الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

٢. الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين في فعل العبد : نسبة إلى الله سبحانه ونسبة إلى العبد من دون أن تزاحم إحدى النسبتين ، النسبةَ الأُخرى ، فقد قرره الكتاب العزيز ببيانات مختلفة :

١. انّه ربما ينسب الفعل إلى العبد وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله سبحانه ، يقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (١)

ولا يصحّ هذا الإيجاب (إِذْ رَمَيْتَ) في عين السلب (وَما رَمَيْتَ) إلاّ على الوجه الذي ذكرنا ، وهذا يعرب عن أنّ للفعل نسبتين وليست نسبتُه إلى العبد ، كلَّ حقيقته وواقعه ، وإلاّ لم تصح نسبته إلى الله ، كما أنّ نسبته إلى الله ليست خالصة (وإن كان قائماً به تماماً) بل لوجود العبد وإرادته تأثير في طروء عناوين عليه.

٢. قال سبحانه : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (٢)

فالظاهر انّ المراد من التعذيب هو القتل ، لأنّ التعذيب الصادر من الله تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاّ ذاك ، لا العذاب البرزخي ولا الأُخروي فانّهما راجعان إلى الله سبحانه دون المؤمنين ، وعلى ذلك فقد نسب فعل واحد (التعذيب) إلى المؤمنين وخالقهم ولا تصح هاتان النسبتان إلاّ على هذا المنهج ، وإلاّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاّ إليه سبحانه. وفي منهج التفويض على العكس ،

__________________

(١) الأنفال : ١٧.

(٢) التوبة : ١٤.

١٠١

والمنهج الذي يصحّح كلتا النسبتين هو منهج الأمر بين الأمرين.

٣. الأمر بين الأمرين في الروايات

لقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في فعل الإنسان فيما يثاب به ويعاقب عليه ، بانّه أمر بين الأمرين ، وقد جمع الصدوق القسم الأوفر من الروايات في توحيده ، والعلاّمة المجلسي في بحاره ، ونحن نذكر رواية واحدة ذكرها صاحب «تحف العقول» وهي مأخوذة عن رسالة كتبها الإمام الهادي ـ عليه‌السلام ـ في نفي الجبر والتفويض ، ومما جاء فيها :

فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم انّ الله عزّ وجلّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٢) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣) فمن زعم انّه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر بإجماع الأُمّة.

ومن زعم انّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز.

لكن نقول : إنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما أراد ، وهذا ، هو القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض.

__________________

(١) الكهف : ٤٩.

(٢) الحج : ١٠.

(٣) يونس : ٤٤.

١٠٢

الفصل الثالث

نظرية الكسب في أفعال العباد

١٠٣
١٠٤

نظرية الله خالق والعبد كاسب في الميزان

قد اشتهر بين الأشاعرة ، انّ الله سبحانه خالق ، والعبد كاسب يريدون بذلك انّ الخلق والايجاد من الله سبحانه ، والكسب والاكتساب من العبد ، والثواب والعقاب ، ليس لخلق العقل وايجاده ، وإنّما هو لكسب العبد.

ولما كان القول بنظرية الكسب نابعاً من القول بالتوحيد في الخالقية وحصرها في الله سبحانه بالمعنى الذي اختاره أهل الحديث ، يجب تبيين نظريتهم في هذا الأصل ، ثمّ تبيين نظرية الكسب التي تبنّاها الأشعري وغيره لدفع وصمة الجبر عن أفعال العباد ، وإيضاح المراحل التي مرّت على النظرية عبْر قرون.

فتبيين الحقّ في عامّة جوانب الموضوع يأتي ضمن فصول :

١٠٥

١

التوحيد في الخالقية عند أهل الحديث

إنّ من الأُصول المسلَّمة عند أهل الحديث (١) ـ وتبعهم الإمام الأشعري ـ انّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وليس للإنسان أيُّ دور في إيجاد أفعاله وإنشائها ، بل كلّ ما في الكون من الجواهر والأعراض مخلوق لله سبحانه بالمباشرة ، وليس بينه سبحانه وعالم الكون أيّ واسطة في الإيجاد والإفاضة حتّى على نحو الظلِّية والتبعيَّة ولو بإذن الله سبحانه.

