كلمة. وهذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمّى بالكلام الفعلي ، ففعل كلّ فاعل ، يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم والقدرة والعظمة والكمال. غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر والضمائر اعتبارية ، ودلالة الأفعال والآثار على ما عليه الفاعل والمؤثر من العظمة تكوينية.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بانّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء ويقول : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) (١) ، كما يصف يحيى بها ويقول : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ). (٢)

بل يَعُدّ سبحانه كلّ ما في الكون من كلماته ويقول : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً). (٣)

ويقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ). (٤)

قال أمير المؤمنين وسيّد الموحدين ـ عليه‌السلام ـ في «نهج البلاغة» :

«يُخْبِرُ لا بلسان وَلَهَوات ، وَيَسْمَعُ لا بخُروق وأدوات ، يقول ولا يَلفِظُ ، ويَحْفَظُ وَلا يَتَحَفَّظُ ، ويُريد ولا يُضمِر ، يُحِبّ ويرضى من غير رِقّة ، ويُبْغِضُ ويغضب من غير مشقّة ، يقول لمن أراد كونه : كن. فيكون ، لا

__________________

(١) النساء : ١٧١.

(٢) آل عمران : ٣٩.

(٣) الكهف : ١٠٩.

(٤) لقمان : ٢٧.

٣٢٦

بصوت يَقْرَع ، ولا بِنداء يُسْمَع ، وإنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه ومثَّلَهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً». (١)

وقد نقل عنه ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإنسان :

أتزعم أنّك جرمٌ صغير

وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

وأنت الكتابُ المبين الذي

بأحرُفِهِ يَظْهَرُ المُضْمَرُ

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته ، وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢ / ١٢٢ ، الخطبة ١٧٩ ، ط عبده.

٣٢٧

٣

 نظرية الأشاعرة

إنّ وصف التكلّم في النظريتين الماضيتين عدّ من صفات الفعل ، فهو إمّا بخلق الأصوات والألفاظ يوصف بالتكلّم ، أو بخلق العالم من جواهره وأعراضه يوصف به ، لأنّ فعله يعرب عن كماله الذاتي كما يعرب الكلام اللفظي عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني.

غير أنّ الأشاعرة ذهبت إلى أنّ وصف التكلّم من صفات ذاته كالعلم والقدرة وفسروا معنى كونه متكلّماً بالكلام النفسي ، وقالوا :

إنّ الكلام النفسي غير علمه سبحانه في الإخبار ، وغير إرادته وكراهته في الإنشاء مثلاً ، فإذا قال سبحانه مخبراً :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). (١)

فانّ هناك علماً ، وكلاماً نفسيّاً ، والثاني غير الأوّل.

وإذا قال سبحانه منشئاً حكماً شرعياً إيجابياً : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). (٢) فهناك إرادة وكلام نفسي.

وإذا قال منشئاً نهياً تحريمياً : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ

__________________

(١) التوبة : ١١١.

(٢) البقرة : ٢٣٨.

٣٢٨

 الْمُؤْمِنِينَ). (١)

فهناك كراهة ، وكلام نفسي.

فالأشاعرة ذهبوا إلى أنّ في الجمل الإخبارية ـ وراء العلم ـ وفي الإنشائية كالأمر والنهي ـ وراء الإرادة والكراهة ـ شيء في ذهن كلّ متكلّم سواء أكان واجباً أم ممكناً هو المسمّى بالكلام النفسي وهو الكلام حقيقة.

وأمّا الكلام اللفظي فهو تعبير عن الكلام الواقعي.

وهذا الكلام النفسي في الإنسان حادث يتبع حدوث ذاته ، وفيه سبحانه قديم يتبع قدم ذاته ، وها نحن نأتي بكلمة من أقطاب الأشاعرة في المقام الذي يوضح معنى الكلام النفسي.

قال الفضل بن روزبهان في كتاب نهج الحق : إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلَّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ويقولون هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته ، ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فانّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلف من الحروف والأصوات ، فنقول :

ليرجع الشخص إلى نفسه انّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته انّه يزوِّر ويرتِّب معاني فيعزم على التكلم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فانّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا ، فالمصنف يجد من نفسه هذا البتة ، فها هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول على طريقة الدليل : إنّ الألفاظ التي نتكلم بها لها مدلولات قائمة

__________________

(١) آل عمران : ٢٨.

