الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

والمناسبات ، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث ، وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدَث وبين القدرة المحدثة (بالكسر) له إذا أراد العبد وتجرد له ، ويسمى هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من الله ، وكسباً من العبد ، عند ما يقع في متناول قدرته واستطاعته ، من غير تعلّقه عليه. (١)

وقد نقل «ذكاء الملك» نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلّية والمعلولية بين الأشياء ، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر ، فذلك إدراك سطحي ، والمُحْدِث هو الله سبحانه ، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك ، ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن ، فالمحرّك هو الله سبحانه وإرادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه.

ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب ، واختلافها بالشدة والضعف. فعندئذ لا معنى لأن يختصّ التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقية.

إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي ، أوّلاً ؛ وصريح الذكر الحكيم ، ثانياً ؛ والفطرة السليمة الإنسانية ، ثالثاً ، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محلّه.

__________________

(١) القضاء والقدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب : ١٨٢.

١٦١

الأمر الرابع التفسير الخاطئ في قسم من الأُصول

قد تعرّفت على التفسير الخاطئ للتوحيد في الخالقية وانّ هذه العقيدة القرآنية كيف فسِّرت بصورة مشوهة حتّى صارت سبباً لانتفاء الغاية من خلق القدرة في الإنسان إلى غير ذلك من المضاعفات التي تعرّفت عليها.

وفي تاريخ العقائد نظائر لهذا الأصل ابتليت بتفاسير خاطئة استوجب توالي فاسدة ، نظير :

١. القضاء والقدر وسعتها لأفعال البشر.

٢. علمه سبحانه بالكائنات وأفعال الإنسان.

٣. البداء وانّ للإنسان أن يغيّر مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة.

٤. التقية التي هي سلاح الضعيف أمام من صادر حرياته.

ونظائرها فانّ كلاً من هذه الأُصول لها دلائل ساطعة في القرآن الكريم والسنّة تعدّ من المعارف العليا في الإسلام ولكنّها مع الأسف الشديد وقعت في إطار تفاسير باطلة صارت سبباً للطعن والغمز.

أمّا القضاء والقدر فقد فسّرا بنحو صارت نتيجته كون الإنسان مكتوف اليد ، أو كالريشة في مهب الريح ، أو كالخشبة في اليم ، أو غير ذلك.

وأمّا الثاني ، فقد جعلوا علمه الوسيع سبباً للجبر وانّه ليس للخاطئ إلاّ ارتكاب الخطأ وإلاّ ينقلب علمه جهلاً.

وأمّا الثالث ، فقد فسروه بظهور ما خفي عليه سبحانه ، وتعالى عن ذلك.

وأمّا الرابع ، فقد جعلوه من فروع النفاق.

فيجب على الباحث أن يستنطق الكتاب والسنة فيها مجرداً عن كلّ رأي

١٦٢

مسبق حتّى يقف على حقائق تلك الأُصول.

وبما انّه قد استوفينا الكلام في هذه الأُصول في عدة من مؤلّفاتنا فلا نجد حاجة إلى تكرارها ، ومن أراد فليرجع إلى الصفحة أدناه. (١)

الأمر الخامس تغيير عنوان المسألة في كتب المتأخّرين

إنّ العنوان الرائج في كتب القدماء هو خلق الأعمال والأفعال ولكن العنوان الموجود بين المتأخرين غير ذلك فهم يعبرون عن المسألة بالعنوان التالي :

إنّ الله قادر على كلّ المقدورات أو انّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحده. (٢)

ولعل التعبير الثاني أفضل ، وذلك لأنّ مادة الخلق لا تنسب إلى الفعل في لغة العرب ، فلا تجد في الكتاب والسنّة ولا عند شعراء العصر الجاهلي من ينسب الخلق إلى الفعل ويقول خلق الأكل أو الشرب.

نعم ورد في القرآن الكريم قول إبراهيم : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٣) فقد نسب الخلق إلى الإفك الذي هو يعدّ فعلاً للإنسان.

ولكن الإمعان في الآية يفسر لنا وجه هذه النسبة ، فانّ الإفك كناية عن الاعتقاد بكون الأصنام إلهاً يُعبد ، فقد صار هذا سبباً لنسبة الخلق إلى الفعل المتجسّم في ضمن «الأوثان» التي يتعلّق بها «الخلق».