وبعبارة أُخرى : ليس في صفحة الوجود مؤثّر أصلي وتبعي ، ذاتي وظلّي إلاّ الله سبحانه ، وهو تعالى اسمُه ، قائم مكان عامّة العلل التي تتصوّرها الفلاسفة والمتكلّمون ـ وأخصُّ بالذكر علماء الطبيعة ـ عللاً مؤثّرة ولو بإذنه تعالى ولا يشذُّ منه فعل الإنسان فهو مخلوق لله سبحانه ، خلقاً مباشرياً ويعبّر عنه ب «خلق الأعمال» أو «خلق الأفعال».

قد انتقل الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (٢٦٠ ـ ٣٢٤ ه‍)

__________________

(١) سيوافيك انّه من الأُصول المسلّمة عند الجميع سوى المعتزلة وإنّما الاختلاف بين الإمامية والأشاعرة في تفسير ذلك الأصل.

١٠٦

من الاعتزال ـ بعد ما قضى أربعة عقود من عمره فيه ـ إلى منهج أهل السنّة وبالأخص منهج الإمام أحمد ابن حنبل (١٦٤ ـ ٢٤١ ه‍) ، وقد دخل جامع البصرة وارتقى كرسياً ونادى بأعلى صوته : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ؛ كنت أقول بخلق القرآن ، وانّ الله لا تراه الأبصار ، وانّ أفعال الشر أنا أفعلها ؛ وأنا تائب مقلع ، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم. (١)

ولأجل إيقاف القارئ الكريم على حقيقة التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه الإمام أحمد وبعده الإمام الأشعري نأتي ببعض نصوصهم.

١. قال الشيخ الأشعري في الباب الثاني من كتاب «الإبانة» في عقائد أهل الحديث :

إنّه لا خالق إلاّ الله ، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة كما قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢). وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقون ، كما قال سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣). (٤)

٢. وقال في «مقالات الإسلاميّين» عند نقل عقائد أهل الحديث وأهل السنّة : واقرّوا : انّه لا خالق إلاّ الله ، وانّ سيئات العباد يخلقها الله ، وانّ أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجلّ ، وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (٥)

٣. وقال في «اللمع» : إن قال قائل : لم زعمتم أنّ أكساب العباد مخلوقة لله تعالى؟ قيل له : قلنا ذلك لأنّ الله تعالى قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وقال :

__________________

(١) وفيات الأعيان : ٣ / ٢٨٥ ، فهرست ابن النديم : ٢٥٧.

(٢) الصافات : ٩٦.

(٣) فاطر : ٣.

(٤) الإبانة : ٢٠.

(٥) مقالات الإسلاميين : ١ / ٣٢١.

١٠٧

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، فلمّا كان الجزاء واقعاً على أعمالهم كان الخالق لأعمالهم. (١)

وترى لِدَة هذه العبارات في غير واحد من الرسائل التي أُلّفت لبيان عقيدة أهل الحديث والأشاعرة ـ التي اشتُقَّت من أهل الحديث ـ ننقل منها ما يتعلّق بالمتأخرين منهم.

٤. قال السيد الشريف الجرجاني في «شرح المواقف» : إنّ أفعال العباد الاختيارية ، واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها ، والله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه ، مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك من تأثير ومدْخل في وجوده ، سوى كونه محلاً له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري. (٢)

٥. وقال الزبيدي في «إتحاف السادة» : إنّ الإله ، هو الذي لا يمانعه شيء ، وإنّ نسبة الأشياء إليه على السويّة ، وبهذا بطل قول المجوس وكلّ من أثبت مؤثراً غير الله من علّة أو طبع أو ملك أو إنس أو جن ، ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان. (٣)

وهذا المقدار من النصوص يكفي فيما هو المقصود (وما أبعد بينه وبين ما يمرّ عليك من ابن تيميّة من أنّ أكثر أهل السنّة يعترفون بالعلل الطبيعية).

وحاصل تلك العقيدة هو إنكار الأسباب والمسبّبات في صحيفة الوجود

__________________

(١) اللمع : ٦٩.

(٢) شرح المواقف : ٨ / ١٤٦.

(٣) إتحاف السادة : ٢ / ١٣٥.

١٠٨

عامّة ، فليس هنا إلاّ خالق واحد هو الله سبحانه وما سواه مخلوق ، وليس بين الخالق وعامّة المخلوقات أيُّ سبب تبعي أو علّة يؤثر بإذنه سبحانه.

