الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

فنأخذ حكم مثل هذه الألفاظ. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : من أين ادّعى انّ الكتاب والسنّة أثبت العلو لله الذي هو مساوق للجهة ، فإن أراد قوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فقد حقّق في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض ، وعدم عجزه عن التدبير ، وأين هو من إثبات العلوّ لله؟! وقد أوضحنا مفاد هذه الآيات في أسفارنا الكلامية. (٢)

وإن أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسّمة والمشبّهة ، فكلّها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين يرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ.

ثانياً : إذا افترضنا صحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض ، فكيف يكون محيطاً بكل شيء وموجوداً مع كلّ شيء؟! (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٣) فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلام الله على التجسيم ، ولعلّ شاعر المعرة تمنّى الموت أمام هذه الأقوال والآراء وقال :

يا موت زر إنّ الحياة ذميمة

ويا نفس جدي إنّ دهرك هازل

أقول : إنّ الذي تستهدفه رسالات السماء كان يتلخّص في توحيده سبحانه وأنّه واحد لا نظير له ولا مثيل أوّلاً ، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات

__________________

(١) رؤية الله تعالى : ٦١ ، نشر معهد البحوث العلمية في مكة المكرمة.

(٢) الإلهيات : ١ / ٣٣٠ ـ ٣٤٠.

(٣) الحديد : ٤.

٢٢١

والموجودات ثانياً.

لكنّ لفيفاً من أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين ؛ فقالوا بحماس بقدم القرآن وعدم حدوثه ، فأثبتوا بذلك مِثْلاً لله في الأزلية وكونه قديماً كقدمه سبحانه.

وأثبتوا لله سبحانه العلو والجهة اغتراراً ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة ، فأبطلوا بذلك تنزيهه سبحانه وتعاليه عن مشابهة المخلوقات.

فخالفوا رسالات السماء في موردين أصليّين :

١. التوحيد ، بالقول بقدم القرآن. (١)

٢. التنزيه بإثبات الجهة والرؤية.

(كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً). (٢)

__________________

(١) القول بقدم القرآن غير القول بقدم علمه سبحانه ،. فلا يختلط عليك الأمر.

(٢) النحل : ٩٢.

٢٢٢

٤

موقف الذِّكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالاً

إنّ الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى أنّه منزّه عن الجسم والجسمانية ، وأنّه ليس له مثل ولا نظير ، ولا ندّ ولا كفو ، وأنّه محيط بكل شيء ، ولا يحيطه شيء ، إلى غير ذلك من الصفات المنزّهة التي يقف عليها الباحث عند جمع الآيات الواردة في هذا المجال ، وبدورنا نشير إلى بعض منها :

قال سبحانه :

١. (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (١)

٢. (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). (٢)

٣. (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٣)

٤. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) الإخلاص : ١ ـ ٤.

(٣) الحديد : ٣.

٢٢٣

 يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (١)

٥. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). (٢)

٦. (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (٣)

٧. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٤)

٨. (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). (٥)

٩. (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). (٦)

١٠. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (٧)

وحصيلة هذه الآيات أنّه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل ، وهو أحد لا كفو له ، لم يلد ولم يولد بل هو أزليّ ، فبما أنّه أزليّ الوجود ، فوجوده قبل كل شيء أي

__________________

(١) الحديد : ٤.

(٢) الحشر : ٢٣.

(٣) الحشر : ٢٤.

(٤) المجادلة : ٧.

(٥) فصلت : ٥٤.

(٦) البقرة : ٢٥٥.

(٧) الأنعام : ١٠٣.

٢٢٤

لا وجود قبله ، وبما أنّه أبديّ الوجود فهو آخر كل شيء إذ لا وجود بعده ، وبما أنّه خالق السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده فهو باطن كل شيء ، كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده فهو ظاهر كل شيء.

لا يحويه مكان لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان ، فكانَ قبل أن يكون أيّ مكان ، وبما أنّ العالم دقيقه وجليله ، فقير محتاج إليه قائم به ، فهو مع الأشياء معيّة قيومية لا معيّة مكانية ، ومع الإنسان أينما كان. فلا يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا وذلك مقتضى كونه قيّوماً وما سواه قائماً به ، ولا يمكن للقيوم الغيبوبة عمّا قام به ، وفي النهاية هو محيط بكل شيء لا يحيطه شيء ، فقد أحاط كرسيّه السماوات والأرض ، فالجميع محاط وهو محيط ، ومن كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أُفقها ولكنّه لكونه محيطاً ، يدرك الأبصار.

هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناها على وجه الإيجاز وأوردناها بلا تفسير. وقد ثبت في محله أنّ من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صحّ السند ، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح ، فمن تلا هذه الآيات وتدبّر فيها ، يحكم بأنّه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه ؛ وعند ذلك لو قيل له : إنّه جاء في الأثر أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تضامون في رؤيته (١) ، يتلقّاه أمراً مناقضاً لما تلا من الآيات

__________________

(١) البخاري : الصحيح : ٤ / ٢٠٠.

