الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي حسرت عن معرفة كماله ، عقول الأولياء ، وعجزت عن إدراك حقيقته ، أفهام العلماء ، واحد لا شريك له ، لا يُشبهه شيء لا في الأرض ولا في السماء ؛ والصلاة والسلام على نبيّه الخاتم ، أفضل خلائقه وأشرف سفرائه ، وعلى آله البررة الأصفياء ، والأئمّة الأتقياء.

أمّا بعد فغير خفيّ على النابه انّ للعقيدة ـ على وجه الإطلاق ـ دوراً في حياة الإنسان أيسره انّ سلوكَه وليدُ عقيدته ونتاج تفكيره ، فالمواقف التي يتّخذها تمليها عليه عقيدتُه ، والمسير الذي يسير عليه ، توحيه إليه فكرته.

إنّ سلوك الإنسان الذي يؤمن بإله حىّ قادر عليم ، يرى ما يفعله ، ويحصي عليه ما يصدر عنه من صغيرة وكبيرة ، يختلف تماماً عن سلوك من يعتقد أنّه سيّد نفسه وسيّد الكون الذي يعيش فيه ، لا يرى لنفسه رقيباً ولا حسيباً.

ومن هنا يتّضح أنّ العقيدة هي ركيزة الحياة ، وأنّ التكاليف والفرائض التي نعبّر عنها بالشريعة بناء عليها ، فالعقيدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالروح والعقل ، في حين ترتبط الشريعة والأحكام بألوان السلوك والممارسات.

ولأجل هذه الغاية قُمنا بتحرير مواضع الخلاف عن جوانب من العقيدة الإسلامية بصورة موجزة ، وركّزنا على أبرز النقاط التي يحتدم فيها النقاش.

٥

وبما أنّ لكلّ علم لغته ، فقد آثرنا اللغة السهلة ، واخترنا في مادة البحث ما قام عليه دليل واضح من الكتاب والسنّة ، وأيّده العقل الصريح ـ الذي به عرفنا الله سبحانه وأنبياءه ورسله ـ حتّى يكون أوقع في النفوس ، وأقطع لعذر المخالف.

وخصصنا الجزءين السابقين بدراسة مسائل فقهية احتدم فيها الخلاف من العصور الأُولى إلى يومنا هذا.

وأمّا هذا الجزء فهو مخصّص لمسائل فكرية أو عقائدية هي من نتاج النقاش العلمي بين المحقّقين من المسلمين ويأتي كلّ ذلك في ضمن عشرة فصول.

ونرجو من الله سبحانه أن يكون رائدنا في هذه البحوث هو الكتاب والسنة والعقل الحصيف.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

جعفر السبحاني قم

ـ مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ

٦

الفصل الأوّل :

التحسين والتقبيح العقليان ومكانتهما في العقيدة والشريعة

٧
٨

تمهيد

شغلت قاعدةُ التحسين والتقبيح العقليّين بالَ كثير من المفكّرين من أقدم العصور إلى يومنا هذا ، إذ قلّما يتّفق أن يخوض باحث في العلوم الإنسانية دون أن يُشير إليها ، لعلاقتها بعلم الكلام والأخلاق ، والفقه وأُصوله.

مثلاً الباحث في علم الكلام عند ما يصل بحثه إلى أفعاله سبحانه ، يصف بعضه بالوجوب والحتمية ، ويقول يجب عليه سبحانه بعث الرسل ، لهداية الناس وإيصالهم إلى الغاية المتوخّاة من خلقتهم ، كما يصف البعض الآخر بالامتناع وعدم الجواز كإعطاء المعجزة بيد المدّعي الكاذب ، ويتّخذ الحسن والقبح أساساً لقضائه البات في المسألتين حيث يحسنُ الأوّل ويقبح الثاني.

وليس معنى ذلك ، فرض التكليف على الله سبحانه؟! بأن يحكم العبد عليه تعالى بالإيجاب والامتناع كما ربما يتصوّره بعض المنكرين للحسن والقبح العقليين. (١)

وذلك لأنّ هناك فرقاً بين فرض التكليف على الله ، وبين كشف ما عنده من الحكم من خلال صفاته وكمال ذاته ، فالقائل بالتحسين والتقبيح العقليين لا يفرض على الله تكليفاً إذ أين التراب ورب الأرباب ، بل يستدلّ من خلال ما عنده

__________________

(١) شرح المقاصد : ٢ / ١٥٠ طبعة استنبول ؛ التبصير في الدين : ١٥٣.