وعلى ضوء هذا التفسير : أنكروا العلّيّة والمعلولية والتأثير والتأثّر بين الموجودات الإمكانية ، فزعموا انّ آثار الظواهر الطبيعية كلّها مفاضة منه سبحانه من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها ، فعلى مذهبهم «النار حارّة» بمعنى انّه جرت سنّة الله على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك علقة بين النار وحرارتها ، والشمس وإضاءتها ، والقمر وإنارته ، بل عادة الله سبحانه جرت على إيجاد الضوء والنور مباشرة عقيب وجود الشمس والقمر دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلّيّة والمعلولية ، وعلى ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علّة واحدة ، ومؤثر واحد ، يؤثّر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء من دون أن يُعمل سبحانه قدرته ويظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب والمؤثرات ، بل هو بنفسه شخصياً قائم مقام جميع ما يُتصور من العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

وقد سادت هذه الفكرة على شرائح واسعة من العلماء والمفكّرين طيلة عصور متمادية ، فيقولون : «جرت عادة الله على خلق هذا بعد ذلك» أي خلق الحرارة بعد النار والبرودة بعد الماء ، وقد بلغ إصرارهم على إنكار أصل العلّيّة حداً كفّروا من يتفوّه بالعلّيّة أو مقتضى الطبيعة ـ كما نقله الزبيدي ـ.

وهذا هو الأزهر كان يُدرّس فيها قول الناظم :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة

فذاك كفر عند أهل الملّة

نعم ظهر في الآونة الأخيرة مفكِّرون آثروا اتّباع الحقّ على تقليد الأئمة وأصحروا بالحقيقة كما تأتي أسماؤهم ونصوصهم فانتظر.

١٠٩

٢

التوحيد في الخالقية عند الإماميّة (١)

اتّفق أهل القبلة ـ إلاّ من شذّ كالمعتزلة ـ على التوحيد في الخالقية وانّه لا خالق إلاّ الله سبحانه ، وقد قامت الإمامية منهم بتفسيره بوجه لا ينافي القول بنظام الأسباب والمسبّبات والعلل الطبيعية ومعاليلها ، وإليك حاصل نظريتهم.

إنّ الخالقية المستقلّة النابعة من الذات ، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ولا يشاركه فيها شيء ، وأمّا غيره سبحانه فإنّما يقوم بأمر الخلق والإيجاد بإذن منه وتسبيب ، ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه ، يعملون بتمكين منه لهم. ويظهر هذا المعنى من ملاحظة الأُمور التالية :

الأوّل : لا يشك المتدبّر في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يُسنِد آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار المادة ، كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها وبحارها وبراريها وعناصرها ومعادنها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والماء والأعشاب والأشجار والحيوان والإنسان إلى غير ذلك من

__________________

(١) قلنا «عند الإمامية» ولم نقل عند العدلية ، لأنّ هذا التفسير يختصّ بهم وأمّا المعتزلة الذين يُعدّون من العدلية فقد أنكروا هذا الأصل ، لأجل صيانة عدله سبحانه زاعمين أنّ القول بهذا الأصل يضاد أصل العدل ، غافلين عن أنّ المضاد هو التفسير الأشعري ، لا الإمامي. وقد فصّلنا الكلام في ذلك في محاضراتنا المنتشرة باسم : «الإلهيات» فلاحظ.

١١٠

الموضوعات الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنّما أنكره باللسان ، وقلبه مطمئن بخلافه ، وسيوافيك في الفصل التالي شيء من الآيات الناصّة على ذلك.

الثاني : انّ القرآن يُسند إلى الإنسان أفعالاً لا يقوم بها إلاّ هو ، ولا يصحّ إسنادها إلى الله سبحانه بلا واسطة ، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونكاحه وحربه وجداله وصلاته وصيامه ، فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب ويحارب ويجادل ويفهم ويصلّي ويصوم وهو سبحانه منزّه عن هذه الأفعال.

الثالث : انّ الله سبحانه أمر الإنسان بالطاعة أمر إلزام ، ونهاه عن المعصية نهيَ تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية. فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال ، وتأثير في الطاعة والعصيان فما هي الغاية من الأمر والنهي ، وما معنى الجزاء والعقوبة؟!