٢٢٥

أو استمع إليها ، ويحدث في نفسه ويقول : الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني ، لا يحويه مكان ، محيط بالسماوات والأرض كيف يُرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنّه كان ولا علو ولا جهة ، بل هو خالقهما؟! وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكل شيء؟!

ولا يكون التناقض بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنّه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة ، وكلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين ، لا يستطيع أن يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية ، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الكلامية والمحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين ، فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ والمحسوسات ، منزّه عن الجهة والمكان ، محيط بعوالم الوجود ، وفي نفس الوقت تنزّله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات ، واقعاً بمرأى ومنظر من الإنسان يراه ويبصره كما يبصر البدر ، يشاهده في أُفق عال؟! وقد تعرّفت على أنّ السهولة في العقيدة وخلوّها من الألغاز هو من سمات العقيدة الإسلامية ، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه سبحانه واحداً وثلاثاً.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما طرحها باستعظام من أن ينالها الإنسان ويتلقّى سؤالها وتمنّيها من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلّعاً إلى ما هو دونه.

١. قال سبحانه : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ

٢٢٦

 تَشْكُرُونَ). (١)

٢. وقال سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً). (٢)

٣. وقال سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (٣)

٤. وقال سبحانه : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ). (٤)

فالمتدبّر في هذه الآيات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبّحه ويعدّ الإنسان قاصراً عن أن ينالها على وجه ينزل العذاب غبَّ سؤالها. فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقت آخر لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا ، ولكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثم يحييهم بدعاء موسى ، كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية وأُجيب بالمنع ، تاب إلى الله سبحانه وقال : (أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنّك

__________________

(١) البقرة : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) النساء : ١٥٣.

(٣) الأعراف : ١٤٣.

(٤) الأعراف : ١٥٥.

٢٢٧

لا تُرى. فإذا كانت الرؤية نعمة عظمى كما يدّعيها القوم ، فلا وجه لنزول العذاب عند طلبها ، غاية الأمر يجاب السائل بعدم الإمكان في الدنيا.

فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد ، بل وإماتة وإنزال عذاب يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابلية الإنسان ، وطلبه إليها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال.

فعند ذلك لو قيل للمتدبّر بالآيات : إنّه روى قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير وقال : خرج علينا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ليلة البدر فقال : «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» (١) ؛ يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات ، ويحدِّث نفسه أنّه كيف صار الأمر الممتنع أمراً ممكناً ، والإنسان غير المؤهّل للرؤية مؤهّلاً لها؟!

__________________

(١) البخاري : الصحيح : ٤ / ٢٠٠.

٢٢٨

٥

 الرؤية في الذكر الحكيم تفصيلاً

الآية الأُولى : عدم قدرة الأبصار على إدراكه

قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالاً ، وانّه يعد طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً قبيحاً موجباً لنزول الصاعقة والعذاب ، فالآيات السابقة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال ، غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات ، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل. وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق حتّى نتأكد ممّا فهمنا من الكتاب العزيز ، وإليك البيان :

قال سبحانه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (١)

تقرير الاستدلال يتم في مرحلتين :

__________________

(١) الأنعام : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٢٢٩

المرحلة الأُولى : في بيان مفهوم الدرك

الدرك في اللغة : اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ، ولو أريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينية المتعلّق.

قال ابن فارس : الدرك له أصل واحد (أي معنى واحد) وهو لحوق الشيء بالشيء ووصوله إليه ، يقال : أدرك الغلام والجارية إذا بلغا ، وتدارك القوم : لحق آخرهم أوّلهم. (١)

وذكر ابن منظور نحو ما ذكره ابن فارس وأضاف : ففي الحديث أعوذ بك من درك الشقاء أي لحوقه ، يقال : مشيت حتّى أدركته ، وعشت حتّى أدركته ، وأدركته ببصري أي رأيته. (٢)

ومنه قوله سبحانه : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ). (٣) أي حتّى إذا لحقهم الغرق فأظهروا الإيمان ولات حين مناص.

إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فدرك كلّ شيء ووصوله بحسبه ، فالإدراك بالبصر ، التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر ، والإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور مشيت حتى أدركت ، التحاق الماشي المتأخر بالمتقدّم بالمشي ، وهكذا.

فإذا قال سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يتعيّن ذلك المعنى الكلّي ، أي اللحوق والوصول بالرؤية ، ويكون المعنى انّ الأبصار لا تلحق بالله بالرؤية ، فإنّ لحوق البصر يتحقّق عن طريق الرؤية ، وهذا الوصف ممّا تفرّد به سبحانه.