٩

من الصفات ، على اللزوم والامتناع فيقول : إنّه سبحانه بما هو عادل ، لا يجور على عباده ، وبما انّه حكيم لا يعبث في فعله ، إلى ذلك من الأحكام المستكشفة من خلال دراسة صفاته وسنوضحه ـ بإذن الله ـ في المستقبل.

هذا حال الباحث في علم الكلام وحاجته إلى تنقيح مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، ومثله الباحث في الأخلاق حينما يطرح القيم الأخلاقية على طاولة البحث فيعتمد على تلك القاعدة في تقييم الأفعال الإنسانية من حيث كونه فضيلة أو رذيلة.

وليست حاجة الفقيه إلى تلك القاعدة بأقلّ من حاجة الطائفتين ، فانّ خلود الأحكام الفقهية عبْر الزمان وكون الشريعة الإسلامية ، خاتمة الشرائع ، رهن القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، فكلّ حكم شرعي يستمد ملاكه من تلك القاعدة فهو حكم مؤبّد بتأبيد ملاكه ـ الحسن والقبح ـ فلا يتغير ولا يتبدّل ، فانّ الحسن ، حسن على كلّ حال ، والقبيح قبيح كذلك ، والحكم المستمَدَّ منه يكون كذلك فالاعتراف بالحسن والقبح العقليّين الأبديّين يُضيف على الأحكام الشرعيّة المستندة إليهما ، وصفَ الأبديّة.

وأمّا حاجة الأُصولي إلى القاعدة فواضحة جدّاً ، حيث إنّ العقل أحد الأدلّة الأربعة التي يستنبط بها الأحكام ومن أحكامه ، الحكم بحسن الفعل وقبحه مثلاً إذا افترضنا انّ المكلّف شكّ في حكم موضوع بعد الفحص عن مظانّه في الكتاب والسنّة ولم يعثر فيهما على حكمه ، فعند ذاك يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب مع احتمال الحرمة ، أو ترك مع احتمال الوجوب استناداً إلى قبح العقاب بلا بيان.

١٠

دور القاعدة في العلوم الإنسانية

وخلاصة القول : إنّ القاعدة إذا فُسِّرت بصورة صحيحة ، تعدّ حجر الأساس لكثير من المسائل في العلوم الإنسانية كما عرفت نماذجها.

ولمّا كانت القاعدة أساساً لثبات القيم الأخلاقية ، والقوانين الشرعية السماوية ، المبنية على التحسين والتقبيح العقليّين ، عاد بعض المفكّرين من الغربيّين الذين لا يروقهم ثبات القيم ودوامها ، وبقاء الشريعة السماوية ، يثيرون الشكوك حول القاعدة.

نعم سبقهم في إنكار القاعدة طائفة من المتكلّمين وهم الأشاعرة ، وأهل الحديث لا لهذه الغاية ، بل لاستنكارهم استطاعة العقل على إدراك حسن الفعل أو قبحه ، وقالوا : إنّ المرجع في تمييز الحسن عن القبح هو الشرع ، وبذلك افترق المسلمون إلى طائفتين :

١. من يقول بالتحسين والتقبيح العقليّين تمثّلهم الإمامية والمعتزلة.

٢. من ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ويقول بالشرعيّين منهما ، وأنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع ولو لا أمر الشارع ونهيه لما استطاع الإنسان على معرفة الحسن والقبيح ، وهذا مقالة الأشاعرة وأهل الحديث ، وسيوافيك انّ من أنكر استطاعة إدراك الحسن والقبح من الأفعال لا يتسنّى له ، إثبات التحسين والتقبيح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

هذا هو دور القاعدة في العقيدة والشريعة ، وهذا خلاف طائفة من المتكلّمين وجماعة من المفكّرين الغربيّين ، لكن تبيين الموضوع ومناقشة الأقوال والآراء ، والقضاء بين أدلة الطرفين والثمرات المترتبة على المسألة على وجه الإيجاز ، يأتي في ضمن فصول :

١١

١

ملاكات التحسين والتقبيح العقليّين

إنّ القول بأنّ العقل قادر على درك حسن الأفعال وقبحها ، يُفسّر على وجوه ، فلا بدّ من ذكرها وتعيين ما هو محطّ البحث بين المثبتين والمنكرين.

١. التحسين والتقبيح الذاتيان

إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل المختار ـ سواء أكان واجباً أم ممكناً ـ على نحو إذا نظر إليه العقل وتجرّد عن كلّ شيء ، يحكم بحسنه ولزوم فعله أو بقبحه ولزوم تركه ، فالعقل في قضائه هذا بالحسن أو القبح ، لا ينظر إلاّ إلى نفس الموضوع ، دون ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد العامّة ، أو كونه موافقاً لغرض الفاعل أو الإنسان الحاكم أو غير ذلك من الأُمور الخارجة عن ذات الفعل ، فهذا هو المسمّى بالتحسين والتقبيح العقليّين الذاتيّين.