وهذه الأُمور الثلاثة إذا قارنها الباحث إلى قوله سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء ، يستنتج منها انّ النظام الإمكاني على اختلاف هويّاته وأنواعه ، فعّال ومؤثر في آثاره ، لكن بتقديره سبحانه ومشيئته وإذنه وهو القائل جلّ وعلا : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢) والقائل تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) ، وأنّ مظاهر الكون وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها تنتهي إلى قضائه وتقديره وهدايته وإجرائه نظام الأسباب والمسببات في صحيفة الكون.

__________________

(١) الرعد : ١٦.

(٢) طه : ٥٠.

(٣) الأعلى : ٣.

١١١

فعلى هذا فالأشياء في جواهرها وذواتها وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية ، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليه أيضاً وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحّدة يتّصل بعضها ببعض ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في بعض ، والله سبحانه وراء هذا النظام ومعه وبعده ولا خالق ولا مدبّر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو كما لا حول ولا قوة إلاّ بالله.

وبعبارة أُخرى : انّ التدبر في الآيات الواردة في التوحيد في الخالقية إذا فسّرت على نحو التفسير الموضوعي (١). يثبت أنّ آثار الموجودات الإمكانية آثار لها ، وفي الوقت نفسه تنتهي الأسباب إلى الله سبحانه. فجميع هذه الأسباب والمسببات يرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها في بعض ، وفي الوقت نفسه مرتبطة بالله سبحانه وإليه ينتهي النظام الإمكاني والعلل والمعاليل.

وليس السبب منقطعاً عن الله ، وفي الوقت نفسه ليس المسبب فعلاً مباشرياً له سبحانه فبذلك يجمع بين القول بحصر الخالقية في الله سبحانه ، والقول بنظام العلل والمعاليل المنتهية إليه والقائمة به ، فالخالقية المستقلة النابعة من الذات ، منحصرة بالله سبحانه ، والخالقية الظلية والتبعية ، النابعة من قدرته سبحانه من خصائص النظام الإمكاني ، ولنعم قول القائل : «فالفعل فعل الله وهو فعلنا».

وباختصار : إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه ، فالجليل والحقير ، والثقيل والخفيف عنده سواسية ، لكن ليس

__________________

(١) نريد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة في أي موضوع من الموضوعات واستنطاق بعض الآيات ببعض والخروج بنتيجة واحدة ، هي حصيلة عامة الآيات. وقد ألّفنا موسوعة قرآنية على هذا الغرار وأسميناها ب «مفاهيم القرآن» انتشرت في عشرة أجزاء.

١١٢

معنى «المساواة» هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة ، وخلع التأثير عن الأسباب والعلل ، بل يعني أنّ الله سبحانه يُظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب ، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل ، والكلّ مخلوق له ، ومظاهر قدرته وحوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

فالأشعري ، خلع الأسباب والعلل ـ وهي جنود الله سبحانه ـ عن مقام التأثير والإيجاد ، كما أنّ المعتزلي (١) عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره ، أعني : فعل العبد في سلطانه.

والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ، ولا بمعنى علّتين تامّتين ، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشئونها وجنودها : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) (٢) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وللسبب سبباً ، إلى أن ينتهي إليه سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل ، والتفصيل يطلب من محله ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً». (٣)

__________________

(١) قد تقدّم في ص ١١٠ انّ المعتزلة ، أنكرت هذا الأصل من رأس ، لغاية حفظ عدله وتنزيهه من الظلم والعمل السيّئ ، وزعمت انّ وجود الإنسان مخلوق لله وفعله مخلوق لنفس الإنسان فقط ، فأخرجت أفعال العباد عن سلطان الله تبارك وتعالى ، ونعم ما قال الإمام الكاظم ـ عليه‌السلام ـ : «مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه عن سلطانه» وسيوافيك في خاتمة المطاف ما يفيدك في المقام.

(٢) المدثر : ٣١.

(٣) الكافي : ١ / ١٨٣ ، باب معرفة الإمام ، الحديث ٧.

١١٣

وبهذه النظرية ـ أي نظرية كون العالم مخلوقاً على النظام السببي والمسببي وانّ فيه فواعل اضطرارية كما أنّ فيه فواعل اختيارية ـ تتناسق الأُمور الثلاثة الماضية (١) وتتوحّد نتائجها ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى فانّها توجب التضاد بين الأُمور الثلاثة المسلمة.

__________________

(١) لاحظ ص ١١١١١٠.