٣٢٩

بالنفس فنقول هذه المدلولات هي الكلام النفسي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ولكنه ليس شيئاً وراء العلم في الجمل الخبرية ولا غير الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية ، وذلك :

إنّ المعاني التي تدور في خلد المتكلم في الجمل الخبرية ليست إلاّ تصور المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة فيرجع الكلام النفسي إلى التصورات والتصديقات فأي شيء هنا وراء العلم حتّى نسمّيه بالكلام النفسي.

كما أنّه عند ما يرتّب المعاني الإنشائية فلا يرتّب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدّمة له ، كتصور الشيء والتصديق بفائدته ، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة بضميمة تصور أُمور يعدّ من مقدماتهما ، فأي شيء هنا غير الإرادة والكراهة وغير التصور والتصديق حتّى نسمّيه بالكلام النفسي.

وعلى ضوء ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الاخبار ووراء الإرادة والكراهة في الإنشاء مع أنّ الأشاعرة يصرّون على إثبات وصف ذاتي لكلّ متكلّم واجباً كان أو ممكناً وراء العلم والإرادة والكراهة ، ولذلك يقولون : كونه متكلّماً بالذات غير كونه عالماً ومريداً بالذات.

وحصيلة الكلام : انّ الأشاعرة زعموا انّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية والإنشائية وراء التصوّرات والتصديقات في الأُولى ، ووراء الإرادة في الثانية شيئاً يسمّونه الكلام النفسي ، وربّما سمّوا الكلام النفسي في القسم الإنشائي بالطلب مشعرين بتغايره مع الإرادة ، وبذلك صحّحوا كونه سبحانه متكلّماً ، ككونه عالماً وقادراً ، وانّ الكلّ من الصفات الذاتية.

__________________

(١) نهج الحق ، المطبوع في ضمن دلائل الصدق : ١٤٦.

٣٣٠

ولكن البحث والتحليل أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه ، لما عرفت من أنّه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية ، ولا وراء الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية شيء نسمّيه كلاماً نفسياً ، ولو أرادوا بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي ينطبق على لفظه ، يرجع لبه إلى العلم ولا يزيد عليه وإن أرادوا به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناه.

أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا على وجود الكلام النفسي في كلّ متكلّم بوجوه لا تسع الرسالة لذكرها. ونقتصر بذكر دليلين :

الأوّل : العصاة والكفّار مكلَّفون بما كلّف به أهل الطاعة والإيمان بنص القرآن الكريم ، والتكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده ، ولا بدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف ، وهو الذي نسمّيه بالكلام النفسي تارة ، والطلب أُخرى ، فيستنتج من ذلك انّه يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة.

ويجاب عنه بوجهين :

١. إرادته سبحانه لو تعلّقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد ، وأمّا إذا تعلّقت بفعل الغير فبما انّها تعلّقت بالفعل الصادر عن العبد عن حرية واختيار ، فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد ، فإن أراد واختار العبد يتحقّق الفعل ، وإن لم يرد فلا يتحقّق.

وبعبارة أُخرى : لم تتعلّق مشيئته سبحانه بصدور الفعل من العبد على كلّ تقدير ، أي سواء أراده أم لم يرده ، وإنّما تعلّقت بصدوره منه بشرط سبق الإرادة ، فإن

٣٣١

سبقت يتحقّق الفعل وإلاّ فلا.

٢. انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن مراده مطلقاً من غير فرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.

أمّا الأُولى ، فلو تعلّقت إرادته بإيجاد الشيء مباشرة أو من طريق الأسباب يتحقّق لا محالة ، قال سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (١)

وأمّا الثانية ، فلا بد من إمعان النظر في متعلّق الإرادة ، فانّ متعلّقها في الإرادة التشريعية هو الإنشاء والبعث أو الزجر والتنفير وهو متحقّق في جميع عوامله ونواهيه ، سواء امتثل العبد أم خالف.