__________________

(١) مقاييس اللغة : ٢ / ٣٦٦.

(٢) لسان العرب : ١٠ / ٤١٩ ، نفس المادة.

(٣) يونس : ٩٠.

٢٣٠

الثانية : في مفهوم الآيتين

إنّه سبحانه لما قال : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ربّما يتبادر إلى بعض الأذهان انّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء ، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية ، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

ولما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان انّه إذا تعالى عن تعلّق الابصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط علمه بمخلوقاته ، دفعه بقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مشيراً إلى وجود الربط الذي هو مناط علمه بهم.

ثمّ علّله بقوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) و «اللطيف» هو الرقيق النافذ في الشيء ، و «الخبير» من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء كان شاهداً على كلّ شيء لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه ، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء.

وبعبارة أُخرى : انّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف :

١. ما يَرى ويُرى ، كالإنسان.

٢. ما لا يَرى ولا يُرى ، كالأعراض النسبية كالأُبوّة والبنوة.

٣. ما يُرى ولا يَرى كالجمادات.

٤. ما يَرى ولا يُرى ، وهذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنّه يَرى ولا يُرى ، والآية بصدد مدحه وثنائه ، بأنّه جمع بين الأمرين يَرى ولا يُرى إلاّ بالشقّ

٢٣١

الأوّل وحده نظير قوله سبحانه : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ). (١) ودلالة الآية على انّه سبحانه لا يُرى بالأبصار بمكان من الوضوح.

الآية الثانية : الرؤية إحاطة علمية بالله سبحانه

قال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). (٢)

إنّ الآية تتركب من جزءين :

الأوّل : قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).

الثاني : قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

والضمير المجرور في قوله : «به» يعود إلى الله سبحانه.

ومعنى الآية : الله يحيط بهم لأنّه : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ويكون معادلاً لقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ولكنّهم (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ويساوي قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

وأمّا كيفية الاستدلال فبيانها انّ الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزء منه ، نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه ، وقد قال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

__________________

(١) الأنعام : ١٤.

(٢) طه : ١١٠١٠٩.

٢٣٢

الآية الثالثة : ردّ السؤال بنفي الرؤية مؤبّداً

قال سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (١)

لا شكّ إنّنا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النفاة والمثبتين وطلبنا منه أن يبيّن الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها وانّها بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها ، يجيب بصفاء ذهنه بأنّ الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية وانّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحى أثره إلاّ بالتوبة ، ففهم ذلك العربي حجة علينا لا يجوز لنا العدول عنها ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.

كما أنّا إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيراً صناعياً ، فلا شكّ أنّه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها وذلك بوجوه :

١. الإجابة بالنفي المؤبّد

لمّا سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أُجيب ب (لَنْ تَرانِي) والمتبادر من هذه الجملة أي قوله (لَنْ تَرانِي) هو النفي الأبدي الدالّ على عدم تحقّقها أبداً.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

٢٣٣

والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم ، فلا تراها متخلّفة عن ذلك حتّى في مورد واحد.

١. قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). (١)

٢. (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (٢)

٣. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (٣)

٤. (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (٤)

٥. (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). (٥)

٦. (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا). (٦)

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.

٢. تعليق الرؤية على أمر غير واقع

علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي هو عليها عند التجلّي ، وعدم تحوّله إلى ذرات ترابية صغار بعده ، والمفروض انّه لم يبق على حالته السابقة وبطلت هويته وصار تراباً مدكوكاً ، فإذا انتفى المعلّق عليه ينتفي

__________________

(١) الحج : ٧٣.

(٢) التوبة : ٨٠.

(٣) محمد : ٣٤.

(٤) المنافقون : ٦.

(٥) البقرة : ١٢٠.

(٦) التوبة : ٨٣.

٢٣٤

المعلّق ، وهذا النوع من الكلام طريقة معروفة حيث يعلّقون وجود الشيء بما يعلم أنّه لا يكون والله سبحانه بما أنّه يعلم أنّ الجبل لا يستقرّ في مكانه ـ بعد التجلّي ـ فيعلّق الرؤية على استقراره ، حتّى يستدلّ بانتفائه على انتفائه ، قال سبحانه : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ). (١)

٣. تنزيهه سبحانه ـ بعد الافاقة ـ عن الرؤية

تذكر الآية بأنّ موسى لما أفاق فأوّل ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال : (سُبْحانَكَ) ، وذلك لأنّ الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص ، فنزّه سبحانه عنها ، فطلبها نوع تصديق لها.

٤. توبته لأجل طلب الرؤية

إنّه ـ عليه‌السلام ـ بعد ما أفاق ، أخذ بالتنزيه أوّلاً ، والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً ، وظاهر الآية انّه تاب من سؤاله كما أنّ الظاهر من قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنّه أوّل المصدّقين بأنّه لا يُرى بتاتاً.