مثاله ، الإحسان والظلم فيستقل العقل بحسن الأوّل وقبح الثاني ، من دون نظر إلى مصالح الفعل أو مفاسده ، أو كونه مؤمِّناً لغرض الفاعل أو الحاكم ، فكأنّ الحسن والقبح داخلان في ذات الفعل وجوهره ، لا ينفكان عنه ، ففرض الفعل يلازم فرض أحد الحكمين.

وسيوافيك انّ هذا هو محطّ البحث بين المثبت والنافي.

١٢

٢. التحسين والتقبيح في إطار المصالح والمفاسد

تؤكد هذه النظرية على القول بالتحسين والتقبيح العقليّين ، لكن بالنظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة على الفعل ، ففي هذه النظرة لا يكون الفعل بما هو هو ، موضوعاً للحسن والقبح كما عليه النظرية السابقة بل باعتبار كونه مبدأ للمصالح والمفاسد ، وربّما يعبّر عن المصالح والمفاسد ، بالأغراض والمقاصد.

والمراد منها ، هي الأغراض النوعية لا الشخصية وإلاّ يلزم الهرج والمرج في وصف الأفعال ، فإنّ الظلم يؤمِّن غرض الظالم ، دون المظلوم فيوصف بالقبح عند الأوّل دون الثاني ، بل المراد المصالح والأغراض العقلائية التي يدور عليها بقاء النظام وهذا كالعدل فانّه حسن إذ به قوام النظام ، والظلم فانّه قبيح لأنّه هادم للنظام.

وسيوافيك انّ وصف الأفعال بالحسن والقبح باعتبار الآثار المترتّبة عليها وإن كان صحيحاً ، لكنّه يصلح لوصف قسم من الأفعال بهما وهو أفعال الإنسان الذي يحمل فعْلُه المصلحةَ النوعية أو مفسدتها ولا يشمل فعل الله سبحانه فإن فعله يوصف بالحسن والقبح دون أن يكون هناك حديث المصلحة أو المفسدة كأخذ البريء بذنب المجرم ، ونقض العهد والميثاق ، وإساءة المحسن فانّه قبيح من دون أن يكون هنا أي فساد ، فشمولية المسألة ، لفعل المولى سبحانه وعبده يقتضي خروج هذا النوع من الحسن والقبح عن محط البحث.

وبما انّ الغاية الكبرى من الخوض في هذه المسألة ، هو التعرف على أفعاله سبحانه وتمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز ، فلا محيص من القول بأنّ الملاك لوصف الفعل بالحسن والقبح في إطار عام حتّى يشتمل فعله سبحانه ، هو الملاك الأوّل ، أي ما يكون الفعل بما هو هو ، مجرّداً عن القيود التالية :

١٣

١. كون الفاعل واجباً أو ممكناً.

٢. كون الفعل ممّا يترتّب عليه المصلحة أو لا.

٣. كونه مؤمِّناً للغرض أو لا.

موضوعاً لحكم العقل بالحسن أو القبح.

٣. موافقة العادات والتقاليد

إنّ لكلّ قوم عادات وتقاليد تخصّهم ، فملاك الحسن والقبح موافقة الفعل للعادات والتقاليد ومخالفتها ، وربّما يطلق عليه الحسن والقبح العرفيان ، والتحسين والتقبيح بهذا المعنى وإن كان صحيحاً لكنّه لا يصلح لأن تكون ملاكاً للبحث عند المتكلّمين أو الأُصوليين ، لانّهما بهذا المعنى يُصبحان أمرين نسبيين أوّلاً ، لأنّ المعروف عند قوم ربما يكون منكراً عند قوم آخر ؛ ولا يكون معياراً لمعرفة وصف أفعاله سبحانه ثانياً ، لأنّها فوق العادات والتقاليد.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ لوصف الأفعال بالحسن والقبح ملاكات ثلاثة فالذي يصلح لأن يكون ملاكاً للبحث في المقام ، هو كون الفعل مجرّداً عن أي قيد وشرط ، صالحاً لوصفه عند العقل بأحدهما ، دون الملاكين الآخرين ، كوصفه بهما باعتبار ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد ، والمنافع والمضار النوعية ، أو باعتبار موافقته العادة السائدة على القوم أو مخالفتها ، فإنّ هذين الملاكين تحدِّد المسألة على وجه يخرج فعله سبحانه عن موردها.