وأمّا فعل العبد أو انتهاؤه فليسا متعلّقين بالإرادة التشريعية في أوامره ونواهيه ، فتخلّفها لا يعدّ نقضاً للقاعدة ، لأنّ فعل الغير لا يكون متعلّقا لإرادة أحد ، لعدم كون فعل الغير في اختيار المريد ، ولأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ الإرادة التشريعية إنّما تتعلّق بفعل النفس ، أي إنشاء البعث والزجر لا فعل الغير.

الثاني : انّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلماً هو خلق الكلام ، فلا يكون ذلك الوصف قائماً به فلا يقال لخالق الكلام متكلم.

يلاحظ عليه : أنّ قيام المبدأ بالفاعل ليس منحصراً بالقيام الحلولي ، بل له أقسام :

١. القيام الصدوري ، كالقتل والضرب في القاتل والضارب.

٢. القيام الحلولي ، كالعلم والقدرة في العالم والقادر.

__________________

(١) يس : ٨٢.

٣٣٢

٣. القيام الانتسابي ، كما في اللابن والتامر.

إلى غير ذلك من أنواع القيام ، فالتكلّم كالضرب ليس من المبادئ الحلولية في الفاعل ، بل من المبادئ الصدورية ، فلأجل انّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه انّه متكلّم وزان إطلاق الرازق والخالق والمميت والمحيي.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية : انّ تفسير وصفه سبحانه بكونه متكلماً إنّما يصحّ بكلا الوجهين الأوّلين :

١. كونه خالقاً للكلام في الخارج بنحو من الأنحاء.

٢. كون فعله مطلقاً كلام له.

وأمّا تفسير كلامه بالكلام النفسي فغير صحيح.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وحان البحث في المقام الثاني ، أي في حدوثه وقدمه الذي شغل بال المحدّثين والمتكلّمين عبر القرون.

٣٣٣

٢

 في حدوث كلامه سبحانه أو قدمه

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

١. مبدأ فكرة قدم القرآن

الفتوحات الإسلامية أوجبت اختلاط المسلمين بغيرهم وصارت مبدأ لاحتكاك الثقافتين الإسلامية والأجنبية ، وفي ذلك الخضمّ المشحون بتضارب الأفكار طُرِحت مسألة تكلّمه سبحانه في الأوساط الإسلامية. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، كان الخلفاء يروّجون الخوض في المسائل العقائدية حتّى تنصرف الطبقة الفاضلة عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم.

فالمهم في المقام التنبيه على مصدر هذه الفكرة (قدم القرآن أو حدوثه) فنقول : إنّ البحث في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، حادثاً أو قديماً ممّا أثاره النصارى الذين كانوا في بلاط البيت الأُموي ، وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي (المتوفّى ١١٢ ه‍) الذي كان يشكّك المسلمين في دينهم ، فبما انّ القرآن عدّ عيسى بن مريم (كلمة الله) حيث قال : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) صار ذلك وسيلة لئن يبثّ هذا الرجل بين المسلمين قدم «المسيح» عن طريق خاص ، وهو أنّه كان يسألهم : أكلمة الله قديمة أو لا؟

٣٣٤

فإن قالوا : قديمة.

قال : ثبت دعوى النصارى بأنّ عيسى قديم ، لأنّه كلمة الله حسب تعبير كتابكم.

وإن قالوا : لا.

قال : زعمتم انّ كلامه مخلوق (أي مختلق).

فهو يجعل المسلمين على مفترق طريقين :

١. القرآن إمّا قديم ، فعندئذ يثبت نظرية النصارى في المسيح ، لأنّه كلمة الله حسب تنصيص القرآن ، والكلام والكلمة قديم ، فثبت انّ عيسى المسيح قديم.

٢. أو مخلوق ، أي مختلق مكذوب على الله.

وبهذه القضية المنفصلة هيمن على السُّذّج من الناس وجرّ المحدِّثين إلى القول بأنّ القرآن قديم حذراً من كونه مختلقاً.

وقد غاب عنهم أوّلاً : انّ نقيض قولهم : القرآن قديم ، هو كونه حادثاً ، والقول بالحدوث لا يترتب عليه أي فساد.