١١٤

٣

مضاعفات حصر الخالقية في الله على ضوء التفسير الأشعري

قد تقدّم انّ المسلمين إلاّ من شذّ تبعاً للذكر الحكيم والبراهين العقلية اتّفقوا على حصر الخالقية في الله سبحانه وعدُّوه من مراتب التوحيد ولا يصحّ الحصر ولا ينسجم مع سائر الأُصول إلاّ إذا فسر على النحو الذي مرّ آنفاً ، فالقول بهذا الحصر ـ على ما فسرنا ـ لا ينافي الإيمان بالعلل والأسباب الطولية والنظام السائد على العالم من العلّية والمعلولية ، المنتهي إلى الله سبحانه.

غير انّ الإمام الأشعري ومن تبعه أخذوا بظواهر بعض الآيات فأنكروا أصل التأثير حتّى الظلي والتبعي في غيره سبحانه ولم يعترفوا إلاّ بعلة واحدة وهي الله سبحانه ، القائم مكان عامة العلل ، فجعلوا الظواهر كلّها مخلوقة لله بالمباشرة وبلا توسط سبب وكأنّ من أنكر ذلك التفسير فقد أنكر التوحيد في الخالقية ، غير انّ ذلك التفسير مردود من جهات نشير إلى بعضها.

الأُولى : تصريح القرآن بتأثير العلل الطبيعية

إنّ القرآن الكريم يصرح بوضوح كامل بتأثير بعض الأشياء في بعض ويكشف عن نظام سائد على العالم نظاماً عليّاً ومعلولياً ، سببياً ومسببياً ، ونحن

١١٥

نذكر في المقام بعض الآيات :

١. (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (١)

وجملة (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.

وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين :

٢. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). (٢)

٣. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ). (٣)

ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز ـ بجلاء ـ بتأثير الماء في الزرع ، إذ أنّ «الباء» تفيد السببية ـ كما تعلم ـ.

٤. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ). (٤)

ففي هذه الآية نرى ـ لو أمعنا النظر ـ كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها.

__________________

(١) الرعد : ٤.

(٢) البقرة : ٢٢.

(٣) السجدة : ٢٧.

(٤) النور : ٤٣.

١١٦

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك ـ بزمن طويل ـ سبق القرآن إلى بيان تلك المقدّمات في عبارات هي :

١. يزجي (يحرك) سحاباً.

٢. ثمّ يؤلّف (ويركِّب) بينه.

٣. ثمّ يجعله ركاماً (أي كتلة متراكمة متكاثفة).

فينسب هذه المراحل إلى الله تعالى. ثمّ يقول :

٤. فترى الودق (أي المطر) يخرج من خلاله.

٥. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وهكذا يصرح الله سبحانه بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية في المرحلتين الأخيرتين ، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن الله ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

٥. (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). (١)

وأيّة جملة أوضح من قوله : (فَتُثِيرُ سَحاباً) أي الرياح ، فالرياح في نظر القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول «تأثير العلل الطبيعية بإذن الله».

ففي هذه الجمل جاء التصريح :

١. بتأثير الرياح في نزول المطر.

__________________

(١) الروم : ٤٨.

١١٧

٢. وتأثير الرياح في تحريك السحب.

٣. كما جاء التصريح بانتساب انبساط السحب في السماء إلى الله.

٤. وتجمع السحب ـ فيما بعد ـ على شكل قطع متراكمة إلى الله سبحانه.

٥. ثمّ نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذين الأمرين ـ الثالث والرابع ـ إلى الله وانّه (هو) يبسط السحاب في السماء و (هو) الذي يجعله كسفاً ، فإنّما يقصد ـ من وراء ذلك ـ التنبيه إلى مسألة «التوحيد الأفعالي» الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية ، وفي الوقت نفسه «لا منافاة بين هذه النسبة والقول بتأثير العلل الطبيعية في بسط السحب وجمعها.

على أنّ الآيات التي تؤكد على دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب للمسببات التي تعمل بإرادة الله وإذنه ، وتكون فاعليتها فرعاً من فاعليته سبحانه ، أكثر من أن ينقل في المقام ، وفيما ذكرنا من الآيات كفاية لمن تدبّر.