__________________

(١) انظر ١. الإلهيات في أربعة أجزاء : الجزء الأوّل والثاني ؛ ٢. مفاهيم القرآن في عشرة أجزاء ، الجزء الأوّل ؛ ٣. الملل والنحل ، الجزء الأوّل والثالث ؛ ٤. مع الشيعة الإمامية في تاريخهم وعقائدهم.

(٢) لاحظ شرح المواقف : ٨ / ١٤٥.

(٣) العنكبوت : ١٧.

١٦٣

وهذا يعرب عن أنّ العنوان الواضح هو ما اختاره المتأخّرون من عمومية قدرته لأفعال العباد.

الأمر السادس في إيضاح الجهمية والنجارية والضرارية

إنّ هذه الطوائف الثلاث من دُعاة القول بالجبر وخلق الأعمال وانّ نصيب العبد من الفعل هو الكسب ، ولذا حاولنا أن نقول فيهم كلمة للإيضاح.

تنتسب الجهمية إلى جهم بن صفوان (المتوفّى ١٢٨ ه‍) وهو تلميذ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري سنة ١٢٤ ه‍.

ويليهم في القول بالجبر النجارية وهم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله النجار (المتوفّى عام ٢٣٠ ه‍) وله مناظرات مع النظام.

وعرفهم الشهرستاني بقوله بأنّهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها ، ويثبتون تأثيراً للقدرة الحادثة ويسمّون ذلك كسباً. (١)

الضرارية نسبة إلى ضرار بن عمرو ، وقد ظهر في أيام واصل بن عطاء ، وقد ألف قيس بن المعتمر كتاباً في الردّ على ضرار سمّاه كتاب «الردّ على ضرار».

إنّ هذه الطائفة أيضاً تقول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله حقيقة والعبد مكتسبها. (٢)

__________________

(١) لاحظ الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٨٩.

(٢) مقالات الإسلاميين : ١٢٩ ؛ الملل والنحل : ١ / ٩٠.

١٦٤

الفصل الرابع

الإرادة الإلهية

التكوينيّة والتشريعيّة

١٦٥
١٦٦

١

في تقسيم صفاته

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى قسمين : ثبوتية ، وسلبية. وإن شئت قلت : جمالية وجلالية. فإن كانت الصفة مثبتة لجمال وكمال في الموصوف ، وكانت مشيرة إلى واقعية في ذاته ، تسمّى ثبوتية ذاتية أو جمالية ؛ وإن كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه ، تسمّى سلبية أو جلالية.

فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتية التي تشير إلى وجود كمال وواقعية في الذات الإلهية ، كما أنّ نفي الجسمانية والتحيّز والحركة والتغيّر من الصفات السلبية التي تهدف إلى سلب ما يعدّ نقصاً في الموجود ، عن ساحته سبحانه.

وهذان الاصطلاحان «الجمالية والجلالية» قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز قال سبحانه : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). (١)

فصفة الجلال تدلّ على ما جلّت ذاتُه عن التلبّس به ، وصفة الإكرام ما تكرّمت ذاتُه به وتجمّلت ، فيُوصف بالكمال ، ويُنزّه بالجلال.

ثمّ إنّ علماء العقائد حصروا الصفات الجمالية في ثماني وهي : العلم ،

__________________

(١) الرحمن : ٧٨.

١٦٧

القدرة ، الحياة ، السمع ، البصر ، الإرادة ، التكلّم ، والغنى ؛ كما حصروا الصفات السلبية في سبع وهي : انّه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وانّه غير مرئي ، ولا متحيّز ، ولا حالّ في غيره ، ولا يتّحد بشيء.

غير أنّ النظر الدقيق يقتضي عدم حصر الصفات في عدد معين ، فإنّ الحقّ أن يقال : انّ الملاك في الصفات الجمالية والجلالية هو أنّ كلّ وصف يعدّ كمالاً للوجود فالله موصوف به. وكلّ وصف يعتبر نقصاً وعجزاً وحاجة فهو منزّه عنه ، وليس علينا أن نُحصر الكمالية والجلالية في عدد معيّن.

وعلى ذلك يمكن إرجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد ، والصفات السلبية إلى أمر واحد ، ويؤيّد ما ذكرناه انّ الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات العدَد الذي ذكره المتكلّمون.

تقسيم آخر

قسّم المتكلّمون صفاته سبحانه إلى : صفة الذات ، وصفة الفعل. والأوّل ما يكفي فرض الذات في حمل الوصف عليه كالعلم والحياة والقدرة ، فيقال : الله عالم ، حيّ ، قادر ؛ والثاني ما يتوقّف وصف الذات به على فرض شيء وراء الذات ، وهو فعله سبحانه.

فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل ، بمعنى انّ الذات توصف بالصفة عند ملاحظة الذات مع الفعل ، وذلك كالخلق والرزق ونظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل.

ومعنى انتزاعها انّا إذا لاحظنا النِّعَم التي يتنعّم بها الناس نسمّيه سبحانه

١٦٨

لأجل هذا الفعل رزاقاً ، كما نسمّيه رحيماً وغافراً لأجل رحمته لعباده وغفرانه لذنوبهم.

ثمّ إنّهم اختلفوا في بعض الصفات وانّه هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل كالإرادة والتكلّم؟ فأهل الحديث والمتكلّمون على أنّ الإرادة من صفات الفعل تنتزع من إعمال القدرة خلافاً للحكماء فإنّهم جعلوها من صفات الذات بالمعنى المناسب لذاته سبحانه ، نظير الاختلاف في الكلام فالأشاعرة على أنّه من صفات الذات ، والمعتزلة والإمامية على أنّه من صفات الفعل.

أمّا وجه الاختلاف في الكلام فهو مذكور في محلّه وخارج عن هدف الرسالة.

وأمّا وجه اختلافهم في الإرادة وذهاب بعض إلى أنّه من صفات الذات والبعض الآخر إلى أنّه من صفات الفعل ، فحاصله :

إنّ من جعلها من صفات الذات فباعتبار أنّ الإرادة من صفات الكمال بشهادة انّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، فسلبها عن الذات يستلزم كونه فاعلاً غير مريد ، وهو نقص في الفاعلية ، سواء أكانت مع الشعور أم بدونه.

وأمّا من جعله من صفات الفعل فلأجل انّ الإرادة أمر تدريجي بالذات ، توجد بعد وجود مقدّمات من تصوّر الموضوع والتصديق بفائدته واشتياقاً إلى فعله إلى أن ينتهي إلى الجزم والتصميم ، والإرادة بهذا المعنى أمر حادث تعالى سبحانه عن أن تقع ذاته محلًّا للحوادث.

فلأجل هذين الأمرين اختلفت أنظارهم في أمر الإرادة وأنّها هل هي من

١٦٩

صفات الذات أو من صفات الفعل؟ فمن جانب انّ الإرادة وصف كمال لا يمكن خلو الذات عن ذلك الكمال ، ومن جانب آخر انّ حقيقة الإرادة حقيقة متجدّدة ، والتجدّد عين الحدوث ، والحدوث عين الفقر ، والله سبحانه منزّه عن ذلك.

١٧٠

٢

 في حقيقة الإرادة الإنسانية

إنّ الإرادة والكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانية ، يجدهما الإنسان بذاتهما بلا توسط شيء مثل اللّذة والألم وغيرهما من الأُمور الوجدانية. والمقصود في المقام تحليل ذلك الأمر الوجداني وصياغته في قالب علمي ، وقد اختلفت أنظارهم في واقع الإرادة في الإنسان فضلاً عن الله سبحانه. وإليك الآراء المطروحة في الإرادة الإنسانية

١. نظرية المعتزلة : الاعتقاد بالنفع

فسّرت المعتزلة الإرادة ب «اعتقاد النفع» والكراهة ب «اعتقاد الضرر» قائلين بأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية ، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين ، يرجَّح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثراً فيه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ مجرّد الاعتقاد بالنفع لا يكون مبدأ وباعثاً نحو المراد ، إذ كثيراً ما يعتقد الإنسان بوجود النفع في كثير من الأفعال ولا يريدها ، وربّما لا

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٣٣٧.

١٧١

يعتقد بوجوده فيها ، بل يعتقد بوجود الضرر ومع ذلك يريدها لموافقتها لبعض القوى الحيوانية.

٢. نظرية الأشاعرة : المخصّصة للقدرة بأحد المقدورين

فسّرت الأشاعرة الإرادة بأنّها صفة مخصِّصة للقدرة بأحد المقدورين وهي مغايرة للعلم والقدرة ، لأنّ خاصية القدرة صحّة الإيجاد واللاإيجاد ، وذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات وإلى طرفي الفعل والترك على السواء.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة ، بما يخصّص القدرة بأحد المقدورين ، تفسير لها بأثرها ولازمها ، من دون إلماع إلى حقيقتها وواقعها ، إذ من آثار الإرادة هو تحديد القدرة وسوقها إلى صوب المراد ، ولكنّه غير واقع الإرادة الذي نحن بصدد بيانه.