١٤

٢

تقسيم الحكمة إلى نظريّة وعمليّة

تنقسم الحكمة ، لدى الحكماء منذ عهد مبكِّر إلى حكمة نظرية وحكمة عملية ، فلو تعلّق الإدراك بما من شأنه أن يُعلم ، كانقسام الموجود إلى واجب وممكن ، فهو حكمة نظريّة ولو تعلّق بما من شأنه أن يعمل كقولنا : العمل بالميثاق حسن ونقضه قبيح فهو حكمة عملية فالحكمتان : النظرية والعملية كلاهما من أقسام الإدراك وإنّما الاختلاف في المتعلَّق.

وهذا هو المعنى المعروف عند الفلاسفة والمتكلّمين وهو الظاهر من عبارة الفارابي حيث قال : النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما من شأنه أن يعلمه إنسان ، والعملية هي التي يعرف ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته. (١)

والعقل المدرِك للحكمة الأُولى عقل نظري والمدرِك للثانية منهما عقل عمليّ وليس معناه انّ هنا عقلين مختلفين جوهراً بل عقل واحد يوصف تارة بالنظري وأُخرى بالعملي باعتبار اختلاف متعلقه.

وهنا مصطلح آخر للعقل العملي ، يجعله في عداد القوى العاملة التي هي مبدأ محرّك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئيّة (٢) ، أعرضنا عن ذكره تفصيلاً روماً للاختصار.

__________________

(١) شرح منظومة السبزواري : ٣١٠.

(٢) النجاة لابن سينا : ١٦٤ ، ط مصر ، وص ٢٠٢ ط بيروت.

١٥

٣

تقسيم القضايا إلى ضرورية وغير ضرورية

تنقسم الحكمة النظرية إلى ضروريّة وغير ضروريّة ، فالقسم الأوّل ما يحضر في النفس بلا نظر ، والقسم الثاني ، ما يحصل فيها بعد إعمال الفكر والنظر. وجه التقسيم انّه لو كانت القضايا بأجمعها ضرورية لما احتاجت إلى التفكير ولم يكن هناك أية مشكلة فكرية ، ولو كانت بأسرها غير ضرورية لتاه الإنسان في دوّامة من المشاكل الفكرية دون أن يجد حلولاً لها ، لأنّ المفروض كون القضايا على نمط واحد ، فلم يكن بد من أن تكون القضايا في الحكمة النظرية منقسمة إلى قسمين حتّى يستمد في حل غير الضروري ، من الضروري.

فكما أنّ القضايا في الحكمة النظرية تنقسم إلى قسمين ، فهكذا الحال في الحكمة العملية تنقسم إلى ضرورية وغير ضرورية بنفس الدليل السابق في الحكمة النظرية ، فانّ القضايا التي يحكم العقل بحسنها أو قبحها ، وبالتالي يمدح الفاعل ويذمُّه ويُلزم العمل على وفقه أو الاجتناب عنه لا تخلو من حالتين :

١. إمّا أن تكون قضايا واضحة يدركها العقل بلا توسيط مقدّمة ، وهي القضايا الضرورية في الحكمة العملية.

وامّا أن لا يدركها إلاّ بإرجاعها إلى قضايا أُخرى حتّى تنتهي إلى أُم القضايا العملية الضرورية لتكون مفتاحاً لحمل سائر القضايا.

١٦

فإذا كان امتناع اجتماع الضدّين أو ارتفاعهما أُمّ القضايا في الحكمة النظرية وبهما تثبت صحّة كلّ القضايا في العلوم ، فحسن العدل وقبح الظلم أُمّ القضايا في الحكمة العملية ، فلا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلاّ إذا انطبق على الفعل أحد العنوانين.

وبذلك يظهر انّ تقسيم القضايا إلى ضروريّة وغير ضروريّة ، لا ينحصر بالحكمة النظريّة ، بل يعمّ القسمين ، والدليل على التقسيم جار في كلا القسمين.

١٧

٤

أدلّة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين

أقام القائلون بالتحسين والتقبيح العقليّين أدلّة ساطعة على أنّ العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها ولا يقتصر على مجرّد الإدراك ، بل يبعث إلى الأوّل ويمدح فاعله ، ويزجر عن الثاني ويذم فاعله ، والرسالة الحاضرة لا تتحمل البسط بنقل عامة الدلائل ونكتفي من الكثير بالقليل.