الثانية : انتفاء الغاية من إيجاد القدرة في الإنسان

إذا صحّ تقسيم الفاعل إلى فاعل قادر مختار ، يتوصّل إلى مقاصده بالمشيئة وإعمال القدرة ؛ وفاعل مضطرّ ، يقع مصدراً للآثار ،

من دون إرادة وإعمال القدرة ، فالإنسان من مصاديق القسم الأوّل بل من أفضل مصاديقه ، فهو يصدر عن فكر ورويّة وميل واشتياق ، وعزم وجزم ، وإعمال للقدرة التي وهبها الله سبحانه له ، وهذا شيء يدركه وجدان كلّ إنسان حرّ التفكير ولا يبطله أي دليل وبرهان حتّى أنّ الشيخ الأشعري استدلّ على كون الإنسان مختاراً في فعله ، بالفرق بين الحركتين : الاكتسابية والاضطرارية فقال : فإذا كانت حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من

١١٨

الحمى حركة اضطرارية ، وإذا كانت الحركة الأُخرى بخلاف هذا الوصف لم يكن اضطراراً ، لأنّ الإنسان في ذهابه ومجيئه ، وإقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعِد من الحمى ، يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علمَ اضطرار لا يجوز معه الشك. (١)

فإذا كان هذا حال الإنسان وهذه مواهبه وعطاياه ، فما هي الغاية من خلق القدرة في الإنسان التي لا دور لها في الإنشاء والإيجاد ، سوى حديث المقارنة ، مقارنة القدرة مع الحادثة من دون أن يكون بين قدرة العبد وفعله أي صلة.

إنّ إبعاد قدرة العبد عن التأثير في مصير الإنسان ، يضادّ وجدانَ كلّ فاعل ، أوّلاً ، ويُضفي على تزويد الإنسان بها ، شأن اللغوية ثانياً ، ويُعرِّف خالق القدرة لاعباً ثالثاً ، قال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (٢)

إنّ التوحيد في الخالقية ، من المعارف العليا القرآنية والتي لم يصل إليها حتى الأوحدي من الفلاسفة إلاّ عن طريق التدبّر في آيات الذكر الحكيم ، ومن خالفه من المعتزلة فإنّما خالفه بزعم انّه يخالف عدلَه وتنزيهه سبحانه غير انّ الذي يخالف عدله ، ويضاد تنزيهه ، هو حصر الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه أهل الحديث والأشاعرة ، فانّه يضاد كونه حكيماً ، عادلاً ، نزيهاً عن اللغو واللعب حيث خلق في الإنسان القدرة التي لا دور لها في حياته في عاجله وآجله ، وأمّا تفسيره على النهج الذي عرفت وقد سار عليه أئمة أهل البيت فهو يدعم كونه سبحانه حكيماً ، عادلاً ، نزيهاً من اللغو والعبث.

__________________

(١) اللمع : ٧٥.

(٢) الأنبياء : ١٦.

١١٩

وكم من عائب قولاً صحيحاً

وآفته من الفهم السقيم

الثالثة : كلّ فاعل مسئول عن فعله

إنّ العقلاء قاطبة ـ حتى أهل الحديث والأشاعرة ـ يرى الإنسان مسئولاً عن فعله وعمله ، وليس المحسِن والمسيء عندهم سواسية ، بل يُثاب الأوّل ، ويُعاقب الثاني ، كلّ وفقَ عمله ، ومدى مسئوليته ، وهذا فرع أن يكون للفاعل دور في فعله ، وعمله ، ولو أصاب رأسه حجر فأدماه ، فيحمّل مسئولية الإدماء على عاتق الرامي ، دون الحجر ، وذلك لأنّ له شعوراً وارادة ، دون الآخر ، وعلى ضوء ذلك يصف الذكر الحكيم بأنّ الإنسانَ مسئول عن عمله ويقول : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (١) بل يعد أدوات المعرفة أيضاً ، مسئولة ويقول (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢) ، وذلك لأنّها بيد الإنسان ، أداة طيّعة يستخدمها كيف ما شاء.

فإذا كان هذا لسانَ العقل والعقلاء وصريحَ الذكر الحكيم فلو كانت أفعاله وأعماله ، مخلوقة لله ، على نحو تفقد صلتها بالإنسان ، فما معنى كونه مسئولاً عن عمل ، قام به غيره ، أو مجزياً بفعل غيره ، وليس لجسمه أو روحه دور ، سوى كونه ظرفاً ووعاءً لفعل الغير يخلقه فيه.

إذ كيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له فيه شأن؟! وكيف يكون معاقباً وقد جنى غيره وفق قول القائل :

__________________

(١) الصافات : ٢٤.

(٢) الإسراء : ٣٦.

١٢٠