٣. النظرية المعروفة : الشوق النفساني

وقد اشتهر بين المحصلين انّ الإرادة عبارة عن الشوق النفساني الذي يحصل في الإنسان تلو اعتقاده بالنفع. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه ربّما يوجد هذا الميل والشوق ، دون أن يكون هناك إرادة ، كما في الإنسان المتديّن بالنسبة للمحرمات.

وثانياً : قد يوجد الفعل بدون الشوق النفساني أو الشوق المؤكّد كما في الأفعال العادية من تحريك الأعضاء وكثير من الأفعال العبثية والجزافية ، وكما

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٣٣٧.

١٧٢

في تناول الأدوية غير المستساغة وغيرها ، فإنّ الإنسان يشرب الدواء المرّ عن إرادة لا عن شوق.

٤. الإرادة : القصد والعزم

الإرادة كيفية نفسانية متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ويعبّر عنها بالقصد والعزم تارة ، وبالإجماع والتصميم أُخرى. وليس ذلك القصد من مقولة الشوق بقسميه المؤكّد وغير المؤكّد ، كما أنّه ليس من مقولة العلم رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيات النفسانية.

وباختصار ، حقيقة الإرادة هي العقد والميل القاطع نحو الفعل ، وهذا هو المختار ويشهد عليه الوجدان.

وعلى كلّ حال فسواء أصحّت هذه التفاسير للإرادة الإنسانيّة أم لا ، لكن لا يمكن تفسير الإرادة الإلهية بهذه الوجوه.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ تفسير الإرادة باعتقاد النفع ملازم لإنكار الإرادة مطلقاً في الموجودات الإمكانية فضلاً عن الله سبحانه ، وذلك لأنّ ملجأها إلى العلم بالنفع مع أنّا نجد في أنفسنا شيئاً وراء العلم والاعتقاد بالنفع ، ومن فسر الإرادة بالاعتقاد بالنفع فقد أثبت العلم وأنكر الإرادة.

وأمّا الثاني : أعني : تفسير الإرادة بتخصيص القدرة بأحد المقدورين ، ففيه : انّه لا يناسب شأنه سبحانه ، لأنّ التخصيص أمر حادث فتعالى أن تكون ذاته مركزاً للحوادث إلاّ أن يرجع إلى تفسير الإرادة الفعلية به دون الذاتية ، فالإرادة في مقام الفعل هو ما جاء في هذا التفسير ، وعلى هذا تكون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات فيلزم خلوها عن ذلك الكمال.

١٧٣

وأمّا الثالث : ففيه انّ الشوق من مقولة الانفعال تعالى عنه ، مضافاً إلى أنّ الشوق شأن الفاعل الناقص الذي يريد الخروج عن النقص إلى الكمال فيشتاق إليه شوقاً أكيداً.

وأمّا الأخير : فسواء أفسّرت بالقصد والعزم أو الإجماع والتصميم فحقيقتها الحدوث بعد العدم ، والوجود بعد اللاوجود ، وهي بهذا المعنى يستحيل أن يوصف به سبحانه.

ولأجل عدم مناسبة هذه التعاريف لذاته سبحانه صار المتألّهون على طائفتين :

الأُولى : من يحاول جعلها من صفات الذات ولكن يتصرف في معنى الإرادة.

الثانية : من لا يتصرف في نفي الإرادة ولكن يجعلها من صفات الفعل كالخلق والرزق ، فالجميع ينتزع من فعله سبحانه وإعمال قدرته. وأصحاب هذا القول قد أراحوا أنفسهم من الإشكالات المتوجهة إلى كون الإرادة من الصفات الذاتية لله سبحانه.

وإليك الكلام حول هذين القولين في فصلين مختلفين.