وثانياً : انّ قولهم مخلوق ليس بمعنى «مختلق» ، أعني : ما يومي إليه قول القائل الذي حكاه سبحانه في كتابه (إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) (١) ، بل بمعنى انّه مخلوق لله سبحانه أنزله بعلمه على قلب سيّد المرسلين ، فلا فرق بين القرآن وسائر الموجودات في أنّ الجميع مخلوق له سبحانه.

وممّا يؤيد انّ فكرة قدم القرآن تعود إلى أهل الكتاب ما رواه ابن النديم في

__________________

(١) المدثر : ٢٥.

٣٣٥

فهرسته قال : قال أبو العباس البغوي : دخلنا على «فثيون» النصراني وكان دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب (الذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله).

فقال : «رحم الله عبد الله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزاوية وأشار إلى ناحية من البيعة وعنّي أخذ هذا القول (كلام الله هو الله) ولو عاش لنصّرنا المسلمين».

قال البغوي : وسأله محمد بن إسحاق الطالقاني ، فقال : ما تقول في المسيح؟ قال : ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن. (١)

وعلى ذلك فالمسألة مستوردة وليست ناجمة من صميم الدين وأُصوله وقد طرحت في أوائل القرن الثاني في عصر المأمون وامتدت إلى عصر المتوكّل وما بعده.

٢. واجب أهل الحديث ، السكوت في هذه المسائل

إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله ، فما جاء فيها يؤخذ به وما لم يجئ فيها يُسكت عنه ولا يبحث فيه ، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرّمون علم الكلام ويمنعون البحث عن كلّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.

وعلى هذا كان اللازم على أهل الحديث السكوت وعدم النبس ببنت شفة في هذه المسألة ، لأنّ البحث فيها حرام على أُصولهم ، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أو حدوثه ، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله ولا عن أصحابه ، ومع الأسف

__________________

(١) فهرست ابن النديم : ٢٣ ، الفن الثالث من المقالة الخامسة.

٣٣٦

كان موقفهم وفي مقدمهم أحمد بن حنبل موقف الإيجاب وتكفير المخالف.

٣. طرح المسألة في ظروف عصيبة

إنّ تاريخ البحث عن حدوث القرآن وقدمه يعرب عن أمرين :

أ. انّ المسألة طرحت في جو غير هادئ ، ولم يكن البحث لغاية كشف الحقيقة وابتداعها ، بل كلّ يصرّ على إثبات مدّعاه.

ب. لم يكن موضوع البحث منقَّحاً حتّى يتوارد عليه النفي والإثبات ، وانّهم لما ذا يفرّون من القول بحدوث القرآن؟ ولما ذا يكفّرون القائل به؟ أهم يريدون من قدم القرآن ، قدم الآيات التي يتلوها القارئ أو النبي أو أمين الوحي؟ أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه؟ أو يريدون قدم علمه سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات التي سيوافيك مع أنّهم لم يركّزوا البحث على واحد منها.

إذا علمت هذه الأُمور فلنرجع إلى تحليل القول بحدوث القرآن وقدمه ، فنقول :

تحليل مسألة القول بقدم القرآن

إنّ محط النزاع لم يُحدد بشكل واضح يقدر الإنسان معه على القضاء فيه ، فهاهنا احتمالات يمكن أن تكون محطّ النظر لأهل الحديث والأشاعرة نطرحها على بساط البحث ونطلب حكمها من العقل الحصيف والقرآن الكريم :

١. الألفاظ والجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها ، وقد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم ، وقرأها الرسول فتلقّتها الأسماع وحرّرتها الأقلام على الصحف المطهرة. فهي ليست بمخلوقة على الإطلاق لا لله سبحانه ولا لغيره.

٣٣٧

٢. المعاني السامية والمفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين والتشريع والحوادث والأخلاق والآداب وغيرها الواردة في القرآن.

٣. ذاته سبحانه وصفاته من العلم والقدرة والحياة التي بحث عنها القرآن وأشار إليها بألفاظه وجُمَلِه.

٤. علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.

٥. الكلام النفسي القائم بذاته.

٦. القرآن ليس مخلوقاً للبشر وإن كان مخلوقاً لله.

وهذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم ، بل تطّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه ورسله.

وإليك بيان حكمها من حيث الحدوث والقدم.

أمّا الأوّل : فلا أظن أنّ إنساناً يملك شيئاً من الدَّرْك والعقل يعتقد بكونها غير مخلوقة أو كونها قديمة ، كيف وهي شيء من الأشياء ، وموجود من الموجودات ، ممكن غير واجب. فإذا كانت غير مخلوقة وجب أن تكون واجبة بالذات وهو نفس الشرك بالله سبحانه وحتّى لو فُرض أنّه سبحانه يتكلّم بهذه الألفاظ والجمل ، فلا يخرج تكلُّمه عن كونه فعله ، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم؟!

وأمّا الثاني : فهو قريب من الأوّل في البداهة ، فإنّ القرآن ـ وكذا سائر الصحف ـ يشتمل على الحوادث المحقَّقة في زمن النبي من مُحاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أو المُسرّة ، فهل يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ

٣٣٨

 فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). (١) قديمة؟

وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن والصحف السماوية عمّا جرى على أنبيائه من الحوادث وما جرى على سائر الأُمم من ألوان العذاب ، كما أخبر عمّا جرى في التكوين من الخلق والتدبير ، فهذه الحقائق الواردة في القرآن الكريم ، حادثة بلا شكّ ، لا قديمة.

وأمّا الثالث : فلا شكّ أنّ ذاته وصفاته من العلم والقدرة والحياة وكلّ ما يرجع إليها كشهادته أنّه لا إله إلاّ هو ، قديم بلا إشكال وليس بمخلوق بالبداهة ، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن ، بل كلّ ما يتكلّم به البشر ويشير به إلى هذه الحقائق ، فالمشار إليها بالألفاظ والأصوات قديمة ، وفي الوقت نفسه ما يشار به من الكلام والجمل حادث.

وأمّا الرابع : أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب وما ليس فيها ، فلا شكّ أنّه قديم نفس ذاته. ولم يقل أحد من المتكلّمين الإلهيين ـ إلاّ من شذّ من الكرّامية ـ بحدوث علمه.

وأمّا الخامس : أعني كونه سبحانه متكلّماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف الأصوات ، مغاير للعلم والإرادة ، فقد عرفت أنّ ما سمّاه الأشاعرة كلاماً نفسيّاً لا يخرج عن إطار العلم والإرادة ، ولا شكّ أنّ علمه وإرادته البسيطة قديمان.

وأمّا السادس : وهو أنّ الهدف من نفي كونه غير مخلوق ، كون القرآن غير مخلوق للبشر ، وفي الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه ، فهذا أمر لا ينكره مسلم. فإنّ القرآن مخلوق لله سبحانه والناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله.

__________________

(١) المجادلة : ١.

٣٣٩

قال سبحانه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (١)

وهذا التحليل يُعرِبُ عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مُشَوّشة وقد اختلط فيها الحابُل بالنابِل ، ولم يكن محط البحث محرّراً على وجه الوضوح حتّى يعرف المُثْبَت عن المَنْفي ، ويُمخض الحق من الباطل.

موقف أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في هذه المسألة

إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأنّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك ، بل استغلت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ منعوا أصحابهم من الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الرّيّان بن الصَّلْت الإمام الرضا ـ عليه‌السلام ـ وقال له : ما تقول في القرآن؟

فقال ـ عليه‌السلام ـ : «كلامُ الله لا تَتَجاوَزُوهُ وَلا تَطْلبوا الهُدى في غَيرِه ، فَتَضِلّوا». (٢)

وروى علي بن سالم عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمد ـ عليه‌السلام ـ فقلت له : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟

فقال : «هو كلامُ الله ، وقولُ الله ، وكتابُ الله ، ووحيُ الله ، وتنزيلُه. وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يَدَيْه ولا من خلفه ، تنزيلٌ من حكيم حميد». (٣)

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) التوحيد للصدوق ، باب القرآن ما هو ، الحديث ٢ ، ص ٢٢٣.

(٣) التوحيد ، للصدوق ، باب القرآن ، الحديث ٣ ، ص ٢٢٤.

٣٤٠