الأوّل : بداهة العقل

كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عَرَضَ الموضوعين على وجدانه ، يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل واستحساناً له ، وتنفراً عن الظلم وتقبيحاً له ، وهكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات العدل والظلم.

ولقائل أن يقول : إنّ الحكم بالتحسين والتقبيح ليس ناتجاً من صميم العقل وإنّما هو وليد التعاليم الدينية الراسخة التي يعتمد عليها المصلحون في دعوتهم فصار ذلك سبباً لرسوخ تلك الفكرة في أذهان الناس.

لكن وقفة قصيرة أمام هذا السؤال تُبطل هذا الاحتمال ، إذ لو كانت الفكرة ناتجة من دعوة المصلحين لاختصت الفكرة بهم وبمن وقع في إطار دعوتهم ، ولكنّا نجد الفكرة أوسع من ذلك فقد غطَّت كافةَ الأُمم وطوائف البشر حتّى الّذين لا

١٨

يمتلكون ايماناً بالشرائع.

وإلى ما ذكر يشير العلاّمة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد ويقول : إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء ، وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف بالشرائع. (١)

الثاني : عدم ثبوتهما مطلقاً لو قلنا بالشرع فقط

إنّ نفاة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين ذهبوا إلى أنّ التعرّف على حسن الأفعال وقبحها رهن بيان الشرع ، فما حسّنه الشارع فهو حسن وما قبحه فهو قبيح ، وليس للعقل سبيل إلى معرفة حسن الأفعال وقبحها ، ولكنّهم غفلوا عن مضاعفات هذا القول ، إذ لازمه عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

بيان ذلك : أنّه لو قلنا بأنّه لا سبيل للعقل إلى معرفة حسن الفعل أو قبحه ولا يُعرفان إلاّ بتصريح الشرع بأنّ العدل حسن أو الظلم قبيح ، لا يحصل الجزم بقوله ، لتجويز الكذب عليه وبالتالي نحتمل أن يكون ما وصفه بالحسن ، قبيحاً واقعاً ، وما وصفه بالقبح ، حسناً كذلك.

ولو افترضنا انّ الشارع أضاف إلى ما ذكره قوله : الصدق حسن والكذب قبيح ، لا ينفعنا في الجزم بما حكم على العدل والظلم ، من تحسين الأوّل وتقبيح الثاني لتجويز الكذب عليه في كلّ ما يخبر حتى قوله : «الصدق حسن» «والكذب

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٥٩ المطبوع مع تعاليقنا.

١٩

قبيح» ، فلا يدفع هذا الاحتمال إلاّ بثبوت حسن الصدق وقبح الكذب قبل كلّ شيء بفضل العقل فما لم يثبت هذا الأصل بدليل العقل وحكمه لما حصل اليقين بصدق الأحكام الصادرة عن الشارع.

وحصيلة الكلام ، أنّه ما لم يثبت حسن الصدق وقبح الكذب عن طريق العقل لا يثبت حسن أيِّ فعل أو قبحه بحكم الشرع ، لأنّه من المحتمل أن يأمر بما هو المنكر عنده أو ينهى عمّا هو المعروف عنده ولو أخبر عن طريق أنبيائه وسفرائه انّه إنّما يأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن الفحشاء والمنكر ، فلا يحصل اليقين بصدق كلامه وأخباره ، لمكان احتمال الكذب في كلامه هذا ، ولا يُنفى هذا الاحتمال إلاّ إذا ثبت عن غير طريق الشرع حسن الأوّل وقبح الثاني وانّه سبحانه فاعل مختار حكيم ، مثله لا يكذب ، ولا يعبث بكلامه.

ولو تدبّر نفاة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين في هذا الدليل لرجعوا عن إنكارهم إلى الصراط المستقيم.

الثالث : إنكارهما يلازم امتناع إثبات الشرائع السماوية

من ادّعى السفارة من الله سبحانه وكونه نبيّاً مبعوثاً عنه ، لا يمكن لنا تصديقه إلاّ في ظل القول بالحسن والقبح العقليّين ، لأنّ الدليل الوحيد أو المؤثر على عامة الطبقات ، كونه مبعوثاً بالمعاجز والبيّنات ، فيستدلُّ بها على أنّه كان مبعوثاً من الله سبحانه لهداية الناس ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ المعاجز لا تفيد اليقين بأنّه مبعوث من الله سبحانه إلاّ إذا ثبت أصل في باب النبوة وهو :

انّه سبحانه لا يزوِّد الكاذب بقدرة خارقة ليضلّ الناس عن طريقه لأنّه أمر

٢٠