١٧٤

٣

 الإرادة الإلهية من صفات الذات

قد عرفت أنّ الإرادة بتفاسيرها المختلفة لا تليق أن تنسب إلى الله سبحانه ، ولذلك عاد القائلون بأنّ الإرادة من صفات الذات إلى تفسيرها بنحو يناسب ذاته سبحانه ، وإليك تفاسيرهم :

الأُولى : الإرادة هو العلم بالأصلح

يظهر من صدر المتألّهين وغيره ، أنّ إرادته سبحانه عبارة عن العلم بالأصلح ، فقال الأوّل : فثبت انّ إرادة الله ليست عبارة عن القصد ، بل الحقّ في كونه مريداً ، انّه سبحانه وتعالى يعقل ذاته ، ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته ، وانّه كيف يكون؟ وذلك النظام يكون لا محالة كائناً مستفيضاً وهو غير مناف لذات المبدأ الأوّل جلّ اسمه ، لأنّ ذاته كلّ الخيرات الوجودية كما مرّ مراراً من أنّ البسيط الحق كلّ الأشياء الوجودية ، فالنظام الأكمل الكوني الإمكاني تابع للنظام الأشرف الواجبي الحقّي ، وهو عين العلم والإرادة فعلم

١٧٥

المبدأ بفيضان الأشياء عنه ، وانّه غير مناف لذاته ، هو إرادته لذلك ورضاه ، فهذه هي الإرادة الخالية عن النقص والإمكان. (١)

أقول : إنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح هو الظاهر من أكثر المتأخّرين بعد صدر المتألّهين ، وقد تلقّاه الحكيم السبزواري أصلاً مسلّماً ففسّرها به ، قال في منظومته :

عقيب داع ، دركنا الملائما

شوقاً مؤكداً إرادة سما

وفيه عين الداع عين علمه

نظام خير هو عين ذاته(٢)

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح أو العلم العنائي وإن كان سليماً عن إشكال الحدوث والتدرّج حيث إنّ علمه سبحانه بذاته علم فعلي قديم منزّه عن وصمة الحدوث والتدرج ، إلاّ أنّ إرجاع الإرادة إلى العلم ، يلازم نفي واقع الإرادة عنه سبحانه ، لأنّ العلم والإرادة حقيقتان مختلفتان ، فتفسير الثانية بالأوّل ، إثبات لوصف العلم ، ونفي لوصف الإرادة ، فيُصبح سبحانه فاعلاً عالماً غير مريد ، مع أنّ الفاعل العالم المريد أفضل وأكمل من الفاعل العالم غير المريد.

وقد نبّه بذلك بعض أئمّة أهل البيت. روى بكير بن أعين أنّه قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : علمه ومشيئته هما مختلفان أو متّفقان؟ فقال : «العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء الله ولا تقول : سأفعل كذا

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٣١٦ ، الموقف الرابع ، الفصل الثاني. ولاحظ أيضاً ص ٣٤١ ، ٣٤٢.

(٢) شرح المنظومة : ١٧٩.

١٧٦

إن علم الله ، فقولك : إن شاء الله دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء ، كان الذي شاء كما شاء وعلم الله السابق للمشيئة». (١)

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي ممّن يسلّم انّ علمه بنظام الخير مبدأ له ، ومع ذلك يُنكر تسمية العلم بالأصلح والنظام الأتم إرادة فقال : إنّ ما ذكره صدر المتألّهين وغيره من الحكماء المتقدّمين من أمر الإرادة الذاتية ، وأقاموا عليه البرهان ، فهو حقّ ، لكن الذي تثبته البراهين انّ ما سواه تعالى يستند إلى قدرته التي هي مبدئيته المطلقة للخير وعلمه بنظام الخير ، وأمّا تسمية العلم بالخير والأصلح ، إرادة أو انطباق مفهوم الإرادة بعد التجريد على العلم بالأصلح الذي هو عين الذات فلا.

نعم قام البرهان على أنّه واجد لكلّ كمال وجودي ، وهذا لا يوجب تخصيص الإرادة من بينها بالذكر في ضمن الصفات الذاتية. وبالجملة ما ذكروه حق من حيث المعنى وإنّما الكلام في إطلاق لفظ الإرادة وانطباق ما جرّد من مفهومها ، على صفة العلم. (٢)

وليعلم أنّ القول باتّحاد صفاته سبحانه مع ذاته ليس بمعنى أنّ كلّ وصف عين الوصف الآخر كأن تكون الإرادة عين العلم ، بل المراد أنّ ذاته سبحانه كلّه علم وفي الوقت نفسه كلّه قدرة وكلّه حياة دون أن يشكّل العلم جزءاً من الذات والقدرة جزءاً آخر حتّى يلزم التركيب ، فلا يصحّ أن يقع القول بعينيّة صفاته مع الذات ، ذريعة لتفسير الإرادة بالعلم بالأصلح.

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٠٩ ، باب الإرادة من صفات الفعل.

(٢) الأسفار : ٦ / ٣١٦ قسم التعليقة.