إجابة عن سؤال

إنّ سؤال الرؤية من الكليم دليل على إمكانها ، فلو كان أمراً محالاً لما سألها.

والجواب عن الشبهة واضح ، فإنّ الاستدلال بطلب موسى إنّما يصحّ إذا طلبها الكليم باختيار ومن دون ضغط من قومه ، فعندئذ يصلح للتمسّك به ظاهراً ، لكن القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حين كانوا مصرّين على ذلك.

__________________

(١) الأعراف : ٤٠.

٢٣٥

ويدلّ عليه قوله سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ). (١)

وبعد ما عادوا إلى الحياة بدعاء موسى طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتّى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم كما حلّ سماعه للوحي سبحانه محلّ سماعهم لكلامه تعالى حتّى يؤمنوا به.

فعند ذاك لم يكن لموسى محيص إلاّ الإقدام على السؤال وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فأجيب بقوله : (لَنْ تَرانِي).

وعلى ذلك ما كان طلب الرؤية إلاّ ليكبت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً وتبرّأ من فعلهم ، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا لا بدّ ولن نؤمن حتّى نرى الله جهرة ، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله : (لَنْ تَرانِي) ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). (٢)

إلى هنا تمت دراسة الآيات الصريحة في امتناع رؤية الله تبارك وتعالى بطرق مختلفة ، ومن أمعن فيها وتجرد عن العقيدة التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لرأى انّ الذكر الحكيم صريح في تعاليه سبحانه عن أن يقع في إطار الرؤية وأنّ طلب الرؤية تمنّي باطل.

__________________

(١) النساء : ١٥٣.

(٢) الزمخشري : الكشاف : ١ / ٥٧٣ ـ ٥٧٤.

٢٣٦

٦

الرؤية في كلمات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام

إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ في التوحيد وما أُثر عن أئمّة العترة الطاهرة في مجال الرؤية ، يقف على أنّ مذهبهم هو امتناعها وانّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف بأبصار العيون؟ وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب.

١. قال الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ في خطبة الأشباح : «الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه». (١)

٢. وقد سأله ذعلب اليماني ، فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «أفأعبد ما لا أرى؟» فقال : وكيف تراه؟ فقال : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد منها غير مباين». (٢)

٣. وقال ـ عليه‌السلام ـ : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر». (٣)

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٧.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٤.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٠.

٢٣٧

إلى غير ذلك من خطبه ـ عليه‌السلام ـ الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به. (١)

وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ فحدث عنه ولا حرج.

١. روى الصدوق عن عبد الله بن سنان ، عن أبيه قال : حضرت أبا جعفر (محمد الباقر) ـ عليه‌السلام ـ فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أيّ شيء تَعبد؟ قال : «الله» ، قال : رأيته؟ قال : «لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يُعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس ، ولا يُشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو» قال : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته. (٢)

٢. روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «جاء حبر إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره ، وقال : كيف رأيته؟ قال : ويلك لا تُدرِكه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». (٣)

٣. ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ في مناظرته مع أحد المحدّثين باسم أبي قرة ، ذكر أبو قرة الحديث الموروث عن الحبر الماكر كعب الأحبار من أنّه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين فقسّم لموسى ـ عليه‌السلام ـ الكلام ولمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الرؤية.

فقال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس إنّه (لا

__________________

(١) لاحظ الخطبتين ٤٨ و ٨١.

(٢) التوحيد : ١٠٨ ، باب ما جاء في الرؤية الحديث ٥ ، والسائل كان من الخوارج.

(٣) التوحيد : ١٠٩ ، الحديث ٦. والسائل أحد أحبار اليهود.

٢٣٨

تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أليس محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟» قال : بلى.

قال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم انّه جاء من عند الله ، وانّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول إنّه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟! أما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر». (١)

__________________

(١) الاحتجاج : ٢ / ٣٧٥.

٢٣٩

٧

شبهات القائلين بالرؤية

إنّ للقائلين بالرؤية في الآخرة شبهات ربّما يغتر بها من ليس له إلمام بالكتاب والسنّة فيتصوّر المغالطة دليلاً ، نذكر منها ما هو المهم ، وهو :

قوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)

استدلّوا على تحقّق الرؤية في الآخرة بهذا المقطع الوارد في الآيات التالية :

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). (١)

يقول المستدل : إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ، ويقال : انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في» ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام» ، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى» فيحمل على الرؤية. (٢)

أقول : سواء أقلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الانتظار أو قلنا بمعنى الرؤية ،

__________________

(١) القيامة : ٢٥٢٠.

(٢) شرح التجريد للقوشجي : ٣٣٤.

٢٤٠