١٧٧

الثانية : إرادته سبحانه هو ابتهاجه بذاته

هذه هي النظرية الثانية التي اختارها بعض المحقّقين من مشايخ مشايخنا ـ قدّس الله أسرارهم ـ فقد فسّر الإرادة بالابتهاج وجعل له مرحلتين :

١. الابتهاج الذاتي وهو الإرادة في مقام الذات.

٢. الابتهاج الفعلي ينبعث من الابتهاج الأوّل قائلاً : فإنّ من أحب شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبة الفعلية هي الإرادة في مقام الفعل وأسماها بالإرادة الفعلية ، فقال في كلام مبسوط :

«لا ريب عند أهل النظر أنّ مفاهيم الصفات ـ حسبما يقتضيه طبعها ـ متفاوتة متخالفة ، لا متوافقة مترادفة ، وإن كان مطابَقها واحداً بالذات من جميع الجهات ، فكما أنّ مفهوم العلم غير مفهوم الذات وسائر الصفات ، وإن كان مطابَق مفهوم العلم والعالِم ، ذاته بذاته ؛ حيث إنّ حضور ذاته لذاته ، بوجدان ذاته لذاته ، وعدم غيبة ذاته عن ذاته ، كذلك ينبغي أن يكون مفهوم الإرادة بناء على كونها من صفات الذات ـ كمفهوم العلم ـ مبايناً مع الذات ومفهوم العلم ، لا أنّ لفظ الإرادة معناه العلم بالصلاح ، فانّ الرجوع الواجب هو الرجوع في المصداق ، لا رجوع مفهوم إلى مفهوم. ومن البين أنّ مفهوم الإرادة ـ كما هو مختار الأكابر من المحقّقين ـ هو الابتهاج والرضا ، وما يقاربهما مفهوماً ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا.

والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى : أنا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامّين في الفاعلية ، وفاعليتنا لكلّ شيء بالقوة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أُمور زائدة على ذواتنا ـ من تصوّر الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد ـ المميلة جميعاً للقوة الفاعلة

١٧٨

المحرّكة للعضلات ، بخلاف الواجب تعالى فإنّه ـ لتقدّسه عن شوائب الإمكان وجهات القوة والنقصان ـ فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنّه صرف الوجود ، وصرف الوجود صرف الخير ، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج ، وذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا. وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي ـ وهي الإرادة الذاتية ـ ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمّة الأطهار ـ سلام الله عليهم ـ بحدوثها (١) ؛ لوضوح أنّ المراد هو الإرادة التي هي غير المراد ، دون الإرادة الأزلية التي هو عين المراد ؛ حيث لا مراد في مرتبة ذاته إلاّ ذاته ، كما لا معلوم في مرتبة ذاته إلاّ ذاته. (٢)

ويظهر من الحكيم السبزواري ارتضاؤه ، قال في منظومته :

مبتهج بذاته بنهجة

أقوى ومن له بشيء بهجة

مبتهج بما يصير مصدره

من حيث إنّه يكون أثره

كرابط لا شيء باستقلاله

ليس له حكم على حياله

رضاؤه بالذات بالفعل رضا

وذا الرضا إرادة لمن قضى(٣)

__________________

(١) أُصول الكافي : ١ / ٨٦٨٥ ، باب الإرادة ، نشر المكتبة الإسلامية ؛ وتوحيد الصدوق : ١٤٦ ـ ١٤٨ ، باب صفات الذات والأفعال ، الحديث ١٥ ـ ١٩ ، نشر جماعة المدرسين.

(٢) نهاية الدراية : ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٣) شرح المنظومة : ١٨٠.

١٧٩

يلاحظ على تلك النظرية بما مرّ في النظرية السابقة ، فإنّ تفسير الإرادة الإلهية بابتهاج الذات وإن كان يدفع مشكل التدريج والحدوث ، لكن الإشكال الآخر باق بحاله ، فإن واقع الابتهاج في الإنسان من مقولة الانفعال ، والإرادة أشبه بمقولة الفعل ، فتفسير الإرادة بالابتهاج ـ حتّى مع التجريد عن النقص ـ يستلزم نفي وصف الإرادة عنه سبحانه.

إنّ الإرادة في الإنسان رمز الاختيار والحرية ، فالفاعل المريد ، مختار في فعله ، يوجده بإرادته ، وأين هي من تفسير الإرادة بالابتهاج الذي هو رمز كون الفعل ملائماً لذات الفاعل وطبعه؟! فتفسير أحدهما بالآخر نفي لواقع المفسَّر.

١٨٠